محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

ونظير ذلك ما ذكرناه في الفقه (١) من أنّ ما دل من الروايات على عدم انفعال الماء مطلقاً إلاّبالتغير بأحد أوصاف النجس قد قيد بروايات الكر الدالة على اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة دون القليل ، وإلاّ لكان عنوان الكر المأخوذ في لسان الروايات لغواً محضاً ، وعليه فيكون موضوع عدم انفعال الماء بالملاقاة إلاّ إذا تغير هو الماء المقيد بالكر دون مطلق الماء ، فاذا شك في ماء أنّه كر أم لا فلا أصل هنا لاحراز أنّه كر إلاّ إذا كانت لكريته حالة سابقة.

فالنتيجة : أنّ في كل مورد يكون المخصص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن إثباته بالأصل. فمحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان المخصص موجباً لتقيد العام بعنوان عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل ، كتقييد ما دل على انفعال الماء مطلقاً بالملاقاة بما دل على أنّ الماء الكر لا ينفعل بها ، فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الذي لا يكون كراً ، وعليه فاذا شك في ماء أنّه كر أو ليس بكر ، فالصحيح أنّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل لاثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي ، فانّ الموضوع على هذا مركب من أمرين : أحدهما عنوان وجودي. والآخر عنوان عدمي ، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ، ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال مركباً من الماء وعدم اتصافه بالكرية ، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل ، حيث إنّه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثمّ وجد الماء في الخارج فنشك في اتصافه بالكرية وأ نّه هل وجد أم لا ، فنستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.

__________________

(١) شرح العروة الوثقى ٢ : ٩٧ وما بعدها.

٣٦١

وكذا الحال في المثال الذي جاء به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وهو ما إذا شك في المرأة أنّها قرشية أو لا ، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها ، حيث إنّ في زمان لم تكن هذه المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثمّ وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى قريش فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه ، وبضم هذا الاستصحاب إلى الوجدان. يثبت أنّ هذه مرأة لم تكن قرشية ، والأوّل بالوجدان والثاني بالأصل ، فتدخل في موضوع العام.

ولكن أنكر ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) وقال بأنّ الاستصحاب لا يجري في العدم الأزلي ، واستدل على ذلك بعدّة مقدّمات :

الاولى : أنّ التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء أكان استثناءً أو غيره إنّما يوجب تقييد موضوع العام بغير عنوان المخصص ، فاذا كان المخصص أمراً وجودياً كان الباقي تحت العام معنوناً بعنوان عدمي. وإن كان المخصص أمراً عدمياً كان الباقي تحته معنوناً بعنوان وجودي ، والوجه فيه هو ما تقدم من أنّ موضوع كل حكم أو متعلقه بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له ، ولا بدّ من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه إمّا مطلقاً بالاضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي ، أو مقيداً بوجودها فيكون من الماهية بشرط شيء ، أو مقيداً بعدمها فيكون من الماهية بشرط لا ، لأنّ الاهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأوّلية مستحيل.

مثلاً العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النظر عن ثبوت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٧.

٣٦٢

الحكم له ، وعليه فاذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب الاكرام له فهو لا يخلو من أن يجعل له مطلقاً وغير مقيد بوجود العدالة أو بعدمها ، أو يجعل له مقيداً باحدى الخصوصيتين ، ضرورة أنّه لا يعقل جهل الحاكم بموضوع حكمه وأ نّه غير ملاحظ له لا على نحو الاطلاق ولا على نحو التقييد ، ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها ، وعليه فاذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيداً بنقيض الخارج فيكون دليل المخصص مقيداً لاطلاقه ورافعاً له ، أو يبقى على إطلاقه بعد التخصيص أيضاً ، ولا ثالث لهما ، وبما أنّ الثاني باطل جزماً لاستلزامه التناقض والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاص فيتعيّن الأوّل.

نعم ، إذا كان المخصص متصلاً فهو مانع من انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل ، فاطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من المسامحة ، حيث إنّه لا تقييد ولا تخصيص في العموم ، فانّ الظهور من الأوّل قد انعقد في الخاص ، وإنّما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك اصلاً ، وإن كان فرق بينهما من ناحية اخرى كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعياً أو صنفياً أو فردياً أصلاً ، فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.

وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم ( قدس الله أسرارهم ) (١) بما ملخّصه : أنّ التخصيص لايوجب تعنون العام بأيّ عنوان ، حيث إنّه ليس إلاّكموت أحد أفراد العام ، فكما أنّه لا يوجب تعنون العام بأيّ عنوان فكذلك التخصيص ، غاية الأمر أنّ الأوّل موت تكويني والثاني موت تشريعي.

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٤٤٠ ، ٤٤٥ وراجع أيضاً نهاية الأفكار ١ ـ ٢ : ٥١٩.

٣٦٣

ويردّه : أنّ هذا القياس خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب فيه : أنّ الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في مرحلة التطبيق ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مردّها إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مثلاً قولنا : الخمر حرام يرجع إلى قولنا : إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه أنّه خمر فهو حرام ، وإذا لم يوجد مائع كذلك فلا حرمة ، فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها ، وهذا ليس تقييداً للحكم في مرحلة الجعل ، ضرورة أنّه مجعول في هذه المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه وإلاّ فلا حكم في هذه المرحلة ، أي مرحلة التطبيق والفعلية ، وهذا بخلاف التخصيص فانّه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت ، يعني أنّ دليل المخصص يكشف عن أنّ الحكم من الأوّل خاص ، وفي مقام الاثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع الموجود ، فيكون من السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في الموت التكويني.

الثانية : أنّ الوجود والعدم مرةً يضافان إلى الماهية ، يعني أنّها إمّا موجودة أو معدومة. وبكلمة اخرى : أنّ الماهية سواء أكانت من الماهيات المتأصلة كالجواهر والأعراض أو كانت من غيرها ، فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما ، ضرورة أنّه لا يعقل خلوّ الماهية عن أحدهما وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين ، فكما يقال إنّ الجسم الطبيعي إمّا موجود أو معدوم ، فكذلك يقال : إنّ البياض إمّا موجود أو معدوم ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم المحموليين ، نظراً إلى أنّهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين.

٣٦٤

واخرى يلاحظ وجود العرض بالاضافة إلى معروضه لا ماهيته ، أو عدمه بالاضافة إليه ، ويعبّر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين تارةً ، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة اخرى ، وهذا الوجود والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ويستحيل تحققهما بدونه ، فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة ، يعني أنّ التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج ، ويستحيل التقابل بدونه ، أمّا احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها إلاّفي موضوع موجود ، وأمّا احتياج العدم فلأنّ المراد منه ليس العدم المطلق ، بل المراد منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للاتصاف بالملكة. مثلاً العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الاطلاق ، ولذا لا يصح سلبه عمّا لا يكون قابلاً للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلاً إنّه أعمى يعني ليس ببصير ، ومن هنا يصح ارتفاعهما معاً عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فانّ زيداً غير الموجود لا بصير ولا أعمى.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ اتصاف شيء بكل منهما يحتاج إلى وجوده وتحققه في الخارج ، بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها ، لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في الخارج ، ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فانّ الفرد الخارجي من العالم إمّا أن يكون عادلاً أو فاسقاً ، وأمّا المعدوم فلا يعقل اتصافه بشيء منهما ، وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معاً ، فانّه من ارتفاع النقيضين ، لما عرفت من أنّ الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما.

٣٦٥

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما ، حيث إنّ الشيء قبل وجوده لا يكون متصفاً بوجود الصفة ولا بعدمها ، ضرورة أنّ الاتصاف فرع وجود المتصف ، وأمّا إذا كانا محموليين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع ، ضرورة أنّه من ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتاً.

الثالثة : أنّ الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها.

أمّا إذا كان من قبيل الأوّل كأن يكون مركباً من وجودي زيد وعمرو مثلاً ، فتارةً يكون كلاهما محرزاً بالوجدان ، واخرى يكون كلاهما محرزاً بالأصل ، وثالثة يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ، كما إذا كان وجود زيد محرزاً بالوجدان وشك في وجود عمرو وأ نّه باقٍ أو مات ، فلا مانع من استصحاب بقائه وعدم موته ، وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع ، حيث إنّ الموضوع ليس إلاّذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلاّ لخرج عن محل الكلام ، فانّ محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة. على أنّه لا يمكن إحراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل.

