محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

القصر والتمام عليه ، لفرض كون تلك الطبيعة مقدورة بالقدرة على فرد منها ، فإذا كانت مقدورة فلا مانع من تعلق الأمر بها بناء على ان منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل. اذن صح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة. نعم بناء على القول بان منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لم يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم ، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، إذ على هذا القول ـ كما عرفت ـ يكون المأمور به حصة خاصة من الطبيعة ، وهي الحصة المقدورة. ومن الواضح انها لا تنطبق على الفرد المزاحم.

وقد تلخص ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل و ـ ان تم على هذا الفرض ـ إلا ان ذلك الفرض خارج عن مورد كلام المحقق الثاني (قده) الّذي كان محلا للكلام في المقام ، وهو (ما إذا كان الواجب ذا افراد طولية ، وكان بعضها مزاحماً بواجب مضيق).

ثم لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا ان شيخنا الأستاذ (قده) من القائلين بالواجب المعلق ، ويرى جواز تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، إلا انه مع ذلك لا يتم ما أفاده ، بيان ذلك ان المطلق المتعلق للطلب لا يخلو من أن يكون شمولياً وان يكون بدلياً ، والمطلق الشمولي وان كان خارجاً عن محل الكلام في المقام ـ حيث ان محل الكلام في المطلق البدلي ـ إلا انا نتعرض له لشيء من التوضيح للمقام فنقول : إن المطلق إذا كان شمولياً فلا محالة ينحل الحكم المتعلق به بانحلال افراده ، فيثبت لكل واحد منها حكم مستقل مغاير للحكم الثابت لفرد آخر. وهذا واضح.

وعليه فإذا كان بعض افراده مزاحماً بواجب مضيق فلا محالة يسقط حكمه من جهة المزاحمة ، لكونه غير مقدور للمكلف شرعاً ، وما كان كذلك يستحيل تعلق الطلب به ، ولا يفرق في ذلك بين القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، والقول بان منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فان الممنوع شرعاً كالممتنع

٦١

عقلا ، إذن لا يمكن الحكم بصحة ذلك الفرد المزاحم مع قطع النّظر عما سيجيء من صحة تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب.

واما إذا كان بدلياً كما هو محل الكلام في المقام فبناء على ما هو الصحيح من أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الافراد فمتعلق الأمر هو صرف وجود الطبيعة الجامع بين الحدين ، أو فقل : الجامع بين الافراد العرضية والطولية بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات الخارجية فيه.

ومن هنا قد ذكرنا غير مرة ان معنى الإطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه. ومن الواضح جداً ان وجوب شيء كذلك لا ينافي وجوب شيء آخر في عرضه ، ضرورة انه لا منافاة بين وجوب الصلاة ـ مثلا ـ في مجموع وقتها ـ وهو ما بين الزوال والمغرب ـ وبين وجوب الإزالة أو إنقاذ الغريق أو نحو ذلك في ذلك الوقت ، إذ المفروض ان المطلوب إنما هو صرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة لا في جميعها ، ومن المعلوم انه يكفي في كونه مقدوراً للمكلف القدرة على فرد واحد منها ، وإذا كان مقدوراً صح تعلق الطلب به سواء أكان هناك واجب آخر في تلك الأزمنة أم لم يكن ، فان وجوب واجب آخر إنما ينافي وجوب الصلاة إذا كان وجوبها في جميع تلك الأزمنة لا في مجموعها ، والمفروض انها ليست بواجبة في كل من تلك الأزمنة لينافي وجوبها وجوب واجب آخر ، بل هي واجبة في المجموع ، وعليه فلا ينافيه وجوب شيء آخر في زمان خاص.

نعم وجوب واجب آخر ينافي ترخيص انطباق صرف وجود الطبيعة على الفرد في ذلك الزمان ، ولا يفرق في ذلك بين القول بان منشأ اعتبار القدرة في فعلية التكليف هو حكم العقل ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك ، إذ على كلا القولين لو عصى المكلف الأمر بالواجب المضيق وأتى بالفرد المزاحم به صح لانطباق المأمور به عليه.

٦٢

والسر في ذلك ان التكليف بنفسه لا يقتضى أزيد من ان يكون متعلقه مقدوراً ولو بالقدرة على فرد منه لئلا يكون البعث نحوه لغواً وممتنعاً ، لأن الغرض منه جعل الداعي له ليحرك عضلاته نحو الفعل بالإرادة والاختيار. ومن الواضح ان جعل الداعي إلى إيجاد الطبيعة المقدورة ولو بالقدرة على فرد منها بمكان من الوضوح.

وبتعبير آخر : ان الشارع لم يأخذ القدرة في متعلق أمره على الفرض ، بل هو مطلق من هذه الجهة غاية ما في الباب ان التكليف المتعلق به يقتضى ان يكون مقدوراً من جهة ان الغرض منه جعل الداعي إلى إيجاده ، وجعل الداعي نحو الممتنع عقلا أو شرعاً ممتنع. ومن الواضح ان ذلك لا يقتضى أزيد من إمكان حصول الداعي المكلف ، وهو يحصل من التكليف المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على فرد منها ، لتمكنه من إيجادها في الخارج ، ولا يكون ذلك التكليف لغواً وممتنعاً عندئذٍ ، فإذا فرض ان الصلاة ـ مثلاً ـ مقدورة في مجموع وقتها وان لم تكن مقدورة في جميعها فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في مجموع هذا الوقت لغواً.

