محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

الخميس ، والقيام في صلاة الظهر أو المغرب ، فلا عذر له في تركه أصلا ، لفرض ان وجوبهما فعلى ، ولا مانع من فعليته أصلا ، ضرورة ان المانع ـ هنا ـ ليس إلا التكليف بالصوم أو القيام في ظرف متأخر. ومن المعلوم انه لا يصلح ان يكون مانعاً ، لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة على امتثاله في ظرفه ، لما عرفت من ان القدرة المعتبرة فيه إنما هي القدرة في ظرف العمل ، لا ـ مطلقاً ـ فاذن كما لا يجب حفظ القدرة قبل مجيء وقته ، كذلك لا يجب تحصيلها.

فعلى هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقديم المتقدم زماناً على الآخر ، ولا عذر له في ترك امتثاله باحتفاظ القدرة على امتثال الواجب المتأخر أبداً ، لعدم المقتضى له لذلك أصلا ، ففي الأمثلة المزبورة لا بد من الإتيان بالصوم يوم الخميس ، وبالقيام في صلاة الظهر أو المغرب ، ولا يجوز الاحتفاظ بالقدرة بتركهما على الصوم يوم الجمعة ، والقيام في صلاة العصر أو العشاء. ومن المعلوم انه بعد الإتيان بالواجب المتقدم يعجز المكلف عن امتثال الواجب المتأخر ، فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة في ظرفه ـ.

ومن هذا القبيل ما إذا دار الأمر بين ترك الصوم في العشرة الأولى من شهر رمضان وتركه في العشرة الثانية ، كما إذا فرضنا ان شخصاً لا يتمكن من الصوم في كلتا العشرتين معاً ، ولكنه قادر عليه في إحداهما دون الأخرى ، فانه لا بد من تقديم الصوم في العشرة الأولى على الصوم في العشرة الثانية ، فان وجوب الصوم في العشرة الأولى فعلى بفعلية موضوعه ، ولا حالة منتظرة له أبداً ، وهذا بخلاف وجوبه في العشرة الثانية ، فانه غير فعلى من جهة عدم فعلية موضوعه. وعليه فلا عذر له في تركه في الأولى باحتفاظ القدرة عليه في الثانية ، ضرورة ان القدرة المعتبرة على الصوم في كل يوم في ظرفه ، فان كان المكلف قادراً على الصوم في اليوم الأول أو الثاني فهو مكلف به ، وإلا فلا تكليف به أصلا ، ولا يجوز له الاحتفاظ بالقدرة بترك الصوم في اليوم الأول على الصوم في اليوم الثاني ، بل لا بد له من

٢٨١

الإتيان به في اليوم الأول ، فان تمكن منه بعده في اليوم الثاني أيضاً فهو ، وإلا فينتفي بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وكذا الحال في المثال المزبور ، فانه لا بد من الإتيان بالصوم في العشرة الأولى فان تمكن بعده من الإتيان به في العشرة الثانية أيضاً فهو ، وإلا فينتفي التكليف به بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة في ظرفه ـ ولا يجوز له حفظ القدرة على الصوم في الثانية بتركه في الأولى ، ولو فعل ذلك كان معاقباً عليه ، لأنه ترك التكليف الفعلي من دون عذر ، وحينئذ (أي حين تركه في الأولى) وجب عليه في الثانية لا محالة ، لقدرته عليه فعلا ، ولا عذر له في تركه ـ أصلا ـ فلو تركه كان معاقبا عليه أيضا.

فالنتيجة انه لو ترك الصوم في العشرة الأولى والثانية معاً يستحق عقابين ، وهذا ليس عقاباً على ما هو خارج عن الاختيار والقدرة ، ليكون قبيحاً من الحكيم فان استحقاقهما إنما هو على الجمع بين تركه في الأولى وتركه في الثانية ، وهو مقدور له بالوجدان ، ولا يكون العقاب عليه من العقاب على ما ليس بالاختيار.

نظير ما ذكرناه في بحث الترتب من أن المكلف عند ترك الأهم والمهم معاً يستحق عقابين ، وقلنا هناك ان هذا لا يكون عقاباً على ما ليس بالاختيار ، لأنه على الجمع بين التركين ، وهو مقدور له بالبداهة ، لا على ترك الجمع بينهما ، ليكون غير مقدور كما تقدم. وفيما نحن فيه تعدد العقاب عند ترك كلا الواجبين من جهة الجمع بين التركين ، لا من جهة ترك الجمع بينهما ، ليكون عقاباً على غير مقدور. وهذا واضح.

وقد تحصل مما ذكرناه انه لا مسوغ للمكلف في أن يترك الصوم في العشرة الأولى ، ويحفظ قدرته عليه في العشرة الثانية أو الأخيرة ، بل لا بد له من الإتيان به في الأولى ، ومعه يعجز عن الإتيان به في الثانية.

ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك الطهارة المائية في الظهرين ، وتركها في العشاءين ، كما إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي بكلتيهما

٢٨٢

معاً ، فلو صرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين فلا يبقى للعشاءين ، وان احتفظ به للعشاءين فلا يتمكن من الإتيان بالظهرين مع الوضوء أو الغسل.

والوجه فيه واضح وهو ان المكلف واجد للماء فعلا بالإضافة إلى صلاتي الظهرين. وقد ذكرنا ان المراد من وجدان الماء في الآية المباركة هو الوجدان بالإضافة إلى الصلاة المكلف بها فعلا ـ لا مطلقاً ـ كما ان المراد من عدم الوجدان فيها ذلك ، والمفروض ـ هنا ـ أن المكلف واجد للماء بالإضافة إلى صلاتي الظهرين المكلف بهما فعلا ، فيكون مشمولا لقوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى آخر الآية». هذا من جانب.

