محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط ، وان كان على نحو الواجب المعلق ، بان يكون الوجوب حالياً والواجب استقباليا ، فيكون مانعا عن وجوب الحج ، ولو كان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق عليه في الخارج.

ولكن للمناقشة في هذه الأمور مجالا :

اما الأمر الأول ، فقد ظهر فساده مما قدمناه بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الإعادة.

واما الأمر الثاني ، فان الواجب المطلق الفوري الثابت على ذمة المكلف لا يخلو من ان يكون مشروطا بالقدرة عقلا ، أو يكون مشروطا بها شرعا.

فعلى الفرض الأول فان كان أهم من الواجب الآخر ـ وهو الحج في مفروض المثال ـ فلا إشكال في تقديمه عليه مطلقاً أي سواء أكان سابقا عليه زمانا أم مقارنا معه أم متأخراً عنه. والوجه فيه ما سيأتي بيانه إن شاء الله من ان الواجب الأهم يتقدم في مقام المزاحمة على المهم مطلقا ، ولو كان متأخراً عنه. وعلى هذا فلا أثر لفرض كون ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده ، كما عن السيد ـ قده ـ بل لا أثر لفرض كونه قبل زمان الواجب الآخر وهو الحج ـ هنا ـ أو بعده ، فانه يتقدم عليه في مقام المزاحمة على جميع هذه التقادير والفروض ، وان كان بالعكس بان يكون وجوب الحج أهم من ذلك الواجب الآخر فلا إشكال في تقديمه عليه بلا فرق بين كونه متقدما عليه زمانا أو مقارنا معه أو متأخراً عنه. والوجه في ذلك ما ذكرناه من ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا لا شرعا من جهة ما عرفت من ان الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد والراحلة مع أمن الطريق وليست عبارة عما هو المشهور من التمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا لتكون نتيجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعية. وعلى هذا لا يفرق بين فرض كون وجوب ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت أو بعده ، وسيجيء بيان ذلك من هذه الجهة بصورة مفصلة.

٢٦١

واما إذا كان الواجبان متساويين بان لا يكون أحدهما أهم من الآخر ولا محتمل الأهمية ، فتخير المكلف بين صرف قدرته في امتثال هذا وصرفها في امتثال ذاك على ما سنبين إن شاء الله تعالى.

وعلى الفرض الثاني (وهو ما إذا كان الواجب المطلق مشروطا بالقدرة شرعا) لا إشكال في تقديم فريضة الحج عليه ولو كانت الاستطاعة متأخرة عنه زماناً. وذلك لما عرفت من ان الواجب المشروط بالقدرة شرعا لا يصلح ان يزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلا ، وبما انا قد ذكرنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا فيتقدم عليه مطلقا ، ولو كان متأخراً عنه.

ومن ذلك يظهر حال الأمر الثالث أيضا فلا حاجة إلى البيان.

فما أفاده السيد (قده) من التفرقة بين كون الواجب المطلق الفوري ثابتا في الذّمّة قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت وكونه ثابتا فيها بعد حصولها ، وأنه على الأول يتقدم على الحج مطلقا ، وعلى الثاني لا بد من ملاحظة الأهمية في البين ـ لا يرجع إلى معنى صحيح ، لما عرفت من انه لا عبرة بالتقدم أو التأخر الزماني أصلا.

واما الأمر الرابع ، فيظهر فساده مما تقدم من ان النذر مطلقا أي سواء أكان على نحو الواجب المشروط أم على نحو الواجب المعلق ، بان يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، فلا يكون مانعا عن وجوب الحج ، بل قد عرفت ان وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه.

وقد تبين لحد الآن ان ما هو المشهور بين الأصحاب ـ من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة باعتبار ان وجوبه مطلق ووجوب الحج مشروط ، فهو رافع لموضوعه ومانع عن حصول شرطه ـ لا أصل له ، ولا يرجع إلى معنى محصل أصلا.

واما القسم الثاني (وهو ما إذا كان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعا عرضيين) فهل يلاحظ فيه الترجيح فيقدم الأهم على غيره أم لا؟ ثم على فرض

٢٦٢

عدم ملاحظة الترجيح بينهما ، وعدم تقديم الأهم على غيره فهل التخيير الثابت بينهما عقلي أو شرعي ، فهنا مقامان :

الأول ـ ان كبرى مسألة تقديم الأهم على غيره هل تنطبق على المقام (وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا) أم لا؟

الثاني ـ ان الحاكم بالتخيير بينهما في صورة تساويهما أو من جهة انه لا وجه لتقديم الأهم على غيره هل هو الشرع أو العقل؟.

اما المقام الأول ، فقد ذهب شيخنا الأستاذ ـ قده ـ إلى انه لا وجه لتقديم الأهم على غيره. وقد أفاد في وجه ذلك ان الأهمية انما تكون سبباً للتقديم فيما إذا كان كل من الواجبين واجداً للملاك التام فعلا ، واما في مثل مقامنا هذا حيث يكون كل من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا فيستحيل ان يكون كل منهما واجداً للملاك بالفعل ، لفرض ان القدرة دخيلة فيه ، والمفروض ـ هنا ـ انه لا قدرة للمكلف على امتثال كليهما معا ، والقدرة انما هي على امتثال أحدهما دون الآخر. وعليه فيكون الملاك في أحدهما لا في غيره. ومن الظاهر أن أهمية طرف لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر ، ضرورة انا كما نحتمل ان يكون الملاك فيه ، كذلك نحتمل ان يكون في الطرف الآخر ، ومجرد كونه أهم على فرض وجود الملاك فيه لا يكون دليلا على تحققه ووجوده فيه واقعا وحقيقة ، دون ذلك الطرف.