وعليه فلا مقتضى للالتزام بان متعلقه حصة خاصة من الطبيعة وهي الحصة المقدورة ، فان المقتضى له ليس إلا توهم ان الغرض من التكليف حيث انه جعل الداعي فجعل الداعي نحو الممتنع غير معقول ، ولكنه غفلة عن الفارق بين جعل الداعي نحو الممتنع ، وجعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن ، والّذي لا يمكن جعل الداعي نحوه هو الأول دون الثاني ، فان جعل الداعي نحوه من الوضوح بمكان.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان انه يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة من دون فرق بين القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك.

٦٣

ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا الفرق بين القولين فمع هذا لا يتم ما أفاده بناء على ما اختاره (قده) من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فكل ما لم يكن المورد قابلا للتقييد لم يكن قابلا للإطلاق ، فإذا كان التقييد مستحيلاً في مورد كان الإطلاق أيضاً مستحيلاً فيه ، لأن استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر.

وفيما نحن فيه بما ان تقييد الطبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحيل فإطلاقها بالإضافة إليه أيضاً مستحيل حتى على القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل ، وبالنتيجة لا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به ، ليكون الإتيان به بداعي أمره حتى على القول بصحة الواجب المعلق.

نعم بناء على ما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي من ان التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة ، بل من تقابل التضاد ، ولذلك قلنا ان استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الإطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً يصح الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة بناء على جواز تعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، كما هو المفروض ، وقد ذكرنا هناك ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا يمكن تصديقه بوجه. وقد فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك فلا نعيد في المقام.

فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل بين اعتبار القدرة عقلاً واعتبارها باقتضاء نفس التكليف في المقام لا يرجع إلى معنى صحيح.

فالصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الثاني (قده) من تحقق الثمرة بين القولين في المسألة وهي صحة العبادة بناء على القول بعدم الاقتضاء ، وفسادها بناء على القول

٦٤

بالاقتضاء ، مع قطع النّظر عما سيجيء إن شاء الله تعالى من صحة تعلق الأمر بالضدين بناء على القول بالترتب.

ولكن الّذي يرد هنا هو أن مقامنا هذا أي (التزاحم بين الإتيان بواجب موسع وواجب مضيق) غير داخل في كبرى مسألة التزاحم بين الحكمين أصلا.

والوجه في ذلك هو ان التنافي بين الحكمين اما أن يكون في مقام الجعل والإنشاء فلا يمكن جعل كليهما معا ، واما أن يكون في مقام الامتثال والفعلية ، مع كمال الملاءمة بينهما بحسب مقام الجعل ولا ثالث لهما. ومنشأ الأول اما العلم الإجمالي بكذب أحدهما في الواقع مع عدم التنافي بينهما ذاتاً ، أو ثبوت التنافي بينهما بالذات والحقيقة على وجه التناقض أو التضاد ، ولذا قالوا : التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب مقام الإثبات والدلالة على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض. ومنشأ الثاني عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية ، فان صرف قدرته على امتثال أحدهما عجز عن الثاني فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، ولذا قالوا : التزاحم تنافي الحكمين بحسب مقام الفعلية والامتثال ، مع عدم المنافاة بينهما بحسب مقام الجعل والإنشاء.

واما إذا لم يكن بين حكمين تناف لا بحسب مقام الجعل ، ولا بحسب مقام الفعلية والامتثال لم يكونا داخلين لا في باب التعارض ، ولا في باب التزاحم لانتفاء ملاك كلا البابين فيهما ، ومقامنا من هذا القبيل ، ضرورة انه لا تنافي بين واجب موسع وواجب مضيق أبداً لا في مقام الجعل كما هو واضح ، ولا في مقام الامتثال لتمكن المكلف من امتثال كلا الواجبين معاً من دون اية منافاة ومزاحمة في البين ، فيقدر على إتيان الصلاة والإزالة معاً ، أو الصلاة وإنقاذ الغريق من دون مزاحمة بينهما أصلا.

وسر ذلك ان ما هو مزاحم للواجب المضيق أو الأهم ليس بمأمور به وما هو مأمور به وهو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى ليس بمزاحم له. وهذا ظاهر.

٦٥

ثم انه لا يخفى ان ما ذكرناه من انه لا تزاحم بين الواجب الموسع والمضيق لا ينافي ما ذكره المحقق الثاني (قده) من الثمرة بين القولين في المسألة ، فان دخول المقام تحت كبرى التزاحم ، وعدم دخوله تحت تلك الكبرى أجنبيان عن ظهور تلك الثمرة تماماً كما لا يخفى.

واما النقطة الثانية : وهي اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه فهي مبنية على ما هو المشهور من ان المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنما هو الطلب والبعث نحو الفعل الإرادي ، والطلب والبعث التشريعيين عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره ، وجعل الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده ومن الضروري ان جعل الداعي انما يمكن في خصوص الفعل الاختياري ، اذن نفس التكليف مقتض لاعتبار القدرة في متعلقه بلا حاجة إلى حكم العقل في ذلك.

أقول : قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر ، وكذا في بحث الإنشاء والاخبار ان ما هو المشهور من ان الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا أساس له أصلا.