ومن جانب آخر ان الوجدان المعتبر في توجه التكليف بالصلاة هو الوجدان في وقتها ، فلا أثر للوجدان قبله ، ولا يكون الوجدان قبل الوقت موجباً لتوجه التكليف بالصلاة إليه فعلا ، ضرورة انه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي انه مكلف بصلاتي الظهرين مع الطهارة المائية لكونه واجداً للماء ، ووظيفة الواجد هي الطهارة المائية ، لا غيرها ، ولا يكون مكلفاً بالعشاءين فعلا ، لعدم دخول وقتهما ، فانه لا أثر لوجدانه الماء بالإضافة إليهما ، والمفروض انه بعد الإتيان بالظهرين يصير فاقداً للماء ، ووظيفة الفاقد هي الطهارة الترابية ، دون غيرها. وعلى هذا فلا مسوغ لترك صلاتي الظهرين مع الطهارة المائية والإتيان بهما مع الطهارة الترابية ، ليحتفظ بالماء لصلاتي العشاءين ، لما عرفت من عدم المقتضى للحفظ أصلا ، بل المقتضى لصرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين موجود ، وهو فعلية التكليف بهما مع الطهارة المائية. وكذا الحال في بقية الاجزاء والشرائط ، فلو دار الأمر بين ترك جزء أو شرط كالقيام أو نحوه في صلاة الظهر ـ مثلا ـ وتركه في صلاة المغرب فالأمر كما تقدم ، بمعنى ان وظيفته الفعلية تقتضي الإتيان بصلاة الظهر قائماً ، ولا يجوز له ترك القيام فيها بحفظ القدرة عليه لصلاة المغرب ، بل في الحقيقة لا مزاحمة في

٢٨٣

البين ، ضرورة ان المزاحمة إنما تعقل بين التكليفين الفعليين ، ليكون لكل منهما اقتضاء للإتيان بمتعلقه في الخارج ، واما إذا كان أحدهما فعلياً دون الآخر فلا اقتضاء لما لا يكون فعليا. ومن المعلوم أن ما لا اقتضاء فيه لا يعقل أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ، هذا كله فيما إذا كان أحد الواجبين المزبورين فعليا دون الواجب الآخر.

واما إذا كان وجوب كليهما فعلياً كصلاتي الظهرين ـ مثلا ـ أو العشاءين بعد دخول وقتهما ، فهل الأمر أيضاً كذلك أم لا وجهان :

الصحيح هو الوجه الأول :

بيان ذلك هو انا إذا فرضنا ان الأمر يدور بين الطهارة المائية ـ مثلا ـ في صلاة الظهر ، والطهارة المائية في صلاة العصر ، أو بين الطهارة المائية في صلاة المغرب ، والطهارة المائية في صلاة العشاء ، بان لا يتمكن المكلف من الجمع بين هاتين الصلاتين مع الطهارة المائية ، ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بتقديم صلاة الظهر مع الطهارة المائية على صلاة العصر ، أو المغرب على العشاء ، ولا تجوز المحافظة عليها لصلاة العصر أو العشاء بتركها في صلاة الظهر أو المغرب.

والوجه فيه هو ان وظيفة المكلف فعلا هي الإتيان بصلاة الظهر فحسب لفرض انه ليس مأموراً بإتيان صلاة العصر قبل الإتيان بالظهر لاعتبار الترتيب بينهما هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى المفروض انه في هذا الحال واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعاً. ومن الواضح ان وظيفته عندئذ بمقتضى الآية المباركة هي الوضوء أو الغسل ، ولا يشرع في حقه التيمم.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا أثر لكون المكلف واجداً للماء فعلا بالإضافة إلى صلاة العصر ، لما ذكرناه من أن المستفاد من الآية المباركة بضميمة الروايات ان المراد بوجدان الماء هو وجدانه بالإضافة إلى الصلاة المأمور بها فعلا ، والمفروض ان فيما نحن فيه المأمور به فعلا هو صلاة الظهر دون العصر ،

٢٨٤

ضرورة انه لا يجب الإتيان به قبل الظهر ، فاذن هو واجد للماء بالإضافة إلى الظهر ومن المعلوم ان وظيفة الواجد هي الوضوء أو الغسل ، دون التيمم ، وقد ذكرنا ان تقسيم المكلف إلى الواجد والفاقد في الآية المباركة قاطع للشركة ، فلا يكون الواجد شريكاً مع الفاقد في شيء ، وبالعكس. وعليه فيجب صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر ومعه لا محالة يكون فاقداً له بالإضافة إلى العصر. ومن الواضح ان وظيفة الفاقد هي التيمم لا غيره.

بل لا مزاحمة في الحقيقة بين الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائية والأمر بصلاة العصر معها ، ضرورة أنه لا مقتضى من قبل الأمر بصلاة العصر حتى يستدعى احتفاظ الماء لها في ظرفها ، ليزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف هذا الماء فعلا في الوضوء أو الغسل. ومن الواضح جداً انه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه.

وعلى الجملة فلا يخلو الأمر من أن المكلف اما أن يصلى الظهر مع الطهارة المائية ، أو يصلى مع الطهارة الترابية ، أو لا يصلى أصلا ، ولا رابع لها. فعلى الأول لا محالة يكون المكلف فاقداً للماء بالإضافة إلى صلاة العصر ، فوظيفته التيمم. وعلى الثاني بما ان صلاته باطلة ، لأن وظيفته كانت الطهارة المائية ، لكونه واجداً للماء على الفرض فلا تكون الطهارة الترابية مشروعة له ، فلا يجوز له الإتيان بالعصر مع الطهارة المائية ، لعدم جواز الإتيان به قبل الإتيان بالظهر ، والمفروض ان الأمر بالظهر باق على حاله. وعليه بما انه لا يكون مكلفاً فعلا بالعصر ، فلا يكون مانع من قبله من صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر. ومن هنا يظهر حال الصورة الأخيرة كما هو واضح. وكذا حال بقية الاجزاء والشرائط.

