محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

الطلب على ما كان فيه الملاك ، فيكون المقام داخلا في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد له ظهور في سعة الملاك.

ثم قال (قده) : ولو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلمنا عدم صلاحيته لكونه قرينة على التقييد ، إلا ان إطلاق المتعلق إنما يكشف عن عدم دخل قيد في الملاك إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الإثبات مع دخل القيد فيه في مقام الثبوت ، واما إذا لم يلزم منه نقض الغرض فلا يكون الإطلاق في مقام الإثبات كاشفاً عن عدم دخل القيد فيه ثبوتاً وعليه فبما ان ما يحتمل دخله في الملاك هو القدرة ، ولا يمكن المكلف من إيجاد غير المقدور في الخارج ليترتب عليه نقض الغرض على تقدير دخل القدرة في الملاك واقعاً لا يمكن التمسك بالإطلاق لدفع الاحتمال المزبور. ومن الواضح ان ذلك الاحتمال مانع عن الحكم بصحة الفرد المزاحم والتقرب به.

وأجاب (قده) عن ذلك بما ملخصه : ان القدرة إذا كانت مأخوذة في متعلق التكليف لفظاً ـ كما في آيتي الحج والوضوء ـ فالامر كما ذكر ولا مناص عنه. واما إذا لم تكن مأخوذة فيه لفظاً وكان متعلق التكليف غير مقيد بالقدرة في مرتبة سابقة على تعلق التكليف به ، بل كان اعتبار القدرة فيه في مرتبة تعلق التكليف به وعروضه عليه سواء أكان منشأه حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو كان اقتضاء نفس التكليف ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاق المتعلق لإثبات كونه واجداً للملاك ، فان التقييد الناشئ من قبل حكم العقل أو من قبل اقتضاء نفس التكليف بما انه في مرتبة متأخرة وهي مرتبة تعلق التكليف به وعروضه فلا يعقل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض التكليف عليه التي هي عبارة أخرى عن مرتبة وجدانه للملاك ، لاستحالة أخذ ما هو متأخر رتبة في ما هو متقدم كذلك.

ومن هنا قلنا ان كل ما يتأتى من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه. وعليه فحيث ان المتعلق في مرتبة سابقة على تعلق الطلب به مطلق ، فإطلاقه في تلك

٨١

المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك وانه قائم بمطلق وجوده وإلا لكان على المولى تقييده بها في تلك المرتبة ، فمن الإطلاق في مقام الإثبات يكشف الإطلاق في مقام الثبوت.

ومن ذلك يظهر ان اقتضاء التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه يستحيل أن يكون بياناً ومقيداً لإطلاقه في مرتبة سابقة عليه ، اذن فلا يدخل المقام تحت كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة ليدعى الإجمال.

واما الإشكال الأخير وهو ان التمسك بالإطلاق لا يمكن لدفع احتمال دخل القدرة في الملاك لعدم لزوم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها فيه واقعاً فيرده :

أولا ـ ان هذا لو تم فانما يتم إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في الملاك ، فان صدور غير المقدور حيث انه مستحيل فلا يلزم نقض الغرض من عدم البيان ، واما إذا كان الشك في اعتبار القدرة ولو كانت شرعية في متعلق الحكم كما هو المفروض فيلزم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها في الملاك واقعاً ، فان المكلف قادر تكويناً على ان يأتي بفرد الواجب الموسع عند مزاحمته للواجب المضيق ، فمن عدم التقييد في مقام الإثبات يستكشف عدمه في مقام الثبوت ، اذن لا مانع من التمسك بالإطلاق لإثبات ان الفرد المزاحم واجد للملاك.

وثانياً ـ ان نقض الغرض ليس من إحدى مقدمات التمسك بالإطلاق ، فان من مقدماته أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في مراده ، ومع هذا الفرض إذا لم ينصب قرينة على التقييد في مقام الإثبات يستكشف منه الإطلاق في مقام الثبوت لا محالة ، وإلا لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان ، ولا يفرق في ذلك بين ان يلزم من عدم البيان نقض الغرض أم لا فلا يكون نقض الغرض من إحدى مقدمات الحكمة.

٨٢

ونلخص ما أفاده (قده) في عدة خطوط :

الأول ـ ان متعلق التكليف إذا كان مقيداً بالقدرة لفظاً فالتقييد يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً ، ضرورة انه لا معنى لأخذ قيد في متعلق التكليف إثباتاً إذا لم يكن دخيلا في ملاكه ثبوتاً.

الثاني ـ انه على هذا لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب في موارد الأمر بالتيمم لعدم الملاك له في تلك الموارد.

الثالث ـ ان التقييد الناشئ من قبل حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو باقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار حيث انه كان في مرتبة متأخرة عن وجدان المتعلق للملاك فلا يوجب تقييد المتعلق في مرتبة وجدانه الملاك ، اذن من عدم تقييد المتعلق في تلك المرتبة إثباتاً يستكشف منه إطلاقه ثبوتاً ، وعدم دخل القدرة في الملاك واقعاً.

الرابع ـ ان المتكلم لا يمكن ان يعتمد في تقييد متعلق حكمه بالقدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك ، أو حكم العقل باعتبارها فيه فلا يكون المقام داخلا في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على الخلاف.