والوجه في ذلك ما ذكرناه هناك وملخصه : ان المراد بإيجاد المعنى باللفظ ليس الإيجاد التكويني بالضرورة ، فان اللفظ غير واقع في سلسلة علل الموجودات التكوينية ، بداهة انها توجد بأسبابها وعللها الخاصة ، واللفظ ليس من جملتها ، وكذا ليس المراد منه الإيجاد الاعتباري ، فان الاعتبار خفيف المئونة فيوجد في نفس المعتبر بمجرد اعتباره ، سواء أكان هناك لفظ تكلم به المعتبر أم لم يكن ، فلا يتوقف وجوده الاعتباري على اللفظ أبداً ، اذن لا يرجع الإنشاء بهذا المعنى إلى محصل.

فالتحقيق هو : ما ذكرناه سابقاً من ان حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلف ، وأبراره في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو ما شاكلها ، ولا نتصور للتكليف معنى غير ذلك ، كما انا لا نتصور للإنشاء معنى ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباري.

٦٦

وعلى الجملة فإذا حللنا الأمر بالصلاة ـ مثلاً ـ أو غيرها نرى انه ليس في الواقع إلا اعتبار الشارع كون الصلاة على ذمة المكلف ، وإبراز ذلك بمبرز في الخارج ككلمة (صل) أو نحوها ، ولا نتصور شيئاً آخر غير هذين الأمرين ـ ١ ـ (اعتبار الفعل على ذمة المكلف) ـ ٢ ـ (إبراز ذلك بمبرز في الخارج) نسميه بالطلب تارة وبالبعث أخرى وبالوجوب ثالثة.

ومن هنا قلنا ان الصيغة لا تدل على الوجوب وإنما هي تدل على إبراز الأمر الاعتباري القائم بالنفس ، ولكن العقل ينتزع منه الوجوب ، ولزوم الامتثال بمقتضى قانون العبودية والمولوية ما لم تنصب قرينة على الترخيص في الترك ، فالوجوب انما هو بحكم العقل ومن لوازم إبراز شيء على ذمة المكلف إذا لم تكن قرينة على الترخيص ، واما الطلب فقد ذكرنا انه عبارة عن التصدي لتحصيل شيء في الخارج ، فلا يقال طالب الضالة إلا لمن تصدى لتحصيلها في الخارج.

وعلى ضوء ذلك فصيغة الأمر أو ما شاكلها من أحد مصاديق هذا الطلب ، لا انه مدلول لها ، فان الآمر يتصدى بها لتحصيل مطلوبه في الخارج فهي من أظهر مصاديق الطلب.

وعلى هدى ذلك البيان قد ظهر انه لا مقتضى لاختصاص الفعل بالحصة المقدورة ، فان اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف وذمته لا يقتضى ذلك بوجه ضرورة انه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور على عهدته أصلا ، وإبراز المولى ذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ بمبرز في الخارج أيضاً لا يقتضى ذلك ، بداهة انه ليس إلا مجرد إبراز وإظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف ، وهو أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.

فالنتيجة انه لا مقتضى من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبداً واما العقل فقد ذكرنا انه لا يقتضى اعتبار القدرة إلا في ظرف الامتثال ، وعليه فإذا لم يكن المكلف قادراً حين جعل التكليف وصار قادراً في ظرف الامتثال صح

٦٧

التكليف ولم يكن قبيحاً عنده ، فان ملاك حكم العقل ـ باعتبار القدرة في ظرف الامتثال وفي موضوع حكمه وهو لزوم إطاعة المولى وامتثال أمره ونهيه بمقتضى قانون العبودية والمولوية ـ إنما هو قبح توجيه التكليف إلى العاجز عنه في مرحلة الامتثال ، فالعبرة إنما هي بالقدرة في تلك المرحلة سواء أكان قبلها قادراً أم لم يكن فوجود القدرة قبل تلك المرحلة وعدمه على نسبة واحدة بالقياس إلى حكم العقل. وهذا ظاهر.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه امران :

الأول ـ ان القدرة ليست شرطاً للتكليف ومأخوذة في متعلقه لا باقتضاء نفسه ولا بحكم العقل.

الثاني ـ انها شرط لحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في موضوع حكمه ، اذن فلا مقتضى لاختصاص الفعل بالحصة الاختيارية أصلا.

قد يتوهم ان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره وان لم يكن مستحيلاً ولكنه لغو محض إذ المكلف لا ينبعث إلا نحو المقدور ولا يتمكن إلا من إيجاده ، إذن ما هي فائدة تعلقه بالجامع.

ويرده ما ذكرناه هناك من ان فائدته سقوط التكليف عن المكلف بتحقق فرد منه في الخارج بغير اختياره وإرادته ، لانطباق الجامع عليه وحصول الغرض القائم بمطلق وجوده به ، ولا يفرق بينه وبين الفرد الصادر منه باختياره وإرادته في حصول الغرض وسقوط التكليف ، لأن مناط ذلك انطباق الطبيعي المأمور به على الفرد الخارجي وهو مشترك فيه بين الفرد الصادر منه بالاختيار والصادر منه بغيره.

وقد تبين لحد الآن انه لا مانع من تعلق التكليف بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها أصلا.

٦٨

أضف إلى ذلك ما تقدم آنفاً من انا لو سلمنا ان منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لم يكن مقتض لاختصاص المتعلق بخصوص الحصة الاختيارية ـ كما سبق ذلك بصورة مفصلة ـ فلا حاجة إلى الإعادة.