وقد تحصل مما ذكرناه انه لا مزاحمة حقيقة في أمثال هذه الموارد أصلا. هذا كله فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المتأخر القدرة الخاصة وهي

٢٨٥

القدرة في ظرف العمل.

وأما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه القدرة المطلقة ، بان استكشفنا من القرائن الداخلية أو الخارجية انه واجد للملاك الملزم في ظرفه بمجرد القدرة عليه ولو آناً ما ففي مثل ذلك قد عرفت انه لا وجه لتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر ، بل لا بد من ملاحظة الأهمية في البين.

والوجه في ذلك هو ان العقل كما يحكم بصرف القدرة في امتثال الواجب المتقدم ، كذلك يحكم باحتفاظها للواجب المتأخر ، ضرورة انه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما انه يحكم بقبح الأول فكذلك يحكم بقبح الثاني ، وعليه فلا أثر لسبق الزماني ـ هنا ـ أصلا ، فاذن ان كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية فيقدم عليه بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو متأخراً عنه ، وبلا فرق بين القول بإمكان الترتب والقول باستحالته ، وإلا فيحكم العقل بالتخيير بينهما ، كما تقدم بشكل واضح.

ولكن لشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وهو ان التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين متساويين في الملاك ، كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية أو بين ترك واجب متوقف على ارتكاب محرم مساو معه في الملاك فلا مناص من الالتزام بتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر.

وقد أفاد في وجه ذلك ما توضيحه : هو ان الواجبين المتزاحمين إذا كانا عرضيين ففي صورة التساوي وعدم كون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من الالتزام بالتخيير ، ضرورة انه لا وجه في هذا الفرض لتقديم أحدهما على الآخر أصلا. واما إذا كانا طوليين ، فان كانا متساويين فلا بد من تقديم الواجب المتقدم على المتأخر زماناً وذلك لأن التكليف بالمتقدم فعلى ولا موجب لسقوطه أصلا ، لأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين إنما هو بصرف القدرة في امتثال الآخر كما ان ثبوت كل منهما إنما هو عند ترك امتثال الآخر وعدم صرف القدرة فيه ، بناء على ما هو الصحيح من إمكان الترتب وجوازه ، وعدم الفرق فيه بين ان يكون من

٢٨٦

طرف أو من طرفين ، وبما ان التكليف بالواجب المتأخر متأخر خارجاً ، لفرض ان متعلقه متأخر عن متعلق التكليف بالمتقدم ، فلا يكون له مسقط في عرضه ، ضرورة ان امتثاله في ظرفه لا يكون مسقطاً له ، كما ان ترك امتثاله فيه لا يعقل أن يكون شرطاً لثبوته له ، إلا بناء على إمكان الشرط المتأخر والمفروض انه (قده) يرى استحالته وعدم إمكانه.

وعلى الجملة ففي زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة في امتثاله أصلا ، لفرض عدم إمكان صرف القدرة في امتثال الواجب المتأخر فعلا ، والمفروض ان المسقط لوجوبه ليس إلا امتثاله خارجاً ، كما عرفت ، وحيث انه لا يمكن بالفعل فلا مسقط له أصلا إلا أن يكون امتثاله في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر ، ولكنك عرفت انه يرى استحالة ذلك ، فاذن يتعين امتثال المتقدم بحكم العقل.

ومن هنا يظهر انه لا يمكن الالتزام بالترتب من الطرفين في مثل الفرض ، وذلك لأن معنى الترتب من الطرفين هو ان ثبوت التكليف بكل منهما مشروط بترك امتثال الآخر خارجاً وعدم الإتيان بمتعلقه ، وهذا لا يعقل في مثل المقام ، ضرورة ان ثبوت التكليف بالمتقدم لا يعقل ان يكون مشروطاً بترك امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه إلا على نحو الشرط المتأخر ، وهو محال على وجهة نظره (قده).

نعم إذا كان المتأخر أقوى ملاكا من المتقدم فلا بد من تقديمه عليه.

والوجه في ذلك هو ان التزاحم ـ في الحقيقة عندئذ ـ إنما هو بين التكليف بالمتقدم ووجوب حفظ القدرة فعلا على امتثال التكليف بالمتأخر ، وبما ان ملاك المتأخر أهم من ملاك الواجب الفعلي ، فلا محالة يكون وجوب حفظ القدرة عليه أهم من وجوب الواجب الفعلي ، فيتقدم عليه في مقام المزاحمة.

فالنتيجة المستفادة من مجموع ما أفاده (قده) ـ هنا ـ هي ان التزاحم لا يعقل

٢٨٧

بين تكليفين طوليين ، إلا إذا كان المتأخر أهم من المتقدم ، لتقع المزاحمة بين وجوب حفظ القدرة عليه فعلا ووجوب الواجب المتقدم ، واما إذا كانا متساويين ، أو كان المتقدم أهم من المتأخر فلا تزاحم بينهما أبداً ، بل يتعين امتثال الواجب المتقدم بحكم العقل ، دون الواجب المتأخر ، ولأجل ذلك لا يجري الترتب بينهما كما عرفت.