الخامس ـ ان لزوم نقض الغرض من عدم البيان ليس من إحدى المقدمات التي يتوقف التمسك بالإطلاق عليها.

ولنأخذ بدرس هذه الخطوط :

اما الخطّ الأول ـ فهو في غاية الصحة والمتانة.

واما الخطّ الثاني ـ فالامر وان كان كما أفاده (قده) بالإضافة إلى الملاك ، إذ انه ينتفي بانتفاء القدرة على الفرض فلا يمكن تصحيح العبادة عندئذ بوجدانها الملاك ، إلا ان الأمر ليس كما أفاده بالإضافة إلى الترتب ، إذ لا مانع من الالتزام به في أمثال المقام ، وسنتعرض فيما بعد إن شاء الله تعالى انه لا فرق في صحة الترتب بين كون القدرة مأخوذة في متعلق التكليف شرعاً وكونها معتبرة فيه

٨٣

عقلا ، إذ كما يجري الترتب على الثاني كذلك يجري على الأول ، فلو كانت وظيفة المكلف التيمم في مورد كما في موارد ضيق الوقت أو نحوه ، ولكن خالف أمر التيمم وعصاه فتوضأ أو اغتسل فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب ، وسيأتي الكلام في ذلك بصورة مفصلة.

واما الخطّ الثالث ـ فان كان غرضه (قده) من إطلاق المتعلق استكشاف مراد المتكلم من ظاهر كلامه فلا شبهة في انه يتوقف على ان يكون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة. ومن الواضح ان المتكلم ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه ، بل هو في مقام بيان ما تعلق به حكمه فحسب ، بل الغالب في الموالي العرفية غفلتهم عن ذلك فضلا عن كونهم في مقام البيان بالقياس إلى تلك الجهة ، اذن لا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات كون الفرد المزاحم تام الملاك ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان المولى في مقام البيان من هذه الجهة أي (ما يقوم به ملاك حكمه) فائضاً لا يمكن التمسك بإطلاق كلامه. وذلك لأن في الكلام إذا كان ما يصلح لكونه قرينة فلا ينعقد له ظهور وفي المقام بما ان حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار صالح للقرينية فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ، لاحتمال ان المتكلم قد اعتمد في التقييد بذلك.

وعلى الجملة فيحتمل ان يكون الملاك في الواقع قائماً بخصوص الحصة المقدورة لا بالجامع بينها وبين غيرها ، وعدم تقييد المتكلم متعلق حكمه بها في مقام الإثبات ، لاحتمال انه قد اعتمد في بيان ذلك على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو على الحكم العقلي المزبور.

وما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) ـ من ان اقتضاء الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه أو حكم العقل بذلك يستحيل ان يكون بياناً ومقيداً لإطلاق متعلقه في مرتبة

٨٤

سابقة عليه ، اذن لا معنى لدعوى الإجمال وان المقام داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على التقييد ـ لا يمكن تصديقه بوجه.

والوجه في ذلك هو ان انقسام الفعل إلى مقدور وغيره انقسام أولى فلا يتوقف على وجود الأمر وتحققه في الخارج. وعلى هذا فلا يخلو الأمر من ان يكون متعلق التكليف خصوص الحصة المقدورة أو الجامع بينها وبين غير المقدورة إذ الإهمال غير معقول في الواقع ، وعليه فإذا فرضنا ان الثابت على ذمة المكلف خصوص الحصة المقدورة ، فإبراز ذلك في الخارج كما يمكن ان يكون بأخذ القدرة في متعلق التكليف لفظاً أو بقيام قرينة من الخارج على ذلك ، يمكن ان يكون إبرازه باقتضاء نفس التكليف ذلك أو الحكم العقلي المزبور ، بداهة انا لا نرى أي مانع من إبرازه بأحدهما ، ولا يلزم منه المحذور الّذي توهم في المقام ، فانه لا شأن لاقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل عندئذ إلا مجرد إبراز وإظهار ما اعتبره المولى على ذمة المكلف ، ومن الواضح جداً انه لا محذور في ان يكون الإبراز بمبرز متأخر عن المبرز (بالفتح) بل ان الأمر كذلك دائماً.

وبتعبير آخر : انه بناء على وجهة نظره (قده) من ان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لا مانع من ان يعتمد المتكلم في مقام بيان تقييد المأمور به بالقدرة على ذلك بان يجعل هذا بياناً لما اعتبره في ذمة المكلف وهو الحصة المقدورة وكاشفاً عنه ، فإذا كان اقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل صالحاً لأن يكون قرينة على التقييد يدخل المقام حينئذ في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة ، فلا ينعقد له ظهور في الإطلاق.

على ان الكاشف عن الملاك في فعل ، إنما هو تعلق إرادة المولى به واقعاً وجداً والمفروض في المقام ان الإرادة الجدية متعلقة بالمقيد لا بالمطلق اذن كيف يمكن القول باشتمال المطلق على الملاك كما تقدم.

واما بناء على وجهة نظرنا من ان القدرة لم تعتبر في متعلق التكليف لا من جهة

٨٥

حكم العقل ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك فانك قد عرفت ان التكليف بنفسه لا يقتضى ذلك أصلا ، واما العقل فهو لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة في موضوع حكمه وهو لزوم الامتثال ووجوبه ، لا في موضوع حكم الشرع ومتعلقه ، فلا مقتضى لاعتبار القدرة في متعلق الطلب أصلا.