وبتعبير ثان : حيث أن المفروض اشتراط كل من الواجبين بالقدرة شرعا وان لها دخلا في الملاك. ولا ملاك بدونها ، فلا محالة يكون كل منهما صالحا لأن يكون رافعا لملاك الآخر من جهة عدم القدرة عليه بحكم الشارع ، من دون فرق فيه بين ان يكون الملاكان متساويين أو يكون أحدهما أهم من الآخر على فرض وجوده وتحققه. وعلى هذا فأهمية طرف لا تكشف عن وجود الملاك فيه ، دون الطرف الآخر في مقام المزاحمة ، وذلك لصلاحية كل منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر ولو كان أحدهما أهم من الآخر ، ومجرد كون الملاك في طرف أهم على

٢٦٣

تقدير وجوده لا يوجب كونه واجداً له دون الآخر ، فاذن لا وجه لتقديمه عليه في مقام التزاحم.

وأما المقام الثاني فقد اختار ـ قده ـ ان التخيير الثابت فيه تخيير شرعي ، لا عقلي ، غاية الأمر انه قد كشف عنه العقل. والوجه في ذلك واضح وهو ان كلا من الواجبين واجد للملاك في ظرف القدرة عليه عقلا وشرعا ، واما إذا وقع التزاحم بينهما فيكون أحدهما لا بعينه واجداً للملاك ، دون الآخر.

أو فقل ان في فرض التزاحم بما ان أحدهما لا بعينه مقدور للمكلف عقلا وشرعا ، لعدم المانع منه لا من قبل العقل ولا من قبل الشرع ، فلا محالة يكون واجداً للملاك الإلزامي فإذا كان واجداً له فلا مناص من الالتزام بإيجابه ، بداهة انه لا يجوز للمولى الحكيم ان يرفع اليد عن التكليف به مع فرض كونه واجداً للملاك بمجرد عجز المكلف عن امتثال كليهما معا. وعليه فلا مناص من الالتزام بوجوب واحد منهما لا معينا ، لاستقلال العقل بقبح ترخيص المولى في تفويت الملاك الملزم. ونتيجة إيجابه هي التخيير شرعا ـ أعني به وجوب هذا أو ذاك.

وخلاصة ما أفاده ـ قده ـ نقطتان :

الأولى ـ ان أهمية أحد الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا ليست من المرجحات فالوظيفة هي التخيير بينهما مطلقاً.

الثانية ـ ان التخيير الثابت بينهما شرعي لا عقلي.

ولكن كلتا النقطتين خاطئة :

اما النقطة الأولى ، فيردها ان مناط تقديم الأهم على المهم في محل الكلام وترجيحه عليه في مقام المزاحمة لا يكون بملاك انه واجد للملاك دون غيره ، ليقال بعدم إحرازه فيه في هذا المقام ، بل هو بمناط آخر.

بيانه : ان المانع عن تقديم الأهم على المهم في المقام لا يخلو من ان يكون عقليا أو شرعيا فلا ثالث لهما. واما المانع العقلي (وهو عدم القدرة عليه تكوينا) فغير

٢٦٤

موجود بالضرورة ، إذ المفروض انه مقدور تكوينا ووجدانا ، وهذا واضح. واما المانع الشرعي (وهو أمر الشارع بصرف القدرة في غيره الموجب للعجز عن صرفها فيه) فائضا كذلك ، ضرورة انه لا نعنى به إلا أمر الشارع بإتيان شيء لا يقدر المكلف معه على الإتيان بالأهم في الخارج ومقام الامتثال ، فمثل هذا الأمر لا محالة يكون مانعا عن فعلية الأمر بالأهم ، ولكن المفروض ـ هنا ـ عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة في غير الأهم ليكون مانعا عن فعلية أمره. فاذن لا مانع من الأخذ بالأهم وتقديمه على المهم أصلا.

وعلى الجملة فالمهم وان كان مقدوراً ـ عقلا ـ الا انه من ناحية مزاحمته مع الأهم غير مقدور شرعا ، وقد عرفت ان القدرة الشرعية دخيلة في متعلقه ، فلا يكون الأمر به فعليا بدون تلك القدرة ، فإذا لم يكن الأمر المتعلق به فعليا فلا مانع من فعلية الأمر بالأهم.

ومما ذكرناه ظهر انه يمكن إحراز الملاك في الأهم ، وكونه واجدا له دون المهم والوجه في ذلك ان الأهم مقدور للمكلف عقلا وشرعا ، اما عقلا فواضح ، واما شرعا فائضا كذلك ، ضرورة انه لا مانع منه ما عدا تخيل ان الأمر بالمهم مانع ، وقد عرفت ان هذا خيال لم يطابق الواقع ، وذلك لاستحالة كون الأمر بالمهم في حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعليا ، ضرورة عدم قدرة المكلف في تلك الحال على امتثاله بحكم الشرع ، حيث انه يوجب تفويت واجب أهم منه. ومن المعلوم انه لا يجوز امتثال ما يوجب تفويت ما هو أهم منه بنظر الشرع. ونتيجة ذلك هي انه لا مانع من كون الواجب الأهم واجداً للملاك الملزم في هذا الحال لا عقلا ولا شرعا.

وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من أن وجود الملاك في كل منهما مشكوك فيه ، لصلاحية كل واحد منهما لأن يكون رافعا لملاك الآخر من دون فرق بين تساوى الملاكين وكون أحدهما أهم من الآخر لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما عرفت من الضابط لتقديم الأهم على المهم في المقام من ناحية وكونه واجداً للملاك

٢٦٥

من ناحية أخرى ، وان كانت الناحية الأولى مترتبة على الناحية الثانية ، كما هو واضح. هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما معلوم الأهمية.

واما إذا كان محتمل الأهمية فهل يتقدم في مقام المزاحمة على الطرف الآخر الّذي لا تحتمل أهميته أصلا ـ كما هو الحال فيما إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا أم لا؟ وجهان : الظاهر انه لا مانع من التقديم. والوجه في ذلك هو ان المكلف بعد ما لا يتمكن من امتثال كلا الواجبين معا ، ويتمكن من امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة يدور أمره بين امتثال أحدهما تخييراً ، وامتثال خصوص ما تحتمل أهميته. وعليه فيدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير مقام الامتثال والحجية وان كان الصحيح هو جريان البراءة عن التعيين ، الا ان في هذين المقامين لا مناص من الاشتغال والالتزام بالتعيين ، وذلك لأن حصول البراءة بامتثال ما تحتمل أهميته معلوم ، اما من جهة التعيين أو التخيير ، واما حصولها بامتثال ما لا تحتمل أهميته فغير معلوم. ومن الواضح جداً ان العقل لا يكتفى في مقام الامتثال بالشك فيه بعد اليقين بالتكليف بل يلزم بتحصيل اليقين بالبراءة عنه ، بقاعدة ان الاشتغال اليقينيّ يقتضى الفراغ اليقينيّ ، وكذا الحال في مقام الحجية فان حجية ما يحتمل تعيينه معلومة ولا مناص من الالتزام به ، وحجية ما لا يحتمل تعيينه مشكوكة. وقد حققنا ان الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فعلا ، وهذا هو السر في افتراق هذين المقامين عن غيرهما.

ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن هي ان الأهم وكذا محتمل الأهمية من المرجحات في المقام ، كما انهما من المرجحات في الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا فحسب.

واما النقطة الثانية ، فيردها ان المفروض قدرة المكلف على امتثال كل من الواجبين المتزاحمين في نفسه ، وفي ظرف ترك الآخر عقلا وشرعا. هذا من

٢٦٦

ناحية. ومن ناحية أخرى ان الشارع لم يأمر بخصوص أحدهما المعين ، لأنه ترجيح من دون مرجح.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا مانع من أمر الشارع بكليهما طولا وعلى نحو الترتب ، بان يكون تعلق الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر ومترتباً عليه ، بل لا مناص من الالتزام بذلك. والوجه فيه هو ان الأمر في المقام يدور بين ان يرفع اليد عن إطلاق كل من دليليهما بتقييد الأمر في كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر ، وان يرفع اليد عن أصل وجوب كل منهما رأساً. ومن المعلوم ان المتعين هو الأول دون الثاني ، ضرورة ان رفع اليد عن أصل الأمر بهما بلا سبب ، إذ انه لا يقتضى أزيد من رفع اليد عن إطلاق كل منهما مع التحفظ على أصله.

ونتيجة ذلك هي الالتزام بالترتب من الجانبين : بمعنى ان تعلق الأمر بكل من الفعلين مشروط بعدم الإتيان بمتعلق الآخر ، ولا مانع من ذلك أصلا لا عقلا كما هو واضح ، إذ المفروض ان كل منهما مقدور عقلا في ظرف ترك امتثال الآخر والإتيان بمتعلقه ، ولا شرعا لفرض انه ليس هناك أي مانع شرعي عن تعلق الأمر بكل واحد منهما في نفسه ، وفي ظرف ترك الآخر ، إذ المفروض ان كلا من الفعلين في ذاته ومع قطع النّظر عن الآخر سائغ ، ومعه لا مانع من تعلق الأمر بهما كذلك وبه نستكشف وجود الملاك في كل منهما في نفسه ، وعند ترك الآخر.

وعلى الجملة فقد ذكرنا سابقاً انه لا فرق في جريان الترتب بين ما يكون كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا ، وما يكون مشروطا بها شرعا ، فكما انه يجري في الأول ، فكذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة.

ودعوى ـ ان جريان الترتب في مورد يتوقف على إحراز الملاك فيه ، وهو في المقام لا يمكن ، لفرض دخل القدرة الشرعية فيه ـ مدفوعة بما ذكرناه هناك من ان جريان الترتب لا يتوقف عليه ، ضرورة ان إحرازه لا يمكن إلا بعد إثبات

٢٦٧

الأمر ، فلو توقف إثبات الأمر على إحرازه لدار ، كما قدمناه بشكل واضح.

فتحصل انه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا. وقد تقدم انه لا فرق في إمكان الترتب واستحالته بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين. واما عدم التزام شيخنا الأستاذ ـ قده ـ به في المقام مع انه من القائلين به مطلقا من دون فرق بين أن يكون من طرف أو من طرفين فمن جهة ما بنى ـ قده ـ على أصل فاسد ، وهو أن الترتب لا يجري فيما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية ـ كما عرفت.

