محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

طلب الجمع بين الضدين لفرض اقتضاء كل منهما لإيجاد مقتضاه في عرض اقتضاء الآخر له.

واما إذا فرضنا ان اقتضاء الأمر بالإزالة كان مترتبا على ترك الصلاة وعصيان امرها ، كما هو محل الكلام ، فلا يعقل ان يكون مزاحما لمقتضى الأمر بالصلاة.

والسر في ذلك هو انه لا تنافي ولا تضاد بالذات بين نفس اقتضاء الأمر بالمهم واقتضاء الأمر بالأهم ، مع قطع النّظر عن التضاد والتنافي بين مقتضاهما وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج ، فالتنافي بين اقتضائهما انما هو من جهة التنافي والتضاد بين مقتضاهما ، وعلى هذا فلا يمكن تعلق الطلبين بهما في عرض واحد وعلى وجه الإطلاق ، لاستلزام ذلك طلب الجمع بين الضدين ، وهو تكليف بالمحال.

واما إذا كان طلب أحدهما مترتبا على عدم الإتيان بالآخر وفي ظرف عدمه فلا يلزم التكليف بالمحال ، فان الإزالة عند الإتيان بالصلاة وامتثال امرها ليست بمطلوبة واقعا ليلزم من ذلك طلب الجمع ، وعند تركها ـ فهي وان كانت مطلوبة ـ إلا ان مطلوبيتها لما كانت مقيدة بترك الصلاة في الخارج ، وعدم العمل بمقتضى امرها في كل آن فلا تنافي مطلوبية الصلاة ، ولا يلزم من تعلق الأمرين بهما عندئذ طلب الجمع ، كيف وان الأمر بالإزالة حيث كان معلقا على تقدير عدم العمل بمقتضى امر الصلاة من دون تعرضه لحال هذا التقدير واقتضائه وضعه ـ لما عرفت من ان الحكم لا يقتضى وجود موضوعه ـ فلا يكون مانعا عن فعلية مقتضى (بالفتح) الأمر بالصلاة الّذي هو ناظر إلى ذلك التقدير ، ويقتضى هدمه ، اذن لا مانع من اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لعدم التنافي بينهما ، لا بالذات ـ كما مر ـ ولا باعتبار اقتضائهما ، لأن التنافي بينهما بهذا الاعتبار انما هو من جهة ان القدرة الواحدة لا تفي بهما معاً ، ومن الواضح انها إنما لا تفي فيما إذا كان كلاهما مطلوباً في عرض واحد لا على النحو الترتب بمعنى ان المهم مطلوب في ظرف ترك الأهم إذ لا شبهة حينئذ في وفاء القدرة بهما على هذا النحو كما عرفت.

١٢١

وقد تحصل مما ذكرناه ان فعلية تعلق الأمرين بهما واجتماعهما في زمان واحد انما تستدعى طلب الجمع بينهما على أحد تقديرين لا ثالث لهما :

الأول ـ ان يكون الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم وعلى وجه الإطلاق ، فعندئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما.

الثاني ـ ان يكون الأمر بالمهم في فرض تقييده بترك الأهم ناظراً إلى حال تركه ومقتضياً لوضعه وتحققه في الخارج ، فحينئذ يلزم طلب الجمع لفرض ان الأمر بالأهم يقتضى هدمه ورفعه. ومن الواضح جداً أنا لا نعقل لزوم طلب الجمع بينهما فيما عدا هاتين الصورتين ، هذا من جانب. ومن جانب آخر ان مفروض كلامنا ـ هاهنا ـ ليس من قبيل الصورة الأولى ـ كما هو ظاهر ـ ولا من قبيل الصورة الثانية ، لما عرفت من ان ترك الأهم بما انه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم ، فيستحيل ان يقتضى وجوده ففرض اقتضائه وجوده وتحققه فرض عدم كونه مأخوذاً في موضوعه ، وهذا خلف.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي عدم لزوم طلب الجمع في مفروض الكلام

واما التنافي بين الأمرين باعتبار مبدئهما فهو أيضا غير متحقق ، بداهة انه لا تنافي ولا تزاحم بين تحقق ملاك في الواجب المهم على تقدير ترك الواجب الأهم وعصيانه ، وتحقق ملاك في الواجب الأهم على وجه الإطلاق ، بل لا تنافي بين الملاكين فيما إذا كان ثبوته في المهم أيضا على وجه الإطلاق مع قطع النّظر عن تأثيرهما في جعل الحكم فعلا.