وعلى هذا الضوء فالصحيح هو الجواب الأول من ان المتكلم غالباً ، بل دائماً ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه حتى يمكن التمسك بالإطلاق فيما إذا شك في فرد انه واجد للملاك أم لا؟ ومع قطع النّظر عن ذلك وفرض ان المتكلم في مقام البيان حتى من هذه الجهة فلا مانع من التمسك بالإطلاق إذ قد عرفت انه لا حكم للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ليكونا صالحين للبيان ومانعين عن ظهور اللفظ في الإطلاق.

وعلى كل حال فما أفاده (قده) لا يرجع إلى معنى محصل على وجهة مذهبه.

واما إذا كان غرضه (قده) من التمسك بالإطلاق كشف الملاك من باب كشف المعلول عن علته ، سواء أكان المولى في مقام البيان من هذه الجهة أم لا ، كما هو صريح كلامه (قده) حيث قال : ان هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان وعدمه فيرده : ما ذكرناه عند الجواب عن المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان تعلق الحكم بشيء وان كان كاشفاً عن وجود الملاك فيه بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين ، إلا ان ذلك في ظرف تحققه ووجوده ، واما إذا سقط ذلك الحكم فلا يمكن استكشاف الملاك فيه على تفصيل تقدم هناك فلا حاجة إلى الإعادة.

ونزيدك هنا إلى ذلك ان متعلق الحكم على مسلكه (قده) خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها. وعليه فلا يعقل ان يكون الحكم كاشفاً عن وجود الملاك في الأعم منها ، بداهة ان المعلول انما يكشف عن وجود علته بمقدار سعته

٨٦

دون الزائد ـ مثلا ـ الحرارة الناشئة من النار إنما تكشف عنها خاصة ، لا عن مطلق سببها. وقد تقدم ان الكاشف عن وجود ملاك في فعل هو كونه متعلقاً لإرادة المولى واقعاً وجداً ، ولا أثر لتعلق الإرادة الإنشائية به أصلا ، اذن ما أفاده (قدس‌سره) من ان هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان لا يرجع إلى معنى صحيح ، فان كشف الحكم عن الملاك بمقدار ما تعلق به دون الزائد ، وهذا واضح.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه انه لا يتم شيء من هذه الوجوه ، وعليه فلا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بالملاك.

واما الخطّ الرابع ـ فقد ظهر فساده مما ذكرناه فانه على مسلك شيخنا الأستاذ (قده) صالح لأن يكون قرينة على التقييد ، وعليه فيكون مانعاً عن التمسك بالإطلاق كما عرفت. نعم على مسلكنا لا يكون مانعاً عنه فلو كان المولى في مقام البيان من تلك الناحية فلا مانع من التمسك بإطلاق كلامه لإثبات ان الفرد المشكوك فيه واجد للملاك.

واما الخطّ الخامس ـ فالامر كما أفاده (قده) فان لزوم نقض الغرض لا دخل له في مقدمات الحكمة ، فانها تتألف من ثلاث مقدمات لا رابع لها. إحداها ـ ان يرد الحكم على المقسم والجامع ، لا على حصة خاصة منه. وثانيتها ـ أن يكون المتكلم في مقام البيان. وثالثتها ـ ان لا ينصب المتكلم قرينة على التقييد ، فإذا تمت هذه المقدمات جاز التمسك بالإطلاق ، ولا يتوقف على شيء آخر زائداً عليها فانه لو كان مراد المتكلم في الواقع هو المقيد ومع ذلك لم ينصب قرينة عليه مع فرض كونه في مقام البيان لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان ، اذن لزوم نقض الغرض من عدم البيان أو عدم لزومه مما لا دخل له في التمسك بالإطلاق وعدم التمسك به أصلا. هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة.

واما النقطة الرابعة ـ وهي ان النهي الغيري لا يكون مانعاً عن صحة العبادة

٨٧

فهي في غاية الصحة والمتانة. والوجه في ذلك هو ان المانع عن التقرب بالعبادة وصحتها انما هو النهي النفسيّ باعتبار انه ينشأ عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه. ومن الواضح ان المبغوض لا يكون مقرباً ، واما النهي الغيري فبما انه ينشأ عن أمر خارج عن ذات متعلقه وهو كون تركه في المقام مقدمة لواجب مضيق أو ملازماً له في الخارج فلا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها ، لأن متعلقه باق على ما كان عليه من المحبوبية ولم تعرض عليه أية حزازة ومنقصة من قبل النهي المتعلق به.

فعلى ضوء ذلك لا مانع من صحة الإتيان بالفرد المزاحم والتقرب به بداعي الأمر المتعلق بالواجب الموسع ، فان الواجب هو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى وهو غير مزاحم بواجب آخر ، وما هو مزاحم به غير واجب ، اذن يصح الإتيان به بداعي أمره كما هو الحال على القول بعدم الاقتضاء.

ونتيجة ذلك هي : عدم ظهور الثمرة بين القولين في هذا المقام أي فيما إذا كان التزاحم بين الإتيان بالواجب الموسع ووجوب الواجب المضيق.

