محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

أدلّة جواز الاجتماع

الدليل الأوّل :

أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لو لم يكن جائزاً لم يقع في الشريعة المقدّسة مع أنّه واقع فيها ، كما في موارد العبادات المكروهة ، حيث قد اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرّة كما في الصلاة في الحمام والصلاة في مواضع التهمة ونحوهما ، والاستحباب معها مرّة اخرى كما في النوافل المبتدأة ، ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء في الخارج أدل دليل على إمكانه وجوازه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة ، إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى ، والجامع هو أنّه لا يمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة فيه ... وهكذا.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ من وقوع اجتماع الوجوب والكراهة في شيء واحد يكشف عن أنّه لا مانع من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه ، سواء أكانا إلزاميين أم لا.

ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد عدّ من أمثلة ذلك الصيام في

١

السفر (١).

وغير خفي أنّ الصوم في السفر ليس مثالاً لمحل الكلام هنا ، والوجه في ذلك :

هو أنّه ليس بمأمور به في غير الموارد المستثناة لا وجوباً ولا استحباباً ليلزم اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة ، ضرورة أنّه غير مشروع فيما عدا تلك الموارد ، والاتيان به بقصد الأمر تشريع ومحرّم ، فإذن لا وجه لعدّه من أمثلة المقام. وأمّا في موارد استثنائه كما إذا نذر الصوم في السفر فليس بمكروه ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.

وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره عن هذا الدليل بوجهين : الأوّل : بالاجمال. والثاني : بالتفصيل.

أمّا جوابه الاجمالي فإليك نصّه : فبأ نّه لا بدّ من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان. مع أنّ قضية ظهور تلك الموارد ، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك ، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين ، فهو أيضاً لا بدّ له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها ، سيما إذا لم يكن هناك مندوحة كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً كما لا يخفى (٢).

ونوضّح ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الظاهر من هذه الموارد وإن كان اجتماع الحكمين في شيء واحد ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦١.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٣.

٢

إلاّ أنّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر والتصرف فيه وتأويله من ناحية قيام الدليل القطعي على الامتناع واستحالة اجتماعهما في موضوع واحد ، بداهة أنّ الظهور مهما كان لونه لا يمكن أن يصادم البرهان العقلي الذي قام على استحالة الاجتماع بمقتضى المقدّمات المتقدِّمة.

الثانية : أنّ هذه الموارد التي توهم اجتماع حكمين فيها لشيء واحد خارجة عن مورد النزاع في المسألة ، والوجه في ذلك : هو أنّ النزاع فيها ما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوانٍ كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب ، وقد اتفق اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في الدار المغصوبة ، فعندئذ يقع النزاع ، فالقائل بالجواز يدّعي أنّ تعدد العنوان يكفي للقول بجواز الاجتماع ، والقائل بالامتناع يدّعي أنّه لا يكفي ، فالعبرة إنّما هي بوحدة المعنون وتعدده ، لا بوحدة العنوان وتعدده. وأمّا إذا فرض تعلق الأمر والنهي بشيء واحد بعنوانٍ ، فهو خارج عن محل النزاع ، ضرورة أنّه لا يقول أحد بالجواز فيه حتى من القائلين به فضلاً عن غيرهم ، فإنّهم إنّما يقولون بالجواز فيما إذا فرض تعلق كل من الأمر والنهي به بعنوانٍ ، والمفروض أنّ في موارد العبادات المكروهة ليس الأمر كذلك ، فإنّ النهي في تلك الموارد تعلق بعين ما تعلق به الأمر لا بغيره ، والفرق بينهما بالاطلاق والتقييد.

وعلى الجملة : فالأمر في هذه الموارد تعلق بذات العبادات والنهي تعلق بها بعنوان خاص ، كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء والنهي عن الصلاة في الحمام مثلاً ، فلم يتعلق الأمر بها بعنوانٍ والنهي بعنوان آخر ، كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، فإذن تلك الموارد خارجة عن محل الكلام في المسألة.

الثالثة : أنّ القائلين بالجواز إنّما يقولون به فيما إذا كانت هناك مندوحة ، وأمّا إذا فرض أنّه لا مندوحة في البين فلا يقولون بالجواز فيه أصلاً ، وعليه فلا

٣

يمكن القول بالجواز في مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة وما شاكلهما مما لا بدل له.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فالأمر كما ذكره قدس‌سره وذلك لما تقدّم (١) من أنّ المعنون إذا كان واحداً وجوداً وماهية في مورد الاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع ، وبما أنّ المعنون في موارد العبادات المكروهة واحد ، فلا بدّ من التوجيه والتأويل بعد استحالة كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

وأمّا النقطة الثانية : فهي في غاية الصحّة والمتانة ، ضرورة أنّ أمثال هذه الموارد التي تعلق الأمر والنهي فيها بشيء بعنوان واحد ، خارجة عن محل النزاع في المسألة ، كما تقدّم الكلام في ذلك بشكل واضح.

وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها ما تقدّم (٢) من أنّه لا دخل لقيد المندوحة في جواز الاجتماع أصلاً ، لما عرفت من أنّ القول بالجواز يبتني على تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية ، فإذا كان متعدداً كذلك لا مناص من القول به ، سواء أكانت هناك مندوحة أم لا ، كما أنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة المجمع فيه ، فإذا كان واحداً كذلك لا مناص من القول به ولو كانت هناك مندوحة ، فلا دخل لقيد المندوحة ولا لعدمه في جواز الاجتماع وعدمه أصلاً.

وأمّا جوابه التفصيلي فإليك نصّه : إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام : أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء

__________________

(١) في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٩٨.

(٢) في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٨٦.

٤

والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات. ثانيها : ما تعلق النهي به كذلك ، ويكون له البدل كالنهي عن الصلاة في الحمام. ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة ، بناءً على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أمّا القسم الأوّل : فالنهي تنزيهاً عنه ـ بعد الاجماع على أنّه يقع صحيحاً ، ومع ذلك يكون تركه أرجح ، كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك ـ إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كان مصلحة الترك أكثر ، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين ، وإلاّ فيتعين الأهم ، وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض ، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع ، فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ، بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ، كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذلك من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، إلاّفي أنّ الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز ، وإنّما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة ، كما في سائر المكروهات من غير فرق ، إلاّ أنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً ، غاية الأمر كون الترك أرجح.

٥

نعم ، يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك ، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز فلا تغفل (١).

توضيح ما أفاده ( قدس‌سره ) : هو أنّ الكراهة في هذه الموارد ليست كراهة مصطلحة ، وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل وحزازة ومنقصة فيه ، فإنّ الكراهة في المقام لو كانت كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحاً ، ضرورة عدم إمكان التقرب بما هو مبغوض للمولى ومشتمل على مفسدة غالبة ، مع أنّه لا شبهة في وقوعه صحيحاً وإمكان التقرب به ، غاية الأمر أنّ تركه أرجح من فعله ، مثلاً لا شبهة في صحّة الصوم يوم عاشوراء وأ نّه قابل لأن يتقرب به ومحبوب للمولى في نفسه ، وليس النهي المتعلق به ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه ، ضرورة أنّه لو كان ناشئاً عنها لخرج عن قابلية التقرب ولا يمكن الحكم بصحته أبداً ، لوضوح أنّه لا يمكن التقرب بما هو مبغوض للمولى ، بل هو ناشٍ عن رجحان تركه الطبيعة المأمور بها مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية كما يظهر من مداومة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام على ذلك.

وعليه فلا محالة يكون هذا الرجحان إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كانت مصلحة الترك غالبة على مصلحة الفعل ، حيث إنّه في نفسه محبوب ومشتمل على مصلحة موافقة لغرض المولى ، فالصوم يوم عاشوراء كبقية أفراد الصوم ، ولكن بما أنّ بني اميّة ( عليهم اللعنة ) التزموا بصوم هذا اليوم شكراً وفرحاً من الانتصار الظاهر المزعوم ، فتركه فيه مخالفة لهم ، وهي مطلوبة للشارع ، ولأجل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٢.

٦

انطباق هذا العنوان ـ أعني عنوان المخالفة على هذا الترك ـ يكون ذا مصلحة غالبة على مصلحة الفعل ، فإذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين ، وحيث إنّ المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فلا بدّ من الالتزام بالتخيير إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، وإلاّ فيقدّم الأهم على غيره.

وفي المقام بما أنّ الترك أهم من الفعل فيقدّم عليه ، وإن كان الفعل أيضاً يقع صحيحاً ، لعدم قصور فيه أصلاً من ناحية الوفاء بغرض المولى ومحبوبيته ، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات ، فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه ، بل الأمر كذلك في الواجبات المتزاحمات ، فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم ، لا من ناحية الترتب ، لما تقدّم في بحث الضد (١) من أنّه قدس‌سره من القائلين باستحالة الترتب وعدم إمكانه ، بل من ناحية اشتماله على الملاك والمحبوبية.