وأمّا إذا كان من قبيل الثاني فتارةً يكونان عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد مثلاً وعلمه ، حيث إنّهما قد اخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات وجودي العدالة والعلم ، ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو أنّه إذا وجد العلم له في زمان كان عادلاً في ذلك الزمان ، فقد تحقق الموضوع بكلا جزأيه ، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد من دون

٣٦٦

أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره ، والمفروض أنّ أحدهما لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتاً له. وإن كان كل واحد منهما نعتاً لموضوعه ومحتاجاً إليه ، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلاً ، وعليه فمرةً يكون كل منهما محرزاً بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني ، ومرةً اخرى يكون كل منهما محرزاً بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبيّنة مثلاً أو بالأصل أو أحدهما بالبيّنة والآخر بالأصل. ومرةً ثالثةً يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر محرزاً بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتاً بالوجدان وعدالته بالبيّنة أو بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو جواز التقليد أو نحوه.

واخرى يكونان عرضين لمعروضين في الخارج كاسلام الوارث مثلاً وموت المورّث حيث إنّ كلاً منهما وإن كان نعتاً لموضوعه إلاّ أنّ أحدهما ليس نعتاً للآخر ومتوقفاً عليه ، نظير الممكن فانّه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.

أو فقل : إنّ الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين خارجاً من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه ، وعليه فحالهما حال الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد ، فكما أنّه يمكن إحراز كليهما بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، فكذلك في المقام. ومن هذا القبيل ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا إنّ الموضوع مركب من ذاتي ركوع الإمام وركوع المأموم ، يعني ركوع المأموم تحقق في زمان كان الإمام فيه راكعاً ، وعليه فاذا شك المأموم حينما ركع أنّه هل أدرك الإمام في ركوعه أو لا ، فلا مانع من استصحاب بقاء الإمام فيه وبضمه إلى الوجدان

٣٦٧

ـ وهو ركوع المأموم ـ يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره وهو صحة الاقتداء. وأمّا إذا قلنا إنّ المستفاد من الأدلة أنّ الموضوع لها عنوان آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الإمام ووجود ركوع المأموم في زمان واحد ، فلا يمكن إثباته إلاّعلى القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.

وعلى الجملة : فإن كان المستفاد من الأدلة هو أنّ الموضوع ذاتا الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية اخرى فيه ، فلا مانع من جريان الأصل وإثبات الموضوع به ، وأمّا إن كان المستفاد منها أنّه قد اخذ فيه خصوصية اخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام ليتمسك به إلاّ إذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.

وأمّا إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض ، فانّه تارةً يكون مركباً من جوهر وعرض لموضوع آخر كما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من وجود زيد مثلاً وعدالة عمرو أو وجود بكر وقيام خالد وهكذا ، فحال هذا الشق حال القسم الأوّل والثاني فلا مانع من إثباته بالأصل. وتارةً اخرى يكون مركباً من عرض وموضوعه كزيد وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا ، ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي ، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له ، فعندئذ إن كان لاتصاف الموضوع به وجوداً أو عدماً حالة سابقة جرى استصحاب بقائه وإلاّ فلا. مثلاً إذا كان لاتصاف الماء بالكرية أو بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة فلا يجري الاستصحاب ، فانّ استصحاب عدم الكرية بنحو العدم المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وإن كان لا مانع منه في نفسه ، نظراً إلى أنّ له حالة سابقة ، إلاّ أنّه لا يجدي في المقام ، حيث إنّه لا يثبت الاتصاف المزبور

٣٦٨

ـ وهو مفاد كان أوليس الناقصة ـ إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لايمكن إثبات الوجود أو العدم النعتي باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك ، وهذا معنى قولنا : إنّ الوجود والعدم المحموليين مغايران للوجود والعدم النعتيين ، لا بمعنى أنّ في الخارج عدمين ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي ، ضرورة أنّ في الخارج ليس إلاّعدم واحد ووجود كذلك ، ولكنّهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارةً يلحظ وجود العرض أو عدمه في نفسه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم المحمولي ، واخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافاً إلى موضوعه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم النعتي ، فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع. مثلاً استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت.

