محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

ان يكون المقتضى لأحدهما موجوداً في مورد المعارضة لا يرجع إلى أصل صحيح وسيأتي تفصيله بشكل واضح في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

وأما الجهة الرابعة فيقع الكلام فيها في موردين :

الأول ـ فيما تقتضيه القاعدة في المتعارضين.

الثاني ـ في مرجحاتهما.

أما المورد الأول ـ فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح ان مقتضى القاعدة سقوط المتعارضين عن الحجية وفرضهما كأن لم يكونا. والوجه في ذلك هو ان دليل الاعتبار لا يشمل كليهما معاً لاستحالة التعبد بالمتناقضين أو الضدين ، فشموله لأحدهما المعين وان لم يكن مانعاً في نفسه ، الا انه معارض لشموله للآخر ، حيث ان نسبته إلى كليهما على حد سواء وعليه فالحكم بشموله لهذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً ، فاذن يسقطان معاً فيرجع إلى العموم أو الإطلاق ان كان ، والا فإلى أصل عملي. وتمام الكلام في ذلك بصورة مشروحة في بحث التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى.

وأما المورد الثاني ـ فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح ان مرجحات باب التعارض تنحصر بموافقة الكتاب أو السنة ، وبمخالفة العامة ، وليس غيرهما بمرجح هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما من آيتين متعارضتين أو ظاهرين متعارضين أو إجماعين متعارضين ، بل لا يعم فيما إذا كان أحد المتعارضين خبراً والاخر إجماعا مثلا.

فالنتيجة ان هاهنا دعاوى ثلاث :

الأولى ـ انحصار المرجح بخصوص موافقة الكتاب أو السنة ، ومخالفة العامة.

الثانية ـ ان غيرهما من صفات الراوي ونحوها ليس بمرجح.

الثالثة ـ أن الترجيح بهما يختصر بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما.

أما الدعوى الأولى فلأنهما قد وردتا في صحيحة قطب الراوندي عن الصادق عليه‌السلام

٢٢١

إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فان لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة ، فما وافق اخبارهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه» وقد ذكرنا هناك ان موافقة الكتاب والسنة ، ومخالفة العامة من المرجحات ، وليستا في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة. كما تخيل المحقق صاحب الكفاية (قده) بدعوى ان ما ورد من الروايات من ان الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار ونحو ذلك من التعبيرات دال على انه ليس بحجة ، وكذا الحال في الخبر الموافق للقوم ، فان الوثوق والاطمئنان بصدور الخبر المخالف للقوم يوجب الاطمئنان بان الخبر الموافق لهم اما غير صادر أو صدر تقية.

ولكن قد ذكرنا هناك ان المراد بالمخالفة في تلك الروايات ما كان على نحو التباين أو العموم من وجه ، فمثل هذا المخالف لم يمكن صدوره عن الأئمة عليهم‌السلام واما المخالف على نحو العموم المطلق فلا إشكال في صدوره عنهم عليهم‌السلام ، كيف وقد خصص به في كثير من الموارد عمومات الكتاب والسنة. ومن الواضح جداً ان المراد من المخالفة في روايات الترجيح ليس المخالفة على النحو الأول ، بل المراد منها المخالفة على النحو الثاني ، والا لم يكن بيانها مناسباً لمقام الترجيح ، إذ المفروض انه عليه‌السلام كان في مقام بيان المرجح لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر لا في مقام تمييز الحجة عن اللا حجة.

ومما يؤيد ذلك انه لو كان المراد من المخالفة في تلك الطائفة هو المخالفة على النحو الأول لم يكن الخبر المشهور المخالف للكتاب أو السنة حجة في نفسه ، ومعه كيف يحكم عليه‌السلام بتقديمه على الخبر الشاذ الموافق للكتاب أو السنة كما هو مقتضى إطلاق المقبولة. ومن ذلك يعلم ان هذه الطائفة ليست في مقام تمييز الحجة عن اللا حجة ، والا لم يكن معنى لتقديم الخبر المشهور المخالف على الشاذ الموافق ، بل هي في مقام بيان المرجح لأحد المتعارضين على الآخر.

٢٢٢

وأما ما ذكره من ان الخبر الموافق للقوم لا يكون حجة مع وجود الخبر المخالف لهم فهو من الغرائب ، ضرورة ان مجرد وجود الخبر المخالف لهم لا يوجب كون الموافق غير حجة ، لأن الأحكام الموافقة لهم في نفسها كثيرة جداً. وعليه فيحتمل ان يكون الخبر الموافق لهم هو الحكم الواقعي دون المخالف ، وهذا واضح.

وأما الدعوى الثانية فلأن الترجيح بغيرهما لم يرد في دليل معتبر ، وعلى تقدير وروده في دليل معتبر ليس من جملة المرجحات ـ هنا ـ بيان ذلك : أما الشهرة لم تذكر فيما عدا المرفوعة والمقبولة اما المرفوعة فهي ضعيفة سنداً ، بل غير موجودة في الكتب المعتبرة ، ولذا ناقش في سندها صاحب الحدائق ـ قده ـ الّذي ادعى القطع بصدور الروايات الموجودة في الكتب الأربعة ، وغيرها من الكتب المعتبرة وأما المقبولة فهي وان كان الأصحاب يتلقونها بالقبول ، الا انها أيضا ضعيفة سنداً بعمر ابن حنظلة حيث لم تثبت وثاقته ، ومع الغض عن سندها فالمذكور فيها هو الأخذ بالمجمع عليه. ومن المعلوم ان المراد منه هو الخبر الّذي أجمع الأصحاب على روايته عن المعصومين عليهم‌السلام ، وصدوره منهم. وعلى هذا فالمراد منه هو الخبر القطعي الصدور ، فاذن تقديمه على الشاذ ليس من باب الترجيح ، كما هو ظاهر.