وعلى هذا الأساس يترتب ان التخيير بينهما تخيير عقلي ، كالتخيير بين الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا ، فان المكلف بعد ما لا يتمكن من امتثال كلا التكليفين معا فلا محالة يكون مخيراً بين امتثال هذا وامتثال ذاك بحكم العقل ، فلا موضوع عندئذ للتخيير الشرعي أصلا. وتظهر الثمرة في المقام بين كون التخيير شرعيا ، وكونه عقليا فيما إذا كان المكلف تاركا لامتثال كلا الواجبين معاً ، فانه على الأول يستحق عقابا واحداً ، لوحدة التكليف على الفرض. وعلى الثاني يستحق عقابين ، لما عرفت من ان لازم القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التكليف. وقد ذكرنا انه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب ، بل لا مناص عنه ، وانه لا يكون عقاباً على ترك ما ليس بالاختيار ، فان تعدد العقاب من جهة الجمع بين التركين ، لا من جهة ترك الجمع بينهما ، وقد مر بيان ذلك بصورة واضحة فلا حاجة إلى الإعادة.

واما القسم الثالث (وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا) فيقع الكلام فيه في مقامين :

الأول ـ فيما إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر ، أو محتمل الأهمية.

الثاني ـ فيما إذا كانا متساويين.

أما المقام الأول فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم سواء أكان الأهم مقارنا مع المهم زمانا أو سابقاً عليه أو متأخراً عنه. أما في الأوليين فواضح ، وذلك

٢٦٨

لأن التكليف بالأهم يصلح ان يكون معجزاً مولوياً للمكلف بالإضافة إلى الطرف الآخر وهو المهم ، واما التكليف بالمهم فلا يصلح أن يكون كذلك ، فتكون نسبته إلى الأهم كنسبة المستحب إلى الواجب ، فكما ان المستحب لا يصلح ان يزاحم الواجب في مقام الامتثال ، فكذلك المهم لا يصلح ان يزاحم الأهم.

أو فقل : ان التزاحم سواء أكان بين التكليفين أم بين الإطلاقين فلا محالة يوجب سقوط أحدهما دون الآخر ، إذ سقوط كليهما غير محتمل ، ضرورة انه بلا موجب. وعليه فيدور الأمر بين سقوط المهم دون الأهم ، وبالعكس ، ومن الواضح جداً ان الثاني غير معقول ، لأنه ترجيح المرجوح على الراجح ، فاذن يتعين الأول ، وهذا معنى تقديم الأهم على المهم ، وأمثلة ذلك في الشرع والعرف كثيرة : منها ـ ما إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الإسلام ـ مثلا ـ وواجب آخر ، فلا إشكال في تقديم الأول على الثاني في مقام الامتثال. ومنها ـ ما إذا دار الأمر بين حفظ نفس مؤمن ـ مثلا ـ وحفظ ماله أو نحوه فلا ينبغي الشك في تقديم الأول على الثاني ، لكونه أهم منه ، وهكذا. وأما في الصورة الأخيرة فالامر أيضاً كذلك. والوجه فيه هو ان الأهم وان كان متأخراً عن المهم زماناً ، إلا ان ملاكه بما انه تام في ظرفه وأهم من غيره ، فلا محالة وجب حفظ القدرة عليه في وقته ، لئلا يفوت ، ضرورة ان العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي ، كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه وعلى ، هذا حيث ان الإتيان بالمهم فعلا يوجب تفويت ملاك الأهم في ظرفه فلا يجوز ، فيكون حكم العقل بوجوب حفظ القدرة عليه في زمانه معجزاً للمكلف بالإضافة إلى امتثال المهم بالفعل.

وبتعبير ثان ان الحاكم بالترجيح في باب المزاحمة حيث انه كان هو العقل لا غيره ، فمن الواضح جداً انه مستقل بتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال ـ مطلقاً ـ ولو كان الأهم متأخراً عنه زماناً ، كما في مفروض المقام ، فانه يحكم بلزوم حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه ، لئلا يلزم منه تفويت الملاك الملزم فيه ، ولا يحكم

٢٦٩

بلزوم الإتيان بالمهم فعلا ، بل يحكم بعدم جواز الإتيان به ، لاستلزامه تفويت ما هو الأهم منه ، ومثاله ما إذا دار الأمر بين حفظ مال الإنسان ـ مثلا ـ فعلا ، وحفظ نفسه في زمان متأخر ، بان لا يقدر على حفظ كليهما معاً ، فلو صرف قدرته في حفظ ماله فعلا فلا يقدر على حفظ نفسه ولو عكس فبالعكس ، كما إذا فرض أن الحاكم حكم بمصادرة أمواله فعلا ، وهو وان كان قادراً على حفظ ماله بالشفاعة عنده ، إلا انه يعلم بأنه يحكم بعد بضع ساعات بقتل نفسه ، فلو توسط عنده فعلا لحفظ ماله ، فلا يقبل توسطه فيما بعد لحفظ نفسه ، لفرض انه لا يقبل توسطه في اليوم الآمرة واحدة ، فاذن يدور امره بين ان يحفظ نفسه في زمان متأخر ويرفع يده عن حفظ ماله فعلا ، وان يحفظ ماله فعلا ويرفع يده عن حفظ نفسه فيما بعد ، ففي مثل ذلك لا إشكال في حكم العقل بترجيح الأول على الثاني ، وتقديمه عليه ، وكذا إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلى آخر وحفظ نفس محترمة في زمان متأخر بان لا يقدر المكلف على امتثال الأول وحفظ الثانية معاً ، فانه لا إشكال في وجوب حفظ القدرة على الواجب المتأخر ، وهو حفظ النّفس المحترمة ورفع اليد عن وجوب الواجب الفعلي. وهكذا.