وبعد هذه المقدمات أفاد قدس‌سره أنّ ما خرج عن تحت العام من العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة الاولى ، وأنّ هذا التقييد لا بدّ أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة بمقتضى المقدمة الثالثة ، وأنّ هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية ، وعليه فلا يمكن إحراز قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي ، ببيان أنّ المستصحب لا يخلو من أن يكون هو العدم النعتي المأخوذ في موضوع العام ، أو يكون هو العدم المحمولي الملازم للعدم النعتي بقاءً ، فعلى الأوّل لا حالة سابقة له ، فانّه من الأوّل مشكوك فيه ، وعلى الثاني وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن باستصحابه إحراز العدم النعتي المأخوذ في الموضوع إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

٣٦٩

وبكلمة اخرى : أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص بما أنّه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بالأصل ، لعدم حالة سابقة له ، والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن باستصحابه إثباته إلاّبناءً على الأصل المثبت ، وعلى ذلك فرّع قدس‌سره منع جريان أصالة العدم في المشكوك فيه من اللباس بناءً على كون المانعية المجعولة معتبرة في نفس الصلاة ومن قيودها ، فانّ الصلاة من أوّل وجودها لا تخلو من أن تكون مقترنةً بالمانع أو بعدمه ، فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل. وأمّا العدم الأزلي فهو وإن كان متحققاً سابقاً إلاّ أنّك عرفت أنّ استصحابه لا يجدي إلاّ إذا قلنا باعتبار الأصل المثبت.

وأمّا إذا كانت المانعية المجعولة معتبرةً في ناحية اللباس وكانت من قيوده ، فمرةً يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول ، واخرى لأجل الشك في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير ما لا يؤكل لحمه ، أمّا الأوّل فلا يجري فيه الأصل ، لما عرفت من أنّ العدم النعتي لا حالة سابقة له ، والعدم الأزلي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّ استصحابه لا يجدي لاثبات العدم النعتي بناءً على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت ، وأمّا الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق التكليف في الخارج.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي ، فاذن لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام من البراءة أو نحوها.

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده قدس‌سره بيان ذلك : أنّ ما أفاده ( قدس‌سره )

٣٧٠

في المقدمة الاولى من أنّ التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلاً أو منفصلاً وسواء أكان نوعياً أو صنفياً أو فردياً لا محالة يوجب تعنون موضوع العام بعدم عنون المخصص وتقيده به ، في غاية الصحة والمتانة ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول فلا بدّ إمّا من الاطلاق أو التقييد ، وحيث إنّ الاطلاق غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص ، فلا مناص من التقييد ، فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع العام عدماً نعتياً أصلاً.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) في المقدمة الثانية من أنّ وجود العرض قد يضاف إلى ماهيته ويعبّر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة ، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم المحمولي ومفاد ليس التامة ، وقد يضاف إلى موضوعه المحقق في الخارج ويعبّر عنه بالوجود النعتي ومفاد كان الناقصة ، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم النعتي ومفاد ليس الناقصة ، فهو في غاية الصحة والمتانة. كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الوجود والعدم إذا كانا محموليين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية ، ضرورة أنّها لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً فلا ثالث لهما ، فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو مستحيل ، وأمّا إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما ، حيث إنّ الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فاذا لم يكن متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم ، وهذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين ، في غاية الصحة والمتانة. وغير خفي أنّ هذه المقدمة أيضاً لا تقتضي كون المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتي.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) في المقدمة الثالثة من أنّ الموضوع المركب لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو أحد جزأيه جوهر والآخر

