محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

لا يكون واجباً في هذا الحال على الفرض ، ليستحق العقاب على تركه ودعوى الإجماع عليه في هذا الفرض من الغرائب كما لا يخفى. على ان استحقاق العقاب ليس من الأحكام الشرعية ، ليمكن دعوى الإجماع عليه. هذا مع ان كلمات كثير من الأصحاب خالية عن ذلك.

واما على الثاني فلا شبهة في ان الحكم في الواقع حينئذ يكون هو التخيير بين الجهر والإخفات والقصر والتمام ، ولازم ذلك ان يكون الإتيان بالقصر أو الإخفات مجزياً كما هو شأن كل واجب تخييري ، وعلى هذا فلا موضوع لاستحقاق العقاب بعد الإتيان بأحد طرفي التخيير ، وان لم يكن المكلف حال العمل ملتفتاً إليه ، ضرورة ان الالتفات إليه ليس من أحد شرائط صحة الإتيان بأحد طرفيه.

وقد تحصل مما ذكرناه امران :

الأول ـ انه يمكن دفع الإشكال المزبور عن المسألتين المتقدمتين بوجهين :

أحدهما ـ الالتزام بالترتب في مقام الجعل ، وقد عرفت انه لا مانع منه أصلا ، غاية الأمر ان وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل ، وقد دل الدليل على وقوعه فيهما.

ثانيهما ـ ما ذكرناه لحد الآن من انه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا كما عرفت.

الثاني ـ ان نقطة الامتياز بين هذين الجوابين هي ان الجواب الأول ناظر إلى انه لا مانع من الجمع بين الأمرين المزبورين أعني بهما صحة التمام في موضع القصر والجهر في موضع الخفت أو بالعكس ، واستحقاق العقاب على مخالفة الواقع فانه بناء على القول بصحة الترتب فيهما لا إشكال في الالتزام بالجمع بين هذين الأمرين ، بل هو لازم ضروري للقول بالترتب ، كما عرفت الكلام فيه بصورة مفصلة. والجواب الثاني ناظر إلى انه مع الحكم بصحة التمام في موضع القصر والجهر في موضع الخفت وبالعكس كما هو صريح صحيحة زرارة لا يمكن الحكم

١٨١

باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، لما عرفت من انه مع قطع النّظر عن الترتب فالحكم بالصحّة يبتنى على أحد التقديرين المتقدمين هما : كون التمام أو الجهر ـ مثلا ـ واجباً تعيينياً في ظرف الجهل وكونه أحد فردي الواجب التخييري. وعلى كلا التقديرين لا مجال لاستحقاق العقاب أصلا. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الثاني ـ ان الترتب كما يجري بين الواجبين المضيقين أحدهما أهم من الآخر كما سبق فهل يجري بين الواجبين أحدهما موسع والآخر مضيق أم لا؟

قد اختار شيخنا الأستاذ (قده) جريانه فيهما ، ببيان ان الواجب المهم إذا كان موسعاً له افراد كثيرة ، وكان بعض افراده مزاحماً للأهم دون بعضها الآخر فبناء على ما ذكرناه من ان اعتبار القدرة في متعلق التكليف من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك فلا محالة يتقيد المأمور به بالحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة فيخرج غير المقدور من الافراد عن إطلاقه. وعليه فلا محالة يتوقف شمول الإطلاق للفرد المزاحم على القول بإمكان الترتب وجوازه ، فان قلنا به يدخل في الإطلاق عند عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه ، وإلا فهو خارج عنه مطلقاً.

نعم يمكن الحكم بصحته حينئذ من جهة اشتماله على الملاك واما بناء على ما ذكره المحقق الثاني (قده) من ان اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو من ناحية حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، فلا نحتاج في الحكم بصحة الفرد المزاحم إلى القول بالترتب والالتزام به ، بل يمكن القول بها ولو قلنا باستحالة الترتب. والوجه في ذلك هو ان الطبيعة المأمور بها بما انها مقدورة للمكلف ولو بالقدرة على بعض افرادها ـ كما هو المفروض ـ فلا مانع من تعلق الأمر بها على إطلاقها.

وعليه فيصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة إذ الانطباق قهري والاجزاء عقلي.

أقول : الكلام في ذلك مرة يقع من ناحية ان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هل هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو اقتضاء نفس التكليف ذلك.

١٨٢

ومرة أخرى يقع من ناحية ان المهم إذا كان موسعاً وكان بعض افراده مزاحماً بالأهم ، أيمكن إثبات صحته بالترتب أم لا؟

اما الكلام في الناحية الأولى فقد ذكرنا ان القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف أصلا ، لا من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك ، وانما هي معتبرة في ظرف الامتثال والإطاعة ضرورة ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبارها في تلك المرحلة وقد تقدم الكلام في ذلك بصورة مفصلة وقد أوضحنا هناك بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من وجوه فلاحظ.

واما الكلام في الناحية الثانية فجريان الترتب فيه يبتنى على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) من ان استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، وبما ان تقييد المهم في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال فإطلاقه بالإضافة إليه أيضاً محال. وعليه فلا يمكن الحكم بصحته من جهة الإطلاق ، فلا محالة تبتنى صحته على القول بالترتب مع قطع النّظر عن كفاية الملاك غاية الأمر ان الترتب هنا انما هو في إطلاق الواجب المهم بمعنى ان إطلاقه مترتب على ترك الواجب الأهم ، وهذا بخلاف الترتب في غير المقام ، فان هناك أصل الخطاب بالمهم مترتب على ترك امتثال الخطاب بالأهم ، لا إطلاقه. وعلى كل حال فالترتب في المقام مبتن على مسلكه (قده).