ثم انا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان النهي الغيري كالنهي النفسيّ مانع عن صحة العبادة والتقرب بها فمع هذا يمكن تصحيحها بما سيجيء من إمكان الأمر بالضدين على نحو الترتب.

ونتائج الأبحاث المتقدمة لحد الآن عدة نقاط :

الأولى ـ ان ما ذكره شيخنا البهائي (قده) من اشتراط صحة العبادة بتحقق الأمر بها فعلا لا يمكن المساعدة عليه بوجه كما عرفت.

الثانية ـ ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل في منشأ اعتبار القدرة بين حكم العقل بذلك من باب قبح تكليف العاجز ، وبين اقتضاء نفس التكليف ذلك فقد عرفت انه لا يمكن تصديقه بوجه.

الثالثة ـ انه بناء على القول بان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء

٨٨

نفس التكليف ذلك فقد عرفت انه لا يقتضى أزيد من كون متعلقه مقدوراً في الجملة في مقابل ما لا يكون مقدوراً أصلا.

الرابعة ـ قد سبق ان التكليف بنفسه لا يقتضى اعتبار القدرة في متعلقه ، ولا العقل يحكم بذلك ، وانما يحكم باعتبار القدرة في مقام الامتثال فحسب.

الخامسة ـ بطلان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من دعوى القطع باشتمال الفرد المزاحم على الملاك.

السادسة ـ بطلان ما هو المشهور من ان الدلالة الالتزامية لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية ، فلا تسقط بسقوطها.

السابعة ـ ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) ـ من ان التقييد الناشئ من قبل اقتضاء نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ، أو حكم العقل بذلك بما أنه يكون في مرتبة لاحقة وهي مرتبة تعلق التكليف به وعروضه عليه فلا يعقل أن يكون مقيداً لإطلاق المتعلق في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضائه للتكليف ـ فاسد صغرى وكبرى ، اما الصغرى فلان التقييد غير ثابت لما سبق من ان التكليف لا يقتضى اعتبار القدرة في متعلقه ، والعقل لا يحكم إلا باعتبارها في مقام الامتثال والإطاعة دون مقام التكليف. واما الكبرى فقد تقدم انه لا مانع من اعتماد المتكلم في تقييد المتعلق على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو حكم العقل به.

الثامنة ـ ان الحاكم لا يكون في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه ، وانما يكون في مقام بيان ما تعلق به حكمه.

التاسعة ـ ان تعلق الإرادة الإنشائية بشيء لا يكشف عن وجود الملاك فيه وانما الكاشف عنه تعلق الإرادة الجديدة به.

العاشرة ـ ان الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية كما سبق.

الحادية عشرة ـ ان النهي الغيري لا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها الثانية عشرة ـ ان الثمرة لا تتحقق بين القولين في مزاحمة الواجب الموسع

٨٩

بالواجب المضيق. هذا تمام كلامنا في المقام الأول.

واما الكلام في المقام الثاني وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر فلا يمكن تصحيح الواجب المهم بالأمر لاستحالة تعلق الأمر به فعلا مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض ، فانه من التكليف بالمحال وهو محال.

وبذلك يمتاز هذا المقام عن المقام الأول حيث ان في المقام الأول كان الأمر المتعلق بالواجب الموسع والمضيق كلاهما فعلياً ، ولم يكن تناف بين الأمرين أصلا ، وانما التنافي كان بين الإتيان بفرد من الواجب الموسع والواجب المضيق. ومن هنا قلنا انه يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة الجامعة بين الافراد العرضية والطولية حتى على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر المتعلق بها فعلا.

وقد تحصل من ذلك ان النقطة الرئيسية للفرق بين المقامين هي ما ذكرناه من ان تعلق الأمر فعلا بكلا الواجبين في المقام الأول كان ممكناً ، ولكنه لا يمكن في هذا المقام.

وعلى ضوء تلك النقطة لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بالأمر الفعلي.

ومن هنا لا يتأتى في هذا المقام ما أفاده المحقق الثاني (قده) من التفصيل بين القولين ، فانه مبتن على إمكان تعلق الأمر فعلا بالضد العبادي على القول بعدم الاقتضاء. وقد عرفت عدم إمكان تعلقه في هذا المقام مطلقاً.

وعلى الجملة فالمقام الثاني يمتاز عن المقام الأول في نقطة ، ويشترك معها في نقطة أخرى. اما نقطة الامتياز فقد عرفت. واما نقطة الاشتراك فهي انهما يشتركان في تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بوجهين آخرين : هما القول باشتمالها على الملاك ، والقول بصحة الأمر بالضدين على نحو الترتب. اما لوجه الأول فقد تقدم الكلام فيه في المقام الأول مفصلا وقلنا انه

٩٠

لا يمكن إحراز ان الفرد المزاحم تام الملاك ، وما ذكروه من الوجوه لإثبات اشتماله على الملاك قد عرفت فساد جميعها بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الإعادة مرة أخرى واما الوجه الثاني الّذي يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالواجب الأهم به هو الالتزام بجواز الأمر بالضدين على نحو الترتب ، وتفصيله على الوجه التالي :

مسألة الترتب

قبل بيان المسألة نذكر أموراً :

الأول ـ ان البحث عن هذه المسألة انما تترتب عليه ثمرة لو لم يمكن تصحيح العبادة المضادة للواجب الأهم بالوجهين المتقدمين ١ ـ (الملاك) ٢ ـ (والأمر) وإلا فلا تترتب على البحث عنها أية ثمرة. وقد ظهر مما تقدم انه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك ، لا في المقام الأول وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الإتيان بالواجب الموسع ، ووجوب المضيق ، ولا في المقام الثاني وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين ، لأن الكبرى وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادة وان كانت ثابتة ، إلا ان الصغرى وهي اشتمال تلك العبادة على الملاك غير محرزة.