ومن هنا يظهر انه لا تنافي بين إرادة المهم على تقدير عدم امتثال الأهم ، وإرادة الأهم على نحو الإطلاق.

والنكتة في جميع ذلك هي : ان التزاحم بين هذه الأمور جميعاً إنما نشأ من مبدأ واحد وهو عدم قدرة المكلف على الجمع بين الضدين في مقام الامتثال. ومن المعلوم ان التنافي إنما هو فيما إذا كان كل منهما مراداً للمولى ومطلوباً له في عرض

١٢٢

الآخر. واما إذا كانت مطلوبية أحدهما مقيدة بعدم الإتيان بالآخر فلا تنافي بين طلبيهما في زمان واحد ، ولا بين إرادتيهما ، لتمكن المكلف ـ عندئذ ـ من الإتيان بالأهم والإتيان بالمهم على تقدير ترك الأهم عقلا وشرعاً.

فالقائل باستحالة الترتب انما قال بها من جهة غفلته عن هذه النكتة وتخيله : ان فعلية طلب المهم وفعلية طلب الأهم في زمان واحد تستلزمان طلب الجمع بينهما ، إذ المفروض ان كل واحد منهما في هذا الزمان يقتضى إيجاد متعلقه في الخارج ، وهذا معنى طلب الجمع ، ولكنه غفل عن ان مجرد فعلية اقتضائهما لذلك لا يستلزم طلب الجمع ، وانما يستلزم ذلك فيما إذا كان اقتضاء كل منهما على وجه الإطلاق وفي عرض الآخر ، واما إذا كان اقتضاء طلب المهم مقيداً بترك الأهم من دون اقتضائه لتركه فلا يستلزم طلب الجمع بل مقتضاهما التفريق في مقام الامتثال كما عرفت.

وخلاصة ما ذكرناه في المقام بعد تحليل مسألة الترتب تحليلا علمياً عميقاً هو ان المانع من طلب الضدين معاً ليس إلا عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. ومن الواضح ان ذلك المانع انما هو فيما إذا كان طلبهما في عرض واحد وعلى وجه الإطلاق. واما إذا كان طلب أحدهما مقيداً بترك الآخر من دون تعرضه لحال تركه أصلا ـ كما هو المفروض ـ فلا مانع عندئذ أصلا لفرض ان المكلف قادر على الإتيان بالأهم ، وعلى الإتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم ، والجمع بينهما غير مطلوب على الفرض ، اذن لا مانع من تعلق الطلبين بهما على هذا النحو والتقدير ، ولا يلزم منه طلب المحال. والغفلة عن هذه النقطة الأساسية أوجبت تخيل ان تعلق الأمرين بالضدين في زمان واحد مستحيل ولو كان على نحو الترتب.

أو فقل : ان منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدين هو ان القدرة الواحدة لا تفي للجمع بينهما في زمان واحد. واما إذا كان طلب أحدهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر فالقدرة الواحدة تفي بهما ، ضرورة انه مع إعمال القدرة في فعل الأهم وصرفها في امتثاله لا امر بالمهم أصلا لعدم تحقق شرطه ، واما مع عدم إعمالها فيه فلا مانع

١٢٣

من إعمالها في فعل المهم ولا مانع عندئذ من فعلية امره مع فعلية الأمر بالأهم ولا يلزم من فعلية كلا الأمرين في زمان واحد طلب المحال وغير المقدور أصلا.

ونظير ما ذكرناه من الترتب موجود في الأمور التكوينية أيضاً ، وهو ما إذا كان هناك مقتضيان أحدهما يقتضى تحريك جسم عن مكان ، والآخر يقتضى بياضه على تقدير حصوله في ذلك المكان ، من دون نظر له إلى حال هذا التقدير واقتضائه حصوله فيه أصلا ، أو كما إذا كان مقتض يقتضى وجود رمانة ـ مثلا ـ في يد أحد ولكنه على تقدير وقوعه من يده في الخارج كان مقتض آخر يقتضى وجودها في يد شخص آخر ، فالمقتضى لأخذه موجود ـ على تقدير سقوطه من يد الأول ـ دون أن يكون فيه اقتضاء لسقوطه ، ونحو ذلك ، فكما لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التكوينيين في هذين المثالين وما شاكلهما ، فكذلك لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التشريعيين في محل البحث.