ثم انه لا يخفى ان ما ذكرناه من تقديم الواجب الأهم على المهم فيما إذا كان متأخراً عنه زمانا بناء على وجهة نظرنا من إمكان الواجب المعلق واضح ، حيث ان الوجوب فعلى على الفرض والواجب أمر متأخر. ومن المعلوم ان فعلية الوجوب تكشف عن كون الواجب في ظرفه واجداً للملاك الملزم. وقد عرفت انه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الإلزاميّ ، فكما انه يحكم بقبح الأول ، فكذلك يحكم بقبح الثاني.

وعلى ذلك فان لم يكن ملاك الواجب المتأخر في ظرفه أهم من ملاك الواجب الفعلي ، وكانا متساويين فيحكم العقل بالتخيير بينهما ، وعدم ترجيح الواجب الفعلي على المتأخر ، لعدم العبرة بالسبق الزماني في المقام أصلا.

٢٧٠

وما ذكرناه سابقاً ـ من ان ما هو أسبق زماناً يتقدم على غيره ـ انما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلا. ونقطة الفرق بينهما هي انه على الأول بما ان كلا منهما مشروط بالقدرة شرعاً ، ففي فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زماناً على الآخر ، حيث ان ملاكه تام بالفعل من ناحية انه مقدور للمكلف عقلا وشرعاً ، ومعه لا عذر له في تركه أصلا. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا يجب احتفاظ القدرة على الواجب المتأخر ، لفرض ان القدرة دخيلة في ملاكه ، فيستحيل أن يقتضى احتفاظها.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا بد من الإتيان بالمتقدم زماناً دون المتأخر. ومن الواضح ان الإتيان به يوجب عجزه عنه ، فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وعلى الثاني بما ان كلا منهما مشروط بالقدرة عقلا ، فلا يكون سبق أحدهما زماناً على الآخر في فرض المزاحمة من المرجحات ، لما عرفت من أن ملاك الواجب المتأخر حيث انه تام في ظرفه ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يقتضى الاحتفاظ عليه في ظرفه في مقابل افتضاء الواجب الفعلي.

واما بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من استحالة الواجب التعليقي وعدم إمكانه فتقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً يرتكز على إحراز الملاك فيه في ظرفه من دليل خارجي ، فان علم من الخارج اشتماله على الملاك ، كما إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلى كحفظ مال المولى ـ مثلا ـ وواجب متأخر كحفظ نفسه أو حفظ بيضة الإسلام ، أو ما شاكل ذلك من الواجبات التي قد اهتم الشارع بها غاية الاهتمام على نحو الإطلاق من دون اختصاص بوقت دون آخر ، فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم ، وان كان متأخراً عنه زماناً ، لتمامية ملاكه الإلزامي في وقته. وقد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة عليه في ظرفه وعدم جواز صرفها في الواجب الفعلي ، ففي أمثال هذه الموارد لا فرق بين نظريتنا

٢٧١

ونظرية شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ضرورة انه لا أثر لفعلية الوجوب ما عدا كشفه عن اشتماله (أي الواجب المتأخر) على الملاك في ظرفه ، وإذا علمنا بتحقق الملاك فيه واشتماله عليه فلا أثر لفعلية الوجوب وعدمها. واما إذا ـ لم يعلم من الخارج بوجود الملاك فيه ، كما إذا لم تكن قرينة خارجية تدل عليه ، والمفروض انه ليس هنا قرينة داخلية أيضا ، وهي ثبوت الوجوب ، فلا يمكن عندئذ استكشاف الملاك في شيء ، لما ذكرناه غير مرة من انه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في فعل مع قطع النّظر عن ثبوت الحكم له ـ فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي ، ضرورة انه مع عدم إحراز الملاك فيه في ظرفه لا يحكم العقل باحتفاظ القدرة عليه ، وبدون حكمه فلا مانع من امتثال الواجب الفعلي أصلا ، ففي مثل تلك الموارد تفترق نظريتنا عن نظرية شيخنا الأستاذ ـ قده ـ فعلى نظريتنا بما ان الوجوب فعلى ، والواجب أمر متأخر فهو لا محالة يكشف عن وجود الملاك فيه وكونه تاماً ، وإلا لم يعقل كون وجوبه فعلياً. وعلى نظريته ـ قده ـ حيث انه لا وجوب فعلا فلا كاشف عن كونه واجداً للملاك في وقته. وعليه فلا وجه لتقديمه على المهم وهو الواجب الفعلي.

وقد تحصل مما ذكرناه ان تقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً منوط ـ على نظرية شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بإحراز الملاك فيه من الخارج ، وإلا فلا يمكن الحكم بالتقديم أصلا ، بل يتعين العكس كما لا يخفى ، وكيف كان فعلى فرض كونه مشتملا على الملاك في ظرفه يتقدم على المهم لا محالة ، ولو كان متأخرا عنه زماناً ، وكلامنا في المقام على نحو الفرض والتقدير ، والكبرى الكلية من دون نظر إلى مصاديقها وافرادها.

هذا ، ولكن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ هنا قد مثل لذلك أي لتزاحم الواجبين الطوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا بما إذا لم يكن المكلف متمكناً من القيام في جزءين طوليين من الصلاة. ولا يخفى ما في هذا المثال.

٢٧٢

اما أولا فلما ذكرناه غير مرة من ان التزاحم لا يجري في اجزاء واجب واحد أو شرائطه.

واما ثانياً : فلأنه مناف لما ذكره ـ قده ـ من اشتراط اجزاء الصلاة بالقدرة شرعاً. وعليه فلا مناص من تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره ، ولو كان ذلك الغير أهم منه ، كما عرفت.

فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن ان الواجب الأهم يتقدم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً ، ولو كان متأخراً عنه زماناً فيما إذا كان مشروطاً بالقدرة عقلا ، سواء أكان المهم أيضاً كذلك أم لا. نعم إذا كان الأهم مشروطاً بالقدرة شرعاً فلا يتقدم على المهم في فرض تأخره عنه زماناً ، بل يتقدم المهم عليه ، ولو كان مشروطاً بها شرعاً.

واما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمية دون الآخر فهل يكون مرجحاً لتقديمه عليه أم لا؟ فقد ذكر شيخنا الأستاذ ـ قده ـ انه بناء على القول بالتخيير الشرعي في المتساويين يكون المقام داخلا في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين التي ذكرناها في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فان قلنا في تلك المسألة بالاشتغال والتعيين فلا بد ان نقول به في هذه المسألة أيضاً ، وان قلنا هناك بالبراءة والتخيير فلا بد ان نقول به في المقام أيضاً ، وعلى الجملة فمسألتنا هذه من صغريات كبرى تلك المسألة ، فيبتني الحكم فيها على الحكم في تلك من البراءة أو الاشتغال.

واما بناء على القول بالتخيير العقلي في المتساويين فقد ذكر ـ قده ـ انه لا إشكال في تقديم ما تحتمل أهميته على غيره ، والوجه في ذلك هو ان التكليفين المتزاحمين إذا كانا متساويين فلا إشكال في سقوط إطلاقيهما وحكم العقل بالتخيير بينهما بمعنى حكمه بثبوت كل واحد منهما مترتباً على ترك الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه من دون فرق بين ان يكون

٢٧٣

من جانب واحد أو من جانبين ، كما في مثل المقام ، ضرورة ان العقل لا يجوز رفع اليد عن أصل التكليفين معاً ، فانه بلا موجب ومقتض. ومن الواضح انه لا يجوز رفع اليد عن التكليف بلا سبب يقتضى رفعه ، فالمقتضى (وهو المزاحمة) في المقام لا يقتضى إلا رفع اليد عن ثبوت كل منهما على تقدير الإتيان بالآخر ، لا مطلقاً ، وهذا عبارة أخرى عن ثبوت كل منهما على تقدير ترك الآخر.

ويترتب على ذلك ان المكلف مخير بين امتثال هذا وامتثال ذاك.

واما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر ففي مثل ذلك لا شبهة في أن الإتيان بالطرف المحتمل أهميته يوجب القطع بسقوط التكليف عن الطرف الآخر ، وذلك لأن ما أتى به على تقدير كونه أهم في الواقع ونفس الأمر فهو الواجب ، دون غيره ، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب لا محالة.

وان شئت قلت انه بناء على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمية أحدهما دون الآخر ، فقد علمنا بسقوط الإطلاق عن الآخر ، وباشتراطه بعدم الإتيان بمتعلق الأول ، واما ما يحتمل أهميته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بد من الأخذ به.

وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمية على غيره في مقام المزاحمة. إلى هنا قد ثم بيان ما أفاده ـ قده ـ مع توضيح منا.

ونناقش ما أفاده ـ قده ـ من ناحيتين :

الأولى ـ انه لا تظهر الثمرة فيما نحن فيه بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين ، والقول بالتخيير العقلي فيهما على وجهة نظره ـ قده ـ في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين حيث انه ـ قده ـ قد التزم في تلك المسألة بالاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة على ما نطق به كلامه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وبما أن مسألتنا هذه على الفرض الأول داخلة في كبرى تلك المسألة فلا مناص له من الالتزام بالاحتياط فيها ، ولزوم الأخذ بالطرف

٢٧٤

المحتمل أهميته ، وعليه فالنتيجة على هذا القول بعينها هي النتيجة على القول بالتخيير العقلي ، وهي تعين الأخذ بالطرف المحتمل أهميته ، دون الطرف الآخر ، فاذن لا فرق بين القولين من هذه الناحية أصلا.

الثانية ـ ان المقام على القول المزبور أعني القول بالتخيير الشرعي في المتساويين وان كان داخلا في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين إلا ان التعيين والتخيير في خصوص المقام حيث انهما كانا في مقام التزاحم والامتثال فلا مناص من الالتزام بعدم جريان البراءة عن التعيين ووجوب الأخذ به ، وان قلنا بجريان البراءة في تلك الكبرى ، كما فصلنا الكلام من هذه الناحية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

وتوضيح ذلك هو ان مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول ـ ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجية وإنشائها في مرحلة التشريع والاعتبار ، كما لو شككنا في ان حجية فتوى الأعلم هل هي تعينية أو ان المكلف مخير بين الأخذ به والأخذ بفتوى غير الأعلم.

الثاني ـ ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية من جهة التزاحم.

الثالث ـ ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع ، فلا يعلم ان التكليف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصية فيه أو مجعول لحصة خاصة منه ، كما لو شككنا في أن وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة هل هو تعييني أو تخييري.

وبعد ذلك نقول انا قد ذكرنا في غير مورد ان البراءة لا تجري في القسمين الأولين ، ولا بد فيهما من الالتزام بوجوب الاحتياط. واما في القسم الأخير فالصحيح هو جريان البراءة فيه ، فهاهنا دعويان :

الأولى ـ عدم جريان أصالة البراءة في القسمين الأولين.

٢٧٥

الثانية ـ جريان البراءة في القسم الأخير.