ولكن قد ذكرنا غير مرة ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضاد فاستحالة أحدهما في مورد لا يستلزم استحالة الآخر وعليه فلا يتوقف الحكم بصحته على القول بجواز الترتب» ضرورة انه عندئذ يمكن الإتيان به بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة.

وعلى الجملة فجريان الترتب فيما إذا كان الواجب المهم موسعاً والأهم مضيقاً يرتكز على أحد امرين :

الأول ـ دعوى اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه وانه يوجب تقييده بحصة خاصة وهي الحصة المقدورة.

١٨٣

الثاني ـ دعوى ان استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق.

ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين في غير موضع هذا مضافاً إلى ان الدعوى الأولى ـ على تقدير تسليمها في نفسها ـ لا توجب تقييد المتعلق بخصوص تلك الحصة ، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح فلا نعيد.

فالصحيح في المقام ان يقال ـ كما ذكرناه سابقاً ـ ان هذه الصورة أعني بها ما إذا كان المهم موسعاً والأهم مضيقاً ـ خارجة عن كبرى مسألة التزاحم لنمكن المكلف فيها على الفرض من الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال ، ومعه لا مزاحمة بينهما أصلا. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان البحث عن إمكان ترتب أحد الحكمين على عدم الإتيان بمتعلق الحكم الآخر واستحالة ذلك انما هو في فرض التزاحم بينهما ، وإلا فلم يكن للبحث عنه موضوع أصلا ، كما هو واضح.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان الصورة المزبورة خارجة عن موضوع بحث الترتب ، فان موضوع بحثه هو ما إذا لم يمكن إثبات صحة المهم الأبناء على القول بالترتب ، وفي المقام يمكن إثبات صحته بدون الالتزام به ، بل ولو قلنا باستحالته كما عرفت غير مرة.

الثالث ـ ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان المكلف قد يكون عالماً بخطاب الأهم قبل الشروع في امتثال خطاب المهم ، وقد يكون عالماً به بعد الشروع فيه. اما على الفرض الأول فيدور الحكم بصحة الإتيان بالمهم وامتثال خطابه مدار القول بإمكان الترتب ، كما ان الحكم بفساده يدور مدار القول بامتناعه كما سبق. واما على الفرض الثاني وهو ما إذا كان المكلف عالماً بخطاب الأهم بعد الشروع فيه ، فان كان الواجب المهم مما لا يحرم قطعه فحكمه حكم الفرض الأول بلا كلام. واما ان كان مما يحرم قطعه ، كما إذا دخل في المسجد وشرع في الصلاة ثم علم بتنجسه ، فعندئذ لا يتوقف بقاء الأمر بالمهم ـ وهو الصلاة في مفروض المثال ـ على القول بالترتب فيمكن

١٨٤

الحكم بصحتها من دون الالتزام به أصلا.

والوجه في ذلك هو أن إزالة النجاسة عن المسجد وان كانت أهم من الصلاة باعتبار انها فورية دون الصلاة ، إلا ان المكلف إذا شرع فيها وحرم عليه قطعها على الفرض لم يكن عندئذ موجب لتقديم الأمر بالإزالة على الأمر بالصلاة. وعليه فلا يتحقق عصيان لخطابها ، ليكون الأمر بإتمامها متوقفاً على جواز الترتب.

وسر ذلك هو ان الدليل على وجوب الإزالة إنما هو الإجماع ، وليس دليلا لفظياً ليكون له إطلاق أو عموم يشمل هذه الصورة أيضاً. وعلى هذا فلا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقن منه ، والمقدار المتيقن منه غير تلك الصورة ، فلا يشملها ، اذن يبقى الأمر بالإتمام بلا مزاحم. وعلى الجملة فالإجماع بما انه دليل لبي فالقدر المتيقن منه غير هذا الفرض ، فلا يشمل ذلك.

نعم إذا كان هناك واجب آخر أهم من إتمام الصلاة كحفظ النّفس المحترمة أو ما شاكله توقف الأمر بإتمام الصلاة عندئذ على القول بالترتب أيضاً ، ضرورة ان الأمر بالإتمام من جهة مزاحمته بالأهم قد سقط يقيناً ، فثبوته له حينئذ لا محالة يتوقف على عصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه خارجاً.

وغير خفي ان ما أفاده (قده) إنما يتم لو كان مدرك حرمة قطع الصلاة هو الروايات الدالة على ان تحليلها هو التسليم ، فان مقتضى إطلاق تلك الروايات هو حرمة قطعها والخروج عنها بغير التسليم مطلقاً ولو كانت مزاحمة مع الإزالة ، ولكن قد ذكرنا في بحث الفقه ان شيء من هذه الروايات لا يدل على حرمة قطع الصلاة ، غاية ما في الباب انها تدل على ان التسليم هو الجزء الأخير ، وان الصلاة تختتم به كما تفتتح بالتكبيرة ، واما ان قطعها يجوز أو لا يجوز فهي أجنبية عن هذا تماماً.

