محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

الثاني ـ دعوى ان الطهارة المائية مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى الآية الكريمة دون البقية ، وقد تقدم ان ما هو مشروط بالقدرة عقلا يتقدم على ما هو مشروط بها شرعاً. ويردها ما ذكرناه من ان أجزاء الصلاة وشرائطها جميعاً مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، فلا فرق من هذه الناحية بين الطهارة المائية وغيرها أصلا.

الثالث ـ دعوى أن بقية الاجزاء والشرائط أهم من الطهارة المائية. وفيه انه لا طريق لنا إلى إحراز كونها أهم منها أصلا.

وقد تحصل من ذلك انه لا وجه لتقديم بقية الاجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أبداً في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، بل يمكن القول بتقديم الطهارة المائية على غيرها من الاجزاء ، أو باعتبار انها سابقة عليها زماناً ، كما إذا فرض دوران الأمر بين ترك الوضوء أو الغسل فعلا وسقوط جزء في ظرفه بان لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلا مانع من الحكم بتقديم الوضوء أو الغسل عليه ، لفرض ان التكليف بالإضافة إليه فعلى ، ولا مانع منه أصلا. وقد تقدم ان الأسبق زماناً يتقدم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، وما نحن فيه كذلك. فما أفاده (قده) من انه يقدم على الطهارة المائية كل قيد من قيود الصلاة لا يمكن المساعدة عليه.

وأما الفرع الثالث (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط قيد آخر غير الطهور) فقد ذكر (قده) أنه يسقط ذلك القيد.

أقول : اما استثناء الطهور من ذلك وان كان صحيحاً ولا مناص عنه ، إلا انه لا معنى للاقتصار عليه ، بل لا بد من استثناء جميع الأركان من ذلك ، لما تقدم من انه في فرض دوران الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط ركن آخر كذلك تسقط الصلاة يقيناً ، لفرض انها تنتفي بانتفاء كل منهما ، فاذن لا موضوع للتمسك ب (لا تسقط الصلاة بحال ، والإجماع القطعي على ذلك ، ضرورة انه لا صلاة في هذا الحال

٣٢١

ليقال انها لا تسقط ، وعليه فإذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط الطهور رأساً تسقط الصلاة عندئذ لا محالة ، لفرض انها كما تسقط بسقوط الطهور ، كذلك تسقط بعدم إدراك ركعة في الوقت. هذا إذا كان غرضه من الاستثناء ذلك.

واما إذا كان غرضه منه هو ان الطهور يقدم على الوقت في هذا الحال أعني ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة في الوقت وسقوط الطهور رأساً فقد عرفت فساده الآن ، وهو ما مر من انه لا صلاة في هذا الحال ليقال بتقديمه عليه ، لفرض أنها تنتفي بانتفاء كل منهما. واما وجوبها في خارج الوقت فهو بدليل آخر أجنبي عن الأمر في الوقت.

واما تقديم إدراك ركعة من الوقت على غيره من الاجزاء أو الشرائط فواضح لما عرفت من انه إذا دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط قيد آخر يسقط ذلك القيد وحيث ان الوقت من الأركان فإذا دار الأمر بين سقوطه وسقوط غيره يسقط غيره لا محالة.

وبتعبير أوضح هو انا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها ، وما يستفاد من الروايات الدالة على ان الصلاة لا تسقط بحال إلى قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... إلخ» فالنتيجة هي وجوب الإتيان بالأركان (التي هي حقيقة الصلاة) في الوقت مطلقاً أي سواء أكان المكلف متمكناً من الإتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن من ذلك ، فلا يمكن ان تزاحم بقية الاجزاء والشرائط الأركان في الوقت ، لا في تمامه ولا في جزئه ، ضرورة ان في صورة العكس أعني تقديم البقية على الوقت لا صلاة ، لنتمسك بدليل لا تسقط الصلاة بحال أو نحوه. ومن هنا قلنا انه لا موضوع للتعارض أو التزاحم في مثل هذا الفرض ، وان التقديم فيه لا يكون مبتنياً على كون هذه الموارد من موارد التزاحم أو التعارض ، بل هو بملاك آخر لا بملاك

٣٢٢

إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ولذا لا بد من الالتزام بهذا التقديم على كل من القولين.

وبذلك يظهر ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) في المقام من جعل التقديم فيه مبتنياً على إعمال قواعد التزاحم غير صحيح.

واما الفرع الرابع (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت وسقوط قيد آخر) فقد ذكر (قده) انه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت ، إلا السورة ، فانها تسقط بالاستعجال والخوف.

أقول : الأمر بالإضافة إلى السورة كذلك ، لما عرفت من ان دليلها من الأول مقيد بغير صورة الاستعجال والخوف ، فلا تكون واجبة في هذه الصورة. هذا لو قلنا بوجوبها وإلا فهي خارجة عن محل الكلام رأسا. واما بالإضافة إلى غيرها من الاجزاء أو الشرائط فلا يمكن المساعدة عليه. والوجه في ذلك ما أشرنا إليه من أن الركن هو الوقت الّذي يسع لفعل الأركان خاصة ، وانه مقوم لحقيقة الصلاة فتنتفي الصلاة بانتفائه ، وأما الزائد عليه الّذي يسع لبقية الاجزاء والشرائط فليس بركن. وقد استفدنا ذلك من ضم هذه الآية أعني قوله تعالى : «أقم الصلاة ... إلخ إلى قوله تعالى «إذا قمتم إلى الصلاة ... إلخ» بضميمة ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال.