ومن هنا يظهر حال صفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأوثقية ونحوها أيضاً ، فان الترجيح بها لم يذكر في غير المقبولة والمرفوعة من الاخبار العلاجية.

أما المرفوعة فقد عرفت حالها. وأما المقبولة فمع الغض عن سندها لم تجعل الترجيح بالصفات من مرجحات الروايتين ، وانما جعلت الترجيح بها من مرجحات الحكمين حيث قال عليه‌السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما إلخ.

وأما الدعوى الثالثة فلان موضوع الترجيح في الاخبار العلاجية خصوص الخبرين المتعارضين ، فالتعدي منهما إلى غيرهما يحتاج إلى دليل ، وحيث لا دليل عليه فلا بد من الاقتصار عليهما ، فان الدليل الخارجي مفقود على الفرض ، وروايات الترجيح لا إطلاق فيها ولا عموم ، فاذن لا يمكن رفع اليد عن مقتضى الأصل

٢٢٣

الأولى في غيرهما. ويأتي الكلام في جميع ذلك في بحث التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى بصورة مفصلة ، والغرض من التعرض هنا بهذا المقدار الإشارة إلى ان مسألة التعارض كما تمتاز عن مسألة التزاحم بذاتها كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها.

واما الجهة الخامسة فيقع الكلام فيها في نقطتين :

الأولى ـ ما هو مقتضى القاعدة في مسألة التزاحم.

الثانية ـ ما هو مرجحاتها.

أما النقطة الأولى ، فمقتضى القاعدة فيها التخيير مع قطع النّظر عن مرجحات تلك المسألة. والوجه فيه واضح وهو ان المانع عن الإتيان بالمتزاحمين انما هو عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً ، وأما من ناحية أخرى فلا مانع أصلا. وعليه فيما ان المكلف قادر على إتيان أحدهما عند ترك الآخر يتعين عليه بحكم العقل ، ضرورة انه لم يعتبر في الامتثال ما عدا قدرة المكلف عليه في ظرفه ، وحيث انه قادر على امتثال أحدهما فلا يكون معذوراً في تركه.

أو فقل ان فعلية كلا التكليفين في باب المزاحمة مستحيلة ، وفعلية أحدهما بفعلية موضوعه وهو قدرة المكلف على امتثاله ضرورية ، فاذن يجب بحكم العقل امتثال هذا التكليف الفعلي ، فإذا فرض عدم الترجيح لأحدهما على الآخر يحكم العقل بالتخيير بينهما ، وانه مخير في إعمال قدرته في امتثال هذا وامتثال ذاك.

أما النقطة الثانية ، فقد ذكروا لها مرجحات :

المرجح الأول ـ

ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ وهو كون أحد الواجبين مما لا بدل له والآخر مما له بدل ، فيقدم الأول على الثاني في مقام المزاحمة ، وهذا يتحقق في أحد موضعين :

أحدهما ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في عرضه دون الآخر ، كما إذا كان أحدهما واجباً تخييرياً ، والآخر واجباً تعينياً ، ففي مثل ذلك إذا وقعت المزاحمة بين الواجب التعييني وبعض افراد للواجب التخييري ، قدم الواجب التعييني على

٢٢٤

التخييري. والوجه في ذلك واضح وهو ان وجوب الواجب التخييري لا يقتضى لزوم الإتيان بخصوص الفرد المزاحم ، وانما يقتضى لزوم الإتيان بالجامع بينه وبين غيره ، والمفروض ان وجوب الواجب التعييني يقتضى الإتيان بخصوص ذلك الفرد المزاحم. ومن المعلوم ان ما لا اقتضاء فيه لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء. فالنتيجة ان في مقام المزاحمة بين التكليفين يقدم ما ليس له البدل على ماله البدل.

ثانيهما ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الواجب الآخر. وقد مثل لذلك بما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء أو الغسل والأمر بتطهير البدن للصلاة ، وحيث ان للوضوء أو الغسل بدلا وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة أمره مع امر تطهير البدن فيقدم الأمر بالطهارة الخبثية على الأمر بالطهارة الحدثية ، وان كان الثاني أهم من الأول. وذلك لما عرفت من ان ما لا اقتضاء فيه لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء.

وذكر قده فرعا آخر أيضا لهذه الكبرى وهو : ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية ، كما إذا صار الوقت ضيقاً بحيث لو توضأ أو اغتسل لم يدرك من الركعات الا ركعة واحدة. واما إذا تيمم بدلا عن الوضوء أو الغسل فيدرك تمام الركعات في الوقت ، ففي مثل ذلك يقدم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة مع الطهارة المائية ، لأن للصلاة مع الطهارة المائية بدلا وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، واما للصلاة في الوقت فحيث انه لا بدل لها فتقدم على الصلاة مع الطهارة المائية في مقام المزاحمة ، لأن ماله البدل لا يصلح ان يزاحم مالا بدل له.