والسر في ذلك ليس إلا ما ذكرناه من النقطة الأساسية. هذا تمام الكلام في الدليل اللمي.

نتائج الجهات المتقدمة :

نتيجة الجهة الأولى هي : ان عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه في الآن الأول غير كاف لفعلية الأمر بالمهم على الإطلاق ، وإلى آخر أزمنة امتثاله ، بل فعليته مشروطة في كل آن وزمن بعصيانه في ذلك الآن والزمن ، فلو كان عصيانه في الآن الأول كافيا لفعلية امره مطلقا لزم محذور طلب الجمع بين الضدين في الآن الثاني والثالث وهكذا ، كما سبق.

ونتيجة الجهة الثانية هي : ان القول بالترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، فان ملاك إمكان الترتب واستحالته غير ملاك إمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر واستحالتهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان زمان فعلية الأمر بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد ، كما ان زمان

١٢٤

فعليته وزمان فعلية الأمر بالمهم واحد ، وليس الأمر بالأهم ساقطاً في زمان فعلية الأمر بالمهم. بان حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، فان ذلك خارج عن محل الكلام في المقام ، ولا إشكال في جوازه. وما هو محل الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً كما تقدم.

ونتيجة الجهة الثالثة هي : ان انحفاظ الأمر بالأهم في زمان الأمر بالمهم ـ وهو زمان عصيان الأمر بالأهم ـ بالإطلاق على وجهة نظرنا ، ومن جهة اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدير على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) وعلى كل منهما لا يلزم من انحفاظه في ذلك الزمان طلب الجمع بين الضدين فان ملاك طلب الجمع انما هو إطلاق الخطابين وكون كل منهما في عرض الآخر ، لا ترتب أحدهما على عصيان الآخر ، فانه يناقض طلب الجمع وينافيه ، كما تقدم بشكل واضح.

ونتيجة الجهة الرابعة هي : ان خطاب المهم ـ بما انه مشروط بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ـ لا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً ، لما عرفت من ان الحكم يستحيل ان يقتضى وجود موضوعه أو عدمه ، وخطاب الأهم بما انه محفوظ في هذا الحال فهو يقتضى هدم عصيانه ورفعه باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج. ومن الواضح ان الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع ، ولذا لو تمكن المكلف من الإتيان بهما في الخارج فلا يقعان على صفة المطلوبية ، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الأهم دون المهم ، والمفروض ان المكلف قادر على الإتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم ، فإذا كان قادراً فلا مانع من تعلق التكليف به على هذا التقدير ، فان المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة ، وحيث لم يكن المطلوب هو الجمع فلا مانع أصلا.

وعلى ضوء هذه النتائج تترتب نتيجة حتمية ، وهي إمكان الترتب ، وانه لا مناص من الالتزام به ، بل نقول ان من انضمام تلك النتائج بعضها مع بعضها الآخر وملاحظة المجموع بصورة موضوعية يستنتج ان مسألة إمكان الترتب من

١٢٥

الواضحات الأولية ، وانها غير قابلة للإنكار ، بحيث ان تصورها ـ بعد ملاحظة ما ذكرناه ـ يلازم تصديقها كما أفاده شيخنا الأستاذ (قده).

ثم انه ـ لا يخفى ـ ان ما ذكرناه من إمكان تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب وعدم لزوم طلب الجمع بينهما فيما إذا كان خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ـ انما هو من جهة ان هذا التقييد هادم لموضوع طلب الجمع ومناقض له ، لا من جهة ان العصيان امر اختياري وتعليق طلب الجمع على امر اختياري لا مانع منه ، بداهة ان طلب الجمع محال مطلقاً ولو كان معلقاً على امر يمكن رفعه ، وعدم إيجاده في الخارج ، فلا فرق في استحالة طلب إيجاد الضدين معاً أو النقيضين بين ان يكون مطلقاً ، وان يكون معلقاً على امر اختياري كأن يقول الآمر إذا صعدت السطح ـ مثلا ـ فاجمع بين الضدين أو النقيضين ، أو إذا سافرت فاجمع بينهما إلى غير ذلك ، فان استحالة طلب المحال وقبحه ـ ولو مشروطاً بشرط يكون وجوده وعدمه تحت اختيار المكلف ـ من الضروريات الأولية