وعلى ذلك فإذا دار الأمر بين سقوط تمام الوقت الّذي يسع للأركان وسقوط جزء أو شرط آخر فالحال فيه كما تقدم ، يعنى انه يسقط ذلك الجزء أو الشرط لا محالة ، سواء أقلنا بالتعارض في أمثال المورد أم بالتزاحم.

واما إذا دار الأمر بين سقوط بعض ذلك الوقت وسقوط قيد آخر ، فائضاً يسقط ذلك القيد.

والوجه في ذلك هو انا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» إلى قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... إلخ

٣٢٣

وإلى أدلة بقية الاجزاء والشرائط مع أدلة بدليتها ، بضميمة ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال فالنتيجة هي وجوب الإتيان بالصلاة في الوقت المحدد لها ، وانها لا تسقط سواء أكان المكلف متمكناً من الإتيان ببقية الاجزاء والشرائط فيه أم لم يتمكن من ذلك ، غاية الأمر مع التمكن منها يجب الإتيان بها فيه أيضاً ، وإلا فتسقط ـ مثلا ـ مع التمكن من الطهارة المائية يجب الإتيان بالصلاة في الوقت المزبور معها ، ومع عدم التمكن منها ولو من جهة ضيق الوقت يجب الإتيان بها فيه مع الطهارة الترابية ، وكذا مع التمكن من طهارة الثوب أو البدن يجب الإتيان بالصلاة في وقتها معها ، ومع عدم التمكن منها ولو من ناحية ضيق الوقت يجب الإتيان بها فيه عارياً أو في الثوب المتنجس على الخلاف في المسألة.

وعلى الجملة فقد استفدنا من ضم بعض تلك الأدلة إلى بعضها الآخر على الشكل المتقدم ان وجوب الإتيان بالصلاة التي هي عبارة عن الأركان في الوقت المعين لها امر مفروغ عنه وانه لا يسقط ، كان المكلف متمكناً من الإتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن ، فلا يمكن أن تزاحم البقية وقت الأركان لا تمامه كما عرفت ولا بعضه.

واما ما ورد في موثقة عمار من أن من صلى ركعة في الوقت فليتم وقد جازت صلاته ، فلا يدل إلا على بدلية إدراك ركعة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه ، فيما إذا لم يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه أصلا بمعنى انه لا يتمكن منه لا مع الطهارة المائية ، ولا مع الطهارة الترابية ، ولا مع طهارة البدن أو الثوب ، ولا مع نجاسته أو عارياً. واما من تمكن من إدراك التمام فيه في الثوب النجس أو عارياً ، أو مع الطهارة الترابية فلا يكون مشمولا للحديث. ومن هنا قلنا أن الحديث يختص بالمضطر وبمن لم يتمكن من إدراك تمامها في الوقت أصلا ، فالشارع جعل له إدراك ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات فيه إرفاقاً وتوسعة له فلا يشمل المختار والمتمكن من إدراك تمام الركعات فيه كما فيما نحن فيه نعم لو أخر الصلاة باختياره إلى ان ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلا بمقدار إتيان ركعة واحدة

٣٢٤

فيه فيشمله الحديث بإطلاقه ، وان كان عاص من جهة تأخير مقدار الصلاة عن الوقت ، ضرورة انه لم يكن في مقام بيان التوسعة والترخيص للمكلفين في تأخير صلواتهم اختياراً إلى ان لا يبقى من الوقت إلا بمقدار إدراك ركعة واحدة فيه ، وجعل إدراك تلك الركعة الواحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات. وقد ذكرنا ان الحديث ظاهر في هذا المعنى بمقتضى الفهم العرفي.

فالنتيجة من ذلك هي ان الموثقة لا تدل على بدلية إدراك ركعة واحدة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه على الإطلاق ، بل تدل على بدلية ذلك عنه لخصوص المضطر وغير المتمكن مطلقاً ، وبما ان في المقام يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه ، فلا يكون مشمولا لها ، فاذن يتعين ما ذكرناه وهو تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على بقية الأجزاء أو الشرائط في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، ولا يفرق في ذلك بين القول بالتعارض في هذه الموارد والقول بالتزاحم فيها ، لفرض ان هذا التقديم غير مستند إلى إعمال قواعد هذا الباب أو ذاك ، بل هو بملاك آخر كما عرفت ، ولا يفرق فيه بين القولين أصلا. فما أفاده (قده) من انه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد الآخر لا يمكن المساعدة عليه.

ثم انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان الأدلة المتقدمة لا تدل على ما ذكرناه وانه لا يستفاد من مجموعها ذلك ، فاذن على القول بالتعارض في تلك الموارد تقع المعارضة بين الدليل الدال على وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت والدليل الدال على وجوب ذلك القيد المزاحم له ، فيرجع إلى قواعد بابها.