ومن هنا قلنا انه لا دليل على حرمة قطع الصلاة أصلا ما عدا دعوى الإجماع على ذلك كما في كلمات غير واحد. ولكن قد ذكرنا ان الإجماع لم يتم ، فان

١٨٥

المحصل منه غير ثابت ، والمنقول منه غير معتبر ، على انه يحتمل ان يكون مدركه تلك الروايات أو غيرها ، ومع هذا كيف يمكن ان يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ثبوت الإجماع فالقدر المتيقن منه هو ما إذا لم تكن الصلاة مزاحمة مع الإزالة. واما في صورة المزاحمة فلا علم لنا بثبوته ، وذلك لعدم تعرض كثير من الفقهاء لتلك الصورة. وعليه فلا موجب لتقديم وجوب إتمام الصلاة على وجوب الإزالة.

وعلى الجملة بما ان الدليل على كل من الطرفين هو الإجماع فهو لا يشمل الصورة المزبورة فاذن لا دليل على وجوب الإزالة في تلك الصورة ، ولا على وجوب الإتمام ، وحيث لا أهمية في البين فمقتضى القاعدة هو التخيير بين قطع الصلاة والاشتغال بالإزالة وبين إتمامها. وتمام الكلام في محله.

الرابع ـ هل يمكن الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب أم لم يمكن؟

أقول : تحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعى البحث عنها في جهات :

الأولى ـ الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب.

الثانية ـ الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب.

الثالثة ـ الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة أو في الفضاء المغصوب.

اما الجهة الأولى فلا شبهة في فساد الوضوء أو الغسل. والوجه فيه ظاهر وهو ان المنهي عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به ، وحيث ان الوضوء أو الغسل في هذا الماء بنفسه تصرف في مال الغير ومصداق للغصب فيستحيل أن ينطبق عليه المأمور به ، ولا يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أبداً كما هو ظاهر

اما الجهة الثانية فلو قلنا انه يصدق على الوضوء أو الغسل من إناء المغصوب أو الذهب أو الفضة انه نحو تصرف فيه بناء على عدم جواز استعمال الآنيتين

١٨٦

ـ مطلقاً ـ فلا إشكال في فساده أيضاً ، لما عرفت من ان المحرم يستحيل ان يكون مصداقاً للمأمور به ، وبما ان الوضوء أو الغسل على هذا بنفسه محرم فيمتنع ان ينطبق الواجب عليه. وهذا واضح. واما بناء على ما هو الصحيح من ان المأمور به في مثل هذه الموارد غير متحد مع المنهي عنه ، فان المأمور به هو صب الماء على الرّأس والبدن أو على الوجه واليدين ، والمنهي عنه هو أخذ الماء من تلك الأواني فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل ، وذلك لعدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته ولوازمه الاتفاقية.

وان شئت فقل : ان متعلق النهي هو أخذ الماء منها ، فانه نحو استعمال لها وهو محرم على الفرض ، واما صبه على الوجه واليدين ـ مثلا ـ بعد أخذه منها فليس باستعمال لها ، ليكون محرماً نعم هو مترتب عليه وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب ان حرمة المقدمة لا نمنع عن إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة ، واما إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بينهما ، فاذن المرجع هو قواعد باب التزاحم.

ولكن المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو التفصيل بين ما إذا كان الماء منحصراً فيها وما إذا لم يكن فذهبوا إلى فساد الوضوء أو الغسل في الصورة الأولى وإلى صحته في الصورة الثانية.

اما الصورة الأولى فقد ذكروا ان أخذ الماء منها بما انه كان محرماً شرعاً فالمكلف وقتئذ فاقد للماء ، لما ذكرناه غير مرة من ان المستفاد من الآية المباركة بقرينة داخلية وخارجية هو ان المراد من وجدان الماء فيها وجوده الخاصّ ، وهو ما إذا تمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعاً ، وفي المقام وان تمكن من استعماله عقلا وتكويناً ، ولكنه لا يتمكن منه شرعاً والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي. فاذن وظيفته هي التيمم.

اما الصورة الثانية فلأن الوضوء أو الغسل مشروع في حقه ، لفرض انه واجد للماء ، غاية الأمر انه قد ارتكب مقدمة محرمة وهي ـ أخذ الماء من الأواني ـ

١٨٧

وهذا لا يمنع عن صحة وضوئه أو غسله بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحاً. وهذا ظاهر.

أقول : التحقيق على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً صحة الوضوء أو الغسل على كلا التقديرين.

وبيان ذلك يقتضى دراسة نواحي عديدة :

الأولى ـ صورة انحصار الماء بأحد الأواني المزبورة ، مع عدم تمكن المكلف من تفريغ الماء منها في إناء آخر على نحو لا يصدق عليه الاستعمال.

الثانية ـ ما إذا تمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر من دون ان يصدق عليه الاستعمال.

الثالثة ـ صورة عدم انحصار الماء فيها ، ووجود ماء آخر عنده يكفى لوضوئه أو غسله.

اما الكلام في الناحية الأولى فيقع في موردين :

الأول ـ ما إذا أخذ المكلف الماء من هذه الأواني دفعة واحدة بمقدار يفي لوضوئه أو غسله.

الثاني ـ ما إذا أخذ الماء منها غرفة غرفة.

اما الأول ـ فالظاهر انه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به ضرورة ان المكلف بعد أخذ الماء منها صار واجداً للماء وجداناً ومتمكناً من استعماله عقلا وشرعاً ، ولا نرى في استعمال هذا الماء في الوضوء أو الغسل أي مانع ، هذا نظير ما إذا توقف التمكن من استعمال الماء على التصرف في أرض مغصوبة ، ولكن المكلف بسوء اختياره تصرف فيها ووصل إلى الماء وبعد وصوله إليه لا إشكال في انه واجد للماء ووظيفته عندئذ هي الوضوء أو الغسل ، دون التيمم وان كان قبل التصرف فيها أو قبل الأخذ ـ هنا ـ هو فاقد للماء وكانت وظيفته التيمم دون غيره ولكن بعد التصرف فيها أو بعد الأخذ منها انقلب الموضوع وصار الفاقد واجداً

١٨٨

للماء. وهذا لعله من الواضحات.