اما الدعوى الأولى ، فقد ذكرنا غير مرة ان الشك في حجية شيء في مقام الجعل والتشريع مساوق للقطع بعدم حجيته فعلا ضرورة انه مع هذا الشك لا يمكن ترتيب آثار الحجة عليه وهي اسناد مؤداه إلى الشارع ، والاستناد إليه في مقام الجعل ، للقطع بعدم جواز ذلك ، لأنه تشريع محرم. ومن المعلوم انا لا نعنى بالحجية الفعلية إلا ترتيب تلك الآثار عليها ، وعليه فإذا دار الأمر بين حجية شيء كفتوى الأعلم مثلا تعييناً ، وحجيته تخييراً فلا مناص من الأخذ به ، وطرح الطرف الآخر للقطع بحجيته واعتباره فعلا اما تعييناً أو تخييراً ، والشك في حجية الآخر كفتوى غير الأعلم واعتباره. وقد عرفت أن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها ، وهذا واضح.

وكذا الحال في مقام الامتثال ، فانه إذا دار الأمر بين امتثال شيء تعييناً أو تخييراً ، فلا مناص من التعيين والأخذ بالطرف المحتمل تعيينه ، ضرورة ان الإتيان به يوجب القطع بالأمن من العقاب واليقين بالبراءة ، وذلك لأنه على تقدير كونه أهم من الآخر فهو الواجب ، وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب واحد فرديه. ومن المعلوم ان الإتيان به كاف في مقام الامتثال ، وهذا بخلاف الطرف الّذي لا تحتمل أهميته أصلا ، فان الإتيان به لا يوجب القطع بالبراءة والأمن من العقاب ، لاحتمال أن لا يكون واجباً في الواقع ـ أصلا ـ وانحصار الوجوب بالطرف الأول. ومن الواضح جداً ان العقل يستقل في مرحلة الامتثال بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة والأمن من العقوبة بقانون ان الاشتغال اليقينيّ يقتضى البراءة اليقينية ، وبما ان المفروض في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال اشتغال ذمة المكلف بالواجب. فيجب عليه بحكم العقل تحصيل بالبراءة عنه والأمن من العقوبة ، وحيث انه لا يمكن الا بإتيان الطرف المحتمل أهميته ، فلا محالة ألزمه العقل بالأخذ به وإتيانه ، وهذا معنى حكم العقل

٢٧٦

بالتعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في مسألة التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال والفعلية.

وبتعبير واضح ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ في مقام الامتثال والفعلية ـ منحصر بباب التزاحم بين التكليفين لا غير ، ومن الواضح ان المزاحمة ـ بناء على ما حققناه من إمكان الترتب ـ لا تقتضي إلا سقوط إطلاق أحدهما إذا كان في البين ترجيح ، وسقوط إطلاق كليهما إذا لم يكن ترجيح في البين.

وعلى هذا الأساس انه إذا كان أحد التكليفين المتزاحمين معلوم الأهمية فلا إشكال في تقديمه على الآخر ، كما سبق واما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر فيدور أمر المكلف بين الإتيان به والإتيان بالطرف الآخر ، ولكنه إذا أتى به مأمون من العقاب ، ومعذور في ترك الآخر. وذلك لأن جواز الإتيان بهذا الطرف معلوم على كل تقدير ، أي سواء أكان أهم في الواقع أم كان مساوياً له ، وبالطرف الآخر غير معلوم. ومن الواضح جداً ان العقل يلزم بامتثال هذا الطرف وإتيانه ، لأنه يوجب الأمن من العقاب على تقدير مخالفة الواقع ، وحصول القطع بالبراءة ، دون الإتيان بذاك الطرف ، لاحتمال انه غير واجب في الواقع ، وانحصار الوجوب بالطرف المزبور ، ومعه لا يكون الإتيان به موجباً لحصول القطع بالبراءة. وقد عرفت ان همّ العقل في مقام الامتثال تحصيل الأمن من العقوبة والقطع بالفراغ.

ونظير المقام ما إذا شك في البراءة من جهة الشك في القدرة على الامتثال ، كما إذا شك في وجوب النفقة من جهة الشك في وجود المال عنده ، وانه قادر على دفعها أم لا ، فلا يمكن له أن يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوبها. وذلك لأن المفروض ان ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة. ومن الواضح ان الاشتغال اليقينيّ يقتضى الفراغ اليقينيّ فاذن لا يمكن حصول البراءة إلا بالفحص والاستعلام عن وجود المال عنده.

٢٧٧

والوجه فيه هو ان مجرد احتمال كونه عاجزاً عن امتثال التكليف الثابت على ذمته لا يكون عذراً له في تركه وعدم امتثاله عند العقل ما لم يحرز عجزه عنه وعدم قدرته عليه ، ضرورة ان ترك امتثال التكليف لا بد ان يستند إلى مؤمن ، ومن المعلوم ان مجرد احتمال العجز لا يكون مؤمناً ، فاذن لا مناص من الأخذ بالاحتياط.

فقد تحصل مما ذكرناه انه بناء على وجهة نظرنا أيضاً لا تظهر الثمرة بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين ، والقول بالتخيير العقلي فيهما ، فعلى كلا القولين لا مناص من الاحتياط والأخذ بالطرف المحتمل أهميته ، غاية الأمر بناء على التخيير العقلي سقوط أحد الإطلاقين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه ، ومع الشك لا بد من الأخذ به ، وبناء على التخيير الشرعي سقوط أحد التكليفين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه وما لم يثبت سقوطه لا يعذر من مخالفته ، ولكن النتيجة واحدة.