واما ـ ما نسب إلى السيد العلامة الميرزا الكبير الشيرازي (قده) من انه اعترف بان الترتب وان استلزم طلب الجمع ، إلا انه لا محذور فيه بعد ما كان عصيان الأهم الّذي هو مأخوذ في موضوع المهم تحت اختيار المكلف ، لتمكنه من الفرار عن هذا المحذور بترك العصيان ، والإتيان بالأهم ـ فلا يخلو ما في هذه النسبة ، ضرورة ان صدور مثل هذا الكلام عنه (قده) في غاية البعد ، فانه من عمدة مؤسسي الترتب في الجملة ، فكيف يعترف بهذا المحذور؟

ومن هنا قال شيخنا الأستاذ (قده) ان هذه النسبة ليست مطابقة للواقع ، بل يستحيل صدور ذلك منه (قده) ولعله تعرض لمناسبة ان العصيان امر اختياري فتوهم المتوهم منه انه أراد به تصحيح الترتب ، والأمر كما أفاده (قده).

هذا تمام كلامنا في أدلة الترتب.

بقي هنا شيء تعرض له شيخنا الأستاذ (قده) لتوضيح محل البحث في المقام

١٢٦

ولا بأس بعطف الكلام عليه.

فنقول : قد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان الأمرين المتعلقين بفعلين إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً على قسمين :

الأول ـ ان لا يكون أحد الخطابين المجتمعين في الزمان ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر وهدمه.

الثاني ـ ان يكون أحدهما ناظراً إلى رفع موضوع الآخر.

اما القسم الأول : فالشرط الّذي يترتب عليه الخطاب والأمر لا يخلو من ان يكون اختيارياً كالسفر والحضر وقصد الإقامة وما شاكل ذلك ، وان يكون غير اختياري كزوال الشمس وغروبها وكسوفها وخسوف القمر وما يشبهها ، وعلى كلا التقديرين فعند تحقق الشرط يصير كلا الخطابين فعلياً ، وحينئذ فان كان كل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بمتعلق الآخر ، أو كان أحدهما مشروطاً بذلك دون الآخر فلا شبهة في استحالة وقوع متعلقيهما في الخارج على صفة المطلوبية ، وتعلق الطلب بالجمع بينهما ، وذلك على ضوء ما بيناه من ان اجتماع الأمرين ـ كذلك ـ لا يرجع إلى طلب الجمع بل يناقضه.

واما إذا كانا مطلقين من هذه الناحية فعندئذ ان لم يكن بين متعلقيهما تضاد في الوجود الخارجي ، وتمكن المكلف من إيقاعهما في الخارج ، وإيجادهما فيه فلا إشكال في وجوبه. واما ان كانت بينهما مضادة في عالم الوجود فيدخلان في كبرى باب التزاحم وتجري عليهما أحكامه من تقييد إطلاق كل واحد منهما بعدم الإتيان بالآخر إذا لم يكن في البين أهم ، وإلا يتعين تقييد إطلاق خطاب المهم بعدم الإتيان بالأهم دون العكس ، ولا يلزم فيه محذور طلب الجمع ونحوه كما سبق.

ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الشرط المزبور اختيارياً أو غير اختياري ، وذلك لما عرفت من ان الحكم لا يقتضى وجود شرطه في الخارج. إذن كونه اختياريا لا أثر له من هذه الناحية.

١٢٧

واما القسم الثاني ـ وهو ما إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر ـ فهو على نحوين :

أحدهما ـ ما إذا كان أحد الخطابين رافعا لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله إتيانه في الخارج.

ثانيهما ـ ما إذا كان رافعا له بصرف وجوده وتحققه في الخارج.

اما النحو الأول فهو من محل الكلام ـ هنا ـ جوازاً وامتناعا ، باعتبار أن توجه خطابين كذلك إلى شخص واحد في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج كما تخيله المنكرون للترتب ، أو لا يستلزم ذلك كما هو الصحيح؟ وقد تقدم الكلام في هذا النحو من الخطابين ضمن عدة من الفروعات الفقهية بصورة مفصلة ، فلا حاجة إلى الإعادة.