واما النقطة الثالثة ـ وهي ان الفرد المزاحم للواجب المضيق تام الملاك مطلقاً حتى على القول بالاقتضاء. وان قصد الملاك يكفي في وقوع الشيء عبادة. فهي تتوقف على إثبات هاتين المقدمتين : إحداهما كبرى القياس ، والأخرى صغراه.

اما المقدمة الأولى ـ وهي كبرى القياس ـ فلا إشكال فيها ، وذلك لما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي من ان المعتبر في صحة العبادة هو قصد القربة بأي وجه تحقق ، سواء أتحقق في ضمن قصد الأمر ، أو قصد الملاك ، أو غير ذلك من الدواعي القربية. ولا دليل على اعتبار قصد الأمر خاصة ، بل قام الدليل على خلافه ، كما فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك.

واما المقدمة الثانية ـ وهي صغرى القياس فقد استدل عليها بوجوه :

الأول ـ ما عن المحقق صاحب الكفاية (قده) من دعوى القطع بان الفرد المزاحم تام الملاك ، ولا قصور فيه أصلا ، وقال في بيان ذلك ما ملخصه : ان الفرد المزاحم للواجب المضيق أو الأهم وان كان خارجاً عن الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها إلا انه لما كان وافياً بغرضها ـ كالباقي من افرادها ـ كان عقلا مثله في الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة في مقام الامتثال بلا تفاوت في نظر العقل بينه وبين بقية الافراد من هذه الجهة أصلا. نعم انه يفترق عن البقية في انه خارج عن الطبيعة المأمور بها بما هي كذلك ، والبقية داخلة فيها. وهذا ليس لقصور فيه ، ليكون خروجه عنها من باب التخصيص ، وعدم الملاك ، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما يعمه عقلا. وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين غيره من الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة أصلا وانه كالبقية تام الملاك ، ولا قصور فيه أبداً.

٦٩

وغير خفي : انا قد ذكرنا غير مرة انه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعية ، وجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، مع قطع النّظر عن ثبوت تلك الأحكام. نعم في لحظة ثبوتها نستكشف اشتمال متعلقاتها على الملاك بناء على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين. واما إذا سقطت تلك الأحكام فلا يمكننا إحراز ان متعلقاتها باقية على ما كانت عليه من الاشتمال على الملاك ، إذ كما نحتمل أن يكون سقوطها من جهة المانع مع ثبوت المقتضى لها نحتمل أن يكون من جهة انتفاء المقتضى وعدم ثبوته ، فلا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر.

وعلى الجملة فالعلم بوجود مصلحة في فعل أو مفسدة تابع لتعلق الأمر أو النهي به ، فمع قطع النّظر عنه لا يمكن العلم بان فيه مصلحة أو مفسدة. ومن هنا قلنا : إن الملازمة بين إدراك العقل مصلحة ملزمة ، غير مزاحمة في فعل أو مفسدة كذلك ، وحكم الشارع بوجوبه أو حرمته ، وان كانت تامة بحسب الكبرى بناء على وجهة مذهب العدلية كما هو الصحيح ، إلا ان الصغرى لها غير متحققة في الخارج ، لعدم وجود طريق للعقل إلى إدراك الملاكات الواقعية ، فضلا عن انها غير مزاحمة ، وعليه فإذا سقط الأمر أو النهي عنه فلا يمكن الجزم ببقاء الملاك فيه ، وان سقوط الأمر أو النهي من جهة وجود المانع لا لأجل انتفاء المقتضى ، بل كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون سقوطه من جهة انتفاء المقتضى.

وسر ذلك هو ان العلم بالملاك معلول للعلم بوجود الأمر ، فهو يتبعه في السعة والضيق إذ لا يمكن أن تكون دائرة المعلول أوسع من دائرة علته.

وعلى ذلك الأساس فلا يمكن إحراز ان الفرد المزاحم مشتمل على الملاك ، فان الطريق إلى إحرازه هو انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها عليه فإذا لم تنطبق الطبيعة عليه كما هو المفروض لم يمكن إحراز وجود الملاك فيه ليكون عدم الانطباق مستنداً إلى عدم إمكان تعلق الأمر بها على نحو تعمه لا لقصور فيه ، إذ

٧٠

من الواضح جداً انه كما يحتمل ان يكون عدم الانطباق من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضى له يحتمل أن يكون من جهة عدم المقتضى وانتفائه لاحتمال اختصاص الملاك والمقتضى بالافراد غير المزاحمة للواجب المضيق أو الأهم ، ولا دليل على ترجيح الاحتمال الأول على الثاني. اذن لا دليل على ان الفرد المزاحم تام الملاك ولا قصور من ناحيته أصلا.

وان شئت فقل : ان اشتمال الفرد المزاحم على الملاك ليس امراً وجدانياً وبديهياً لئلا يخفى على أحد ولا يكون قابلا للشك والترديد. وعليه فدعوى القطع باشتماله على الملاك بدعوى حكم العقل بعدم الفرق بينه وبين غيره من الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها في غير محلها ، ضرورة ان العقل حاكم بالفرق وان الفرد المزاحم ليس كغيره من الافراد الباقية تحت الطبيعة المأمور بها.