وإن شئت فقل : إنّ النهي في أمثال هذه الموارد غير ناشٍ عن مفسدة في الفعل ومبغوضية فيه ، بل هو ناشٍ عن مصلحة في الترك ومحبوبية فيه ، وهذا إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من الفعل ، ولكن مع ذلك لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً ، فلو كان النهي عنه نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه لكان يوجب حزازة ومنقصة لا محالة ، ومعه لا يمكن الحكم بصحته أبداً ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وإمّا من ناحية ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة خارجاً من دون انطباق ذلك العنوان عليه ، كما إذا فرضنا أنّ عنوان المخالفة لبني اميّة ( عليهم اللعنة ) لا ينطبق على نفس ترك الصوم يوم عاشوراء ، بدعوى استحالة انطباق العنوان

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤٢.

٧

الوجودي على الأمر العدمي ، وإن كانت هذه الدعوى خاطئة في خصوص المقام ، من ناحية أنّ عنوان المخالفة ليس من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية ، بل هو عنوان انتزاعي ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من انتزاع مثل هذا العنوان من الأمر العدمي ، بأن يكون ذلك الأمر العدمي منشأً لانتزاعه.

وعلى هذا فلا مانع من انتزاع عنوان المخالفة من ترك الصوم في هذا اليوم ، نعم الذي لا يمكن انتزاع شيء منه هو العدم المطلق لا العدم المضاف ، فإنّه ذو أثر شرعاً وعرفاً كما هو واضح.

وكيف كان ، فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل ، لا محالة يكون الترك أرجح منه ، فلا فرق عندئذ بين هذه الصورة والصورة الاولى ، أعني ما كان العنوان الراجح منطبقاً على الترك ، غاية الأمر أنّ الطلب المتعلق بالترك في هذه الصورة ليس طلباً حقيقياً ، بل هو بالعرض والمجاز ، إذ أنّه في الحقيقة متعلق بذلك العنوان الراجح الملازم له ، وهذا بخلاف الطلب المتعلق به في الصورة الاولى كما مرّ.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ المصلحة الموجودة في صوم يوم عاشوراء مثلاً ليست بأنقص من المصلحة الموجودة في صوم بقيّة الأيام بما هو صوم ، غاية الأمر أنّ المصلحة الموجودة في تركه حقيقة أو عرضاً أرجح منها ، ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من فعله ، وعندئذ فالنهي المتعلق به كما يمكن أن يكون بمعنى طلب الترك ، يمكن أن يكون إرشاداً إلى أرجحية الترك من الفعل ، إمّا لأجل انطباق العنوان الراجح عليه ، أو لأجل ملازمته له وجوداً وخارجاً.

وعليه فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، وبما أنّ الترك أرجح فيقدّم على الفعل ، كما يظهر ذلك من مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك ، ولذا لم ينقل منهم عليهم‌السلام ولو بطريق ضعيف أنّهم عليهم‌السلام صاموا في

٨

يوم عاشوراء ، كما أنّ سيرة المتشرعة قد استمرت على ذلك من لدن زمانهم عليهم‌السلام إلى زماننا هذا ، هذا تمام ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّه إذا فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصلحة ، فبما أنّه يستحيل تعلق الأمر بكل من النقيضين في زمان واحد ، لا محالة يكون المؤثر في نظر الآمر إحداهما على فرض كونها أقوى وأرجح من الاخرى ، وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معاً عن التأثير ، ضرورة استحالة تعلق الطلب التخييري بالنقيضين ، فإنّه طلب الحاصل ، وعلى هذا الضوء يستحيل كون كلٍّ من الفعل والترك مطلوباً فعلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ فرض اشتمال كلٍّ من الفعل والترك على مصلحة يوجب التزاحم بين المصلحتين في مقام تأثيرهما في جعل الحكم ، لا التزاحم بين الحكمين في مرحلة الامتثال ، لما عرفت من استحالة جعل الحكمين للمتناقضين مطلقاً ، أي سواء أكان تعيينياً أو تخييرياً.

ومن هذا القبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فإنّه لا يمكن جعل الحكم لكليهما معاً ، لا على نحو التعيين ولا على نحو التخيير. أمّا الأوّل ، فلأ نّه تكليف بالمحال. وأمّا الثاني ، فلأ نّه طلب الحاصل.