٣٧١

عرض ولا رابع لها. أمّا القسم الأوّل والثاني فقد عرفت فيهما أنّ إحراز كلا جزأي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزاً بالوجدان بمكان من الامكان. وأمّا القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر ، وأمّا إذا كان مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أنّه لا يمكن إحرازه بالأصل ، فانّ المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتي ، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له ، وحينئذ فإن كان له حالة سابقة فهو وإلاّ فلا يمكن إحرازه بالأصل. وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتي ، فانّه إن كانت له حالة سابقة فهو ، وإلاّ لم يجر الأصل فيه ، وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كانت له حالة سابقة إلاّ أنّه لا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحابه إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فهو متين جداً ولا مناص عنه ، إلاّ أنّه لا يقتضي كون العدم ـ أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام ـ هو العدم النعتي دون العدم المحمولي.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها قدس‌سره لاتقتضي الالتزام بما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في المقام ، فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الاستاذ قدس‌سره ليس في هذه المقدمات وإنّما هو في العام المخصص بدليل ، وأنّ موضوعه بعد التخصيص هل قيّد بالعدم النعتي أو بالعدم المحمولي ، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه فيها. مثلاً ما دلّ على أنّ الماء الكر لا ينفعل بالملاقاة يكون مخصصاً للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقاً ولو كان كراً ، وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام ـ وهو الانفعال ـ بعدم عنوان المخصص ـ وهو الكر ـ هل يكون المأخوذ فيه هو الاتصاف بعدم كونه كراً أو المأخوذ

٣٧٢

فيه هو عدم الاتصاف بكونه كراً؟ فعلى الأوّل إن كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه وإلاّ لم يجر. واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتي إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام الموضوع ، غاية الأمر أنّ أحد جزأيه ـ وهو الماء ـ كان محرزاً بالوجدان ، وجزأه الآخر ـ وهو العدم المحمولي ـ قد احرز بالأصل. وكذا إذا شك في امرأة أنّها قرشية أو لا ، فإن قلنا إنّ المأخوذ في موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه إن كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه لعدم حالة سابقة له ، وإن كان عدم الاتصاف بها لا مانع منه.

فالنتيجة : أنّ محل النزاع إنّما هو في أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه ما هو؟ هل هو العدم النعتي أو العدم المحمولي ، وقد برهن شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي دون المحمولي بما حاصله : أنّ المأخوذ في موضوع العام من جهة ورود المخصص عليه لو كان هو العدم المحمولي ليكون الموضوع مركباً من الجوهر وعدم عرضه بمفاد كان التامة ، فلا محالة إمّا أن يكون ذلك مع بقاء إطلاق الموضوع بالاضافة إلى كون العدم نعتاً ، أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتاً أيضاً. وبكلمة اخرى : أنّ العدم النعتي بما أنّه من نعوت موضوع العام وأوصافه ولذا ينقسم الموضوع باعتباره إلى قسمين ، مثلاً العالم الذي هو موضوع في قضية أكرم كل عالم إلاّ إذا كان فاسقاً ، له انقسامات منها انقسامه إلى اتصافه بالفسق مثلاً واتصافه بعدمه ، فلا محالة إمّا أن يكون الموضوع ملحوظاً بالاضافة إليه مطلقاً ، أو مقيداً به أيضاً ، أو مقيداً بنقيضه ، بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل.

أمّا القسم الأوّل : وهو ما إذا كان الموضوع بالاضافة إلى العدم النعتي مطلقاً ،

٣٧٣

فهو غير معقول للزوم التناقض والتهافت بين إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي وتقييده بالاضافة إلى العدم المحمولي ، فانّ الجمع بينهما غير ممكن ، حيث إنّ العدم النعتي ذاتاً هو العدم المحمولي مع زيادة شيء عليه وهو إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ، فلا يعقل أن يكون الموضوع في مثل قضية كل مرأة ترى الدم إلى خمسين إلاّ القرشية مثلاً مطلقاً بالاضافة إلى العدم النعتي ، وهو اتصافه بعدم القرشية بعد فرض تقييده بالعدم المحمولي ، وهو عدم القرشية بمفاد ليس التامة ، بداهة أنّ مردّ إطلاق الموضوع في القضية هو أنّ المرأة مطلقاً ـ أي سواء أكانت متصفة بالقرشية أم لم تكن ـ تحيض إلى خمسين ، وهذا الاطلاق كيف يجتمع مع الاستثناء وتقييد المرأة بعدم كونها قرشيةً بمفاد ليس التامة ، فالنتيجة أنّ إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي بعد تقييده بالعدم المحمولي غير معقول.