وعلى الجملة حكم العقل بان فعلا ما مشتمل على الملاك منوط بأحد أمرين لا ثالث لهما ، الأول ـ ما إذا كان الشيء بنفسه متعلقاً للأمر ، فان تعلق الأمر به يكشف عن وجود ملاك فيه لا محالة. الثاني ـ ما إذا كان مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به. فانه يكشف عن انه واف بغرض المأمور به وواجد لملاكه ، واما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا ملاك لحكمه أصلا. والفرد المزاحم في المقام كذلك ـ على الفرض ـ فانه ليس متعلقاً للأمر ولا مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به. اذن فلا يحكم العقل بان فيه ملاكا وانه واف بغرض المأمور به كبقية الافراد بل هو حاكم بضرورة التفاوت بينهما في مقام الامتثال والإطاعة كما هو واضح.

الثاني ـ ما عن جماعة من المتأخرين منهم شيخنا الأستاذ (قده) من ان سقوط اللفظ عن الحجية بالإضافة إلى مدلوله المطابقي لا يستلزم سقوطه عنها بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي ، إذ الضرورة تتقدر بقدرها ، وهي تقتضي سقوط الدلالة المطابقية فحسب. اذن فلا موجب لرفع اليد عن الدلالة الالتزامية.

وبعبارة واضحة : ان الدلالة الالتزامية وان كانت تابعة للدلالة المطابقية في

٧١

مقام الثبوت والإثبات ، إلا انها ليست تابعة لها في الحجية. والوجه في ذلك هو ان ظهور اللفظ في معناه المطابقي غير ظهوره في معناه الالتزامي ، وكل واحد من الظهورين حجة في نفسه بمقتضى أدلة الحجية ، ولا يجوز رفع اليد عن حجية كل واحد منهما بلا موجب ومقتض ، وعليه فإذا سقط ظهور اللفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه فلا وجه لرفع اليد عن ظهوره في معناه الالتزامي لعدم المانع منه أصلا. ونظير ذلك ما ذكرناه من انه إذا ورد عام مجموعي كقولنا : أكرم عشرة من العلماء ، ثم ورد دليل خاص كقولنا : لا تكرم أربعة منهم ، فلا شبهة في تخصيص الدليل الأول بالثاني بالإضافة إلى هؤلاء الأربعة ، ورفع اليد عن ظهوره بالإضافة إلى وجوب إكرام المجموع ، ولكنه مع ذلك لا ترفع اليد عن وجوب إكرام الباقي ، مع ان الدلالة التضمنية كالدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في مقام الثبوت والإثبات.

والسر فيه : ان ظهور اللفظ في معناه المطابقي كما يغاير ظهوره في معناه الالتزامي كذلك يغاير ظهوره في معناه التضمني ، وكل واحد من هذه الظواهر قد ثبت اعتبارها بمقتضى أدلة الحجية ، وعندئذ فإذا سقط ظهور اللفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة وجود مانع يختص به لا يلزم منه سقوط ظهوره عن الحجية بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي أو التضمني ، لعدم مانع بالقياس إليه ، اذن كان رفع اليد عنه عند سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بلا موجب ، وهو غير جائز.

وعلى الجملة بعد ما فرضنا ان كل من تلك الظواهر حجة في نفسه فرفع اليد عن كل واحد منها منوط بقيام حجة أقوى على خلافه ، ولذلك كان الساقط في المثال المزبور خصوص الدلالة المطابقية من جهة قيام حجية أقوى على خلافها ، دون الدلالة التضمنية.

وبعد ذلك نقول : بما ان الأمر ـ في المقام ـ قد تعلق بفعل غير مقيد بحصة خاصة ـ وهي الحصة المقدورة ـ فهو كما يدل على وجوبه مطلقاً كذلك يدل على كونه

٧٢

ذا ملاك كذلك ، بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين غاية الأمر : ان دلالته على وجوبه دلالة بالمطابقة ، وعلى كونه ذا ملاك دلالة بالالتزام. وهذه الدلالة بناء على مسلك العدلية لازمة لدلالة كل دليل دل على وجوب شيء أو حرمته أو كراهة شيء أو استحبابه ، وعليه فإذا تعلق الأمر بفعل غير مقيد بالقدرة في مقام الإثبات كشف ذلك عن وجوبه بالدلالة المطابقية ، وعن كونه ذا ملاك بالدلالة الالتزامية ، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لحكم العقل باعتبار القدرة في فعلية التكليف لم تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجية.

أو فقل : ان اللازم وان كان تابعاً للملزوم في مقام الثبوت والإثبات ، إلا انه ليس تابعاً له في مقام الحجية. والوجه فيه هو ان الإخبار عن الملزوم ينحل إلى إخبارين : أحدهما اخبار عن الملزوم ، والآخر اخبار عن اللازم ، ودليل الاعتبار يدل على اعتبار كليهما معاً ، وعندئذ إذا سقط الاخبار عن الملزوم عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه فلا وجه لرفع اليد عن الإخبار عن اللازم ، لعدم المانع له أصلا. وفيما نحن فيه وان كان كشف الأمر عن وجود ملاك في فعل تابعاً لكشفه عن وجوبه في مقام الإثبات والدلالة ، إلا انه ليس تابعاً له في مقام الحجية ، فان حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار إنما يصلح للتقييد بالقياس إلى الدلالة المطابقية فيوجب رفع اليد عنها دون الدلالة الالتزامية ، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقها أصلا. إذ المفروض ان كل واحد من الظهورين حجة في نفسه ، فرفع اليد عن أحدهما لمانع لا يوجب رفع اليد عن الآخر ، فان رفع اليد عنه بلا مقتض وسبب.