ومن هذا القبيل أيضاً المتلازمين الدائميين ، فإنّه لا يمكن جعل الحكمين المختلفين لهما ، بأن يجعل الوجوب لأحدهما والحرمة للآخر ، لا تعييناً ولا تخييراً ، لاستلزام الأوّل التكليف بالمحال ، والثاني طلب الحاصل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٧٣.

٩

فالنتيجة من ذلك قد أصبحت : أنّ المزاحمة لا تعقل بين أمرين متناقضين كالفعل والترك ، ولا بين ضدّين لا ثالث لهما ، ولا بين متلازمين دائميين على الشكل المتقدِّم ، بل هذه الموارد جميعاً داخلة في كبرى باب التعارض كما هو ظاهر.

ولأجل ذلك قد تصدى قدس‌سره لجواب آخر وبنى ذلك الجواب على مقدّمة ، وهي أنّه لا شبهة في أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعبادة مستحبة كصلاة الليل أو نحوها متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، ونتيجة ذلك لا محالة هي اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ، لاستحالة أن يكون كل من الأمرين محفوظاً بحدّه بعد ما كان متعلقهما واحداً ، ولازم الاندكاك والاتحاد هو اكتساب كل منهما من الآخر جهة ، فالأمر الوجوبي يكتسب جهة التعبدية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبي ، فيتحصل من اندكاك أحدهما في الآخر أمر واحد وجوبي عبادي.

والوجه في ذلك : ما أشرنا إليه من أنّه إذا كان متعلق كل من الأمرين عين ما تعلق به الأمر الآخر ، فلا بدّ من اندكاك أحدهما في الآخر ، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو محال ، هذا في النذر.

وأمّا الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة كما في موارد النيابة عن الغير ، فلا يكون متعلقاً بنفس العبادة المتعلق بها الأمر الاستحبابي ليندك أحدهما في الآخر ويتحد ، بل يكون متعلق أحدهما غير متعلق الآخر ، فانّ متعلق الأمر الاستحبابي على الفرض هو ذات العبادة ، ومتعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة هو الاتيان بها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، لوضوح أنّ ذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه لم يتعلق بها

١٠

غرض عقلائي من المستأجر ، ولأجل ذلك تبطل الإجارة لو تعلقت بها.

وعلى هذا الضوء يستحيل اتحاد الأمرين واندكاك أحدهما في الآخر في موارد الاجارة على العبادات ، ضرورة أنّ التداخل والاندكاك فرع وحدة المتعلق ، والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد ، فإذن لا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد من تعلق الأمر الاستحبابي بذات العبادة والأمر الوجوبي باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.

وبكلمة اخرى : أنّ الأمر الطارئ على أمر آخر لا يخلو من أن يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأوّل أو بغيره ، والأوّل كموارد النذر المتعلق بالعبادة المستحبة ، فإنّ الأمر الناشئ من ناحية النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، وعليه فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي ، فيتولد منهما أمر واحد وجوبي عبادي ، ويكتسب كل منهما من الآخر جهة مفقودة فيه ، فالأمر الوجوبي بما أنّه فاقد لجهة التعبد فيكتسب تلك الجهة من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي بما أنّه فاقد لجهة الالزام فيكتسب تلك الجهة من الأمر الوجوبي ، هذا نتيجة اتحاد متعلقهما في الخارج.

والثاني كموارد الاجارة على العبادات المستحبة ، فإنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في هذه الموارد لم يتعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة ، بل تعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، وإلاّ فلا تترتب على تلك الاجارة فائدة تعود إلى المستأجر ، ضرورة أنّه لو أتى بها لا بذلك الداعي ، بل بداعي الأمر المتعلق بذاتها ، فلا ترجع فائدته إلى المستأجر أصلاً ، بل ترجع إلى نفس العامل.

ومن هنا قد اشتهر بين الأصحاب أنّ الاجارة لو تعلقت بذات العبادة لكانت باطلة ، لفرض أنّ الاتيان بذات العبادة بداعي أمرها في الخارج لا يفيد

١١

المستأجر ولا ترجع فائدته إليه ، وهي سقوط العبادات عن ذمته ورجوع أجرها وثوابها إليه ، بل ترجع إلى نفس النائب والفاعل ، ومن المعلوم أنّ حقيقة الاجارة هي تمليك المنفعة للمستأجر بأن تكون المنفعة له ، وأمّا إذا فرض عدم كون المنفعة له فلا تتحقق حقيقة الاجارة ، بداهة أنّه لا معنى لاجارة عين مسلوبة المنفعة أو إجارة شخص على أن يعمل لنفسه ، فانّ في مثل هذه الموارد لا تتحقق حقيقة الاجارة وواقعها الموضوعي ليقال إنّها صحيحة أو فاسدة ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر أنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في طول الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة ، ويترتب على ذلك أنّه لا مقتضي للتداخل والاندكاك في موارد الاجارة أصلاً.