وقد يشكل في المقام بان لإدراك تمام الركعات في الوقت أيضاً بدل وهو إدراك ركعة واحدة فيه بمقتضى الروايات الدالة على ان من إدراك ركعة واحدة في الوقت فقد أدرك تمام الصلاة ، فاذن يدور الأمر بين واجبين لكل منهما بدل فلا وجه

٢٢٥

لتقديم الأمر بالصلاة في الوقت على الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية.

وأجاب ـ قده ـ عن هذا الإشكال بان بدلية إدراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت انما هي في فرض عجز المكلف عن إدراك تمام الصلاة فيه ، لا مطلقاً والمفروض ان المكلف قادر على إدراك تمامها فيه. وعليه فلا موجب لسقوط الأمر بإتيان تمام الصلاة في وقتها ، فإذا لم يسقط فلا محالة يسقط الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية ، لعجز المكلف عنها تشريعاً وان لم يكن عاجزاً تكويناً وهذا كاف في الانتقال إلى بدلها وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ، لما ذكرناه غير مرة من ان الأمر بالطهارة المائية مشروط بالتمكن من استعمال الماء عقلا وشرعا ، ولا يكفى التمكن العقلي فحسب.

وملخص ما ذكرناه هو انه قدس‌سره طبق الكبرى الكلية وهي ان ما لا بدل له يقدم على ماله بدل في مقام المزاحمة على فروع ثلاثة :

الأول ـ ان الواجب التخييري إذا زاحم ببعض افراده الواجب التعييني فيقدم التعييني عليه وان كان الواجب التخييري أهم منه ، كما إذا كان لشخص عشرة دنانير ودار امرها بين ان يصرفها في مئونة من تجب عليه مئونته وبين ان يصرفها في كفارة شهر رمضان ، وحيث ان لكفارة شهر رمضان بدلا وهو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة فلا يمكن مزاحمة وجوبها لوجوب المئونة ، فيقدم صرفها في المئونة على صرفها في الكفارة ، لأن وجوب الكفارة لا يقتضى لزوم الإتيان بخصوص فردها المزاحم ، وهذا بخلاف وجوب المئونة ، فانه يقتضى لزوم الإتيان بخصوص ذلك الفرد.

الثاني ـ ما إذا كان عند المكلف مقدار من الماء لا يكفي للوضوء وتطهير البدن معاً فعندئذ يدور امره بين ان يصرفه في الوضوء ويصلى مع البدن المتنجس وان يصرفه في تطهير البدن ويصلى مع التيمم ، وبما ان للوضوء بدلا وهو التيمم فيتعين صرفه في إزالة الخبث عن البدن ، لأن ماله بدل لا يصلح لأن يزاحم ما لا بدل له.

٢٢٦

الثالث ـ ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية وبما ان للطهارة المائية بدلا وهو الطهارة الترابية ، ولا بدل للوقت فيتعين تقديم الوقت على الطهارة المائية فيصلي في الوقت مع الطهارة الترابية.

أقول الكلام فيما ذكره ـ قده ـ يقع في مقامين : الأول ـ في أصل الكبرى التي ذكرها ـ قده ـ الثاني ـ في الفروع التي ذكرها وانها هل تكون من صغريات تلك الكبرى أم لا.

اما المقام الأول ، فلا إشكال في أصل ثبوت الكبرى وان ما ليس له بدل يقدم على ماله بدل فيما إذا دار الأمر بينهما. والوجه فيه ما عرفت من ان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، وكيف كان فالكبرى مسلمة.

واما المقام الثاني فيقع الكلام فيه في موارد : الأول في الفرع الأول. الثاني في الفرع الثاني. الثالث في الفرع الثالث.

اما المورد الأول ، فقد تبين مما قدمناه ان هذا الفرع وما شاكله ليس داخلا تحت كبرى مسألة التزاحم ، لتجري عليه أحكامه. وذلك لما عرفت من ان التزاحم بين التكليفين الفعليين لا يعقل الا من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فلو كان المكلف قادراً عليه فلا مزاحمة بينهما أبدا ، والمفروض ـ فيما نحن فيه ـ قدرة المكلف على امتثال الواجب التعييني والتخييري معاً من دون أية مزاحمة نعم خصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني وان كان غير مقدور للمكلف الا انه ليس بواجب على الفرض ، وما هو واجب ـ وهو الجامع بينه وبين غيره من الافراد مقدور له ولو من جهة القدرة على بعض افراده.

أو فقل : ان ما هو مزاحم للواجب التعييني ليس بواجب ، وما هو واجب ليس بمزاحم له. ومن هنا قلنا انه لا تزاحم بين الواجب الموسع والمضيق كالصلاة والإزالة مثلا.

٢٢٧

والأصل في جميع ذلك هو ما ذكرناه من ان التزاحم لا ينشأ إلا من ناحية عدم تمكن المكلف من امتثال كلا التكليفين معاً ، واما إذا كان متمكناً منه فلا تزاحم ولا تنافي بينهما أبداً.

وعلى هذا الأساس فالفرع المزبور أو ما شاكله ليس من صغريات باب المزاحمة ، لتنطبق عليه الكبرى المتقدمة. فما أفاده ـ قده ـ من تطبيق تلك الكبرى عليه في غير محله ، لعدم كونه صغرى لها.