ولكن قد ذكرنا في محله ان التعارض إذا كان بين إطلاق الكتاب وإطلاق غيره فيقدم إطلاق الكتاب عليه ، وذلك لما استظهرناه من شمول الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنة ما إذا كانت المخالفة بين إطلاقه وإطلاق غيره على نحو العموم والخصوص من وجه ، فلا تختص الروايات بالمخالفة بينهما على

٣٢٥

وجه التباين ، أو المخالفة بين العامين منهما على نحو العموم والخصوص من وجه بل تعم المخالفة بينهما على نحو الإطلاق بان يكون إطلاق أحدهما مخالفاً لإطلاق الآخر. وبما ان فيما نحن فيه تقع المعارضة بين إطلاق الكتاب وهو قوله تعالى : «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» وإطلاق غيره وهو أدلة سائر الاجزاء أو الشرائط ، فيقدم إطلاق الكتاب عليه.

فالنتيجة هي تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على إدراك جزء أو شرط آخر.

وعلى القول بالتزاحم فيها تقع المزاحمة بينهما أي بين وجوب هذا ووجوب ذاك فيرجع إلى مرجحاته من الأهمية والأسبقية ونحوهما ، اما الأهمية فالظاهر انه لا طريق لنا إلى إحراز ان وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت أهم من إدراك هذا القيد ، لما عرفت من انه إذا دار الأمر بين سقوط جزء أو شرط وسقوط المرتبة الاختيارية من الركن ، فلا يمكن الحكم بتقديم تلك المرتبة عليه ، بدعوى كونها أهم منه ، ضرورة انه لا طريق لنا إلى إحراز ذلك ، ولا دليل على كونها أهم منه ، والأهم إنما هو طبيعي الركن الجامع بين جميع المراتب ، لا كل مرتبة منه ، وفي المقام الركن هو طبيعي الوقت الجامع بين البعض والتمام ، واما تمامه فهو مرتبته الاختيارية ، فلا دليل على كون تلك المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر ، والأهم إنما هو الجامع بينها وبين غيرها من المراتب ، واما الأسبقية فلا مانع من الترجيح بها في أمثال المقام ، وذلك لما تقدم من أن الأسبق زماناً يتقدم على غيره ، فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، والمفروض ان ما نحن فيه كذلك ، فاذن لو دار الأمر بين إدراك جزء سابق كفاتحة الكتاب ـ مثلا ـ وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت بان لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلو أتى بفاتحة الكتاب فلا يتمكن من إدراك تلك الركعة في الوقت ، ففي مثله لا مانع من تقديم فاتحة الكتاب عليه من جهة سبقها زماناً. وقد عرفت ان الأسبق زماناً يتقدم على غيره في مقام المزاحمة في أمثال المقام أيضاً ، وكذا إذا دار الأمر بين تطهير البدن

٣٢٦

أو الثوب ـ مثلا ـ وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت أو بين الطهارة المائية وإدراك تلك الركعة فيه ، بحيث لو غسل ثوبه أو بدنه أو لو توضأ أو اغتسل فلا يتمكن من إدراكها في الوقت ، فيقدم الصلاة في البدن أو الثوب الطاهر عليه ، لما عرفت من ان الأسبق زماناً يتقدم على غيره ، وكذا الصلاة مع الطهارة المائية.

نعم إذا لم يكن القيد المزاحم له سابقاً عليه زماناً ، كما لو دار الأمر بين التسبيحات الأربع والأذكار الواجبة في الركعة الأخيرة ، وبين إدراك تلك الركعة في الوقت ، بحيث لو أتى بالأولى فقد فات عنه وقتها ، ولا يتمكن من إدراكها فيه ، ففي مثله لا وجه لتقديمها عليه ، كما هو واضح ، فاذن ما أفاده (قده) من سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد المزاحم له لا يتم على إطلاقه ـ كما عرفت ـ.

وأما الفرع الخامس (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الاجزاء وسقوط الشرائط) فقد ذكره (قده) أنه تسقط الشرائط لتأخر رتبتها عن الاجزاء.

أقول : ان الشرط بمعنى ما تقيد الواجب به وان كان متأخراً عنه رتبة ، ضرورة ان تقيد شيء بشيء فرع ثبوته ، إلا أنا قد ذكرنا غير مرة انه لا أثر للتقدم أو التأخر الرتبي في باب الأحكام الشرعية أصلا ، فانها تتعلق بالموجودات الزمانية لا بالرتب العقلية ، بل لو تعلقت بها فائضاً لا يكون الأسبق رتبة كالأسبق زماناً مقدماً على غيره في مقام المزاحمة لأن ملاك تقديم الأسبق على غيره وهو كون التكليف المتعلق به فعلياً دون التكليف المتعلق بغيره غير موجود هنا ، لفرض ان التكليف المتعلق بالمتقدم والمتأخر الرتبيين كليهما فعلى في زمان واحد ، فلا موجب عندئذ لتقديم أحدهما على الآخر ، كما هو واضح. واما اعتبار شيء شرطاً فلا يكون متأخراً عن اعتبار شيء جزء ومتفرعاً على ثبوته.

نعم اعتبار الجميع متأخر عن اعتبار الأركان ومتفرع على ثبوته ، كما سبق. وأما اعتبار الشرطية بالإضافة إلى اعتبار الجزئية فلا تقدم ولا تأخر منهما ، بل هما

٣٢٧

في عرض واحد.

والسر فيه ما تقدم من ان الصلاة اسم للأركان ، والبقية من الاجزاء والشرائط قد اعتبرت فيها بأدلتها الخاصة في ظرف متأخر عنها ، ولذا لا تسقط الأركان بسقوطها ، وليست حال الشرائط بالإضافة إلى الاجزاء كحالها بالإضافة إلى الأركان ، ومن هنا تسقط الشرائط بسقوط الأركان ، ولا تسقط بسقوط سائر الاجزاء.