وبعد بيان ذلك قال قدس‌سره : إنّ الاشكال في اتصاف العبادة بالكراهة في هذا القسم إنّما نشأ من الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي أنّ متعلق النهي فيها غير متعلق الأمر ، فإنّ متعلق الأمر هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العبادة ، ضرورة أنّه لا مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها ، بل هو التعبد بهذه العبادة فانّه منهي عنه ، لما فيه من المشابهة والموافقة لبني اميّة ( لعنهم الله ) وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ النهي المتعلق به بما أنّه تنزيهي فهو غير مانع عن جواز الاتيان بمتعلقه والتعبد به ، بل هو بنفسه متضمن للترخيص في الاتيان بمتعلقه بداعي امتثال الأمر المتعلق به.

نعم ، لو كان النهي المتعلق به تحريمياً لكان مانعاً عن الاتيان بمتعلقه والتعبد به ، وموجباً لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد المتعلق به النهي ، بداهة أنّ الحرام يستحيل أن يكون مصداقاً للواحب ، وعليه فلا محالة يقيد إطلاق دليل الأمر بغير هذا المورد.

١٢

وملخص ما أفاده : هو أنّ متعلق النهي في هذا القسم بما أنّه مغاير لمتعلق الأمر فلا يكون منافياً له ، فانّه في طول الأمر ويكون كموارد الاجارة المتعلقة بالعبادات المستحبة ، فكما أنّ فيها متعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة غير متعلق الأمر الاستحبابي ، فكذلك في المقام ، فانّ متعلق النهي غير متعلق الأمر كما مرّ ، وليس المقام من قبيل النذر المتعلق بها ، لما عرفت من أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي.

ثمّ إنّ نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره تمتاز عن نظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في نقطة واحدة ، وهي أنّ نظرية شيخنا الاستاذ ترتكز على كون النهي في المقام في طول الأمر ، فانّه متعلق بايقاع العبادة بداعي أمرها الاستحبابي أو الوجوبي المتعلق بذاتها ، فلا يكون متعلقه متحداً مع متعلقه ليلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد ، كما أنّه غير ناشئ عن وجود مفسدة في الفعل أو عن وجود مصلحة في تركه ، بل الفعل باقٍ على هو ما عليه من المحبوبية والمصلحة ، بل هو ناشئ عن مفسدة في التعبد بهذه العبادة ، لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين. ويترتب على هذا أنّ النهي على وجهة نظره قدس‌سره نهي مولوي حقيقي ناشٍ عن مفسدة في التعبد بها.

ونظرية المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ترتكز على كون الترك كالفعل مشتملاً على مصلحة أقوى من مصلحة الفعل ، إمّا لأجل انطباق عنوان راجح عليه ، أو لأجل ملازمته معه وجوداً وخارجاً ، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.

ولنأخذ بالمناقشة على نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره فانّ ما أفاده من الكبرى الكلية ، وهي عدم جريان التزاحم في الموارد المتقدِّمة وإن كان صحيحاً ، ضرورة أنّ تلك الموارد من موارد المعارضة بين الدليلين في مقام

١٣

الاثبات على وجه التناقض أو التضاد ، لا من موارد التزاحم بين الحكمين ، لما عرفت من استحالة جعلهما في هذه الموارد مطلقاً ولو على نحو التخيير ، إلاّ أنّ تلك الكبرى لا تنطبق على المقام ، فإنّه ليس من صغرياتها ومصاديقها ، وذلك لأنّ المقام إنّما يكون من إحدى صغريات هذه الكبرى إذا فرض قيام مصلحة بطبيعي صوم يوم عاشوراء ، فعندئذ لا ثالث بين فعله وتركه ، ومن المعلوم أنّه إذا لم يكن بينهما ثالث فلا محالة لا تعقل المزاحمة بينهما كما تقدّم.

ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ المصلحة إنّما قامت بحصة خاصة منها وهي الحصة العبادية ، لا بمطلق وجود الفعل في الخارج والترك ، وعليه فلهما ثالث وهو الحصة غير العبادية ، فانّه لا مصلحة في فعلها ولا في تركها ، فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما ، غاية الأمر عندئذ تقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال فيدخل في كبرى مسألة المستحبين المتزاحمين ، لفرض أنّ المكلف عندئذ قادر على تركهما والاتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، وغير قادر على الجمع بينهما ، كما هو مناط التزاحم في كل متزاحمين ، سواء أكانا واجبين أم مستحبين.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ المستحب إنّما هو خصوص الحصة الخاصة من الصوم ، وهي الحصة التي يعتبر فيها قصد القربة ، وأمّا ترك هذه الحصة بخصوصها فلا رجحان فيه ، بل الرجحان في ترك الامساك مطلقاً والافطار خارجاً ، فإنّ فيه مخالفة لبني اميّة ، فالمكلف إذا صام بقصد القربة أو أفطر فقد أتى بأمر راجح ، وأمّا إذا أمسك بغير قربة فقد ترك كلا الأمرين الراجحين.

وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين استحباب الفعل واستحباب الترك ، لفرض تمكن المكلف من ترك امتثال كليهما معاً ، والاتيان بمطلق الفعل من دون قصد القربة ، وغير متمكن من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد باب التزاحم.

١٤

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الكبرى وهي عدم إمكان جريان التزاحم بين النقيضين ولا بين الضدّين لا ثالث لهما ولا بين المتلازمين الدائميين ، وإن كان تاماً ، إلاّ أنّه لا ينطبق على المقام كما عرفت.

وبعد بيان ذلك نأخذ بالمناقشة على جوابه قدس‌سره عن هذا القسم ، وهي أنّ ما ذكره قدس‌سره في باب الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة في موارد النيابة عن الغير غير تام في نفسه ، وعلى فرض تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه ، فلنا دعويان :

الاولى : عدم تمامية ما أفاده في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير.

الثانية : أنّه على تقدير تماميته لا ينطبق على المقام.

أمّا الدعوى الاولى : فقد حققنا في محلّه (١) أنّ الأوامر المتصورة في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير أربعة :

الأوّل : الأمر المتوجه إلى شخص المنوب عنه المتعلق بعبادته ، كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك. وهذا الأمر يختص به ولا يعم غيره ، ويسقط هذا الأمر عنه بموته أو نحوه. ولا يفرق في صحة الاجارة بين بقاء هذا الأمر ، كما إذا كان المنوب عنه حياً ومتمكناً من الامتثال بنفسه ، كمن نسي الرمي وذكره بعد رجوعه إلى بلده ، أو كان حيّاً وعاجزاً عن الامتثال ، كما في الاستنابة في الحج عن الحي فإنّ التكليف كما يسقط بموت المكلف كذلك يسقط بعجزه ، لاستحالة التكليف في هذا الحال ، لأنّه من التكليف بالمحال ، وهو مستحيل من الحكيم. وكيف كان ، فبقاء هذا الأمر وعدم بقائه وسقوطه بالاضافة إلى صحة الاجارة على حد سواء ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

__________________

(١) راجع مصباح الفقاهة ١ : ٤٥٩ وما بعدها ، مبحث الاجرة على الواجبات ، النيابة في العبادات.

١٥

ومن ذلك يظهر أنّ هذا الأمر أجنبي عن النائب بالكلية ، فلا يكون متوجهاً إليه أصلاً ، بداهة أنّه لا يعقل توجه تكليف شخصٍ إلى آخر ، فإنّه خاص به ويسقط بموته أو نحوه ، ولا يمكن توجهه إلى غيره ، وهذا واضح.

وعلى هذا الضوء فقد تبيّن أنّ هذا الأمر مباين للأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إلى النائب ، ولا يمكن دعوى اتحاده معه أبداً ، لفرض أنّهما مختلفان بحسب الموضوع ، فيكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر ، فان موضوع الأوّل هو المنوب عنه ، وموضوع الثاني هو النائب ، ومع هذا كيف يعقل دعوى الاتحاد بينهما واندكاك أحدهما في الآخر ، ضرورة أنّه فرع وحدة الموضوع ، كما هو واضح.