واما الدعوى الثانية (وهي جريان البراءة في القسم الأخير من الأقسام المتقدمة) فلان الشك فيه يرجع إلى الشك في كيفية جعل التكليف ، وانه تعلق بالجامع أو بخصوص فرد خاص ، كما لو شككنا في أن وجوب كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان متعلق بالجامع بين صوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً ، أو متعلق بخصوص صوم شهرين ، وحيث ان مرجع ذلك إلى الشك في إطلاق التكليف ، وعدم أخذ خصوصية في متعلقه ، وتقييده بأخذ خصوصية فيه ، والإطلاق والتقييد على ما ذكرناه وان كانا متقابلين بتقابل التضاد ، إلا ان التقييد بما أن فيه كلفة زائدة فهي مدفوعة بأصالة البراءة عقلا ونقلا. وهذا بخلاف الإطلاق ، حيث انه ليس فيه أية كلفة لتدفع بأصالة البراءة ، فاذن ينحل العلم الإجمالي بجريان الأصل في أحد طرفيه دون الآخر. وتفصيل الكلام في ذلك في بحث البراءة والاشتغال.

والغرض من التعرض هنا الإشارة إلى عدم صحة ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من الأخذ بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً.

٢٧٨

واما المقام الثاني (وهو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين ولم تحتمل أهمية أحدهما على الآخر أصلا ، أو احتملت أهمية كل منهما بالإضافة إلى الآخر) فلا مناص من الالتزام بالتخيير فيه ، ضرورة انه لا يجوز رفع اليد عن كليهما معاً فهذا لا كلام فيه ، وإنما الكلام في ان هذا التخيير عقلي أو شرعي.

وقد اختار شيخنا الأستاذ ـ قده ـ في المقام ان التخيير عقلي على عكس ما اختاره في المسألة المتقدمة ، وهي ما إذا كان كل من الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً.

وغير خفي أن كون التخيير في المقام عقلياً أو شرعياً يرتكز على القول بإمكان الترتب واستحالته.

فعلى الفرض الأول لا بد من القول بكون التخيير عقلياً.

والوجه في ذلك واضح ، وهو ان لازم هذا الفرض ثبوت كل من التكليفين المتزاحمين على نحو الترتب والاشتراط ، بمعنى ان فعلية كل منهما مشروطة بترك امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه خارجاً ، فان معنى الترتب من الجانبين يرجع إلى تقييد إطلاق كل من التكليفين بعدم امتثال الآخر.

ومن المعلوم ان هذا التقييد ليس أمراً حادثاً بحكم العقل فعلا ، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف بالقدرة عقلا من الأول ، فان ذلك الاشتراط يقتضى هذا التقييد من الجانبين إذا كانا متساويين ، ومن جانب واحد إذا كان أحدهما واجداً للترجيح ، وليس معنى التخيير ـ هنا ـ تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ، ليقال انه غير معقول ، ضرورة انه باق على حاله ، غاية الأمر ان المزاحمة تقتضي رفع اليد عن إطلاقه ، لا عن أصله ، فان الضرورة تتقدر بقدرها ، بل معناه هو تخيير المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك ، وهذا نتيجة عدم قدرته على امتثال كليهما معاً من جانب ، وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر من جانب ثان ، وعدم جواز رفع اليد عنهما معاً من جانب ثالث.

٢٧٩

وعلى الفرض الثاني لا مناص من الحكم بكون التخيير شرعياً.

والوجه فيه هو ان لازم هذا الفرض سقوط كلا التكليفين المتزاحمين معاً ، فلا هذا ثابت ، ولا ذاك ، ولكن حيث انا نعلم من الخارج ان الشارع لم يرفع اليد عن كليهما معاً ، لأن الموجب لذلك ليس إلا عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. ومن الواضح جداً ان هذا لا يوجب ذلك ، فان الضرورة تتقدر بقدرها ، وهي لا تقتضي إلا رفع اليد عن أحدهما دون الآخر ، لكونه مقدوراً له عقلا وشرعاً ، وبذلك نستكشف ان الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة ، والا لزم ان يفوت غرضه ، وهو قبيح من الحكيم ، وهذا معنى كون التخيير شرعياً.

إلى هنا قد تبين ان التكليفين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلا فان كانا عرضيين وكان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية فلا إشكال في تقديمه عليه. واما إذا كانا متساويين من جميع الجهات فلا إشكال في التخيير ، كما مر. واما ان كانا طوليين فان كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية فائضاً يتقدم عليه على تفصيل قد تقدم فلاحظ. هذا كله فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر قدرة مطلقة ، كما هو المفروض لا قدرة خاصة.

واما إذا كانت القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً ، كما لو نذر أحد صوم يومي الخميس والجمعة ، ثم علم بأنه لا يقدر على صوم كلا اليومين معا ، ففي مثل ذلك لا إشكال في لزوم تقديم ما هو أسبق زمانا على الآخر ، فيقدم في المثال صوم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة ، لكونه مقدما عليه زمانا ، وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر وتركه في صلاة العصر ، أو بين ترك القيام في صلاة المغرب وتركه في صلاة العشاء ، بأن لا يقدر المكلف على الإتيان بكلتا الصلاتين مع القيام ، فيقدم ما هو أسبق زماناً على الآخر.

والوجه في ذلك واضح وهو أن المكلف حيث انه كان قادراً على الصوم يوم

٢٨٠