واما المورد الثاني فيمكن المناقشة فيه من وجهين :

الأول ـ ان التزاحم لا يعقل ان يكون بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل بما هو ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب كذلك ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من ان الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط جميعاً أوامر إرشادية فترشد إلى جزئيتها وشرطيتها ، وليست بأوامر نفسية. ومن الواضح جداً ان المزاحمة لا تعقل بين الأوامر الإرشادية بما هي ، لأن مخالفتها لا توجب العقاب ، وموافقتها لا توجب الثواب ، بل لا تجب موافقتها بما هي لتقع المزاحمة بين موافقة هذا وموافقة ذاك في مقام الامتثال ، وانما تعقل بين واجبين أو واجب وحرام نفسيين بحيث كان المكلف متمكناً من امتثال كل منهما في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر الا انه لم يتمكن من الجمع بينهما في الامتثال.

وعلى هذا فالمزاحمة هنا لو سلمت فانما هي في الحقيقة بين الصلاة مع الطهارة الحدثية والصلاة مع الطهارة الخبثية ، فالتعبير عن ذلك بوقوع المزاحمة بين الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية لا يخلو عن مسامحة واضحة ، ضرورة انه لا شأن لهما ما عدا كونهما من قيود الصلاة فلا معنى لوقوع المزاحمة بينهما في نفسهما مع قطع النّظر عن وجوب الصلاة.

وعلى الجملة فالمزاحمة بين اجزاء وشرائط الصلاة مثلا بعضها ببعض مع قطع النّظر عن وجوبها مما لا تعقل ، ضرورة انه لا وجوب لها مع قطع النّظر عن وجوب

٢٢٨

الصلاة. وعلى هذا فلا معنى لوقوع المزاحمة بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل مثلا ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع الغض عن وجوب الصلاة لعدم كونهما في هذا الحال واجبين ، لتقع المزاحمة بينهما ، واما مع ملاحظة وجوبها فالتزاحم بين وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ووجوب الصلاة مع طهارة البدن أو الثوب ، فإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لتقديم الثانية على الأولى بدعوى ان ما ليس له بدل يقدم على ماله بدل. وذلك لفرض ان لكل واحدة منهما بدلا ، فكما ان للصلاة مع الطهارة المائية بدلا وهو الصلاة مع الطهارة الترابية فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب بدل وهو الصلاة مع البدن أو الثوب النجس على المختار وعاريا على المشهور ، فاذن لا يكون هذا الفرع أو ما شاكله من صغريات الكبرى المتقدمة ، ولا تنطبق تلك الكبرى عليه.

نعم لو كان التزاحم بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع قطع النّظر عن وجوب الصلاة لكان من صغريات تلك الكبرى ولكنك عرفت أن التزاحم بينهما غير معقول.

الثاني ـ ان التزاحم كما ذكرناه في غير موضع انما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والإزالة مثلا أو بين واجب وحرام ، واما بين اجزاء وشرائط وجب واحد فلا يعقل جريان التزاحم فيه.

والوجه في ذلك هو ان جميع تلك الاجزاء والشرائط واجب بوجوب واحد على سبيل الارتباط ثبوتاً وسقوطا ، غاية الأمر ان الاجزاء بنفسها متعلقة لذلك الوجوب ، والشرائط باعتبار تقيدها بمعنى ان الوجوب تعلق بالاجزاء متقيدة بتلك الشرائط. ومن الواضح جداً ان ذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الاجزاء أو الشرائط بقانون ان الأمر بالمركب يسقط لا محالة بتعذر واحد من اجزائه أو شرائطه ، لاستحالة تعلق الوجوب به في ظرف تعذر أحد أجزائه أو قيوده ، لأنه تكليف بالمحال فلا يصدر من الحكيم.

٢٢٩

وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الوجوب عن المركب كالصلاة وما شاكلها عند تعذر جزء أو شرط منه ، كما هو مقتضى كون اجزائه ارتباطية ، فاذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل ، وقد دل الدليل في خصوص باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الإتيان بالباقي ، فعندئذ بما ان فيما نحن فيه قد تعذر أحد قيدي الصلاة (هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية) فمقتضى القاعدة الأولية سقوط وجوبها ، فيحتاج وجوب الباقي إلى دليل ، والدليل موجود هنا ، وهو ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، بل يكفينا لإثبات عدم سقوطها في المقام الروايات الخاصة الدالة على وجوب الإتيان بها في الثوب أو البدن المتنجس أو عاريا ، وما دل على لزوم الإتيان بالطهارة الترابية مع تعذر الطهارة المائية.

وعليه فيعلم إجمالا يجعل أحد هذين الشرطين في الواقع دون الآخر ، اذن لا محالة يقع التعارض بين دليليهما ، إذ لم يعلم ان أيهما مجعول في هذا الحال في مقام الثبوت والواقع ، فما دل على شرطية الطهارة الحدثية في هذا الحال لا محالة معارض بما دل على شرطية الطهارة الخبثية. وعليه فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض ان لم يكن التعارض بينهما بالإطلاق ، وإلا فيسقطان معاً ، فلا تصل النوبة إلى الترجيح ، فاذن ما معنى وقوع المزاحمة بينهما ، بداهة ان المزاحمة بين تكليف وتكليف آخر فرع ثبوتهما في الواقع ومقام الجعل من دون أي تناف في البين لتقع المزاحمة بين امتثال هذا وامتثال ذاك.