فما ذكره (قده) من كون الشرائط متأخرة عن الاجزاء يبتنى على نقطة واحدة ، وهي كون الصلاة اسماً لجميع الأجزاء فقط ، والشرائط جميعاً خارجة عنها وقد اعتبرت فيها ، فعندئذ لا محالة يكون اعتبارها في ظرف متأخر عن اعتبار تلك ومتفرعاً عليه ، إلا انك عرفت ان تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع ، وان الصلاة موضوعة للأركان فقط ، والبقية جميعاً خارجة عن حقيقتها ومعتبرة فيها بدليل خارجي ، من دون فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط أصلا ، فلا يكون اعتبارها متفرعاً على اعتبار الاجزاء ، بل هو في عرض اعتبارها ، غاية الأمر اعتبار الاجزاء في الأركان بنحو الجزئية واعتبارها فيها بنحو القيدية ، فاذن لا وجه لما أفاده (قده) من تقديم الاجزاء على الشرائط أصلا ، بل لا بد على هذا القول أي القول بالتزاحم من الرجوع إلى مرجحاته من الأهمية والأسبقية ، فما كان أهم يتقدم على غيره ، فلا فرق بين كونه جزء أو شرطاً ، وكذا ما كان سابقاً زماناً يتقدم على غيره ولو كان شرطاً ـ مثلا ـ الطهارة المائية من جهة السبق الزماني تتقدم على فاتحة الكتاب ـ مثلا ـ أو على الركوع الاختياري أو نحو ذلك في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، وكذا طهارة البدن أو الثوب تتقدم عليها بعين ذلك المرجح والملاك. وأما على القول بالتعارض فيها فان كان التعارض بين دليلي الجزء والشرط بالعموم ، فيرجع إلى مرجحات الباب من موافقة الكتاب أو السنة ومخالفة العامة ، إلا إذا كان أحدهما من الكتاب أو السنة ، فيقدم على الآخر ،

٣٢٨

وأما إذا كان التعارض بينهما بالإطلاق كما هو الغالب ، فان كان أحدهما من الكتاب أو السنة والآخر من غيره ، فيقدم الأول على الثاني على بيان تقدم ، وإلا فيسقط كلا الإطلاقين معاً فيرجع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ، فالنتيجة هي اعتبار أحدهما. وقد سبق الكلام من هذه الناحية بشكل واضح فلاحظ.

وأما الفرع السادس (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده ، كما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الساتر في الصلاة وسقوط قيده وهو الطهارة) فقد ذكر (قده) انه يسقط قيده ، لتأخر رتبته.

أقول : ينبغي لنا ان نستعرض هذا المورد وما شاكله على نحو ضابط كلي.

بيان ذلك هو ان القيد سواء أكان قيداً للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختيارية من الركن أو له بتمام مراتبه لا يخلو من ان يكون مقوماً للمقيد بحيث ينتفي بانتفائه ، وأن يكون غير مقوم له ، مثال الأول القيام المتصل بالركوع ، فانه مقوم للمرتبة الاختيارية منه ، مثال الثاني اعتبار الطهارة في الستر والطمأنينة في الركوع والسجود والأذكار والقراءة وما شاكل ذلك ، فان شيئاً منها لا ينتفي بانتفاء هذا القيد ، فلا ينتفي الستر بانتفاء الطهارة ، ولا الركوع والسجود بانتفاء الطمأنينة ، وهكذا.

وبعد ذلك نقول :

أما القسم الأول فلا شبهة في أن انتفائه يوجب انتفاء المقيد ، فلا وجه لدعوى كون الساقط هو خصوص القيد ، ضرورة أنه مقوم له ، فكيف يعقل بقائه مع انتفائه ، كما هو واضح. وعليه فإذا كان المتعذر هو خصوص هذا القيد كالقيام المتصل بالركوع ـ مثلا ـ فلا محالة يسقط المقيد به. وأما إذا كان الأمر دائرا بين سقوطه وسقوط جزء أو شرط آخر أو قيد مقوم له ، فتجري فيه الأقسام المتقدمة بعينها ، لفرض ان الأمر في هذه الصور في الحقيقة دائر بين سقوط جزء وجزء آخر أو شرط كذلك. وهكذا ، فلا حاجة إلى الإعادة.

٣٢٩

واما القسم الثاني (وهو ما إذا كان القيد غير مقوم) فلا وجه لسقوط المقيد أصلا. والوجه في ذلك واضح ، وهو ان معنى لا تسقط الصلاة بحال هو ان الاجزاء والشرائط المقدورة للمكلف لا تسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر فيجب عليه الإتيان بهما ، والمفروض ان المقيد في محل الكلام مقدور له ، فلا يسقط بمقتضى ما ذكرناه ، والساقط إنما هو قيده ، لتعذره.

وعلى الجملة فمقتضى القاعدة وان كان السقوط ، إلا انه بعد ما دل الدليل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، فلا وجه لسقوطه أصلا ، ضرورة ان المستفاد منه هو ان الاجزاء والشرائط الباقية المقدورة لا تسقط بتعذر قيد من قيودهما.