واما الثاني ـ فلأن بطلان الوضوء أو الغسل على هذا يبتنى على اعتبار القدرة الفعلية على مجموع العمل المركب من اجزاء تدريجية كالصلاة والصوم والوضوء والغسل وما شاكلها من الابتداء وقبل الشروع فيه ، ولم نكتف بالقدرة التدريجية على شكل تدريجية اجزائه بان تتجدد القدرة عند كل جزء منها ، ويكون تجددها عند الاجزاء اللاحقة شرطاً لوجوب الاجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر. وعلى هذا فلا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بأخذ الماء منها غرفة غرفة ، ضرورة ان المكلف قبل الشروع في التوضؤ أو الاغتسال لم يكن واجدا للماء بمقدار يكفى لوضوئه أو غسله ، فوقتئذ لو عصى وأخذ الماء منها غرفة غرفة وتوضأ أو اغتسل به فيكون وضوؤه أو غسله باطلا. لعدم ثبوت مشروعيته.

وهذه النظرية وان قويناها سابقاً ، ولكنها نظرية خاطئة. بيان ذلك : انه لا مجال لتلك النظرية بناء على ما حققناه من إمكان الشرط المتأخر وانه لا مناص من الالتزام به في الواجبات المركبة من الاجزاء الطولية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد حققنا ضرورة إمكان الترتب وانه لا مناص من التصديق به. ومن ناحية ثالثة قد ذكرنا غير مرة ان القدرة التي هي شرط للتكليف إنما هي القدرة في ظرف العمل والامتثال ومن الواضح ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة عند الإتيان بكل جزء ولا دليل على اعتبارها من الابتداء.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي صحة الوضوء أو الغسل بالماء المأخوذ منها بالاغتراف ، فان القدرة تتجدد عند كل جزء من اجزائه بالعصيان وبارتكاب المحرم ، حيث ان المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء ـ مثلا ـ بمقدار غسل الوجه ، وبما انه يعلم بارتكابه المحرم ثانياً وثالثاً إلى ان يتم الوضوء أو الغسل يعلم بطرو التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء ، فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً على

١٨٩

عصيانه ، بناء على ما ذكرناه من صحة الترتب وجوازه ، وان وجود القدرة في ظرف الإتيان بالاجزاء اللاحقة شرط لوجوب الاجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.

ومن المعلوم انه لا فرق في ذلك بين ان القدرة تبقى من الابتداء ، أو تحدث في ظرف الإتيان بها ، وقد عرفت انه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك.

وبتعبير واضح انه لا ينبغي الإشكال في كفاية القدرة بالتدريج على الواجبات المركبة على شكل تدرج اجزائها بان تحدث القدرة على كل جزء منها في ظرفه ـ مثلا ـ إذا فرض أن عند المكلف ماء قليلا لا يفي إلا بغسل وجهه فقط ، ولكنه يعلم بنزول المطر من جهة اخبار معصوم عليه‌السلام ـ مثلا ـ أو قرينة قطعية أخرى فلا إشكال في صحة غسله وجهه بقصد الوضوء لتمكنه عندئذ من غسل بقية الأعضاء بعد غسل وجهه ، أو لو كان عنده ثلج يذوب شيئاً فشيئاً ، وليس عنده إناء ليجمعه فيه ففي مثل ذلك يتمكن من الوضوء أو الغسل بأخذ الماء غرفة غرفة وعلى نحو التدريج ، فلا تكون وظيفته التيمم ، لأنه واجد للماء وقادر على استعماله في الوضوء أو الغسل عقلا وشرعاً ، بداهة انه لا يعتبر في صحة الوضوء أو الغسل ان يكون عنده ماء بمقدار يفي به من الابتداء وقبل الشروع فيه ، إذ هو عمل تدريجي لا يعتبر في صحته وتعلق الأمر به إلا القدرة عليه ، سواء أكانت موجودة من الأول أو وجدت تدريجاً ، فانه لا دخل لشيء من الخصوصيّتين في فعلية التكليف بنظر العقل.

ونظير هذا ما إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار غرفة واحدة دون الزائد ، ولكنه لو أخذ ذلك الماء فيخرج بذاك المقدار ثانياً. وهكذا ، فلا إشكال في وجوب الوضوء عليه أو الغسل.

ومن هذا القبيل ما إذا كان الماء لغير المكلف ولم يرض بالتصرف فيه إلا بالاخذ منه بمقدار غرفة واحدة ، ولكنه يعلم أنه يبدو له ويرضى بعد غسل وجهه

١٩٠

به ـ مثلا ـ بالأخذ منه غرفة ثانية وثالثة. وهكذا إلى ان يتم وضوءه أو غسله فانه يجب عليه الوضوء أو الغسل حينئذ بلا إشكال.

وقد تحصل من ذلك انه لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل في أمثال تلك الموارد ، ولا يشرع في حقه التيمم ، لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلا وشرعاً ، ضرورة انه لا نعنى بوجدان الماء إلا كونه متمكناً من استعماله من زمان الشروع في الوضوء أو الغسل إلى زمان انتهائه ، ولا أثر لوجدان الماء من الابتداء بالإضافة إلى الاجزاء التالية وانما الأثر لوجدانه حين الإتيان بها وغسلها كما هو واضح. هذا من جانب.