واما تصحيحها بالأمر المتعلق بالطبيعة وان كان ممكناً في المقام الأول كما سبق ، بل قد عرفت انه غير داخل في كبرى باب التزاحم أصلا ، إلا انه غير ممكن في المقام الثاني ، وذلك لما عرفت من امتناع تعلق الأمر بها فعلا مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض ، اذن للبحث عن مسألة الترتب في المقام الثاني وإمكان تعلق الأمر بالمهم. على تقدير عصيان الأمر بالأهم ثمرة مهمة جداً.

الثاني ـ ان الواجبين المتزاحمين يتصوران على صور :

الأولى ـ ان الواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد قد يكونان موسعين كالصلاة اليومية وصلاة الآيات في سعة وقتهما ، أو الصلاة الأدائية مع القضاء على القول بالمواسعة ، ونحو ذلك.

٩١

الثانية ـ ان يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا ، وذلك كصلاة الظهر ـ مثلا ـ وإزالة النجاسة عن المسجد ، أو ما شاكل ذلك.

الثالثة ـ ان يكون كلاهما مضيقين وذلك كالإزالة والصلاة في آخر وقتها ، بحيث لو اشتغل بالإزالة لفاتته الصلاة.

اما الصورة الأولى فلا شبهة في انها غير داخلة في كبرى باب التزاحم ، لتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون اية منافاة ومزاحمة ، ويكون الأمر في كل واحد منهما فعليا بلا تناف ، ومن هنا لم يقع إشكال في ذلك من أحد فيما نعلم.

واما الصورة الثانية ـ فقد ذهب شيخنا الأستاذ (قده) إلى انها داخلة في مسألة التزاحم. وغير خفي ان هذا منه (قده) مبنى على ما حققه في بحث التعبدي والتوصلي من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فكل مورد لا يكون قابلا للتقييد لا يكون قابلا للإطلاق ، فإذا كان التقييد مستحيلا في مورد كان الإطلاق أيضاً مستحيلا فيه ، لأن استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر وبما ان فيما نحن فيه تقييد إطلاق الواجب الموسع بخصوص الفرد المزاحم مستحيل فإطلاقه بالإضافة إليه أيضاً مستحيل.

ويترتب على ذلك وقوع المزاحمة بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق فلا يمكن الجمع بينهما ، إذ على تقدير فعلية خطاب الواجب المضيق يستحيل إطلاق الواجب الموسع بالإضافة إلى الفرد المزاحم ، اذن لا بد اما ان ترفع اليد عن إطلاق الموسع والتحفظ على فعلية خطاب المضيق ، واما ان ترفع اليد عن خطاب المضيق والتحفظ على إطلاق الموسع.

فالنتيجة ان هذا القسم داخل في محل النزاع ـ كالقسم الثالث ـ غاية الأمر ان التزاحم في القسم الثالث بين نفس الخطابين والتكليفين ، وفي هذا القسم بين إطلاق أحدهما وخطاب الآخر. وعلى هذا فان أثبتنا الأمر بالضدين على نحو الترتب

٩٢

نحكم بصحة الفرد المزاحم ، وإلا فلا. نعم بناء على ما ذكره (قده) من اشتماله على الملاك صح الإتيان به من هذه الناحية أيضا من غير حاجة إلى الالتزام بصحة الترتب.

واما بناء على ما حققناه في ذلك البحث ـ من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل هو من تقابل التضاد. ومن هنا قلنا ان استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الإطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً ـ فتلك الصورة خارجة عن محل النزاع وغير داخلة في كبرى باب التزاحم.

والوجه في ذلك ما ذكرناه غير مرة من ان معنى الإطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً ، لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه ، وعليه فمعنى إطلاق الواجب الموسع هو ان الواجب صرف وجوده الجامع بين المبدأ والمنتهى ، وعدم دخل شيء من خصوصيات وتشخصات افراده فيه ، فالفرد غير المزاحم كالفرد المزاحم في عدم دخله في متعلق الوجوب وملاكه أصلا ، فهما من هذه الجهة على نسبة واحدة.

أو فقل : ان متعلق الحكم في الواقع اما مطلق بمعنى عدم دخل شيء من الخصوصيات فيه واقعاً من الخصوصيات المنوعة أو المصنفة أو المشخصة أو مقيد بإحداها فلا ثالث ، لاستحالة الإهمال في الواقعيات ، فالملتفت إلى هذه الخصوصيات والانقسامات اما ان يلاحظه مطلقاً بالإضافة إليها أو مقيداً بها ، لأن الإهمال في الواقع غير معقول ، فلا يعقل أن يكون في الواقع لا مطلقاً ولا مقيداً. وعلى هذا فمعنى إطلاق الواجب المزبور هو عدم دخل شيء من تلك الخصوصيات فيه ، بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج عارياً عن جميع الخصوصيات والمشخصات المزبورة لكان مجزياً ، لأنه أتى بالمأمور به في الخارج ، وهذا معنى الإطلاق كما ذكرناه في بحث تعلق الأوامر بالطبائع. ونتيجة ذلك هي ان الواجب الموسع مطلق بالإضافة

٩٣

إلى الفرد المزاحم ، كما هو مطلق بالإضافة إلى غيره من الافراد.