وعليه ففي الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلا ، والساقط إنما هو قيده ، وهو كونه طاهراً. وهذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من التعليل بكون قيده متأخراً عنه رتبة ، وذلك لما عرفت من أنه لا أثر للتأخر الرتبي ولا لتقدمه أصلا ، ولا سيما في المقام كما سبق بشكل واضح فلا نعيد ، وكيف كان فلا إشكال في عدم السقوط. ومن هنا قوينا في هذا الفرع وجوب الصلاة في الثوب المتنجس لا عارياً ، على خلاف المشهور ، هذا مضافاً إلى انه مقتضى النصوص الواردة في المقام. وتمام الكلام في محله.

واما الفرع السابع وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد اعتبر في الركن ، وسقوط قيد اعتبر في غيره ، كما إذا دار الأمر بين سقوط الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن وسقوطها في الأذكار أو القراءة ، أو دار الأمر بين سقوط القيام حال التكبيرة وسقوطه حال القراءة ، وهكذا فقد ذكر (قده) انه يسقط قيد غير الركن.

أقول : قد ظهر فساده مما تقدم. وبيان وجه الظهور هو انه على القول بالتعارض في أمثال هذه الموارد يرجع إلى قواعده ، وبما انه لا ترجيح في البين فالمتعين هو التخيير في المقام وقيدية الجامع ، لدفع اعتبار خصوصية كل منهما

٣٣٠

بأصالة البراءة. وعلى القول بالتزاحم فيها المرجع هو مرجحاته من الأهمية والأسبقية ، والأهمية مفقودة في المقام ، ضرورة ان وجوب الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن ليس أهم من وجوبها في الأذكار أو القراءة وما شاكل ذلك ، لما عرفت من ان نفس تلك المرتبة ليست أهم من تلك الاجزاء ، فضلا عن قيدها غير المقوم لها ، فان الأهم إنما هو الركن بعرضه العريض ، لا بكل مرتبته ، مع انه لو سلمنا ان تلك المرتبة أهم منها ، إلا ان ذلك لا يلازم ان يكون قيدها المزبور أهم من قيد تلك الاجزاء ، كما هو واضح. واما الأسبقية فان كانت موجودة فلا بأس بالترجيح بها في هذه الموارد. وعليه فتتقدم الطمأنينة في حال القراءة على الطمأنينة في حال الركوع من جهة سبقها عليها زماناً ، وكذا يتقدم القيام حال التكبيرة على القيام حال القراءة ، بل قد ذكرنا ان تقديم القيام في الجزء السابق على القيام في الجزء اللاحق مقتضى النص الخاصّ ـ كما سبق ـ فلا يحتاج إلى إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته.

واما الفرع الثامن (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة) فقد ذكر (قده) انه يسقط القيام حال القراءة ، وعلل ذلك بكون القيام قبل الركوع بنفسه ركناً ، ومقوماً للركوع ، فيتقدم على القيام فيها لا محالة ولذا ذكر انه يقدم القيام قبل الركوع على القيام في حال التكبيرة ، فانه فيها شرط ، وفي الركوع مقوم.

أقول : ما أفاده (قده) بناء على وجهة نظره من ان القيام المتصل بالركوع ركن بنفسه متين جداً بمعنى انه لا بد تقديمه على غيره ، لفرض انه ليس له مرتبة أخرى لينتقل الأمر من مرتبته الاختيارية إلى تلك المرتبة ، بل هو بعنوانه ركن وقد ذكرنا انه إذا دار الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط قيد آخر مهما كان لونه يسقط ذلك القيد لا محالة ، ضرورة ان في صورة العكس لا صلاة ، ليدل على عدم سقوطها رواية أو إجماع.

٣٣١

ولكن هذا المبنى فاسد جداً وقد حققنا في محله ان القيام المتصل بالركوع ليس بركن ، وان الأركان منحصرة بالركوع والسجود والطهور والتكبيرة والوقت وعليه فمجرد كونه مقوماً للمرتبة الاختيارية من الركن ، لا يكون موجباً لتقديمه على غيره أصلا ، اما على القول بالتعارض بين دليله ودليل غيره فواضح ، ضرورة انه على هذا لا بد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض وأحكامه على الشكل الّذي تقدم. واما على القول بالتزاحم فلا نحرز ان القيام المتصل بالركوع أهم من القيام حال القراءة أو القيام حال التكبيرة ، ليحكم بتقديمه عليه ، بل الأمر على هذا القول بالعكس ، لما ذكرناه من ان الأسبق زماناً في أمثال هذه الموارد مرجح ، وبما ان القيام حال التكبيرة أو القيام حال القراءة أسبق زماناً من القيام المتصل بالركوع ، فيتقدم عليه لا محالة ، بل قد عرفت أن ذلك مقتضى النص الخاصّ ، فلا يحتاج إلى إعمال مرجح أصلا.

نلخص نتائج بحث التزاحم والتعارض في عدة نقاط :

الأولى ـ ان الفرق بين التزاحم في الملاكات والتزاحم في الأحكام من وجهين :

الأول ـ ان الترجيح في التزاحم بين الملاكات بيد المولى ، وليس من وظيفة العبد في شيء ، ولو علم بأهمية الملاك في أحد فعلين دون آخر ، فان وظيفته امتثال الحكم المجعول من قبل المولى ، هذا مضافاً إلى انه لا طريق له إلى الملاك. وأما الترجيح في التزاحم بين الأحكام فهو من وظيفة العبد لا غير.