واما النحو الثاني وهو ما إذا كان الخطاب بصرف وجوده رافعا لموضوع الآخر ، فهو خارج عن محل البحث والكلام ، وذلك لامتناع اجتماع الخطابين ـ حينئذ ـ في زمان واحد ، إذا المفروض انه بمجرد تحقق أحد الخطابين يرتفع الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه ، فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد ، بداهة ان فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، ومن الواضح انها مستحيلة في فرض وجود الرافع لموضوعه ، فيكون المقام نظير الأمارات القائمة في موارد الأصول ، فانها رافعة لموضوعها ، ولا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها. وقد عرفت أن محل البحث ـ هنا ـ هو ما إذا كان الخطابان مجتمعين في زمان واحد ، واما إذا لم يكونا مجتمعين فيه فلا يكونان داخلين في محل البحث وقد ذكر (قده) لذلك فروع كثيرة :

١ ـ مسألة الحج : ببيان ان موضوعها ـ وهو الاستطاعة ـ يرتفع بصرف تحقق خطاب آخر وهو الخطاب بأداء الدين ـ مثلا ـ فانه بمحض وجوده رافع لموضوع الخطاب بالحج ، ومعه لا يكون المكلف مستطيعا إذا لم يكن المال الموجود عنده وافيا

١٢٨

بأداء الدين ومصارف الحج معا ، نعم هو واف بالمصارف وحدها ، فلو لم يكن مديوناً لكان مستطيعاً ، وكان الحج واجباً عليه ولكن دينه مانع عن وجوبه ، ورافع لموضوعه ، وعليه فلو لم يؤد دينه وعصى امره ، وحج فلا يكون حجه من حجة الإسلام ، ولا يكون مجزئاً لعدم جريان الترتب في ذلك.

وعلى الجملة فهذا خارج عن محل الكلام في المقام ، لعدم إمكان اجتماع الخطاب بأداء الدين والخطاب بالحج في زمان واحد ، ففي زمان تحقق الخطاب بأداء الدين يرتفع موضوع الخطاب بالحج. والمفروض ان الخطاب بأداء الدين في زمان عصيانه وترك متعلقه أيضاً موجود ، لما سبق مفصلا من ان التكليف ثابت في حال عصيانه أيضاً. وعلى هذا فلا يمكن فرض وجود الخطاب بالحج مترتباً على عصيان الأمر بأداء الدين. هذا بناء على ما هو المعروف من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعاً.

واما ـ بناء على تفسيرها بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق ـ كما في الرواية ـ وهو الصحيح ـ فالتكليفان متزاحمان ولا مانع من اجتماعهما على نحو الترتب ، فانه عند عصيان الأمر بأداء الدين متمكن من الزاد والراحلة ، وعندئذ فلا مانع من وجوب الحج عليه ، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه

٢ ـ ان الخطاب بإخراج الخمس في بعض الموارد بصرف وجوده وتحققه رافع لموضوع وجوب الزكاة ، ومانع عنه ، وذلك كما إذا فرضنا ان شخصاً ملك عشرين شاة في أول المحرم ـ مثلا ـ ثم ملك عشرين شاة أخرى في آخره ، فإذا مضى على الطائفة الأولى حول كامل تعلق الخطاب بإخراج الخمس منها ، وهو أربعة من تلك الشياه. ومن المعلوم ان هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن وجوب الزكاة ، ورافع لموضوعه وهو بلوغها حد النصاب ـ أعني به أربعين شاة ـ فان هذه الأربعة عندئذ صارت ملكا للإمام عليه‌السلام والسادة ، فلم يبق في ملك المالك إلا ست وثلاثون شاة ، وهي غير بالغة حد النصاب الّذي هو موضوع

١٢٩

لوجوب إخراج الزكاة. أو إذا فرضنا انه ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح ، فعندئذ لا محالة بمجرد إكمال سنة التجارة ، وقبل تمامية حول الزكاة تعلق الخطاب بإخراج الخمس منها ، الموجب لخروجها عن كونها ملكا طلقاً له بمشاركة الإمام عليه‌السلام والسادة إياه في ذلك المال ـ أعني به الشياه ـ ومن الواضح انها بذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة ، إذ لم يبق في ملكه الطلق بعد خروج ثمان منها إلا اثنتان وثلاثون شاة ، وهي لا تبلغ حد النصاب ، ففي هذا المثال ـ وما شاكله ـ لا يمكن القول بالترتب ، إذ الخطاب بإخراج الخمس بصرف تحققه وفعليته مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه لا بامتثاله وإتيانه في الخارج ، ليمكن الالتزام بوجوب الزكاة في ظرف عصيان الخطاب بالخمس وعدم امتثاله.