وعلى الجملة فالامر المتعلق بالصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط قد سقط لا محالة بتعذر واحد من شرطيها (هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية) بمقتضى القاعدة الأولية ، غاية ما في الباب قد دل دليل من الخارج على وجوب الباقي من الاجزاء والشرائط. ومن الواضح جداً ان هذا الوجوب غير الوجوب الأولى المتعلق بالواحد والتمام ، فانه قد سقط من ناحية تعذر المركب. ومن المعلوم ان جزئية الاجزاء وشرطية الشرائط قد سقطتا بتبع سقوطه لا محالة ، ضرورة استحالة

٢٣٠

بقاء الأمر الانتزاعي في ظرف سقوط منشأه.

وعليه فالجزئية والشرطية للاجزاء والشرائط الباقيتين لا محالة مجعولتان بجعل ثانوي وبدليل خارجي الدال على وجوب الباقي وعدم سقوطه. ويعلم من ذلك ـ طبعا ـ ان المجعول في المقام شرطية أحد الأمرين في الواقع اما شرطية الطهارة الحدثية ، واما شرطية الطهارة الخبثية ، فشرطية كلتيهما غير معقولة لفرض عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلا يمكن ان يتعلق الأمر بالمركب منهما ، فلا محالة يكون المجعول شرطية إحداهما لا محالة ونتيجة ذلك ان المورد غير داخل في كبرى التزاحم.

وخلاصة ما ذكرناه هي ان الكبرى المتقدمة وان كانت مسلمة ، إلا انها لا تنطبق على هذا الفرع وما يشبهه ، بل قد عرفت انه غير داخل في كبرى مسألة التزاحم فضلا عن تلك الكبرى.

واما المورد الثالث (وهو ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية) فيرد عليه بعينه ما أوردناه على المورد الثاني من الوجهين.

اما أولا فلما عرفت من انه كما ان للصلاة مع الطهارة المائية بدلا وهو الصلاة مع الطهارة الترابية فكذلك لإدراك تمام الصلاة في الوقت بدل وهو إدراك ركعة واحدة منها في الوقت ، فاذن لا تنطبق الكبرى المزبورة عليه.

وأما ثانياً فلما عرفت من أن التزاحم لا يجري بين اجزاء واجب واحد أو شرائطه فإذا تعذر على المكلف الجمع بين الطهارة المائية والوقت فمقتضى القاعدة الأولية سقوط الأمر بالصلاة ، فلو كنا نحن والحال هذه لم نقل بوجوب الباقي من الاجزاء والشرائط ، ولكن الدليل الخارجي قد دلنا على وجوب الباقي وعدم سقوط الصلاة بحال.

ومن ذلك يعلم إجمالا يجعل جزئية أحدهما في الواقع وحيث انه مردد بين

٢٣١

الطهارة المائية والوقت فتقع المعارضة بين دليليهما

فالنتيجة ان هذا الفرع أيضا ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.

وقد تحصل مما ذكرناه ان ما ذكره ـ قده ـ من الفروع الثلاثة ليس شيء منها صغرى للكبرى التي ذكرها ، وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل ولا تنطبق تلك الكبرى على شيء منها.

نعم النتيجة في الفرع الأخير بعينها هي النتيجة التي ذكرها ـ قده ـ وهي تقديم ما لا بدل له على ماله بدل ـ ولكن بملاك آخر ، لا بالملاك الّذي أفاده.

بيان ذلك هو ان الله تعالى جعل في كتابه العزيز للصلوات الخمس أوقاتاً خاصة بحسب المبدأ والمنتهى بقوله : «وأقيموا الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل» وقد وردت في الروايات ان وقت صلاتي الظهرين من دلوك الشمس إلى غروبها ، ووقت العشاءين من الغروب إلى غسق الليل ، ووقت صلاة الصبح من أول الفجر إلى طلوع الشمس ، فهذه هي أوقات الصلوات الخمس ، ولا يرضى الشارع بتأخيرها عنها آنا ما ، بل هي غير مشروعة في ما عدا تلك الأوقات ، الا فيما إذا قام دليل خاص على المشروعية كما في القضاء أو نحوه. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى انه تعالى قد جعل الطهارة من الحدث شرطاً مقوماً لها بقوله : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وان كنتم جنباً فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً» فجعل في هذه الآية المباركة الطهارة من الحدث شرطاً للصلاة ، وقد ذكرنا انها من أركان الصلاة وبانتفائها تنتفي ، ولذا ورد ان الصلاة على ثلاثة أثلاث ثلث منها الركوع وثلث منها السجود وثلث منها الطهور.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان الطهارة شرط لتلك الصلوات التي عينت لها أوقات معينة ، وانه يجب على المكلف الإتيان بها في تلك الأوقات مع الطهارة المائية ان كان واجداً للماء ، ومع الطهارة الترابية ان كان فاقداً لها وقد ذكرنا

٢٣٢

غير مرة ان المراد من وجدان الماء وجوده الخاصّ ، وهو ما إذا تمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعا ، وذلك بقرينة داخلية وخارجية.

أما القرينة الداخلية فهي ذكر المريض في الآية المباركة ، فان الماء غالباً موجود عنده ، ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلا أو شرعا.

وأما القرينة الخارجية فهي عدة من الروايات الدالة على ذلك. وعلى هذا فان تمكن المكلف من استعمال الماء عقلا وشرعا فهو واجد له ، ووظيفة الواجد الوضوء أو الغسل ، وان لم يتمكن من استعماله عقلا أو شرعا فهو فاقد له ، ووظيفة الفاقد التيمم ، فالآية المباركة في مقام بيان ان المكلف على نوعين : الواجد والفاقد ولا ثالث لهما. ومن الواضح ان التقسيم قاطع للشركة.