وأمّا القسم الثاني : فهو أيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الموضوع قد قيّد بعدم الفسق بمفاد ليس التامة فكيف يعقل تقييده بوجوده بمفاد كان الناقصة ، فاذن يتعين القسم الثالث وهو تقيده بالعدم النعتي ، فاذا قيّد الموضوع به فهو أغنانا عن تقييده بالعدم المحمولي ، حيث إنّه يستلزم لغوية التقييد به. فالنتيجة هي أنّه لا مناص من تقييد موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه بالعدم النعتي ، ومعه لا يمكن التمسك بالاستصحاب في العدم الأزلي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره :

أوّلاً : أنّ النكتة التي ذكرها قدس‌سره لاستلزام التخصيص تقييد موضوع حكم العام بالعدم النعتي لو تمت لم تختص بخصوص ما نحن فيه ، بل تجري في الموضوعات المركبة بشتى أنواعها حتى فيما إذا كان مركباً من

٣٧٤

جوهرين أو عرضين لمحل واحد أو محلين ، والسبب فيه : هو أنّ انقسام كل جزء من أجزاء الموضوع المركب بمقارنته للجزء الآخر زماناً أو مكاناً وعدمها بما أنّه من الانقسامات الأوّلية والأعراض القائمة بالجوهر فلا بدّ من لحاظها في الواقع ، لاستحالة الاهمال فيه ، وعليه فبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من أن يلحظ كل جزء مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة للجزء الآخر زماناً أو مكاناً ، أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له كذلك ، أو مطلقاً لا هذا ولا ذاك ، ومن المعلوم أنّ الثاني والثالث كليهما غير معقول.

أمّا الثاني فلفرض أنّ تقييد جزء الموضوع بجزئه الآخر قد ثبت في الجملة ومعه كيف يعقل أخذه فيه متصفاً بعدم مقارنته له ، ضرورة أنّه في طرف النقيض معه. وكذا الحال في الثالث ، لوضوح أنّ فرض الاطلاق فيه بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة وعدمه يستلزم التدافع بينه وبين التقييد المزبور ، فاذن لا مناص من الالتزام بالأوّل ، ومن الطبيعي أنّ مع اعتبار التقييد بالاتصاف بالمقارنة بمفاد كان الناقصة يلزم لغوية تقييد كل جزء بنفس وجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة.

والنكتة فيه : أنّ مفاد كان الناقصة هو مفاد كان التامة مع اشتماله على خصوصية زائدة ، وهي إضافته إلى موضوعه ومحلّه ، وعليه فبطبيعة الحال إذا افترضنا تقييد جزء موضوع بالاضافة إلى جزئه الآخر بمفاد كان الناقصة لزم لغوية تقييده بالاضافة إليه بمفاد كان التامة ، ويترتب على ذلك أنّه لا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس وجود أحد الجزأين مع إحراز الآخر بالوجدان إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين :

الأوّل : ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من جوهرين كوجودي زيد

٣٧٥

وعمرو مثلاً ، فانّ وجود كل منهما بالاضافة إلى الآخر لا يخلو من أن يكون ملحوظاً مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة له ، أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له ، أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما لاستحالة الاهمال في الواقع ، وحيث إنّ الشقي الثاني والثالث غير معقول فلا محالة يتعين الشق الأوّل ، ومعه يكون تقييده بوجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً كما عرفت ، وعليه فلا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

الثاني : ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من عرضين في محلّين كاسلام الوارث وموت المورّث ، حيث إنّ موضوع الإرث مركب منهما ، وعليه فبطبيعة الحال إمّا أن يلحظ كل منهما بالاضافة إلى الآخر مقيداً باتصافه بالمقارنة له بمفاد كان الناقصة ، أو مقيداً باتصافه بعدم المقارنة له بمفاد ليس الناقصة ، أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما ، ولا رابع لها وذلك لاستحالة الاهمال في الواقع ، وقد تقدم أنّ القسمين الثاني والثالث يستلزمان التدافع والتناقض فلا يمكن الأخذ بشيء منهما. وأمّا القسم الأوّل فلا مناص من الأخذ به ، ومعه لا محالة يكون تقييد أحدهما بالآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً بعد ثبوت التقييد بينهما بمفاد كان الناقصة. فاذن لا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، كما إذا كان الموت محرزاً بالوجدان وشك في بقاء إسلام الوارث ، فباستصحاب بقائه لا يثبت الاتصاف بالمقارنة إلاّعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة : أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو أنّه لايمكن إحراز الموضوعات المركبة بشتى أنواعها وأشكالها بضم الوجدان إلى الأصل.