ومن جانب آخر انك قد عرفت ان الترتب امر ممكن ، بل لا مناص من الالتزام به.

وعلى ضوء هذين الجانبين فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة بقانون الترتب ، وان الأمر بالوضوء أو الغسل مترتب على عصيان المكلف النهي عن التصرف فيها ، إذ المانع من الأمر به إنما هو حرمة التصرف في تلك الأواني ، واما بعد ارتكابه المحرم باغترافه منها يتمكن من الوضوء أو الغسل بمقدار غسل الوجه أو الرّأس فحسب ، ولكنه علم بطرو العصيان باغترافه ثانياً وثالثاً إلى ان يتمكن من غسل بقية الأعضاء ، وان فرض انه لم يتوضأ أو لم يغتسل به خارجاً ، فحينئذ لا مناص من الالتزام بالأمر به مترتباً على عصيانه ، لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلا وشرعاً ، وقد عرفت انه لا فرق بين الوجدان الفعلي والوجدان التدريجي ، فكلاهما بالإضافة إلى وجوب الغسل أو الوضوء على نسبة واحدة ، كما انه لا فرق في الالتزام بالترتب بين ان تطول مدة المعصية وارتكاب المحرم وان تقصر ، وبين ان تكون المعاصي متعددة وان تكون واحدة ، ضرورة ان كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك إمكان الترتب واستحالته ، فان ملاك إمكانه كما سبق هو انه لا يلزم ـ من طلب المهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه ـ طلب الجمع. ومن الواضح جداً انه

١٩١

لا يفرق في هذا بين العصيان الفعلي والعصيان التدريجي ، كما ان ملاك استحالته هو لزوم طلب الجمع من ذلك ، ولا يفرق فيه بين معصية واحدة فعلية ومعاصي عديدة تدريجية ، كما هو واضح.

ومثل المقام ما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات ، فان الأمر بصلاة الآيات حينئذ مترتب على عصيان الفريضة وتركها في مقدار من الزمان الّذي يتمكن المكلف من الإتيان بصلاة الآيات ولا يكفي عصيانها في الآن الأول ، لفرض وجوبها في جميع آيات صلاة الآيات ، فالمكلف بعد عصيانها في الآن الأول وان تمكن من جزء منها ، إلا انه لا يتمكن من بقية اجزائها ، ولكنه حيث علم بأنه يعصى الأمر بالفريضة في الآن الثاني والثالث .. وهكذا علم بطرو التمكن عليه من الإتيان بها بعد الإتيان بالجزء الأول.

ومثله أيضاً ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الإزالة عن المسجد ووجوب الصلاة ، فان الأمر بالصلاة عندئذ منوط بعصيان الأمر بالإزالة في الآيات التي يقدر المكلف فيها على الإتيان بالصلاة تماماً ، ولا يكفي عصيانها آنا ما ، ولكن المكلف حيث علم بعد عصيانه في الآن الأول بأنه يعصيه في الآن الثاني والثالث .. وهكذا علم بعروض التمكن من الإتيان بها تدريجاً ، وقد عرفت ان القدرة التدريجية كافية في مقام الامتثال ، ولا تعتبر القدرة الفعلية. وعليه فلا مانع من الالتزام بوجوبها من ناحية الترتب ، بل لا مناص من ذلك.

وقد تبين لحد الآن ان تدريجية وجود القدرة مرة من ناحية تدريجية وجود مقتضية وتحققه في الخارج. ومرة أخرى من ناحية تدريجية ارتفاع مانعه. ومرة ثالثة من ناحية تدريجية عصيان الأمر بالأهم.

ومثال الأول ما مر من انه إذا كان عند المكلف ثلج فيذوب شيئاً فشيئاً ولم يكن عنده إناء ليجمع ماءه فيه ثم يتوضأ أو يغتسل به فلا يقدر على جمعه إلا بمقدار يسع كفه. أو إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار يسعه كفه دون الزائد ،

١٩٢

ولكنه إذا أخذ ذلك الماء يخرج منها بهذا المقدار ثانياً. وهكذا. أو إذا كان عنده مقدار من الماء لا يفي لوضوئه أو غسله ، ولكنه يعلم بنزول المطر بعد صرفه في غسل الوجه أو الرّأس من جهة اخبار المعصوم عليه‌السلام به أو من طريق آخر ففي هذه الموارد وما شاكلها جميعاً لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل ، بناء على كفاية القدرة التدريجية ، كما هو الصحيح. وقد تقدم ان العقل مستقل بكفايتها وان حكم العقل بذلك لم يدع مجالا لتوهم اعتبار القدرة الفعلية في مقام الامتثال ، لتكون نتيجته سقوط وجوب الوضوء أو الغسل في تلك الموارد ، وانتقال الوظيفة إلى التيمم.

ومثال الثاني ما إذا كان الماء ملكا لغيره ولم يرض بالتصرف فيه إلا بالأخذ منه بمقدار غرفة لا يفي إلا لغسل الوجه فحسب ، ولكنه يعلم بأنه يرضى بعد غسل وجهه بالاخذ منه ثانياً وثالثاً. وهكذا كما عرفت. أو إذا كان هناك مانع آخر لا يتمكن معه من الوضوء أو الغسل إلا تدريجاً ، ففي كل ذلك لا مناص من الالتزام بوجوب الوضوء أو الغسل. كما تقدم بصورة واضحة.