وعلى ذلك الأساس فلا تنافي بين إطلاق الموسع وفعلية خطاب المضيق. ومن هنا ذكرنا سابقاً انه لا منافاة بين وجوب الصلاة ـ مثلا ـ في مجموع وقتها وهو ما بين الزوال والمغرب وبين وجوب واجب آخر كإنقاذ الغريق أو إزالة النجاسة عن المسجد في بعض ذلك الوقت ، إذ المفروض ان الوجوب تعلق بصرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة لا في كل زمان من تلك الأزمنة لينافي وجوب واجب آخر في بعضها ، فبالنتيجة انه لا مضادة ولا ممانعة بين إطلاق الموسع ووجوب المضيق أصلا ، ولذلك صح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الواجب ، فلا حاجة عندئذ إلى القول بالترتب أصلا ، فاذن لا وجه لدخول هذا القسم في محل الكلام والنزاع. وقد تقدم الحديث من هذه الناحية بصورة أوضح من ذلك فلا حاجة إلى الإعادة.

واما الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر ، فهي القدر المتيقن من مورد النزاع والكلام بين الأصحاب كما هو ظاهر.

الثالث ـ ان مسألة الترتب من المسائل العقلية فان البحث فيها عن الإمكان والاستحالة بمعنى ان الأمر بالضدين على نحو الترتب هل هو ممكن أم لا؟ ومن الواضح جداً ان الحاكم بالاستحالة والإمكان هو العقل لا غيره ، ولا دخل للفظ في ذلك أبداً.

الرابع ـ ان إمكان تعلق الأمر بالضدين على طريق الترتب كاف لوقوعه في الخارج فلا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر. والوجه في ذلك هو ان تعلق الأمر بالمتزاحمين فعلا على وجه الإطلاق غير معقول ، لأنه تكليف بما لا يطاق وهو محال ، ضرورة استحالة الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد والصلاة معاً في آخر الوقت ، بحيث لا يقدر المكلف إلا على إتيان إحداهما. ولكن هذا المحذور أي

٩٤

لزوم التكليف بالمحال كما يندفع برفع اليد عن أصل الأمر بالواجب المهم سواء أتى بالأهم أم لا كذلك يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر به ، اذن يدور الأمر بين ان ترفع اليد عن أصل الأمر بالمهم على تقدير امتثال الأمر بالأهم ، وعلى تقدير عصيانه ، وان ترفع اليد عن إطلاقه ـ لا عن أصله ـ يعنى على تقدير الامتثال لا على تقدير العصيان. ومن الواضح جداً ان المحذور في كل مورد إذا كان قابلا للدفع برفع اليد عن إطلاق الأمر فلا موجب لرفع اليد عن أصله ، فانه بلا مقتض وهو غير جائز. وفي المقام بما ان المحذور المزبور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم فلا مقتضى لرفع اليد عن أصله أصلا ، إذ الضرورة تتقدر بقدرها وهي لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه. وعليه فالالتزام بسقوط الأمر عنه رأساً بلا مقتض وسبب وهو غير ممكن.

وبتعبير ثان ان المكلف لا يخلو من ان يكون عاصياً للأمر بالأهم أو مطيعاً له ولا ثالث ، وسقوط الأمر بالمهم على الفرض الثاني وهو فرض إطاعة الأمر بالأهم واضح وإلا لزم المحذور المتقدم. واما سقوطه على الفرض الأول وهو فرض عصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه فهو بلا سبب يقتضيه ، فان محذور لزوم التكليف بما لا يطاق يندفع بالالتزام بالسقوط على فرض الإطاعة والامتثال ، فلا وجه للالتزام بسقوطه على الإطلاق.

وعلى الجملة ـ ان وقوع الترتب بعد الالتزام بإمكانه لا يحتاج إلى دليل. فإذا بنينا على إمكانه فهو كاف في وقوعه ، فمحط البحث في المسألة إنما هو عن جهة إمكان الترتب واستحالته.

الخامس ـ ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان الترتب لا يجري فيما إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة عقلا ، والتكليف الآخر مشروطاً بالقدرة شرعاً. وقال في وجه ذلك : ان التكليف المتعلق بالمهم المترتب على عصيان التكلف بالأهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك. والطريق إلى إحراز

٩٥

اشتماله على الملاك والكاشف عنه إنما هو إطلاق المتعلق ، فإذا فرضنا ان المتعلق مقيد بالقدرة شرعاً سواء أكان التقييد مستفاداً من قرينة متصلة أو منفصلة أو كان مأخوذاً في لسان الدليل لفظاً لم يبق للتكليف بالمهم محل ومجال أصلا. ورتب (قده) على ذلك انه لا يمكن تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم لا بالملاك ولا بالترتب ، وذلك لأن الأمر بالوضوء في الآية المباركة مقيد بالقدرة من استعمال الماء شرعاً ، وهذا التقييد قد استفيد من تقييد وجوب التيمم فيها بعدم وجدان الماء فان التفصيل في الآية المباركة وتقييد وجوب التيمم بعدم الوجدان يقطع الشركة ويدل على ان وجوب الوضوء أو الغسل مقيد بوجدان الماء.