وعليه فإذا ضممنا ما يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة القرائن الداخلية والخارجية إلى ما يستفاد من الآية الأولى بضميمة الروايات الواردة فيها من ان لكل صلاة وقتاً خاصاً تجب في ذلك الوقت الخاصّ لا فيما عداه ، فالنتيجة هي ان المكلف إذا تمكن في ذلك الوقت من استعمال الماء عقلا وشرعا فهو واجد له ووظيفته عندئذ الوضوء أو الغسل ، وان لم يتمكن فيه من استعماله عقلا أو شرعا فهو فاقد له ، ووظيفته حينئذ التيمم.

ومن هنا قلنا ان المراد من عدم الوجدان في الآية المباركة عدم الوجدان بالإضافة إلى الصلاة التي قام المكلف إلى إتيانها ، لا مطلقاً فلو لم يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية فهو غير واجد بالإضافة إلى الصلاة ، وان كان واجداً بالإضافة إلى غيرها. وعلى هذا بما ان فيما نحن فيه لا يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية من جهة ضيق الوقت يتعين عليه إيقاعها فيه مع الطهارة الترابية.

وهذه النتيجة نتيجة ضم هذه الآية أعني بها آية الوضوء إلى الآية الأولى ، مع ملاحظة القرائن والنصوص الواردة في أطرافهما.

٢٣٣

وعلى هذا الأساس تبين انه إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية فيقدم الأول على الثاني.

والوجه فيه ما عرفت من ان المستفاد من الآيتين المباركتين بعد ضم إحداهما إلى الأخرى مع ملاحظة القرائن والروايات الواردة في المقام هو ان الواجب على المكلف إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقد انه ، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها أصلا ، فلو أخرها عنه ولو بمقدار ركعة واحدة لبطلت لا محالة ، بل إتيانها عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرم ، ضرورة سقوط الأمر المتعلق بها في الوقت ، فيحتاج وجوبها في هذا الحال إلى امر آخر. وعلى هذا فإذا فرضنا ان الوضوء أو الغسل موجب لتفويت الوقت أو تفويت مقدار منه بحيث لا يقدر على إدراك تمام الصلاة في مقدار آخر منه فلا يجوز ولا يكون مشروعا. وعليه فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم ، لعدم تمكنه وقتئذ من الوضوء أو الغسل شرعا ، وان تمكن عقلا ، هذا بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية.

واما بحسب النصوص فان جملة منها وان دلت على ان إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات ، الا ان الظاهر منها ـ بمقتضى الفهم العرفي ـ اختصاص ذلك بمن لم يتمكن من إتيان تمامها في الوقت ، واضطر إلى التأخير إلى زمان لا يبقى من الوقت الا بمقدار إدراك ركعة واحدة ، فالشارع جعل لمثله إدراك ركعة واحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات إرفاقا وتوسعة له ، وأما من تمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت ، ولكنه أخر باختياره وإرادته إلى ان ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلا بمقدار إتيان ركعة واحدة فيه فلا يكون مشمولا لتلك الروايات ، ضرورة انها لم تكن في مقام بيان الترخيص والتوسعة للمكلفين في تأخير صلواتهم إلى ان لا يسع الوقت الا بمقدار ركعة واحدة منها.

٢٣٤

وعلى الجملة فلا شبهة في ظهور الروايات في اختصاص هذا الحكم بغير المتمكن من أداء تمام الصلاة في الوقت ، وان الشارع جعل هذا توسعة له ، وان إدراكه ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراكه تمام الركعات فيه ، بل يمكن استظهار ذلك أعني الاختصاص بالمضطر وبغير المتمكن من نفس التعبير بكلمة «أدرك» حيث انه يظهر من موارد استعمالات هذه الكلمة انها تستعمل فيما إذا لم يتمكن الإنسان منه ابتداء ، ثم بعد الفحص والطلب تمكن منه ، كما إذا طالب أحد غريمه ثم وجده فيقال انه أدرك غريمه ، واما إذا لم يطالبه ، ولكنه صادفه من باب الاتفاق فلا يقال انه أدركه ، بل يقال انه صادف غريمه ، أو إذا نظر في مسألة علمية ـ مثلا ـ وبعد النّظر والدقة وصل إلى ما هو المقصود منها فيقال انه أدرك المقصود. واما إذا خطر بباله صدفة ومن دون تفكر ونظر فلا يقال انه أدركه .. وهكذا.

وفي المقام قوله عليه‌السلام ـ من أدرك ركعة واحدة من الغداة في الوقت فقد أدرك تمام الركعات ـ ظاهر في اختصاص الحكم بغير المتمكن ، وأما من تمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت ، ولكنه أخرها باختياره وإرادته إلى زمان لا يسع الوقت الا بمقدار ركعة واحدة فلا يصدق عليه انه أدرك ركعة واحدة في الوقت ليكون مشمولا للرواية ، لما عرفت من ان كلمة أدرك بحسب موارد استعمالها انما تستعمل في وجدان شيء بالاجتهاد والطلب فلا تصدق على وجدانه صدقة ومن باب الاتفاق. وكيف ما كان فلا إشكال في ظهور الروايات فيما ذكرناه ، وهي وان كانت اثنتان منها ضعيفة الا ان واحدة منها موثقة (١) وهي كافية لإثبات المسألة.

__________________

(١) رواية عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال «فان صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته» موثقة.