ومثال الثالث ما إذا كان الماء في الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة ، ولم يتمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر ، كما هو مفروض الكلام ـ هنا ـ أو ما ذكرناه من الأمثلة المتقدمة ، فوقتئذ لو عصى المكلف وارتكب المحرم بالاغتراف من تلك الأواني ، فلا محالة يتمكن من الوضوء بمقدار غسل الوجه أو من الغسل بمقدار غسل الرّأس ـ مثلا ـ ولكنه لما علم بأنه يعصى ويغترف منها ثانياً وثالثاً ، وهكذا علم بأنه قادر على الوضوء أو الغسل بالتدريج. وعليه فلا مناص من الحكم بوجوبه بناء على الأساسين المتقدمين هما : كفاية القدرة التدريجية في مقام الامتثال ، والالتزام بإمكان الترتب وجوازه.

ومن ذلك يظهر ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من بطلان الوضوء أو الغسل في هذا الفرض لا يمكن المساعدة عليه. والوجه في ذلك هو ان ما ذكره (قده)

١٩٣

مبنى على ما أسسه من ابتناء جريان الترتب على كون العمل واجداً للملاك حين الأمر به ، وبما ان الوضوء أو الغسل في ما نحن فيه غير واجد له ، فان وجدانه يتوقف على كون المكلف واجداً للماء من الأول ، والمفروض عدمه ـ هنا ـ إذ كونه واجداً له موقوف على جواز تصرفه في الأواني ، وبما انه محرم وممنوع شرعاً ، والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلم يكن واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلا وشرعاً.

ولكن قد عرفت فساد ما أفاده (قده) وان جريان الترتب في مورد لا يتوقف على ذلك. وقد أوضحناه بصورة مفصلة فلا نعيد. هذا من ناحية الملاك. واما من ناحية عدم كون المكلف واجداً للماء فائضاً يظهر فساده مما ذكرناه الآن من انه لا فرق بين كون المكلف واجداً للماء بالفعل وكونه واجداً له بالتدريج ، فالترتب كما يجري في الأول كذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة أبداً كما عرفت بشكل واضح.

فالنتيجة قد أصبحت ان النقطة الرئيسة لصحة الوضوء أو الغسل في أمثال المقام هي كفاية القدرة على العمل في مقام الامتثال بالتدريج ، وعدم اعتبارها من الابتداء.

وعلى ضوء هذه النقطة لا مناص من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب.

واما الكلام في الناحية الثانية (وهي صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء في ظرف آخر) فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل حينئذ ، وذلك لأنه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعاً. وعليه فالامر بالطهارة المائية في حقه فعلى ، ضرورة انه مع تمكنه من التفريغ بدون ان يصدق عليه الاستعمال بوجه قادر عليها ، وعندئذ تتعين وظيفته بمقتضى الآية المباركة وغيرها من روايات الباب في الوضوء أو الغسل ، ولا يشرع في حقه التيمم.

ثم انه لو عصى وأخذ الماء من الأواني بالاغتراف فهل يمكن الحكم بصحة

١٩٤

وضوئه أو غسله مع قطع النّظر عن القول بالترتب وكفاية القدرة التدريجية أم لا؟ وجهان والصحيح هو الأول ، وذلك لأنه قادر عليه فعلا ، والمفروض ان مشروعيته لا تتوقف على القول بالترتب ، غاية الأمر انه بسوء اختياره قد ارتكب مقدمة محرمة. ومن الواضح ان ارتكابها لا يضر بصحته أبداً.

فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل في هذه الصورة مطلقاً قلنا بالترتب أم لم نقل ، قلنا بفساد الوضوء أو الغسل في الصورة الأولى أم لم نقل.

واما الكلام في الناحية الثالثة (وهي صورة عدم انحصار الماء في الأواني المزبورة) فائضاً لا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل بالاغتراف سواء فيه القول بالترتب وعدمه ، وسواء فيه القول باعتبار القدرة الفعلية وعدم اعتبارها ، وذلك لفرض ان المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل ، ولا يتوقف مشروعيتها على القول بالترتب ، غاية الأمر انه بسوء اختياره قد ارتكب فعلا محرماً. وقد عرفت انه لا يضر بصحة وضوئه أو غسله ، بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحاً على الفرض.

فقد تحصل مما ذكرناه ان الوضوء أو الغسل صحيح في جميع تلك النواحي والصور.

وقد تبين مما قدمناه لحد الآن امران :

الأول ـ ان الوضوء أو الغسل من الأواني إذا كان ارتماسياً فلا إشكال في فساده ، وذلك لأنه بنفسه تصرف فيها ، وهو محرم على الفرض. ومن الواضح جداً ان المحرم لا يقع مصداقاً للواجب ، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء فيها وعدمه ، وصورة التمكن من التفريغ في إناء آخر وعدم التمكن منه ، فان التوضؤ أو الاغتسال إذا كان في نفسه محرماً فلا يمكن التقرب به ولا يقع مصداقاً للواجب. وهذا ظاهر.