الثاني : الأمر المتوجه إلى شخص النائب المتعلق بعباداته كالصلاة ونحوها ، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الأوّل بالكلية ، لفرض أنّهما مختلفان بحسب الموضوع والمتعلق ، فان موضوع الأمر الأوّل هو المنوب عنه ، وموضوع الأمر الثاني هو النائب ، ومتعلقه هو فعل المنوب عنه ، ومتعلق الثاني هو فعل النائب نفسه ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل اتحاد أحدهما مع الآخر أبداً كما هو ظاهر ، كما أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الناشئ من ناحية الاجارة المتوجه إليه ، وذلك لاختلافهما بحسب المتعلق ، فان متعلق هذا الأمر هو فعل النائب ، ومتعلق ذاك الأمر هو فعل المنوب عنه ، غاية الأمر أنّه ينوب عنه في إتيانه في الخارج ، ومع هذا الاختلاف لا يعقل دعوى الاتحاد بينهما أصلاً ، وهذا واضح.

الثالث : الأمر المتوجه إلى النائب المتعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير ، وهذا الأمر الاستحبابي متوجه إلى كل مكلف قادر على ذلك ، فيستحب للانسان أن يصلي أو يصوم نيابة عن أبيه أو جدّه أو امّه أو استاذه أو صديقه

١٦

وهكذا ... ثمّ إنّه من الواضح جداً أنّ هذا الأمر الاستحبابي كما أنّه أجنبي عن الأمر الأوّل ، كذلك أجنبي عن الأمر الثاني ، ولا يعقل لأحدٍ دعوى اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني.

الرابع : الأمر المتوجه إلى النائب الناشئ من قبل الاجارة المتعلق باتيان العبادة نيابة عن غيره ، فهذا الأمر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، فانّ الأمر الاستحبابي كما عرفت متعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير ، والمفروض أنّ هذا الأمر الوجوبي متعلق بعين ذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام باندكاك أحد الأمرين في الآخر واتحادهما في الخارج ، ضرورة أنّه لا يمكن بقاء كلا الأمرين بحدّه بعد فرض كون متعلقهما واحداً وجوداً وماهية ، فلا محالة يندك أحدهما في الآخر ، ويتحصل منهما أمر واحد وجوبي عبادي ، فإن كلاً منهما يكتسب من الآخر جهة مفقودة فيه ، فيكتسب الأمر الوجوبي من الأمر الاستحبابي جهة التعبد ، ويكتسب الأمر الاستحبابي من الأمر الوجوبي جهة اللزوم ، وهذا معنى اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً.

وقد تحصل من ذلك : أنّ الأمر الرابع يتحد مع الأمر الثالث ، لاتحادهما بحسب الموضوع والمتعلق ، ولايعقل اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني ، لاختلافهما في الموضوع أو المتعلق كما عرفت.

ومن هنا يظهر أنّ النائب يأتي بالعمل بداعي الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إليه ، لا بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، ضرورة استحالة أن يكون الأمر المتوجه إلى شخص داعياً لشخصٍ آخر بالاضافة إلى الاتيان بمتعلقه ، فان داعوية الأمر لشخص بالاضافة إلى ذلك إنّما تكون فيما إذا كان ذلك الأمر متوجهاً إليه ، وإلاّ فيستحيل أن يكون داعياً له ، وهذا من الواضحات.

١٧

ولا فرق في داعوية الأمر إليه بين أن يكون الاتيان بمتعلقه من قبل نفسه ، أو من قبل غيره ، كما في موارد الاجارة ، لوضوح أنّ العبرة إنّما هي بتوجه الأمر إلى شخص ليكون داعياً له إلى العمل ، لا بكون متعلقه عمل نفسه أو عمل غيره ، وهذا ظاهر.

ومن هنا قلنا إنّ صحة الاجارة لا تتوقف على بقاء ذلك الأمر ليأتي النائب بالعمل بداعيه ، كما أنّه لا يأتي به بداعي الأمر المتوجه إليه المتعلق باتيان عباداته من قبل نفسه ، بداهة استحالة أن يكون ذلك الأمر داعياً إلى الاتيان بمتعلقه من قبل غيره ونيابة عنه ، بل هو داعٍ إلى الاتيان به من قبل نفسه كما هو واضح.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ النائب يأتي بعمل المنوب عنه بداعي الأمر المتوجه إليه الناشئ من ناحية الاجارة المتعلق باتيانه نيابةً عنه ، وبما أنّ هذا الأمر تعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي ، فلا مناص من اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً ، فتكون النتيجة أمراً واحداً وجوبياً عبادياً.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الأمر الاستحبابي في موارد الاجارة متعلق بذات العبادة ، والأمر الوجوبي الناشئ من ناحيتها متعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً ، وذلك لما عرفت من أنّ الأمر المتوجه إلى المنوب عنه يستحيل أن يكون داعياً للنائب إلى الاتيان بمتعلقه ، بداهة أنّ الأمر المتوجه إلى شخص يمتنع أن يكون داعياً لشخص آخر ، فإنّ الداعي لكل مكلف هو الأمر المتوجه إلى شخصه كما سبق ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الأمر الاستحبابي المتوجه إلى النائب ليس منحصراً بأمر واحد ، بل هو أمران : أحدهما متعلق باتيان العمل من قبل نفسه ، ومن