ونتيجة ذلك عدة أمور : الأول ـ ان الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً لا بقاء. الثاني ـ ان الملاك قائم بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها ، ولازم ذلك صحة الفرد المزاحم ، فان الصغرى ـ وهي كونه تام الملاك ـ

٧٣

محرزة ، والكبرى ـ وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادة ـ ثابتة ، فالنتيجة من ضم أحدهما إلى الأخرى هي ذلك. الثالث ـ اختصاص الوجوب بخصوص الحصة المقدورة من جهة حكم العقل باعتبار القدرة في متعلقه ، أو من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك. الرابع ـ ان الملاك تابع للإرادة الإنشائية المتعلقة بفعل ، دون الإرادة الجدية ، فانها قد تخالف الأولى ـ كما في المقام ـ فان الإرادة الإنشائية تعلقت بالجامع ، والإرادة الجدية تعلقت بحصة خاصة منه ، وهي الحصة المقدورة.

والجواب عن ذلك نقضاً وحلاً ، اما نقضاً فبعدة من الموارد :

الأول ـ ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب ـ مثلا ـ ثم علمنا من الخارج بكذب البينة ، أو عدم ملاقاة الثوب للبول ، ولكن احتملنا نجاسته من جهة أخرى ، كملاقاته للدم ـ مثلا ـ أو نحوه ، فحينئذ هل يمكن الحكم بنجاسة الثوب من جهة البينة المذكورة ، بدعوى ان الاخبار عن ملاقاة الثوب للبول اخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامية ، لأن نجاسته لازمة لملاقاته للبول ، وبعد سقوط البينة عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة مانع لا موجب لسقوطها بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية ، لعدم المانع عنها أصلا ، ولا نظن ان يلتزم بذلك أحد حتى من يدعى بان سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها ، وهذا واضح جداً.

الثاني ـ ما إذا كانت الدار ـ مثلا ـ تحت يد زيد ، وادعاها عمرو وبكر ، وأخبرت بينة على انها لعمرو ، وأخرى على انها لبكر فتساقطت البينتان من جهة المعارضة بالإضافة إلى مدلولهما المطابقي ، فلم يمكن الأخذ بهما ولا بإحداهما فهل يمكن عندئذ الأخذ بالبينتين في مدلولهما الالتزامي ، وهو عدم كون الدار لزيد بدعوى ان التعارض بينهما إنما كان في مدلولهما المطابقي لا في مدلولهما الالتزامي ، وبعد سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي لم يكن موجب لرفع اليد عنهما في

٧٤

مدلولهما الالتزامي ، وهو ان الدار ليست لزيد ، فلا بد ان يعامل معها معاملة مجهول المالك ، ولا نظن ان يلتزم به متفقه فضلا عن الفقيه.

الثالث ـ ما إذا شهد واحد على ان الدار في المثال المزبور لعمرو ، وشهد آخر على انها لبكر. والمفروض ان شهادة كل واحد منهما ليست بحجة في مدلولها المطابقي ، مع قطع النّظر عن معارضة إحداهما مع الأخرى ، لتوقف حجية شهادة الواحد على ضم اليمين ، ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي ، وهو عدم كون هذه الدار لزيد لكونهما متوافقين فيه فلا حاجة إلى ضم اليمين في الحكم بان الدار ليست لزيد؟ كلا.

الرابع ـ ما إذا قامت البينة على ان الدار التي في يد عمرو لزيد ، ولكن زيداً قد أقر بأنها ليست له فلا محالة تسقط البينة من جهة الإقرار ، فانه مقدم عليها ، وبعد سقوط البينة عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة قيام الإقرار على خلافها ، فهل يمكن الأخذ بها بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية ، والحكم بعدم كون الدار لعمرو؟ كلا.

وقد تلخص من ذلك انه لا يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية في شيء من تلك الموارد وما شاكلها بعد سقوط الدلالة المطابقية فيها.

واما حلاّ : فلأن الدلالة الالتزامية ترتكز على ركيزتين من ضم إحداهما إلى الأخرى يتشكل للقياس على نحو الشكل الأول : الأولى ـ ثبوت الملزوم. الثانية ـ ثبوت الملازمة بينه وبين شيء ، ومن ضم الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة ، وهي ثبوت اللازم. واما إذا لم تثبت الصغرى أو الكبرى ، أو كلتاهما فلا يمكن إثبات اللازم ، وفي المقام بما ان المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي فثبوته يتوقف على ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقي ، فإذا لم يثبت المدلول المطابقي أو ثبت ولكن لم تثبت الملازمة فلا يثبت المدلول الالتزامي لا محالة ولا يفرق في ذلك بين حدوثه وبقائه أصلا.

٧٥

وبعبارة أخرى : ان ظهور الكلام في مدلوله الالتزامي وان كان مغايراً لظهوره في مدلوله المطابقي ، إلا أن ظهوره في ثبوت المدلول الالتزامي ليس على نحو الإطلاق ، بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصة منه ، وهي الحصة الملازمة للمدلول المطابق ـ مثلا ـ الاخبار عن ملاقاة الثوب للبول وان كان اخباراً عن نجاسته أيضاً إلا انه ليس اخباراً عن نجاسته على الإطلاق بأي سبب كان ، بل اخبار عن حصة خاصة من النجاسة ، وهي الحصة الملازمة لملاقاة البول ، بمعنى انه اخبار عن نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول في مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو نحوه ، فإذا قيل ان هذا الثوب نجس يراد به انه نجس بالنجاسة البولية ، وعندئذ إذا ظهر كذب البينة في اخبارها بملاقاة الثوب للبول فلا محالة يعلم بكذبها في اخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاته للبول. واما نجاسته بسبب آخر وان كانت محتملة إلا انها نجاسة أخرى أجنبية عن مفاد البينة تماماً. وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية.