الثاني ـ انه قد ظهر فساد ما أفاده السيد العلامة الطباطبائي (قده) في العروة

١٩٥

في بحث الأواني وإليك نصّ كلامه : «لا يجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقاً والوضوء والغسل منها مع العلم باطل مع الانحصار ، بل مطلقاً» وقال : في مسألة أخرى (١٣) ما لفظه هذا إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل في إحدى الآنيتين ، فان أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب وإلا سقط وجوب الوضوء أو الغسل ووجب التيمم ، وان توضأ أو اغتسل منهما بطل. سواء أخذ الماء منهما بيد أو صب على محل الوضوء بهما أو ارتمس فيهما ، وان كان له ماء اخر أو أمكن التفريغ في ظرف آخر ، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما ، فالأقوى أيضاً البطلان»

فالنتيجة انه (قده) قد حكم ببطلان الوضوء والغسل في جميع تلك الصور والنواحي من دون فرق بين صورتي الانحصار وعدمه وإمكان التفريغ في إناء آخر وعدم إمكانه.

أقول ما أفاده (قده) في المقام لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما عرفت من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في صورة انحصار الماء في تلك الأواني مع عدم التمكن من التفريغ في إناء آخر فضلا عن صورة عدم الانحصار أو التمكن من التفريغ. وعلى ذلك فمن المحتمل قوياً ان يكون نظر السيد (قده) في هذا إلى ان المأمور به في هذه الموارد متحد مع المنهي عنه بمعنى ان الوضوء أو الغسل من الأواني ولو بالاغتراف بنفسه تصرف فيها فيكون منهياً عنه. وعليه فلا يمكن ان يقع مصداقاً للمأمور به ، ولأجل ذلك حكم بالبطلان مطلقاً.

ولكن مما ذكرناه ظهر فساده. والوجه فيه ان الوضوء أو الغسل بعد أخذ الماء منها بالاغتراف ليس تصرفاً فيها بشيء ، ضرورة ان ما هو التصرف في الآنية إنما هو تناول الماء منها وأخذه ، واما التصرفات الواقعة بعده فلا يصدق على شيء منها عرفاً انه تصرف فيها لوضوح ان صبه على الأرض أو استعماله في الطهارة الخبثية أو سقيه للحيوان أو إعطاءه لشخص آخر أو غير ذلك جميعاً تصرفات خارجية ، فليس شيء منها تصرفاً في الآنية ، ليكون مشمولا للروايات الناهية عن

١٩٦

استعمالها ، ومن المعلوم ان التوضؤ أو الاغتسال به أيضاً من هذه التصرفات فلا تشمله الروايات.

وعلى الجملة فالذي هو استعمال للآنية إنما هو تناول الماء منها وأخذه ، واما التصرف في الماء بعد أخذه واستعماله بنحو من أنحاء الاستعمال سواء أكان في الوضوء أو الغسل أو كان في غيره فلا شبهة في انه ليس باستعمال للآنية قطعاً ، بداهة انه استعمال للماء حقيقة وليس باستعمال لها بوجه. وهذا واضح جداً.

ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى صحة الوضوء أو الغسل في صورة عدم انحصار الماء فيها ـ كما عرفت ـ ومن المعلوم انه إذا كان بنفسه تصرفا فيها ومصداقاً للمحرم لم يكن وجه للقول بالصحّة أبداً ، بناء على حرمة التصرف فيها مطلقاً كما هو مختارهم ، لاستحالة كون المحرم مصداقاً للمأمور به.

فالنتيجة ان ما أفاده السيد (قده) في المقام لا يرجع إلى أساس صحيح.

بقي الكلام في امر وهو ان ما ذكرناه حول أواني الذهب والفضة يبتنى على وجهة نظر المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقاً من دون اختصاصها بالأكل والشرب وعليه فحالهما حال الأواني المغصوبة.

واما بناء على القول بعدم حرمة سائر الاستعمالات من الوضوء والغسل وإزالة النجاسات وغيرها مما يعد عرفاً استعمالا لهما فلا إشكال عندئذ في صحة الوضوء أو الغسل من الآنيتين مطلقاً ولو كان ارتماسياً.

وقد ذكرنا في بحث الفقه ان القول بذلك لا يخلو عن وجه.

والوجه في ذلك ملخصاً ان جميع ما استدلوا به على حرمة غير الأكل والشرب من الاستعمالات يرجع إلى وجوه ثلاثة : وكلها قابل للمناقشة.

الأول ـ الإجماع كما ادعاه غير واحد منهم. ويرده مضافاً إلى انه لم يثبت في نفسه لاقتصار جماعة على خصوص الأكل والشرب وعدم تعرضهم لغيرهما انه إجماع منقول لم يقم دليل على اعتباره كما ذكرناه في محله. على انه محتمل المدرك

١٩٧

لو لم يكن معلوماً. وعليه فلا أثر له.

الثاني ـ رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه‌السلام آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون بتقريب ان المتاع ما ينتفع به ، فالرواية تدل على حرمة الانتفاع من الآنيتين وانه خاص لغير الموقنين ، ومقتضى إطلاقها حرمة جميع استعمالاتهما حيث ان استعمال الشيء انتفاع به.

وغير خفي ان الرواية ضعيفة سنداً ودلالة اما سنداً فلأنها ضعيفة بسهل ابن زياد وموسى بن بكر على طريق الكافي. وبموسى بن بكر على طريق آخر رواها عنه البرقي. واما دلالة فمع إمكان المناقشة في أصل دلالتها على الحرمة باعتبار ان مجرد اختصاص الانتفاع بهما لغير الموقنين لا يدل على حرمة الانتفاع لهم ان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ان الانتفاع من كل متاع بحسب ما يناسبه فالانتفاع بالكتاب انما هو بمطالعته ، والانتفاع بالفرش انما هو بفرشه ، وباللباس بلبسه. وهكذا. ومن الواضح جداً ان الانتفاع بالآنيتين ظاهر في استعمالهما في الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما ، لكون الأواني معدة لذلك ، اذن فالرواية ظاهرة في حرمة الأكل والشرب منهما فلا تشمل سائر الانتفاعات والاستعمالات.