وعلى الجملة ففعلية الخطاب بإخراج الزكاة إنما هي بفعلية موضوعه ، وهو بلوغ المال النصاب ، وهذا المال وان كان في نفسه داخلا في النصاب مع قطع النّظر عن وجوب إخراج الخمس منه ، إلا ان وجوب ذلك مخرج له عن كونه ملكا تاماً له بمشاركة الإمام عليه‌السلام والسادة إياه في ذلك المال ، فبذلك يخرج عن موضوع وجوب الزكاة. واما الباقي في ملكه فليس يبلغ حد النصاب ، هذا بناء على ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من ان الرافع لموضوع وجوب الزكاة في مثل هذا المورد صرف تحقق الخطاب بإخراج الخمس وفعليته.

واما بناء على ما حققناه في محله فالامر ليس كما أفاده (قده) والوجه في ذلك هو ان الترتب وان كان غير جار بين هذين الخطابين وما شاكلهما ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) بل لأجل ما ذكرناه من ان الرافع لموضوع وجوب الزكاة إنما هو تعلق الخمس بالربح ، وكون غير المالك شريكا معه في خمس هذا المال ، وبذلك يخرج عن كونه ملكا طلقاً له بمشاركة غيره إياه في ذلك ، فعندئذ يخرج عن موضوع وجوب الزكاة لفرض عدم بلوغ الباقي في ملكه حد النصاب. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ان المفروض ـ كما حقق في محله ـ ان

١٣٠

الخمس إنما تعلق بالربح من حين وجوده ، ولا يتوقف تعلقه به على إكمال سنة التجارة ، غاية الأمر ان الشارع قد رخص المالك في التصرف في الأرباح إلى حين إكمال السنة ، وهذا مجرد ترخيص في التصرف من قبل الشارع في المال المشترك بينه وبين غيره ، فلا ينافي كون خمسها ملكا للغير.

فالنتيجة على ضوء هاتين الجهتين هي ان موضوع وجوب الزكاة يرتفع من حين تعلق الخمس بها ، وهو أول زمان تحققها وحصولها في الخارج ، سواء أتحقق الخطاب بإخراج الخمس في ذلك الزمان أم لم يتحقق ، فانه لا دخل لتحقق الخطاب وفعليته في ذلك أبداً ـ مثلا ـ في المثالين المتقدمين بمجرد ان المالك ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة ، أو عشرين شاة تعلق بها الخمس الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إياه فيها ، فبذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة ، ضرورة انه بعد صيرورة أربع منها في المثال الأول ، وثمان منها في المثال الثاني ملكا لغير المالك لم يبق في ملكه ما يبلغ حد النصاب ، فيرتفع الموضوع من زمان حصول ذلك الربح وهو زمان ملك المالك أربعين أو عشرين شاة ، ولا يتوقف ارتفاعه على وجود الخطاب وتحققه أصلا ، بداهة ان الموجب لارتفاعه انما هو صيرورة خمس تلك الأرباح ملكا لغير المالك ، فانه يمنع عن بلوغها حد النصاب ، لا وجود الخطاب ، إذ الإلزام بالإخراج إنما يتحقق بعد مضي الحول وتمام السنة. نعم يستحب الإخراج من زمان الربح ، لا انه واجب.

٣ ـ ما إذا تعلق الخطاب بإخراج شيء زكاة ، فانه في بعض الموارد بنفسه وبصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس ، ورافع لموضوعه ، وذلك كثيراً ما يتفق في الغلات الأربع ، كما إذا ملك المكلف أثناء سنة التجارة من الغلات مقداراً يبلغ حد النصاب فوجب عليه إخراج زكاته ، وهي مقدار عشر هذا المال ـ مثلا ـ فيخرج بذلك هذا العشر عن فاضل المئونة الّذي هو موضوع وجوب الخمس.

١٣١

أو فقل : ان تعلق الخطاب بإخراج الزكاة عن ذلك المال يخرجه عن كونه ملكا طلقاً له بمشاركة الفقير إياه في عشر ذلك ، وعليه فلا يكون عشره من فاضل مئونته ليتعلق به الخمس. ولا يفرق في عدم تعلق الخمس به بين ان يخرجه ويعطى للفقير أم لا ، فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين في زمان واحد ليمكن تصحيح وجوب الخمس بالترتب. هذا بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده).