ومن ذلك يظهر حال بقية الأمثلة وسائر الموارد. ومنها ما نحن فيه ، فان ما دل على وجوب فعل غير مقيد بالقدرة وان كان دالا على كونه ذا ملاك ملزم كذلك ، إلا ان دلالته على كونه ذا ملاك ليست على نحو الإطلاق ، حتى مع قطع النّظر عن دلالته على وجوبه ، بل هي بتبع دلالته على وجوب ذلك ، فيكون دالا على حصة خاصة من الملاك ، وهي الحصة الملازمة لذلك الوجوب في مقام الإثبات والكشف ، ولا يدل على قيام الملاك فيه على الإطلاق. وعليه فإذا سقطت دلالته على الوجوب من جهة مانع فلا تبقى دلالته على الملاك المسببة عن دلالته على الوجوب ، اذن لا علم لنا بوجود الملاك فيه ، فان العلم بالملاك كان بتبع العلم بالوجوب. وإذا سقط الوجوب فقد سقط العلم بالوجوب لا محالة ، فانه مسبب عنه ، ولا يعقل بقاء المسبب بلا سبب وعلة. ولا يفرق في ذلك بين سقوط الوجوب رأساً وبين سقوط إطلاقه.

وسره ما عرفت من ان الاخبار عن وجوب شيء اخبار عن وجود حصة

٧٦

خاصة من الملاك فيه ، وهي الحصة الملازمة لوجوبه ، لا عن مطلق وجوده فيه. ولا يمكن ان يكون الاخبار عنه بصورة أوسع من الاخبار عن الوجوب ، فانه خلاف المفروض ، إذ المفروض انه لازم له في مقام الإثبات ، فيدور العلم به سعة وضيقاً مدار سعة العلم بالوجوب وضيقه ، وعلى ذلك فإذا قيد الوجوب بحصة خاصة من الفعل وهي الحصة المقدورة ـ مثلا ـ فلا يكشف عن الملاك إلا في خصوص تلك الحصة ، دون الأعم منها ومن غيرها. هذا واضح جداً.

لعل القائل بان سقوط الدلالة المطابقية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية تخيل ان ثبوت المدلول الالتزامي بعد ثبوت المدلول المطابقي يكون على نحو السعة والإطلاق ، ولازم ذلك هو انه لا يسقط بسقوط المدلول المطابقي إلا ان ذلك غفلة منه ، فان المفروض ان من أخبر بثبوت المدلول المطابقي فقد أخبر بثبوت حصة خاصة منه وهي الحصة الملازمة له لا بثبوته على الإطلاق.

هذا مضافاً إلى ان هذا الكلام أي عدم سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط الدلالة المطابقية في المقام مبتن على ان يكون إحراز الملاك في فعل تابعاً للإرادة الإنشائية المتعلقة به ، دون الإرادة الجدية. وفساد هذا بمكان من الوضوح ، ضرورة ان ثبوت الملاك على مذهب العدلية إنما هو في متعلق الإرادة الجدية ، فسعة الملاك في مقام الإثبات تدور مدار سعة الإرادة الجدية ولا أثر للإرادة الاستعمالية في ذلك أصلاً.

وعلى الجملة فالوجوب انما يكشف عن الملاك كشف المعلول عن علته بمقدار ما تعلق به واقعاً ، والمفروض ان ما تعلق به الوجوب هنا هو خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها.

كما انه لا وجه لقياس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية ، لما ذكرناه في بحث العام والخاصّ من ان الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية ، ولذا قلنا بعدم الفرق في جواز التمسك بالعامّ بين كونه استغراقياً أو مجموعياً ،

٧٧

فلو قال المولى أكرم هذه العشرة وكان الوجوب وجوباً واحداً ثم علمنا من الخارج بخروج واحد من هذه العشرة ، وشككنا في خروج غيره فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج.

والوجه في ذلك ان الدلالة على وجوب إكرام هذا المجموع تنحل في الواقع إلى دلالات ضمنية باعتبار كل جزء منه ، فإذا سقط بعض تلك الدلالات الضمنية فلا موجب لسقوط البقية. أو فقل ان الحكم في العموم المجموعي وان كان واحداً إلا ان ذلك الحكم الواحد إنما انقطع بالإضافة إلى جزء واحد ، وخروج سائر الاجزاء يحتاج إلى دليل ، وهذا بخلاف الدلالة الالتزامية فان المدلول الالتزامي بما انه لازم للمدلول المطابقي فلا يعقل بقاؤه بعد سقوطه كما عرفت.

واما بناء العقلاء وان جرى في باب الظهورات على ان التعبد بالملزوم يقتضى التعبد باللازم ولو مع عدم التفات المتكلم إلى الملازمة بينهما ، وعدم قصده الحكاية عنه ، إلا انه من الواضح ان هذا البناء أي البناء على ثبوت اللازم إنما هو في ظرف ثبوت الملزوم ، واما إذا سقط الملزوم من جهة مانع فلا بناء للعقلاء على ثبوت اللازم ، بداهة ان بناءهم على التعبد بثبوته متفرع على التعبد بثبوت الملزوم ، لا على نحو الإطلاق والسعة.