ولنأخذ بالمناقشة في ما أفاده ـ قده ـ وهي انا قد حققنا سابقاً أن كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه لم يرد في لسان دليل من الأدلة ، لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره ، بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين إلا على هذا الفرض والتقدير ، ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما فعلا وفي عرض الآخر.

والوجه في ذلك هو ان العقل مستقل بلزوم تحفظ خطاب المولى بالمقدار الممكن ، وعدم جواز رفع اليد لا عن أصله ، ولا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة. وهذا ظاهر.

وعلى أساس ذلك بما ان في مقام المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف من التحفظ على كليهما معاً فلا مناص من الالتزام برفع اليد عن أحدهما والأخذ بالآخر إذا كان ذلك الآخر واجداً للترجيح ، فان هذا غاية ما يمكنه. وأما إذا لم يكن واجداً له فلا مناص من الالتزام بالتخيير ، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى قد تقدم منا غير مرة انه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما انه يحكم بقبح الأول ، فكذلك يحكم بقبح الثاني.

ومن ناحية ثالثة قد حققنا في بحث الواجب المطلق والمشروط انه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر ، بل لا مناص عنه في المركبات التدريجية كالصلاة

٢٨٨

وما شاكلها ، كما نقدم هناك.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث هي ان في صورة كون التكليفين المتزاحمين متساويين لا مناص من القول بالتخيير ـ مطلقاً ـ من دون فرق بين ان يكونا عرضيين أو طوليين.

والسر في ذلك ما عرفت من ان القول بالتخيير ـ هنا ـ عقلا يرتكز على القول بالترتب. وقد ذكرنا انه لا فرق فيه بين أن يكون من طرف واحد ، كما إذا كان أحدهما أهم من الآخر ، وان يكون من طرفين ، كما إذا كانا متساويين. وقد سبق ان معنى الترتب ـ عند التحليل ـ عبارة عن تقييد إطلاق التكليف بأحدهما بترك امتثال التكليف بالآخر ، وعدم الإتيان بمتعلقه خارجاً في فرص كون أحدهما أهم من الآخر ، وتقييد إطلاق التكليف بكل منهما بترك امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه في فرض كونهما متساويين. ومن المعلوم ان هذا التقييد والاشتراط ليس ناشئاً فعلا بحكم الشرع أو العقل ، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف من الأول بالقدرة. ومن هنا قلنا ان هذا التخيير ليس معناه تبديل الوجوب التعييني بالتخييري بل كل منهما باق على وجوبه التعييني ، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق وجوب كل منهما بتقييده بعدم الإتيان بمتعلق الآخر ، بل معناه اختيار المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك باعتبار ان القدرة الواحدة لا تفي بامتثال كليهما معاً ، ولا يفرق في ذلك بين كونهما عرضيين أو طوليين ، غاية الأمر على الثاني لا بد من الالتزام بجواز الشرط المتأخر ، حيث ان شرطية عدم الإتيان بالواجب المتأخر ـ في في ظرفه لفعلية وجوب المتقدم ـ لا تعقل إلا على هذا القول ، ولكن قد تقدم ان الصحيح هو جوازه ، وانه لا مانع منه أصلا ، بل لا مناص من الالتزام به في بعض الموارد ، كما مر بشكل واضح. وعليه فلا فرق بين كونهما عرضيين أو طوليين ، فعلى كلا التقديرين لا بد من الالتزام بالترتب ، وبثبوت كلا التكليفين على شكل اشتراط ثبوت كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر في ظرفه.

٢٨٩

وقد تحصل مما ذكرناه انه لا مانع من الالتزام بالترتب في المتزاحمين الطوليين لا من ناحية الالتزام بالترتب من الطرفين ، ولا من ناحية ابتنائه على جواز الشرط المتأخر ، ولا من ناحية حكم العقل.

اما الأول فقد ذكرنا انه لا فرق في إمكان الترتب بين ان يكون من طرف واحد ، كما في الأهم والمهم أو من طرفين كما في المتساويين.

واما الثاني فقد حققنا جواز الشرط المتأخر وإمكانه.

واما الثالث فقد عرفت انه لا فرق عند العقل بين تفويت الملاك الملزم في ظرفه ، وتفويت الواجب الفعلي.

فما عن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من عدم جريان الترتب بينهما لا يرجع إلى معنى صحيح أصلا.

كما ان ما أفاده (قده) من المانع وهو ان سقوط كل من التكليفين المتزاحمين حيث انه كان بامتثال الآخر فلا يعقل أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر ـ من جهة تأخره خارجاً ـ مسقطاً للتكليف بالمتقدم ، فائضاً لا يرجع إلى معنى محصل.

والوجه فيه اما أولا فلأنه لا مانع من ان يكون امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر ، بناء على ما حققناه من إمكانه وجوازه. واما ثانياً ـ فلان المسقط له ليس هو امتثال الآخر بما هو ، لما قدمناه سابقاً من ان المسقط للتكليف أحد أمرين لا ثالث لهما.

الأول ـ امتثاله في الخارج الموجب لحصول غرضه ، فانه بعد حصول الغرض الداعي له خارجاً لا يعقل بقاؤه ، ولذا قلنا ان المسقط في الحقيقة إنما هو حصول الغرض وتحققه في الخارج ، لا الامتثال نفسه كما تقدم.