واما بناء على وجهة نظرنا فقد ظهر مما تقدم ان الرافع للموضوع في أمثال هذا المورد ليس الخطاب بصرف وجوده وتحققه ، بل الرافع له ـ هنا ـ هو نفس تعلق الزكاة بعين هذا المال الموجب لخروجه عن كونه ملكا تاماً له بمشاركة الفقير إياه في ذلك المال ، فبذلك يخرج عشره عن فاضل المئونة من جهة انه صار ملكا لغيره. ومن الواضح ـ جداً ـ انه لا دخل في ذلك لوجود الخطاب بإخراج الزكاة وعدم وجوده أصلا ، وهذا بمكان من الوضوح.

٤ ـ ما إذا كان المكلف مديوناً بدين صرفه في مئونة سنته فالخطاب ـ بأدائه بصرف تحققه وفي نفسه ـ بخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المئونة ان كان دينه مستوعباً لتمام الربح كما إذا كان مائة دينار ، وربحه أيضاً كذلك وان لم يكن مستوعباً لتمامه ، كما إذا كان دينه خمسين ديناراً وربحه في تلك السنة مائة دينار ، فيخرج عن الربح بمقدار الدين عن فاضل المئونة ، فلا يتعلق به الخمس دون الزائد. وعلى هذا لو عصى الأمر بأداء الدين ولم يؤد دينه فلا يجب عليه إخراج الخمس عنه بمقدار دينه ، هذا بناء على مسلك شيخنا الأستاذ (قده).

والصحيح ان الرافع لموضوع وجوب الخمس ـ هنا ـ انما هو نفس وجوب الدين ، إذ معه لا يتحقق له ـ في هذه السنة ـ ربح ليتعلق به الخمس ، لا الخطاب بأدائه ، فانه لا دخل له في ذلك أصلا. ولذا لو فرض انه لم يكن خطاب بأدائه لمانع من الموانع لم يتعلق به الخمس أيضاً لعدم الموضوع له ، وهو الفاضل عن مئونة السنة. هذا إذا كان دينه من جهة الصرف في المئونة. واما إذا كان دينه

١٣٢

من غير تلك الجهة ، كما إذا كان من ناحية الضمان أو نحوه ، فهل هو أيضاً رافع لموضوع وجوب الخمس أم لا ، ففيه كلام وإشكال ، وتمام الكلام في باب الخمس إن شاء الله تعالى.

وقد تحصل مما ذكرناه ان هذه الفروعات وما شاكلها جميعاً خارجة عن محل الكلام في المسألة ، ولا يجري الترتب في شيء منها ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من ان عدم جريانه من جهة ان أحد الخطابين رافع لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده وتحققه ، فلا يمكن اجتماعهما في زمان واحد ، بل لما ذكرناه من ان الرافع له شيء آخر ، وهو المانع عن اجتماعهما في زمان واحد ، ولا دخل لوجود الخطاب وعدمه في ذلك أبداً.

نعم ـ ما ذكره (قده) بالإضافة إلى الأمارات وانها رافعة لموضوع الأصول وانه لا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها ـ صحيح ، بل لا يختص هذا بالأمارات والأصول ، فيعم جميع موارد الحكومة والورود إذ لا يبقى موضوع لدليل المحكوم والمورود بعد ورود دليل الحاكم والوارد. ولكن قياس هذه الفروعات بتلك الموارد قياس مع الفارق.

ونتائج أبحاث الترتب ـ إلى هنا ـ عدة نقاط :

الأولى ان البحث عن الترتب انما يكون ذا ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة المزاحمة لواجب أهم بالأمر ، ولا بالملاك ، وإلا فلا تترتب على البحث عنه ثمرة كما عرفت.

الثانية ـ ان البحث عن هذه المسألة بحث عقلي لا يرتبط بعالم اللفظ أبداً.

الثالثة ـ ان ما كان محلا للبحث هو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان مضيقين ، أحدهما أهم من الآخر. واما إذا كانا موسعين ، أو كان أحدهما موسعاً والآخر مضيقاً فقد سبق ان هاتين الصورتين خارجتان عن محل البحث والكلام. نعم ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان الصورة الأخيرة داخلة في محل الكلام. ولكن قد عرفت ان ما ذكره إنما يتم على مسلكه (قده) لا مطلقاً ، كما تقدم تفصيلا.

١٣٣

الرابعة ـ ان إمكان الترتب كاف لوقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل فالبحث فيه متمحض في جهة إمكانه.