الثاني ـ ان مقتضى القاعدة في التزاحم بين الأحكام التخيير. وأما في التزاحم بين الملاكات فلا يعقل فيه التخيير ، ضرورة انه لا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعل الحكم على طبق ذاك ، لفرض ان الملاكين متزاحمان فلا يصلح شيء منهما لأن يكون منشأ لجعل حكم شرعي ، فان الملاك المزاحم لا يصلح لذلك.

الثانية ـ ان التنافي بين الحكمين المتزاحمين إنما هو في مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الخارج اتفاقاً ، ولا تنافي بينهما بالذات

٣٣٢

أبداً لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ، وهذا بخلاف باب التعارض ، فان التنافي بين الحكمين في هذا الباب بالذات ، وقد ذكرنا ان ملاك أحد البابين أجنبي عن ملاك الباب الآخر بالكلية.

الثالثة ـ ان ملاك التعارض والتزاحم لا يختص بوجهة نظر مذهب العدلية ، بل يعم جميع المذاهب والآراء كما تقدم.

الرابعة ـ أن منشأ التزاحم بين الحكمين بجميع اشكاله إنما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. واما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من ان التزاحم بين الحكمين قد ينشأ من جهة أخرى ، لا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فقد تقدم انه غير داخل في باب التزاحم أصلا بل هو داخل في باب التعارض الخامسة ـ ان مقتضى القاعدة في مسألة التعارض هو تساقط الدليلين المتعارضين عن الحجية والاعتبار.

السادسة ـ ان مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الكتاب أو السنة وبمخالفة العامة ، وليس غيرهما بمرجح. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما. ومن ناحية ثالثة ان المراد بالمخالفة للكتاب أو السنة في روايات الترجيح ليس المخالفة على وجه التباين أو العموم من وجه ، ضرورة أن المخالفة على هذا الشكل لم تصدر عنهم عليهم‌السلام أبداً ، بل المراد منها المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق.

السابعة ـ ان مقتضى القاعدة في التزاحم بين الحكمين هو التخيير ، غاية الأمر على القول بجواز الترتب التخيير عقلي ، فانه نتيجة اشتراط التكليف من الأول بالقدرة وليس أمراً حادثاً ، وعلى القول بعد جوازه التخيير شرعي بمعنى ان الشارع قد حكم بوجوب أحدهما في هذا الحال كما سبق.

الثامنة ـ قد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان ما لا بدل له يتقدم على ماله بدل في مقام المزاحمة ، وطبق هذه الكبرى على فروع ثلاثة : (١) ـ ان الواجب التخييري

٣٣٣

إذا زاحم ببعض افراده الواجب التعييني فيقدم التعييني عليه ، وان كان الواجب التخييري أهم منه. (٢) ـ ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في تطهير البدن أو في الوضوء أو الغسل ، وبما ان للثاني بدل فيقدم الأول عليه. (٣) ـ ما إذا دار الأمر بين إدراك ركعة في الوقت مع الطهارة المائية وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية فيقدم الثاني على الأول ، باعتبار ان له بدل.

ولكن ناقشنا في جميع هذه الفروع ، وانه ليس شيء منها داخلا في تلك الكبرى. اما الأول فهو ليس من باب التزاحم في شيء ، لقدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً ، ومعه لا مزاحمة بينهما أصلا. واما الثاني فلفرض ان لكل منهما بدلا ، فكما ان للصلاة مع الطهارة المائية بدلا ، فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب. هذا مضافاً إلى ما ذكرناه من انه لا يعقل التزاحم بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط لواجب واحد ، كما تقدم. واما الثالث فيرد عليه بعينه ما أوردناه من الإيرادين على الفرع الثاني ، ولكن مع ذلك يمكن الحكم بتقديم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية بملاك آخر ، وهو انا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى : «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» بضميمة الروايات الواردة في تفسيره إلى قوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... إلخ. فالنتيجة هي ان المكلف إذا تمكن في الوقت من استعمال الماء فوظيفته الوضوء أو الغسل ، وان لم يتمكن من استعماله فوظيفته التيمم وإتيان الصلاة به ، كما سبق. وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده (قده) من الكبرى ، وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل متين جداً إلا انها لا تنطبق على شيء من تلك الفروعات.

التاسعة ـ ان الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلا ، فيتقدم ما هو المشروط بالقدرة عقلا على ما هو المشروط بها شرعاً ، من دون فرق بين أن يكون متقدماً عليه زماناً أو متقارناً معه

٣٣٤

أو متأخراً عنه.

العاشرة ـ ان شيخنا الأستاذ (قده) قد أنكر جريان الترتب فيما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة عقلا والآخر مشروطاً بها شرعاً ، بعد ما سلم تقديم الأول على الثاني. وقد ذكرنا ان ما أفاده (قده) يرتكز على أصل خاطئ ، وهو توهم ان الترتب إنما يجري فيما إذا أحرز ان في كل من المتزاحمين ملاك في هذا الحال وفي مثل المقام بما انه لا يمكن إحراز ان ما هو مشروط بالقدرة شرعاً واجد للملاك ، فلا يمكن إثبات الأمر له بالترتب. ولكنه توهم فاسد. والوجه فيه هو ان جريان الترتب في مورد لا يتوقف على إحراز الملاك فيه ، لعدم الطريق إليه أصلا مع قطع النّظر عن تعلق الأمر به ، بل ملاك جريانه هو انه لا يلزم من اجتماع الأمرين على نحو الترتب في زمان واحد طلب الضدين ، وعليه فالمتعين هو رفع اليد عن إطلاق كليهما في فرض التساوي ، وعن إطلاق أحدهما في فرض كون الآخر أهم.