ثم ان المراد من الوجدان من جهة القرينة الداخلية والخارجية التمكن من استعمال الماء عقلا وشرعاً.

اما القرينة الداخلية فهي ذكر المريض في الآية المباركة. ومن المعلوم ان المرض ليس من الأسباب التي تقتضي عدم وجود الماء وفقدانه وليس حاله كحال السفر فان السفر ولا سيما إذا كان في البوادي ولا سيما في الأزمنة السابقة من أسباب عدم الماء غالباً ، وهذا بخلاف المرض فان الغالب ان الماء يوجد عند المريض ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلا أو شرعاً.

واما القرينة الخارجية فهي عدة من الروايات الدالة على جواز التيمم في موارد الخوف من استعمال الماء أو من تحصيله. والمفروض في تلك الموارد وجود الماء خارجاً وتمكن المكلف من استعماله عقلا ، اذن المراد من وجدان الماء وجوده الخاصّ وهو الّذي يقدر المكلف على صرفه في الوضوء أو الغسل عقلا وشرعاً.

فالنتيجة على ضوء ذلك هي ان تقييد وجوب التيمم بعدم التمكن من استعمال الماء عقلا وشرعاً يقتضى التزاماً تقييد وجوب الوضوء أو الغسل بالتمكن من استعماله كذلك ، ولأجل ذلك التزم (قده) بأنه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء في مواضع الأمر بالتيمم كما إذا كان عند المكلف ماء ولكنه لا يكفي للوضوء ولرفع عطش

٩٦

نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً ، ففي مثل ذلك يجب عليه التيمم وصرف الماء في رفع عطش نفسه ، أو من هو مشرف على الهلاك. أو إذا دار أمره بين ان يصرفه في الوضوء أو الغسل وان يصرفه في تطهير الثوب أو البدن بان لا يكون عنده ثوب طاهر فيدور الأمر بين ان يصلى في الثوب أو البدن الطاهر مع الطهارة الترابية ، وان يصلى في الثوب أو البدن المتنجس مع الطهارة المائية وغير ذلك. ففي هذه الفروع وما شاكلها لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب. اما بالملاك فواضح ، ضرورة انه لا ملاك لوجوب الوضوء أو الغسل في شيء من هذه الموارد ، لفرض ان القدرة مأخوذة في متعلقه شرعاً ودخيلة في ملاكه واقعاً ومع انتفاء القدرة ينتفي الملاك لا محالة. واما بالترتب فلان الوضوء إذا لم يكن فيه ملاك عند مزاحمته مع الواجب المشروط بالقدرة عقلا فعصيان ذلك الواجب لا يحدث فيه مصلحة وملاكا ، وعلى هذا فيمتنع تعلق الأمر به لاستحالة تعلق الأمر بشيء بلا ملاك ولو كان على نحو الترتب ، بداهة انه لا فرق في استحالة تعلق الأمر بشيء بلا ملاك بين ان يكون ابتداء وان يكون على نحو الترتب.

ثم قال (قدس‌سره) ومن هنا ان شيخنا العلامة الأنصاري والسيد العلامة الميرزا الكبير الشيرازي (قدهما) لم يفتيا بصحة الوضوء في تلك الموارد مع انهما يريان صحة الترتب.

نعم قد أفتى السيد العلامة الطباطبائي (قده) في العروة بصحة هذا الوضوء في مفروض الكلام ولكن هذا غفلة منه (قده) عن حقيقة الحال.

أقول : للنظر فيما أفاده (قده) مجال واسع. والوجه في ذلك هو انه لا بد من التفصيل بين المثالين المذكورين فما كان من قبيل المثال الأول فلا مانع من الالتزام بالترتب فيه ، وما كان من قبيل المثال الثاني فلا. وذلك لا من ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) بل من ناحية أخرى ستظهر لك إن شاء الله.

اما المثال الأول وما شاكله فلان المانع منه ليس إلا توهم انه لا ملاك

٩٧

للوضوء أو الغسل في هذه الموارد. وعليه فلا يمكن تعلق الأمر به ولو على نحو الترتب لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك ، ولكنه يندفع بان القول بجواز تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم ، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلا بتعلق الأمر به فلو توقف تعلق الأمر به على إحرازه لدار ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلا وان يكون مشروطاً بها شرعاً ، وذلك لما تقدم من انه لا يمكن إحراز الملاك إلا من ناحية الأمر ، فلو تم هذا التوهم لكان مقتضاه عدم جريان الترتب مطلقاً حتى في الواجب المشروط بالقدرة عقلا.