وان شئت فقل : انه لا ريب في عدم سقوط بعض الدلالات الضمنية عن الحجية بسقوط بعضها الآخر عنها ـ مثلا ـ إذا أخبرت بينة على ان زيداً مديون من عمرو عشرة دراهم ، ولكن عمراً قد اعترف بأنه ليس مديوناً بالعشرة ، بل هو مديون بخمسة فلا إشكال في حجية. البينة بالإضافة إلى الخمسة. أو قامت بينة على نجاسة الإناءين ، ولكن علمنا من الخارج بطهارة أحدهما من جهة إصابة المطر أو نحوه فائضاً لا إشكال في حجيتها بالإضافة إلى نجاسة الإناء الآخر.

وسر ذلك هو انه لا ملازمة ولا تبعية بين المداليل الضمنية بعضها بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ضرورة ان أحدها ليس معلولا للآخر ولا علة له ولا معلولان

٧٨

لعله ثالثة في الواقع. وعلى هذا الضوء لا محالة لا تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان أدلة الحجية ليست قاصرة عن إثبات حجية البينة أو ما شاكلها بالإضافة إلى الباقي. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هو ان سقوط بعض الدلالات الضمنية عن الحجة لا يوجب سقوط بعضها الآخر ، لعدم الملازمة والتبعية بينها كما مر. نعم الملازمة بينها في مقام الإبراز ، فان الجميع كما عرفت يبرز بمبرز واحد.

وهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين الدلالة التضمنية والدلالة الالتزامية. أو فقل : ان الدلالة الالتزامية في نقطة مقابلة للدلالة التضمنية من ناحية مقام الثبوت والحجية. اما من ناحية مقام الثبوت فلان المدلول الالتزامي لا يخلو في الواقع من ان يكون لازماً للمدلول المطابقي أو ملازماً له أو ملزوماً له ، ولأجل ذلك تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر تبعاً. واما من ناحية الحجية فلما سبق من أدلة الحجية انما تدل على حجية الدلالة الالتزامية تبعاً لدلالتها على حجية الدلالة المطابقية.

الثالث ـ ما عن شيخنا الأستاذ (قده) من ان الفرد المزاحم تام الملاك حتى على القول بكونه منهياً عنه. والوجه في ذلك هو ان النهي المانع عن التقرب بالعبادة هو الّذي ينشأ من مفسدة في متعلقه وهو النهي النفسيّ. واما النهي الغيري فبما انه لا ينشأ من مفسدة في متعلقه لا يكشف عن عدم وجود الملاك في متعلقه ، فبضم هذا إلى كبرى كفاية قصد الملاك في صحة العبادة كما تقدمت تستنتج صحة الفرد المزاحم.

ثم أورد (قده) على نفسه بان الحكم بصحة الفرد المزاحم من جهة الملاك لا يجتمع مع القول بان منشأ اعتبار القدرة هو اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح إذ على هذا يكون اعتبار القدرة فيه شرعياً ودخيلاً في ملاك الحكم فيرتفع الملاك بارتفاع القدرة لا محالة.

٧٩

نعم تم ذلك بناء على ان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، إذ حينئذ يمكن ان يقال ان إطلاق متعلقه شرعاً كاشف عن كونه ذا ملاك مطلقاً حتى في حال عدم القدرة عليه.

توضيح ذلك : ان القدرة مرة تؤخذ في متعلق التكليف لفظاً وأخرى تؤخذ باقتضاء نفس التكليف ذلك ، فعلى الأول لا فرق بين أن تكون دلالة اللفظ على اعتبار القدرة فيه بالمطابقة ـ كما في آية الحج ـ فانها تدل على اعتبار القدرة فيه مطابقة ، أو بالالتزام ـ كما في آية الوضوء ـ فانها تدل على تقييد وجوب الوضوء بالتمكن من استعمال الماء عقلا وشرعاً التزاماً من جهة أخذ عدم وجدان الماء في موضوع وجوب التيمم مطابقة ، والتفصيل قاطع للشركة لا محالة ، فانه على كلا التقديرين كان تقييد الواجب بالقدرة مستفاداً من الدليل اللفظي. ونتيجة ذلك ان القدرة دخيلة في ملاك الحكم واقعاً ، ضرورة انه لا معنى لأخذ قيد في متعلق الحكم في مقام الإثبات إذا لم يكن له دخل فيه في مقام الثبوت.

وعلى ذلك يبتنى انه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك ، أو بالالتزام بالترتب في موارد الأمر بالتيمم ، لعدم الملاك للوضوء أو الغسل في تلك الموارد ليمكن الحكم بصحته من جهة الملاك أو من جهة الالتزام بالترتب ، وثبوت الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم فإذا كان هذا هو الحال فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل بإحدى الدلالتين ، كان الأمر كذلك فيما إذا كان اعتبار القدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك ، إذ من الواضح جداً انه حينئذ يتعين المأمور به في الحصة المقدورة بمقتضى دلالة نفس الدليل فالقدرة تكون دخيلة في ملاك الحكم فينتفي بانتفائها.

ثم قال (قده) ولو سلمنا فيما نحن فيه عدم القطع بالتقييد شرعاً الكاشف عن دخل القدرة في الملاك ، إلا انا نحتمل ذلك بالبداهة ، ولا دافع لذلك الاحتمال من جهة انها لو كانت دخيلة فيه واقعاً لجاز للمتكلم ان يكتفي في بيانه بنفس إيقاع

٨٠