وثانياً : حلّ ذلك بصورة عامة وهو ما ذكرناه في ضمن بعض البحوث السالفة من أنّ موضوع الحكم أو متعلقه بالاضافة إلى ما يلازمه وجوداً في

٣٧٦

الخارج لا مطلق ولا مقيد ولا مهمل. أمّا الاطلاق فهو غير معقول حيث إنّ مردّه إلى أنّ ما افترضناه من الموضوع أو المتعلق للحكم ليس موضوعاً أو متعلقاً له ، فانّ معنى إطلاقه بالاضافة إليه هو أنّه لا ملازمة بينهما وجوداً وخارجاً وهو خلف. وأمّا التقييد فهو لغو محض ، نظراً إلى أنّ وجوده في الخارج ضروري عند وجود الموضوع أو المتعلق ، ومعه لا معنى لتقييده به. وأمّا الاهمال فهو إنّما يتصور في المورد القابل لكل من الاطلاق والتقييد ، فانّ المولى الملتفت إليه لا يخلو من أن يلاحظ متعلق حكمه أو موضوعه بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً ، لاستحالة الاهمال في الواقع ، وأمّا إذا لم يكن المورد قابلاً لذلك كما فيما نحن فيه فلا موضوع للاهمال فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ الاطلاق والتقييد إنّما يتصوران في المحل القابل لهما ، يعني ما يمكن لحاظ الموضوع أو المتعلق بالاضافة إليه مطلقاً تارةً ومقيداً اخرى ، كالقبلة مثلاً بالنسبة إلى الصلاة حيث يمكن لحاظ الصلاة مطلقة بالاضافة إليها ويمكن لحاظها مقيدة بها ، ولكن بعد تقييد الصلاة بها كما امتنع إطلاقها بالاضافة إليها كذلك امتنع تقييدهابعدم كونها إلى دبر القبلة ، فانّ هذا التقييد أصبح ضرورياً بعد التقييد الأوّل ، يعني أنّ التقييد الأوّل يغني عنه ويلازمه وجوداً بلا حاجة إليه.

وإن شئت قلت : إنّ للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة ، فانّها تستلزم في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق وخلفه في طرف الشمال ، بل لها لوازم غير متناهية ، ومن الطبيعي كما أنّه لا معنى لاطلاقها بالاضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها ، حيث إنّها قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ، ومعها لا محالة يكون كل من الاطلاق

٣٧٧

والتقييد بالاضافة إليها لغواً ، حيث إنّهما لا يعقلان إلاّفي المورد القابل لكل منهما ، لا في مثل المقام فانّ تقييدها إلى القبلة يغني عن تقييدها بها ، كما هو الحال في كل متلازمين في الوجود الخارجي ، فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، حيث إنّه لغو صرف بعد التقييد الأوّل ، كما أنّ الأمر بأحدهما يغني عن الأمر بالآخر حيث إنّه لغو محض بعد الأمر الأوّل ، ولا يترتب عليه أيّ أثر ، فلو أمر المولى بالفعل المقيد بالقيام كالصلاة مثلاً فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، فانّ تقييده به بعد التقييد الأوّل لغو محض.

فالنتيجة : أنّ ما ذكرناه سارٍ في جميع الامور المتلازمة وجوداً ، سواء أكانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث ، فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، كما أنّ الأمر به يغني عن الأمر بالآخر ، وعليه فلا معنى لاطلاق المأمور به بالاضافة إليه ، فانّ إطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول ، لفرض تقييده به قهراً ، وأمّا إطلاقه بحسب مقام الاثبات فانّه لغو ، وكذلك تقييده به في هذا المقام. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ العدم النعتي ملازم للعدم المحمولي ، وعليه فتقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بعنوان الخاص كالقرشية مثلاً لا يبقي مجالاً لتقييده باتصافه بعدم ذلك العنوان الخاص ولا لاطلاقه بالاضافة إليه ، فكما أنّ تقييد المراة مثلاً باتصافها بعدم القرشية يغني عن تقييدها بعدم اتصافها بالقرشية ، كذلك التقييد بعدم اتصافها بالقرشية يغني عن التقييد باتصافها بعدم القرشية ، ضرورة أنّه مع وجود المرأة في الخارج كان كل من الأمرين المزبورين ملازماً لوجود الآخر لا محالة ، فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الآخر أصلاً.