الحادية عشرة ـ ان الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً يتقدم ما هو أسبق زماناً على غيره. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان السبق الزماني إنما يكون من المرجحات فيهما خاصة ، لا فيما إذا كان مشروطاً بالقدرة عقلا ، فانه لا أثر للسبق الزماني فيه أصلا.

الثانية عشرة ـ ان التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر لا يكون من صغريات التزاحم بين الواجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، فان كونه من صغريات تلك الكبرى يبتنى على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعاً كما هو المشهور ، ولكن قد ذكرنا ان هذا التفسير خاطئ بحسب الروايات ، فان الاستطاعة قد فسرت فيها بالزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع ، والراحلة مع أمن الطريق.

الثالثة عشرة ـ ان وجوب النذر لا يكون مقدماً على وجوب الحج زماناً سواء أقلنا بإمكان الوجوب التعليقي أو استحالته ، والمقدم إنما هو سببه ولا عبرة

٣٣٥

به ، فاذن لا وجه لتقديم وجوب النذر على وجوب الحج ، وإن قلنا بكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً.

الرابعة عشرة ـ ان اشتراط وجوب النذر وما شاكله بالقدرة شرعاً مستفاد من نفس الروايات الدالة على عدم نفوذ ذلك فيما إذا كان مخالفاً للكتاب أو السنة.

الخامسة عشرة ـ ان الواجبات المجعولة في الشريعة المقدسة بالعناوين الثانوية كالنذر والشرط في ضمن عقد والعهد واليمين وما شابه ذلك لا تصلح ان تزاحم الواجبات المجعولة فيها بالعناوين الأولية كالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.

السادسة عشرة ـ ان الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً إذا كانا عرضيين فيجري فيهما ما يجري في المتزاحمين العرضيين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا من جريان الترتب فيهما والترجيح بالأهمية أو محتملها وكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً.

السابعة عشرة ـ ان الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا فان كان أحدهما أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على غيره وان كان متأخراً عنه زماناً ، وكذا إذا كان محتمل الأهمية من جهة ان إطلاق الطرف الآخر ساقط يقيناً ، واما إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشكوك فيه ، فنأخذ به وان كانا متساويين فالحكم فيهما التخيير بمعنى تقييد وجوب كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر. واما بناء على عدم إمكان الترتب فيدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال. وقد ذكرنا ان المرجع فيه التعيين. نعم إذا كان الشك فيهما في مقام الجعل بان كان المجعول غير معلوم فتجري أصالة البراءة عن احتمال التعيين.

الثامنة عشرة ـ ان إحراز كون الواجب المتأخر ذو ملاك ملزم في ظرفه بناء على وجهة نظرنا من إمكان الواجب التعليقي واضح ، فان ثبوت الوجوب فعلا كاشف عنه لا محالة. واما بناء على عدم إمكانه ، فان علم من الخارج انه واجد للملاك

٣٣٦

الملزم في ظرفه فهو وإلا فلا نحكم بتقديمه على الواجب الفعلي ، لعدم إحراز انه ذو ملاك ملزم في زمانه.

التاسعة عشرة ـ ان القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر ان كانت قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي وان كان أهم منه بل الأمر بالعكس ، لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له في ظرفه. وقد رتبنا على تلك الكبرى عدة من الفروع التي تقدمت.

العشرون ـ انه لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين العرضيين ، والواجبين الطوليين فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث قد أنكر جريانه في الواجبين الطوليين.

الواحدة والعشرون ـ ان موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط داخلة في كبرى باب التعارض فيرجع إلى قواعد ذلك الباب.

الثانية والعشرون ـ ان إطلاق الكتاب يتقدم على إطلاق غيره في مقام المعارضة إذا لم يكن إطلاق غيره قطعياً ، كما إذا كان الدليل الدال على أحد الجزءين أو الشرطين إطلاقاً من الكتاب ، والدليل الدال على الآخر إطلاقاً من غيره ، فيتقدم الأول على الثاني في هذه الموارد أعني موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما بناء على القول بالتعارض فيها دون القول بالتزاحم.

الثالثة والعشرون ـ ان موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما تتصور على صور :

١ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركنين ، فيدور الأمر بين سقوط هذا الركن وسقوط الركن الآخر. وقد عرفت ان المتعين في هذه الصورة سقوط الصلاة ، ولا موضوع لما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال.

٢ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بتمام مراتبه وبين مرتبة اختيارية لآخر

٣٣٧

وقد سبق ان المتعين في هذه الصورة سقوط تلك المرتبة.

٣ ـ عدم تمكنه من الجمع بين مرتبة اختيارية لركن ومرتبة اختيارية لآخر. وقد تقدم انه تقع المعارضة بين دليليهما ، فالمرجع هو قواعد بابها.

٤ ـ عدم تمكنه من الجمع بين المرتبة الاختيارية من الركن وبين سائر الاجزاء أو الشرائط. وقد عرفت ان في هذه الصورة أيضاً تقع المعارضة بين دليليهما ، فلا بد من الرجوع إلى مرجحاتها على تفصيل قد تقدم.