الثاني ـ انتفاء القدرة وعجز المكلف عن امتثاله ، ومعه لا محالة يسقط التكليف ، بداهة استحالة توجيهه نحو العاجز. ومن المعلوم ان المسقط فيما نحن فيه ليس هو الأول على الفرض ، بل المسقط له إنما هو الثاني ، كما هو المفروض ، باعتبار أن

٢٩٠

المكلف ان أعمل قدرته في امتثال الواجب الفعلي عجز عن امتثال الواجب المتأخر في ظرفه ، فينتفي بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وان حفظ قدرته على امتثال المتأخر عجز عن امتثال المتقدم لا محالة ، ضرورة ان القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معاً. ومثال ذلك : ما إذا توقف امتثال واجب على ارتكاب محرم كالتصرف في مال الغير ـ مثلا ـ فانه ان صرف قدرته في ترك الحرام عجز عن امتثال الواجب في ظرفه كإنقاذ الغريق ـ مثلا ـ أو نحوه ، وان حفظ قدرته لامتثاله في ظرفه بارتكاب الحرام عجز عن تركه. ومن الواضح ان مع العجز عنه تسقط حرمته لا محالة ، ولا يفرق في سقوط حرمته بين ان يمتثل المكلف الواجب المتأخر خارجاً أم لا ، ضرورة ان المسقط للتكليف بالمتقدم ليس هو امتثال المتأخر في الخارج ، بل المسقط له في الحقيقة ـ كما عرفت ـ عدم تمكن المكلف من امتثاله.

وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ (قده) من ان سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الآخر ، وحيث ان امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً فلا يعقل ان يكون مسقطاً للتكليف بالمتقدم ـ لا يرجع إلى معنى صحيح ، لما عرفت من ان المسقط له ليس هو امتثال التكليف بالمتأخر ، ليقال انه حيث لا يكون في عرضه فلا يكون مسقطاً له ، بل المسقط له ما مر ، وهو عدم تمكن المكلف من امتثاله.

فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت انه لا فرق في نظر العقل بين أن يكون المتزاحمان المتساويان عرضيين أو طوليين ، إذ أنه على كلا التقديرين يستقل العقل بالتخيير بينهما على بيان تقدم بصورة واضحة.

ثم ان ما مثل لذلك شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى من الصلاة وتركه في الركعة الثانية فقد ظهرت المناقشة فيه مما تقدم من انه لا تعقل المزاحمة بين جزءين أو شرطين أو جزء أو شرط لواجب واحد ، وسيجيء الكلام في ذلك بصورة مفصلة.

٢٩١

ثم ان شيخنا الأستاذ ـ قده ـ قد طبق كبرى مسألة التزاحم على جملة من الفروع وقد تقدم الكلام في بعضها :

الأول ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهور في الصلاة وسقوط قيد من قيودها الاخر ، فيسقط ذلك القيد وان كان وقتاً ، لكون الطهور ركناً لها ، وأهم من بقية القيود ، ولذا ورد انه لا صلاة إلا بطهور.

الثاني ـ ما إذا دار الأمر بين خصوص الطهارة المائية وغيرها من القيود فيقدم غيرها عليها. وقد ذكر في وجه ذلك ان أجزاء الصلاة وشرائطها وان كانت مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، إلا ان الطهارة المائية خاصة ممتازة عن بقية القيود من الاجزاء والشرائط ، من جهة جعل الشارع البدل لها وهو الطهارة الترابية ، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع ، فيقدم عليها كل قيد من قيود الصلاة في مقام المزاحمة.

الثالث ـ ما إذا دار الأمر بين وقوع ركعة من الصلاة في خارج الوقت وسقوط أي قيد من قيودها الاخر غير الطهور يسقط ذلك القيد ، لكون إدراك الوقت أهم.

الرابع ـ ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت وإدراك قيد آخر ، ولا يتمكن من الجمع بينهما ، فيقدم إدراك ذلك القيد على إدراك تمام الركعات فيه ، واستثنى من ذلك خصوص السورة وقال. انها تسقط عند الدوران المزبور ، لقيام الدليل على سقوطها بالاستعجال.

الخامس ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط الاجزاء وسقوط الشرائط ، فتسقط الشرائط ، وعلل ذلك بأنها متأخرة رتبة عن الاجزاء ، لأنها إنما أخذت قيوداً فيها. ومن الواضح ان القيد متأخر رتبة عن المقيد.

السادس ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده ، كما لو دار الأمر بين سقوط أصل الساتر عن الصلاة وسقوط قيده ، وهو كونه طاهراً ، يسقط قيده ، لتأخره عنه رتبة.

٢٩٢

السابع ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد مأخوذ في الركن وسقوط قيد مأخوذ في غيره من الاجزاء أو الشرائط كما لو دار الأمر بين ترك الطمأنينة ـ مثلا ـ في الركن وتركها في غيره من الذّكر أو القراءة أو نحو ذلك يتعين سقوط الثاني.

الثامن ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة ، يتعين سقوط القيام فيها باعتبار ان القيام قبل الركوع بنفسه ركن ومقوم له ، فلا محالة يتقدم على القيام في حال القراءة. ومن هنا يتقدم القيام قبل الركوع على القيام حال التكبيرة أيضا ، فان القيام حالها شرط ، وفي الركوع مقوم.

التاسع ـ ما إذا دار الأمر بين سقوط أحد الواجبين الطوليين سقط المتأخر وان لم يكن الملاك فيه أهم. ومن ثم يتقدم القيام في التكبيرة على القيام في القراءة هذا مضافاً إلى كونه شرطاً في الركن ، دون القيام في القراءة. وقد عرفت انه في مقام دوران الأمر بين سقوط شرط الركن وسقوط شرط غيره ، يتعين سقوط شرط غيره.

العاشر ـ ما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة وترك الركوع والسجود فيها ، وتعرض لهذا الفرع السيد (قده) في العروة في موضعين : الأول في مبحث المكان. والثاني في مبحث القيام ، وحكم (قده) في كلا الموضعين بالتخيير بينهما.