اذن الصحيح هو عدم الفرق في صحة الترتب وإمكانه بين ان يكون الواجب مشروطاً بالقدرة عقلا أو مشروطا بها شرعاً. والوجه في ذلك هو ان مبدأ إمكان الترتب نقطة واحدة وهي ان تعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم لا يقتضى طلب الجمع بين الضدين ليكون محالا ، بل يقتضى الجمع بين الطلبين في زمان واحد ولا مانع منه أصلا إذا كان المطلوب في أحدهما مطلقاً وفي الآخر مقيداً بعدم الإتيان به ، ومترتباً عليه على نحو لو تمكن المكلف من الجمع بينهما في الخارج وإيجادهما معاً فيه لم يقعا على صفة المطلوبية ، ولذا لو أتى بهما بقصد الأمر والمطلوبية لكان ذلك تشريعاً ومحرماً وسيجيء الكلام من هذه الجهة إن شاء الله تعالى بصورة مفصلة.

وعلى ضوء ذلك لا يفرق بين ما إذا كانت القدرة مأخوذة في المهم عقلا وما إذا كانت مأخوذة فيه شرعاً ، فان ملاك صحة الترتب ـ وهو عدم التنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم إذا كانا طوليين ـ مشترك فيه بين التقديرين ، فإذا لم يكن الأمر بالأهم مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلا ولا شرعاً إذا كان في طوله فلا مانع من الالتزام بتعلق الأمر به على نحو الترتب ، ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية.

٩٨

وعليه يترتب ان المكلف إذا لم يصرف الماء في واجب أهم وعصى امره فلا مانع من تعلق الأمر بالوضوء أو الغسل لتحقق موضوعه في الخارج ، وهو كونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلا وشرعاً. اما عقلا فهو واضح واما شرعاً فلان الأمر بالأهم على تقدير عصيانه لا يكون مانعاً.

أو فقل : ان مقتضى إطلاق الآية المباركة أو نحوها ان الوضوء أو الغسل واجب سواء أكان هناك واجب آخر أم لا غاية الأمر انه إذا كان هناك واجب آخر يزاحمه يسقط إطلاق وجوبه لا أصله ، إذ أن منشأ التزاحم هو إطلاقه ، فالساقط هو دون أصل وجوبه الّذي هو مشروط بعدم الإتيان بالأهم ومترتب عليه لعدم التنافي بينه وبين وجوب الأهم كما عرفت ، وعليه فلا موجب لسقوطه أصلا.

وقد تحصل من ذلك ان دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في الواجب المهم شرعاً تبتنى على الالتزام بأمرين :

الأول ـ دعوى ان الترتب يتوقف على ان يكون المهم واجداً للملاك مطلقاً ، حتى في حال المزاحمة ، أعني بها حال وجود الأمر بالأهم. ومن المعلوم ان هذا إنما يحرز فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في المهم عقلية واما إذا كانت شرعية فبانتفاء القدرة ـ كما في موارد الأمر بالأهم ـ ينتفي ملاك الأمر بالمهم لا محالة ، ومعه لا يجري الترتب.

الثاني ـ دعوى ان الأمر بالأهم مانع عن الأمر بالمهم ومعجز عنه شرعاً حتى في حال عصيانه وعدم الإتيان بمتعلقه.

ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين :

اما الدعوى الأولى فلما سبق من ان الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في المهم فانك قد عرفت انه لا يمكن إحرازه فيه مع سقوط الأمر حتى فيما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية فضلا عما إذا كانت شرعية ، فبالنتيجة انه لا فرق في جريان الترتب بين ما كانت القدرة معتبرة فيه عقلا وما كانت معتبرة شرعاً فلو كان

٩٩

الترتب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الالتزام به على كلا التقديرين.

واما الدعوى الثانية فقد عرفت انه لا تنافي بين الأمرين أصلا ، إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الإتيان بالأهم وعصيان امره ، بل بينهما كمال الملاءمة فلو كان بين الأمرين تناف في هذا الفرض أعني فرض الترتب فلا يمكن الالتزام به مطلقاً حتى فيما إذا كان اعتبار القدرة فيه عقليا.

فقد تبين من مجموع ما ذكرناه ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) لا يمكن المساعدة عليه. هذا تمام كلامنا في المثال الأول وما شاكله.

واما المثال الثاني وما يشبهه وهو ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء أو الغسل وصرفه في تطهير الثوب أو البدن ، كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً ولم يكن عنده من الماء بمقدار يكفي لكلا الأمرين من رفع الحدث والخبث معاً فلا يجري فيه الترتب ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من ان التزاحم لا يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطا بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلا ، وبما ان وجوب الوضوء في المقام مشروط بالقدرة شرعاً ووجوب إزالة الخبث عن البدن أو الثوب مشروط بها عقلا فلا تزاحم بينهما ، لعدم ملاك للوضوء في أمثال هذه الموارد ، وذلك لما تقدم من ان ما أفاده (قده) غير تام ، بل من جهة ان هذا وغيره من الأمثلة غير داخل في كبرى التزاحم ، ولا يجري عليه شيء من أحكامه ، وسنتعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى بشكل واضح.

وملخصه ان التزاحم إنما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والإزالة مثلاً أو ما شاكلهما. واما بين اجزاء واجب واحد فلا يعقل فيه التزاحم ، لأن الجميع واجب بوجوب واحد وذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الاجزاء لا محالة ، فإذا تعذر أحد جزئيه يسقط الوجوب عن الكل بمقتضى القاعدة الأولية ، اذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل ، وقد دل الدليل في باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الإتيان بالباقي ، وعندئذ يعلم إجمالا بجعل أحد

١٠٠