١٨

المعلوم أنّه لا يعقل أن يتوهم أحد اتحاد هذا الأمر مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة ، لاختلافهما في المتعلق ، فانّ متعلق هذا الأمر الاستحبابي هو ذات العبادة ، ومتعلق الأمر الوجوبي هو إتيانها من قبل الغير ونيابة عنه.

وثانيهما متعلق باتيان العمل من قبل غيره ونيابة عنه ، وهذا الأمر الاستحبابي متحد مع الأمر الوجوبي في المتعلق ، فيكون متعلقهما واحداً وجوداً وماهيةً ، وهو إتيان العمل من قبل الغير ، ومع هذا الاتحاد لا مناص من اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي.

ومن هنا تظهر نقطة اشتباه شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهي غفلته عن الأمر الاستحبابي المتعلق باتيان العبادات من قبل الغير ، وتخيّل أنّه منحصر بالأمر الاستحبابي الأوّل ، والمفروض أنّه متعلق باتيانها من قبل نفسه لا من قبل الغير ، ولأجل ذلك حكم باستحالة اتحاده مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة واندكاكه فيه ، لعدم وحدة متعلقهما كما مرّ.

وعلى هدى هذا البيان قد تبيّن أنّه لا فرق بين موارد الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة وموارد النذر المتعلق بها ، فكما أنّ في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبله ، فكذلك في موارد الاجارة ، غاية الأمر أنّه في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة مع الأمر الوجوبي ، لفرض أنّه متعلق بها كما عرفت ، وفي موارد الاجارة يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق باتيانها من قبل الغير ونيابةً عنه مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة ، لا الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة ، ولكن هذا لا يوجب التفاوت فيما هو المهم في المقام ، كما هو واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ ما أفاده قدس‌سره على تقدير تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما أفاده قدس‌سره من

١٩

أنّ متعلق النهي في هذا القسم مغاير لمتعلق الأمر ، لا يمكن المساعدة عليه من وجوه :

الأوّل : أنّ هذا خلاف مفروض الكلام في المقام ، فانّه فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي واحداً لا متعدداً ، وإلاّ فلا كلام فيه ، ضرورة أنّ محل البحث والكلام هنا بين الأصحاب في فرض كون متعلقهما واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً فهو خارج عن محل الكلام والبحث ، ولا إشكال فيه أصلاً.

الثاني : أنّ ما أفاده قدس‌سره خلاف ظاهر الدليل ، لوضوح أنّ الظاهر من النهي عن الصوم في يوم عاشوراء هو أنّه متعلق بذات الصوم وأ نّه منهي عنه ، ودعوى أنّه متعلق بجهة التعبد به لا بذاته خلاف الظاهر ، فلا يمكن الالتزام به بلا قرينة وشاهد. وكذا الحال في النهي المتعلق بالنوافل المبتدأة في بعض الأوقات ، فانّ الظاهر منه هو أنّه متعلق بذات تلك النوافل ، وأ نّها منهي عنها لا بجهة التعبد بها ، ضرورة أنّ حمل النهي على ذلك خلاف الظاهر ، فلا يمكن أن يصار إليه بلا دليل.

الثالث : أنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النهي متعلق بجهة التعبد بها وإتيانها بقصد القربة لا بذاتها ، فمع ذلك لا يتم ما أفاده قدس‌سره ، والوجه فيه ما حققناه من أنّ قصد القربة كبقية أجزاء العبادة مأخوذ في متعلق الأمر ، غاية الأمر أنّه على وجهة نظره قدس‌سره مأخوذ في متعلق الأمر الثاني دون الأمر الأوّل ، وعلى وجهة نظرنا مأخوذ في متعلق الأمر الأوّل.

وعلى هذا الضوء فدعوى أنّ النهي في هذه الموارد تعلق بجهة التعبد بالعبادات لا بذاتها ، لاتدفع محذور لزوم اجتماع الضدين في شيء واحد ، ضرورة أنّ قصد القربة إذا كان مأخوذاً في متعلق الأمر يستحيل أن يتعلق به النهي ، لاستحالة كون شيء واحداً مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.

٢٠