ولكن شيخنا الأستاذ (قده) قد حكم في حاشيته على العروة في أحد الموضعين بتقديم القيام على الركوع والسجود ، وفي الآخر بتقديم الركوع والسجود على القيام ، على عكس الأول. ونظره (قده) في الأول إلى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره. وفي الثاني إلى تقديم الأهم على غيره. وعلى كل حال فبين كلاميه في الموضعين تناقض واضح.

وغير خفي ان ما أفاده (قده) من الترجيح في هذه الفروعات جميعاً يرتكز على أساس إجراء قواعد التزاحم فيها من الترجيح بالأسبقية في بعضها ، وبالأهمية في

٢٩٣

بعضها الآخر ، وبالتقدم الرتبي في ثالث.

ولنا أن نأخذ بالمناقشة فيما ذكره (قده) من ناحيتين.

الأولى ـ ان هذه الفروعات وما شاكلها أجنبية عن مسألة التزاحم تماماً ، ولا يجري فيها شيء من أحكامها وقواعدها.

الثانية ـ انه على تقدير تسليم جريان قواعد التزاحم في تلك الفروعات فان ما أفاده (قده) فيها من الترجيح لا يتم على إطلاقه.

اما الناحية الأولى فقد أشرنا إليها إجمالا فيما سبق ، ونقدم لكم هنا بصورة مفصلة.

بيان ذلك : أنه قد تقدم ان التزاحم هو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية. ومن هنا قلنا انه لا تنافي بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع ، ضرورة انه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق ـ مثلا ـ للقادر وجعل حرمة التصرف في مال الغير له .. وهكذا ، بل بينهما كمال الملاءمة في هذا المقام. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ان التعارض هو تنافي الحكمين في مقام الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية ، فثبوت كل منهما على هذا النحو يكذب الآخر بالمطابقة أو بالالتزام على بيان قد سبق بشكل واضح.

ومن جانب ثالث ان الأمر المتعلق بالمركب كالصلاة وما شاكلها ـ بصفة انه امر واحد شخصي لا محالة ـ ينبسط على اجزاء ذلك المركب وتقيداته بقيودات خارجية ، فيأخذ كل جزء منه حصة من ذلك الأمر الواحد الشخصي ، فيكون مأموراً به بالأمر الضمني النفسيّ. ومن المعلوم ان الأمر الضمني المتعلق بجزء مربوط بالذات بالأمر الضمني المتعلق بجزء آخر. وهكذا ، ضرورة ان الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء هي عين ذلك الأمر النفسيّ الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب من تلك الاجزاء بالتحليل العقلي. وعلى هذا فلا يعقل سقوط بعض تلك

٢٩٤

الأوامر عن بعض تلك الاجزاء وبقاء بعضها الآخر ، لفرض ان هذه الأوامر عين الأمر النفسيّ ، غاية الأمر العقل يحلله إلى أوامر متعددة ضمنية ، ويجعله حصة حصة ، فتتعلق بكل جزء من اجزاء متعلقه حصة منه ومن الواضح جداً انه لا يعقل بقاء تلك الحصة بدون بقاء الأمر النفسيّ ولا سقوطها بدون سقوطه ، وهذا معنى ارتباطية تلك الاجزاء بعضها ببعضها الآخر ثبوتاً وسقوطاً في الواقع ونفس الأمر.

فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الثلاث هي ان في الفروعات المزبورة أو ما شاكلها لا يعقل أن يكون التزاحم بين امرين نفسيين ، ضرورة انه ليس فيها إلا امر نفسي واحد متعلق بالمجموع المركب. وكذا لا يعقل ان يكون التزاحم بين امرين إرشاديين ، لما عرفت من انه لا شأن للأمر الإرشادي ما عدا الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، ولذا لا تجب موافقته ، ولا تحرم مخالفته بحكم العقل. ومن المعلوم ان المزاحمة إنما تعقل بين امرين يقتضى كل منهما امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والإطاعة ، والمفروض انه لا اقتضاء للأمر الإرشادي بالإضافة إلى ذلك أصلا ، لتعقل المزاحمة بينهما.

والّذي يمكن ان يتوهم في أمثال هذه المقامات هو وقوع المزاحمة بين امرين ضمنيين. ببيان ان كلا منهما يقتضى الإتيان بمتعلقه ، فعندئذ لو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما والإتيان بمتعلقيهما خارجاً فلا مزاحمة في البين أصلا ، واما إذا فرضنا انه لا يقدر إلا على امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة تقع المزاحمة بينهما كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة ـ مثلا ـ وترك الركوع فيها أو بين ترك القيام في حال التكبيرة وتركه في حال القراءة ، أو بين ترك الطهارة الحدثية وترك الطهارة الخبثية ، وما شابه ذلك ، ففي أمثال هذه الموارد التي لا يكون المكلف قادراً على الجمع بينهما في الخارج لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بالقيام والأمر الضمني المتعلق بالركوع ، أو الأمر الضمني المتعلق بتقييد الصلاة

٢٩٥

بالطهارة الحدثية والأمر الضمني المتعلق بتقييدها بالطهارة الخبثية. وهكذا.

والوجه في ذلك هو ان ملاك التزاحم بين أمرين نفسيين كالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ في ضيق الوقت والأمر بالإزالة (وهو عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الثاني ، فينتفي بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ ولو انعكس فبالعكس) بعينه موجود بين امرين ضمنيين ، كالأمر بالقيام ـ مثلا ـ والأمر بالركوع ، أو ما شاكلهما ، فان المفروض ـ هنا ـ هو ان المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً ، فلا يتمكن من الجمع بين القيام والركوع في الصلاة ، فلو صرف قدرته في امتثال الأول عجز عن امتثال الآخر ، فينتفى عندئذ بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وان صرف فيه عجز عن الأول .. وهكذا.