٥ ـ عدم تمكنه من الجمع بين ركن بعرضه العريض وبين بقية الاجزاء أو الشرائط وقد سبق ان في هذه الصورة لا بد من تقديم الركن عليها من جهة ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال.

٦ ـ عدم تمكنه من الجمع بين الجزء والشرط وقد عرفت ان الصحيح في هذه الصورة أيضا وقوع المعارضة بين دليليهما ، لا تقدم الجزء على الشرط.

الرابعة والعشرون ـ انه إذا تعذر قيد شرط أو جزء ، فان كان مقوماً له فسقوطه لا محالة يوجب سقوط ذلك الشرط أو الجزء ، وان لم يكن مقوماً له فسقوطه لا يوجب سقوط ذلك أصلا ، فاذن الساقط هو خصوص القيد دون المقيد.

الخامسة والعشرون ـ ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من تطبيق كبرى باب التزاحم على تلك الفروعات غير تام. وعلى تقدير التنزل وتسليمه فما أفاده (قده) من المرجحات لتقديم بعض الاجزاء أو الشرائط على بعضها الآخر لا يتم على إطلاقه ، كما سبق بصورة مفصلة.

تذييل : وهو ان شيخنا الأستاذ (قده) قد قسم التزاحم إلى سبعة أقسام :

الأول ـ التزاحم بين الحكمين من غير ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. وقلنا هناك انه ليس من التزاحم في شيء ، بل هو من التعارض فلاحظ.

الثاني ـ التزاحم في الملاكات بعضها مع بعضها الآخر ، كان يكون في الفعل

٣٣٨

جهة مصلحة تقتضي إيجابه. وجهة مفسدة تقتضي حرمته ، وهكذا. وقد سبق الكلام فيه أيضاً. وذكرنا هناك أن هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الكلام بالكلية ، وان الأمر فيه بيد المولى. وعليه ان يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النّفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد ، فيجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى والأهم منها دون غيره ، واما إذا لم يكن أحدهما أقوى من الآخر بل كانا متساويين. فليس الحكم في هذه الصورة التخيير. كما هو الحال في التزاحم بين الأحكام بعضها مع بعضها الآخر. ضرورة ان التخيير فيها غير معقول فلا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعله على طبق ذاك. فان جعله على طبق كليهما غير معقول. وعلى وفق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، مع انه بلا مقتض ، فاذن يسقطان معاً ، لأن الملاك المزاحم بالملاك الآخر لا أثر له أصلا ، فعندئذ يمكن للمولى ان يجعل له الإباحة ، وكيف كان فهذا التزاحم خارج عما نحن فيه ، ولذا لا يمكن البحث عن جريان الترتب فيه وعدم جريانه ، كما ان في فرض التساوي بينهما ليس الحكم فيه التخيير مع انه مقتضى القاعدة في التزاحم بين حكمين مجعولين ، وفي فرض عدم التساوي الترجيح يكون بيد المولى دون العبد ، وهذا بخلاف التزاحم المبحوث عنه ـ هنا ـ.

الثالث ـ التزاحم الناشئ من عدم قدرة المكلف اتفاقاً ، كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر ، فيما إذا لم يكن المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً.

الرابع ـ التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بين الواجبين اتفاقاً ، فان المضادة بينهما إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليليهما ، لوقوع المصادمة عندئذ في مرحلة الجعل ، لا في مرحلة الامتثال والفعلية.

الخامس ـ التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان ، ولم نقل بسراية الحكم من إحداهما إلى الأخرى ، بناء على ما هو الصحيح

٣٣٩

من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها الخارجية ، فتقع المزاحمة بينهما ، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة ، أو كانت ماهيتان متعددتان ، ولكن قلنا بالسراية ، فعندئذ تقع المعارضة بين دليليهما.

السادس ـ التزاحم في موارد التلازم الاتفاقي بين الفعلين ، كما إذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقاً ، فإذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة تقع المزاحمة بينهما ، وهذا بخلاف ما إذا كان التلازم بينهما دائمياً ، فانه عندئذ يدخل في باب التعارض.

السابع ـ التزاحم بين الحرام والواجب فيما إذا كان الحرام مقدمة له ، كما إذا توقف إنقاذ الغريق ـ مثلا ـ على التصرف في مال الغير ، هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً ، وإلا فيدخل في باب التعارض.

ولكن قد أشرنا فيما تقدم ان تقسيمه (قده) التزاحم في موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتزاحمين إلى هذه الأقسام غير صحيح.

اما أولا فلأنه لا أثر لهذا التقسيم أصلا ، ولا تترتب عليه اية ثمرة ، وإلا لأمكن تقسيمه إلى أزيد من ذلك كما سبق.

وأما ثانياً ـ فلان أصل هذا التقسيم غير صحيح. وذلك لأن القسم الثاني وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن المضادة بين الواجبين اتفاقاً داخل في القسم الأول. وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما اتفاقاً ، بداهة ان التضاد بين فعلين من باب الاتفاق غير معقول إلا من ناحية عدم قدرة المكلف عليهما معاً ، ولذا لا مضادة بينهما بالإضافة إلى من كان قادراً عليهما كذلك ، فاذن لا معنى لجعله قسما آخر في مقابل القسم الأول.

واما ما ذكره (قده) من ان المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليل حكميهما ، فهو إنما يتم في الضدين الذين لا ثالث لهما وأما الضدين

٣٤٠