رواية الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام «من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة» ضعيفة بابي جميلة المفضل بن صالح.

رواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال «فان صلى ركعة من

٢٣٥

وعلى أساس هذا البيان قد ظهر ان هذه الروايات أجنبية عن مقامنا تماماً ولا يدل شيء منها على تقديم إدراك ركعة مع الطهارة المائية على إدراك تمام الركعات مع الطهارة الترابية.

والوجه في ذلك ما عرفت الآن من اختصاص موضوع تلك الروايات بخصوص المضطر وغير المتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت. هذا من جانب.

ومن جانب آخر قد تقدم ان المستفاد من الآيتين المتقدمتين بضميمة الروايات والنصوص الواردة في المسألة هو ان المكلف ان تمكن في الوقت من الطهارة المائية فوظيفته الطهارة المائية وان لم يتمكن منها فوظيفته الطهارة الترابية.

فالنتيجة على هدى هذين الجانبين هي ان المكلف ان لم يتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة المائية لضيقه وتمكن من إدراك تمامها مع الطهارة الترابية كان المتعين هو الثاني ، والروايات المزبورة كما عرفت مختصة بالمضطر وغير المتمكن من إدراك التمام ، والمفروض في المقام انه متمكن من إدراكه ، غاية الأمر مع الطهارة الترابية دون المائية.

ومن الواضح جداً انه لا يفرق في التمكن من الصلاة في الوقت بين ان يكون مع الطهارة المائية وان يكون مع الطهارة الترابية ، وعلى كلا التقديرين فلا يكون مشمولا لتلك الروايات لاختصاصها كما مر بغير المتمكن مطلقاً ولو مع

__________________

ـ الغداة ثم طلعت الشمس فليتم الصلاة وقد جازت صلاته وان طلعت الشمس قبل ان يصلي ركعة فليقطع الصلاة ولا يصلي حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها» ضعيفة بعلي بن خالد.

الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب المواقيت.

أقول ان الموثقة وان وردت في صلاة الغداة خاصة الا انه من الواضح جداً انه لا خصوصية لها في ذلك أصلا وان الحكم بالإدراك يعم جميع الصلوات اليومية والفرائض الخمس بلا خصوصية في البين ، وذكر الغداة فحسب في الموثقة انما كان من باب المثال ولا موضوعية له أبداً ، ولعله لنكتة الإشارة إلى كثرة الابتلاء بتلك المسألة في الغداة خاصة دون البقية ، كما هو كذلك. وعليه فلا وجه لتوهم اختصاص الحكم بالغداة وعدم شموله للبقية.

٢٣٦

الطهارة الترابية ، كما هو مقتضى إطلاقها ، فاذن لا دوران في المقام لنرجع إلى المرجح ، ونقدم ما ليس له بدل على ما له بدل.

فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من دوران الأمر بين إدراك ركعة واحدة في الوقت مع الطهارة المائية ، وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية لا موضوع له أصلا.

ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن هي ان ما ذكره ـ قده ـ من الفروع الثلاثة ليس شيء منها صغرى للكبرى المتقدمة وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل.

ثم ان من الغريب ما عن بعض المحدثين في المقام من الحكم بسقوط الصلاة في هذا الفرض بدعوى انه فاقد للطهورين اما الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل فلا يتمكن منها ، لأنها توجب تفويت الصلاة عن الوقت وهو غير جائز ، واما الطهارة الترابية فغير مشروعة ، لأن مشروعيتها منوطة بفقدان الماء وعدم وجدانه ، والمفروض ـ هنا ـ ان المكلف واجد للماء ، اذن تسقط الصلاة عنه باعتبار انه فاقد الطهورين.

ووجه غرابته ما ذكرناه في غير مورد من ان المراد من الوجدان ليس وجوده الخارجي ، بل المراد منه من جهة القرائن الداخلية والخارجية وجوده الخاصّ ، وهو ما تمكن المكلف من استعماله في الوضوء أو الغسل عقلا وشرعا ، وفي المقام بما انه لا يتمكن من استعماله شرعا ، لأجل انه يوجب تفويت الوقت وهو غير جائز فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم.

وعلى الجملة فقد تقدم ان المكلف مأمور بالصلاة في أوقاتها بمقتضى الآيات والروايات وان تلك الصلاة مشروطة بالطهارة المائية في فرض التمكن منها عقلا وشرعا ، وبالطهارة الترابية في فرض فقدان الماء وعدم التمكن من استعماله عقلا أو شرعا وفيما نحن فيه بما ان المكلف لا يتمكن ـ من جهة المحافظة على الصلاة في وقتها ـ من الطهارة المائية ، فتجب عليه الطهارة الترابية ، ضرورة ان مشروعية الطهارة

٢٣٧

الترابية انما هي من جهة المحافظة على الوقت ، وإلا لتمكن المكلف من استعمال الماء في زمان لا محالة.

وعليه فلا معنى لما ذكر من كونه واجداً للماء فلا يكون مأموراً بالتيمم. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين جزءين أو شرطين أو شرط وجزء لواجب واحد واما إذا دار الأمر بين جزء أو شرط وواجب آخر كما إذا كان عند المكلف ماء لا يكفي الوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً ، ففي مثل ذلك وان وقعت المزاحمة بين وجوب صرف هذا الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في واجب آخر ، إلا ان تقديم صرفه في واجب آخر كرفع العطش أو نحوه على صرفه في الوضوء أو الغسل ليس من جهة ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل ، وبما ان الوضوء أو الغسل له بدل وهو التيمم فيقدم عليه الواجب الآخر ، بل من ناحية ما ذكرناه غير مرة من ان المراد من الوجدان في الآية المباركة المأخوذ في موضوع وجوب الوضوء أو الغسل ليس مطلق وجوده في الخارج ، بل المراد منه بمعونة القرائن الخارجية والداخلية وجوده الخاصّ وهو ما تمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعا ، ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.