الثالث ـ ما ورد من النهي عن أواني الذهب والفضة وهي روايات كثيرة :

منها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام انه نهى عن آنية الذهب والفضة.

ومنها ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة فكرههما.

ومنها ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه كره آنية الذهب والفضة والآنية المفضضة. بتقريب انه لا معنى لتعلق النهي والكراهة بالأعيان وللذوات نعم الكراهة بمعنى الصفة النفسانيّة المعبر عنها بالكراهة التكوينية الحقيقية وان أمكن تعلقها بالذوات بما هي بان يكون الشيء مبغوضاً بذاته ، كما انه قد يكون محبوباً

١٩٨

كذلك ، إلا ان الكراهة بالمعنى الشرعي لا معنى لتعلقها بها أبداً ، ومن المعلوم انه لم يرد من الكراهة في هاتين الصحيحتين الكراهة التكوينية ، ضرورة ان الظاهر منهما هو ان الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الحكم الشرعي ، لا في مقام إظهار كراهته الشخصية. وهذا واضح وعليه فلا بد من تقدير فعل من الأفعال فيها ، ليكون هو المتعلق للنهي والكراهة ، وبما انه لا قرينة على التخصيص ببعض منها دون بعضها الآخر فلا محالة يكون المقدر هو مطلق الانتفاعات والاستعمالات.

ولكن قد ظهر الجواب عنه بما تقدم من ان المقدر في كل مورد بحسب ما يناسب ذلك المورد. ومن هنا ذكروا ان المقدر في مثل النهي عن الأمهات هو النكاح ، فانه المناسب للمقام والأثر الظاهر من النساء ، كما ان المقدر في مثل النهي عن الميتة والدم وما شاكلهما هو الأكل. وهكذا.

وفيما نحن فيه بما ان الأثر الظاهر من الإناء هو استعماله في الأكل والشرب فلا محالة ينصرف النهي عنه إلى النهي عن الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما.

وعلى الجملة فالنهي في أمثال هذه الموارد بمناسبة الحكم والموضوع منصرف إلى النهي عن الأثر الظاهر من الشيء ، فلا يعم مطلق اثره.

ونتيجة ذلك هي ان المقدر في تلك الصحاح بمقتضى الفهم العرفي هو خصوص الأكل والشرب دون مطلق الاستعمال والانتفاع ، فاذن لا دليل على حرمة استعمال الآنيتين في غير الأكل والشرب ، وعليه فلا مانع من الوضوء أو الغسل بهما مطلقاً ولو كان ارتماسياً ، كما انه لا مانع من غيره. وتمام الكلام في ذلك في بحث الفقه.

وقد تحصل مما ذكرناه امران : الأول ـ الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة صحيح مطلقاً ، سواء أكان الماء منحصراً فيها أم لم يكن ، وسواء أتمكن المكلف من التفريغ في إناء آخر أم لم يتمكن وسواء أخذ الماء منها دفعة واحدة أم بالتدريج. الثاني ـ ان الوضوء أو الغسل

١٩٩

الارتماسي باطل على جميع هذه التقادير والفروض.

واما الجهة الثالثة فيقع الكلام فيها في مقامين : الأول ـ في الوضوء أو الغسل في الأرض المغصوبة. الثاني ـ في الفضاء المغصوب.

اما المقام الأول فالكلام فيه يقع في موردين : الأول ـ ما إذا فرض انحصار الماء في مكان مغصوب بحيث ان المكلف لا يتمكن من الوضوء أو الغسل إلا في ذلك المكان. الثاني ـ ما إذا فرض عدم انحصار الماء فيه.

اما المورد الأول فالظاهر انه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل المقام الّذي لم يتحد فيه المأمور به مع المنهي عنه خارجاً ، حيث ان المأمور به هو الغسلتان والمسحتان ـ مثلا ـ والمنهي عنه هو السكون في الدار ، وهو من مقولة الأين فيستحيل ان ينطبق على المأمور به نعم هما امران متلازمان في الخارج. وقد ذكرنا غير مرة انه لا دليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الوجودية ، بل قد عرفت الدليل على عدمها. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ان وظيفته ابتداء وان كانت هي التيمم ، ولو صلى معه فلا إشكال في صحة صلاته باعتبار انه لم يتمكن من الوضوء أو الغسل شرعاً وان تمكن تكويناً. وقد ذكرنا غير مرة ان مشروعية الوضوء أو الغسل منوطة بالتمكن من استعمال الماء عقلا وشرعاً ، ولا يكفي مجرد التمكن منه عقلا إذا كان ممنوعاً من قبل الشرع ، وفي المقام بما ان الوضوء أو الغسل يتوقف على ارتكاب محرم وهو التصرف في مال الغير فلا يتمكن المكلف منه ، اذن فوظيفته التيمم ، لكونه فاقداً للماء ولكنه لو عصى ودخل في الدار المغصوبة فتوضأ أو اغتسل به فلا إشكال في صحته بناء على ما حققناه من إمكان الترتب.

واما المورد الثاني فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل ولو قلنا بالفساد في المورد الأول ، ولا تتوقف صحته على القول بالترتب ، لفرض انه مأمور بالطهارة

٢٠٠