وعليه فيرجع إلى قواعد باب التزاحم ، فان كان أحدهما أهم من الآخر قدم عليه ، وكذا إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلا والآخر مشروطاً بها شرعاً ، فان ما كان مشروطاً بالقدرة عقلا يتقدم على غيره ، أو إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، ولكن كان أحدهما أسبق من الآخر زماناً تقدم الأسبق على غيره ، واما إذا كان متساويين من تمام الجهات ولم يكن ترجيح في البين ، ولا احتماله فالعقل يحكم بالتخيير بينهما بمعنى تقييد إطلاق الأمر بكل منهما بعدم الإتيان بالآخر ، كما عرفت في التزاحم بين الواجبين النفسيين إذا كانا متساويين من جميع الجهات.

وعلى الجملة فجميع ما ذكرناه في التزاحم بين الأمرين النفسيين يجري في المقام من دون تفاوت أصلا إلا في نقطة واحدة ، وهي ان التزاحم هناك بين امرين نفسيين ، وهنا بين امرين ضمنيين. ومن المعلوم ان الاختلاف في هذه النقطة لا يوجب التفاوت بينهما في جريان أحكام التزاحم ومرجحاته وقواعد بابه أصلا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه القول بجريان التزاحم في أجزاء وشرائط واجب واحد. كما عن شيخنا الأستاذ (قده) وغيره.

٢٩٦

وغير خفي ان هذا البيان وان كان في غاية الصحة والاستقامة بالإضافة إلى حكمين نفسيين : وجوبيين كانا أو تحريميين أو كان أحدهما وجوبياً والآخر تحريمياً كما تقدم الكلام في التزاحم بينهما بصورة مفصلة فلا نعيد ، إلا انه لا يتم بالإضافة إلى حكمين ضمنيين ، وذلك لأن تماميته بالإضافة إليهما تبتنى على نقطة واحدة ، وهي ان الأمر المتعلق بالمركب لا يسقط بتعذر بعض اجزائه أو شرائطه ، فحينئذ لو دار الأمر بين ترك جزء كالقيام في الصلاة ـ مثلا ـ وترك جزء آخر كالركوع فيها ، أو نحوهما فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، لفرض أن الأمر بالصلاة باق ، ولم يسقط بتعذر أحد هذين الجزءين ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في نفسه وفي ظرف عدم الإتيان بالآخر ، فاذن لا مانع ـ بناء على ما حققناه ـ من صحة الترتب الالتزام بثبوت الأمر الضمني النفسيّ لكل منهما في نفسه وعند عدم الإتيان بالآخر وهذا التقييد نتيجة امرين :

الأول ـ وقوع المزاحمة بين هذا الأمر الضمني وذاك في مقام الامتثال.

الثاني ـ الالتزام بالترتب بينهما من الجانبين.

ولكن عرفت ان هذه النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، ضرورة انه لا يعقل بقاء الأمر المتعلق بالمركب مع تعذر بعض اجزائه أو شرائطه كما سبق بشكل واضح. وعلى هذا الأساس فإذا تعذر أحد اجزائه أو شرائطه معيناً كان أو غير معين ـ أعنى به ما إذا دار الأمر بين ترك هذا وذاك ـ فلا محالة يسقط الأمر المتعلق به ، بداهة استحالة بقائه لاستلزامه التكليف بالمحال ، وهو غير معقول.

وبتعبير آخر : ان فرض بقاء الأمر الأول بحاله يستلزم التكليف بالمحال ، وفرض بقاء الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء والشرائط الباقيتين وان الساقط إنما هو الأمر الضمني المتعلق بخصوص المتعذر منهما خلف ، وذلك لفرض ان تلك الأوامر أوامر ضمنية كل منها مرتبط مع الآخر ارتباطاً ذاتياً ، فلا يعقل بقاء

٢٩٧

بعض منها وسقوط بعضها الآخر ، وإلا لكانت أوامر استقلالية ، لا ضمنية. وهذا خلف ـ كما عرفت ـ فاذن مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب بتعذر أحد أجزائه أو قيوده. وعليه فلا أمر لا بالمركب ، ولا باجزائه ، فلا موضوع للتزاحم ولا التعارض ، فانتفاؤهما بانتفاء موضوعهما ، ولذا لو كنا نحن والقاعدة الأولية لم نقل بوجوب الباقي ، فان الأمر المتعلق بالمجموع المركب منه قد سقط يقيناً ، وإثبات امر آخر متعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل ، ففي كل مورد ثبت دليل على وجوبه فنأخذ به ، وإلا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه.

ولكن قد يتوهم في المقام انه وان لم يمكن الالتزام بالتزاحم بين واجبين ضمنيين كجزءين أو شرطين أو جزء وشرط ، فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها الأولية كما عرفت إلا انه لا مانع من الالتزام به فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الاجزاء بعنوانها المقدورة ، ببيان انه إذا تعذر أحد اجزائه لا يسقط الأمر عن الاجزاء الباقية ، لفرض ان جزئيته تختص بحال القدرة وفي حال التعذر لا يكون جزء واقعاً ، وإذا لم يكن جزء كذلك في هذا الحال فلا محالة لا يكون تعذره موجباً لسقوط الأمر عن الباقي.