٣٧٨

وعلى الجملة : فحيث إنّ العدم النعتي والعدم المحمولي متلازمان في الخارج ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فبطبيعة الحال إذا قيّد الموضوع أو المتعلق بأحدهما لم يبق مجال للتقييد أو الاطلاق بالاضافة إلى الآخر. نعم ، إنّما تظهر الثمرة بين التقييد بالعدم المحمولي والتقييد بالعدم النعتي في صحة جريان الأصل وعدمها ، فعلى الأوّل لا مانع من جريان الأصل في نفس العدم وإحراز تمام الموضوع بضمه إلى الوجدان كما هو الحال في بقية موارد تركب الموضوع من جزأين أو أكثر ، وعلى الثاني فلا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس العدم بمفاد ليس التامة إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ أخذ كل من العدم المحمولي والعدم النعتي في الموضوع أو المتعلق يغني عن أخذ الآخر فيه بحسب مقام الثبوت والواقع ، فلا مجال للاطلاق أو التقييد بالاضافة إليه أصلاً. نعم ، في ظرف الشك فيه تظهر النتيجة بينهما في جريان الأصل وعدمه ، نظراً إلى أنّ المأخوذ في الموضوع أو المتعلق إذا كان العدم المحمولي أمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، وأمّا إذا كان المأخوذ فيه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إلاّ على القول بالأصل المثبت. نعم ، لو كانت حالة سابقة لنفس ذلك العدم جرى الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يلتئم الموضوع المركب.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما إذا كان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق الوجود المحمولي وما إذا كان المأخوذ فيه الوجود النعتي ، فعلى الأوّل إذا شك في بقائه فلا مانع من جريان الأصل فيه وبه يحرز الموضوع أو المتعلق إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، كما إذا افترضنا أنّ الصلاة مقيدة بالطهارة بمفاد كان

٣٧٩

التامة ، فعندئذ إذا شك في بقائها فلا مانع من استصحاب بقائها وبه يحرز أنّ المكلف قد صلّى في زمان كان واجداً للطهارة في ذلك الزمان ، أمّا الصلاة فيه فهي محرزة بالوجدان وأمّا الطهارة فهي محرزة بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ، وعلى الثاني إذا شك في بقائه لم يمكن إحرازه بجريان الأصل فيه إلاّعلى أساس أحد أمرين : إمّا القول باعتبار الأصل المثبت أو يكون لنفس هذا الوجود حالة سابقة ، ومثاله هو ما إذا افترضنا أنّ المأخوذ في الصلاة هو عنوان اقترانها بالطهارة واجتماعها معها ، وعليه فلا يمكن إحراز هذا العنوان باستصحاب بقاء الطهارة إلاّعلى القول بحجية الأصل المثبت ، أو فيما إذا كانت حالة سابقة لنفس هذا العنوان.

وعلى ضوء هذه النتيجة يقع الكلام في أنّ التخصيص هل يوجب تعنون موضوع العام بعدم اتصافه بعنوان المخصص بمفاد ليس التامة ، أو يوجب تعنونه باتصافه بعدم ذلك العنوان بمفاد ليس الناقصة ، قد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الثاني. والصحيح هو الأوّل فلنا دعويان :

الاولى : بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الثانية : صحة ما اخترناه.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ التخصيص لا يقتضي تقييد موضوع العام بكونه متصفاً بعدم عنوان المخصص ليترتب عليه تركب الموضوع من العرض ـ وهو العدم النعتي ـ ومحلّه ، فانّ غاية ما يترتب عليه فيما إذا كان المخصص عنواناً وجودياً هو تقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بذلك العنوان الوجودي ، بيان ذلك : أنّه قد حقق في محلّه أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ويستحيل أن يتحقق بدون وجود موضوع محقق في الخارج ، حيث

٣٨٠