وعلى هذا فبما ان المكلف مأمور بصرف هذا الماء في واجب آخر لم يعتبر فيه شيء ما عدا القدرة عليه تكويناً فلا محالة يكون عاجزاً عن صرفه في الوضوء أو الغسل ، فاذن تنتقل وظيفته إلى التيمم.

فالنتيجة ان وجه تقديم وجوب صرف الماء في واجب آخر على وجوب صرفه في الوضوء أو الغسل ما ذكرناه من ان المكلف في هذا الحال غير واجد للماء ووظيفته حينئذ بمقتضى الآية المباركة هي التيمم لا غيره ، لا ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ.

وقد تلخص مما ذكرناه ان هذا الفرع أيضا ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.

٢٣٨

المرجح الثاني.

ما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعا والآخر عقلا فيقدم ما كان مشروطاً بالقدرة عقلا على ما كان مشروطاً بالقدرة شرعا. وبيان ذلك ان الحكمين المتزاحمين لا يخلوان من ان يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعا دون الآخر ، وان يكون كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعا أو عقلا ، فهذه أقسام ثلاثة :

اما القسم الأول وهو ما كانت القدرة مأخوذة في أحدهما شرعا دون الآخر فقد ذكر شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ان الواجب المشروط بالقدرة عقلا يقدم على الواجب المشروط بها شرعا.

وأفاد في وجه ذلك ان ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلا حيث انه تام لا قصور فيه أصلا فلا مانع من إيجابه بالفعل ، فإذا كان وجوبه فعلياً فلا محالة يكون موجباً لعجز المكلف عن الإتيان بالواجب الآخر ومانعاً عن ثبوت الملاك له لتوقفه على القدرة عليه عقلا وشرعا على الفرض وهذا بخلاف الواجب المشروط بالقدرة عقلا فان ثبوت الملاك له لا يتوقف على شيء ما عدا القدرة عليه عقلا والمفروض انها موجودة فاذن ليس لوجوبه بالفعل اية حالة منتظرة أصلا.

وعلى الجملة فالواجب المشروط بالقدرة شرعا يتوقف وجوبه فعلا على تمامية ملاكه ، والمفروض انها تتوقف على عدم فعلية الواجب الآخر ومع فعلية ذاك الواجب لا ملاك له ، لعدم القدرة عليه عندئذ شرعا ، والمفروض ان القدرة الشرعية دخيلة في ملاكه ، اذن لا وجوب له فعلا ، ليكون مزاحماً مع الواجب المشروط بالقدرة عقلا.

ومن ذلك يتقدم الواجب المشروط بالقدرة عقلا في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعا ، ولو كان أهم منه لما عرفت من عدم تمامية ملاكه وعدم تحقق موضوعه ، وهو القدرة شرعا ، مع فعلية وجوب ذلك الواجب. ومن الواضح انه لا يفرق فيه بين ان يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعا أهم منه أولا

٢٣٩

كما انه لا فرق بين ان يكون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدما عليه ، فان ملاك التقدم في جميع هذه الصور واحد ، وهو ان وجوب الواجب المشروط بالقدرة عقلا بصرف تحققه ووجوده رافع لموضوع وجوب الواجب الآخر ، ومعه لا ملاك له أصلا.

ومن هنا أنكر ـ قده ـ جريان الترتب في أمثال هذه الموارد.

أقول : قد حققنا سابقاً انه لا مانع من جريان الترتب في أمثال هذه الموارد وما أفاده ـ قده ـ من عدم الجريان فيها لا أصل له أبداً ، ولذا قلنا هناك انه لا فرق في جريانه بين ان تكون القدرة المأخوذة في الواجب عقلية أو شرعية ، كما تقدم ذلك بشكل واضح ، فلا حاجة إلى الإعادة.

واما ما ذكره ـ قده ـ هنا من ان الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلا يتقدم على الواجب المأخوذ فيه القدرة شرعا في مقام المزاحمة وان كان صحيحاً ولا مناص من الالتزام به ، الا ان ما أفاده ـ قده ـ في وجه ذلك غير تام ، وهو ان ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلا تام ، ولا قصور فيه ، فاذن لا مانع من إيجابه فعلا ، وملاك الواجب المشروط بالقدرة شرعا غير تام ، فلا يمكن إيجابه فعلا.

ووجه عدم تماميته هو ما ذكرناه غير مرة من انه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام أصلا مع قطع النّظر عن ثبوتها. وعليه فلا طريق لنا إلى استكشاف ان الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلا واجد للملاك في مقام المزاحمة ، والواجب المأخوذ فيه القدرة شرعا فاقد له ، لينتج من ذلك ان وجوب الأول فعلى دون الثاني.

أضف إلى هذا ان تقديم أحد المتزاحمين على الآخر بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون آخر ، بل يعم جميع المذاهب والآراء ، ضرورة عدم اختصاص البحث في مسألة التزاحم بوجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الواقعية ، بل يعم البحث عنها وجهة نظر جميع المذاهب حتى مذهب

٢٤٠