وعلى هذا فان كان المتعذر أحد أجزاء ذلك المركب معيناً سقط الأمر عنه خاصة ، دون الباقي ، لفرض اختصاص جزئيته بحال القدرة ، وفي هذا الحال لا يكون جزء واقعاً ، وان كان المتعذر مردداً بين اثنين منها ، ففي مثله لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بهذا والأمر الضمني المتعلق بذاك ، بتقريب ان ملاك التزاحم ـ وهو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن ثبوتهما بحسب مقام الجعل بلا منافاة ـ موجود بعينه هنا ، لفرض انه لا تنافي بين الأمر الضمني المتعلق بهذا الجزء والأمر الضمني المتعلق بالآخر بحسب مقام الجعل فهذا مجعول له بعنوان كونه مقدوراً وذاك مجعول له بهذا العنوان ، من دون اية منافاة في البين ، غاية الأمر من جهة عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً وقع التنافي والتزاحم بينهما ، فلو صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن الآخر ، فينتفى

٢٩٨

بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وأن عكس فبالعكس.

وعلى الجملة فيجري فيه جميع ما يجري في التزاحم بين الواجبين النفسيين على القول بإمكان الترتب ، واستحالته حرفاً بحرف من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

ولكنه توهم خاطئ ولم يطابق الواقع. والوجه في ذلك هو انه لا شبهة في ان الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء المتعذر يسقط بتعذره لا محالة ، ضرورة انه لا يعقل بقاؤه ، كما إذا فرضنا ان للمركب عشرة اجزاء ـ مثلا ـ وتعلق الأمر بها بعنوان كونها مقدورة ، فعندئذ إذا فرض سقوط أحد اجزائه وتعذره فلا إشكال في سقوط الأمر المتعلق بمجموع العشرة ، بداهة استحالة بقائه ، لاستلزامه التكليف بالمحال وبغير المقدور ، واما الأمر المتعلق بالتسع الباقية فهو أمر آخر لا الأمر الأول ، لفرض انه متعلق بالمركب من عشرة أجزاء ، لا بالمركب من التسعة ، وهذا واضح. واما إذا تعذر أحد جزءين منها لا بعينه بان تردد الأمر بين كون المتعذر هذا أو ذاك فائضاً لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع ، لفرض عدم قدرة المكلف عليه ، ومعه يستحيل بقاء أمره ، لاستلزامه التكليف بغير المقدور.

وعليه فلا محالة نشك في ان المجعول الأولى في هذا الحال أي شيء هل هو جزئية هذا أو جزئية ذاك ، أو أنه جزئية الجامع بينهما بلا خصوصية لهذا ولا لذاك فاذن لا محالة يدخل المقام في باب التعارض ، فيرجع إلى أحكامه وقواعده.

وبتعبير واضح : انه لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع المركب من عشرة اجزاء ـ مثلا ـ بتعذر جزئه وسقوطه واستحالة بقائه ـ كما عرفت ـ ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعذر معيناً أو غير معين ، كما هو واضح ومن المعلوم ان بسقوطه (الأمر) يسقط جميع الأوامر الضمنية المتعلقة باجزائه ، لفرض أن تلك الأوامر عين ذلك الأمر المتعلق بالمجموع ، فلا يعقل بقاؤها مع سقوطه.

٢٩٩

وتخيل ان الساقط في هذا الفرض إنما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق بالجزء المتعذر ، دون البقية خيال فاسد جداً ، ضرورة ان الأمر المتعلق بالمجموع لا يخلو من ان يكون باقياً في هذا الحال أو ساقطاً. فعلى الفرض الأول لا يعقل سقوطه ، لفرض انه حصة منه ، فمع بقائه لا محالة هو باق. وعلى الفرض الثاني سقط الأمر الضمني عن الجميع ، لا عن خصوص المتعذر ، لما عرفت من حديث العينية ، وهذا معنى ارتباطية الأوامر الضمنية بعضها مع بعض الآخر ارتباطة ذاتية.

ولكن حيث قد عرفت استحالة الفرض الأول في هذا الحال ، فلا محالة يتعين الالتزام بالفرض الثاني. نعم ثبت الأمر للباقي بعد سقوطه عن المجموع بمقتضى اختصاص جزئية المتعذر بحال القدرة ، فان قضية ذلك سقوط جزئيته في حال التعذر واقعاً ، ولازمه ثبوت الأمر للباقي ، وبما ان الباقي في هذا الفرض مردد بين المركب من هذا أو ذاك فلا محالة لا نعلم ان المجعول جزئية هذا له أو ذاك أو جزئية الجامع بينهما ، بعد عدم إمكان كون المجعول جزئية كليهما معاً ، فاذن لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما فيرجع إلى قواعد بابها ، فان كان أحدهما عاماً والآخر مطلقاً ، فيقدم العام على المطلق ، وان كان كلاهما عاماً فيرجع إلى مرجحات باب التعارض ، وان كان كلاهما مطلقاً فيسقطان معاً ، فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك ، فتكون النتيجة جزئية الجامع.

وبهذا البيان قد ظهر انه لا فرق بين المقام وبين ما إذا تعلق الأمر بالمركب من الاجزاء بعناوينها الأولية ، إلا في نقطة واحدة ، وهي ان في مثل المقام لا يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل خارجي يدل عليه ، كلا تسقط الصلاة بحال أو نحوه ، بل الأمر به ثابت من الابتداء بمعنى ان الشارع قد أوجب كل مرتبة من مراتب هذا المركب عند تعذر مرتبة أخرى منه.

ويدل على هذا في المقام تقييد جزئية كل من اجزائه بحال القدرة ، ولازم ذلك هو عدم جزئيته في حال العجز واقعاً ، وثبوت الأمر للباقي.

٣٠٠