الخامسة ـ ان الترتب لا يجري في اجزاء واجب واحد وشرائطه ، فإذا دار الأمر بين القيام في الركعة الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية ـ مثلا ـ فلا يجري الترتب فيه ، لعدم كونهما من المتزاحمين ليترتب عليهما أحكامهما ، ومنها الترتب. نعم ذكر جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قده) ان التزاحم يجري بينهما كما يجري بين واجبين نفسيين ، ولكن قد عرفت فساد ذلك.

السادسة ـ انه لا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على نحو الترتب على إحراز الملاك فيه ، خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) حيث قد أنكر جريانه فيما لم يحرز كونه واجداً للملاك ، وقلنا ان الترتب لا يتوقف على ذلك. والأصل فيه ما تقدم من انه لا يمكن إحراز الملاك في شيء مع قطع النّظر عن تعلق الأمر به ، من دون فرق في ذلك بين اعتبار القدرة في موضوع التكليف عقلا أو شرعاً.

السابعة ـ انه لا فرق في جريان الترتب بين ما إذا كانت القدرة معتبرة في موضوع التكليف بالمهم عقلا وما إذا كانت معتبرة فيه شرعاً كما في الوضوء خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) حيث منع عن جريان الترتب في الثاني بدعوى ان نفس التكليف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء ، لا امتثاله ، ولكن قد عرفت فساده وان نفس التكليف بالأهم لا يكون رافعاً لموضوعه ، لفرض ان التصرف في الماء الموجود عنده مباح وليس بحرام غاية الأمر يجب صرفه في واجب أهم كحفظ النّفس المحترمة أو نحوه ، ولكن المكلف عصى ولم يصرفه فيه ، اذن يكون المكلف واجداً للماء ولا مانع من صرفه في الوضوء لا عقلا كما هو واضح ، ولا شرعاً لأن التصرف في هذا الماء مباح له على الفرض ، والعصيان انما هو من جهة ترك ذلك الواجب ، لا من جهة التصرف فيه ، وعليه فعلى القول بإمكان الترتب لا مانع من الالتزام به في مثل المقام. نعم لو كان التصرف في الماء في نفسه حراماً

١٣٤

فلا يمكن تصحيح الوضوء بالترتب ، لأن نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه ، لا امتثالها.

الثامنة ـ ان ما دل على إمكان الترتب أمور ثلاثة : الوجدان ، الدليل الإنيّ الدليل اللمي.

التاسعة ـ ان الترتب قد وقع في عدة من الفروعات الفقهية ولا مناص من الالتزام به في تلك الفروعات ، كما تقدمت جملة منها فلاحظها.

العاشرة ـ ان الواجب الأهم إذا كان آنياً غير قابل للدوام والبقاء ، وكان الواجب المهم تدريجياً قابلا لذلك فلا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على القول بإمكان الترتب ، ولذا قلنا ان هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فان ما كان محلا للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النّظر عن القول بالترتب.

الحادية عشرة ـ ان محل الكلام هو ما إذا كان كل من الواجب الأهم والمهم تدريجياً أو كان كلاهما آنياً.

الثانية عشرة ـ ان شرط فعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم مستمراً إلى آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم على نحو الشرط المتأخر ، لا صرف وجود عصيانه في الآن الأول ، وان تبدل بالإطاعة في الآن الثاني ، فان هذا لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدين في الآن الثاني والثالث كما تقدم.

الثالثة العشرة ـ ان زمان المعتبر والمجعول ـ وهو زمان فعلية الحكم بفعلية موضوعه ـ دائماً متحد مع زمان الواجب ، وهو زمان عصيانه وامتثاله بناء على القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، واما بناء على القول بإمكانهما ـ كما هو الصحيح ـ فلا مانع من ان يكون زمان المعتبر مقدماً على زمان الواجب كما سبق.

الرابعة عشرة ـ انه لا فرق في القول بإمكان الترتب واستحالته بين القول

١٣٥

بإمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما ، فان ملاك الإمكان والاستحالة في الترتب شيء وهناك شيء آخر كما عرفت.

الخامسة عشرة ـ ان الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وامتثاله ، كما انه ثابت حال الأمر بالمهم على ما تقدم.

السادسة عشرة ـ ان ثبوت الأمر بالأهم في حالي عصيانه وامتثاله انما هو بالإطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة ثبوت المؤثر حال تأثيره على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده).

السابعة عشرة ـ ان اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع ، بل هو يناقضه ويعانده بملاك تقييد مطلوبية المهم بترك الأهم ، وقد تقدم ان اقتضاء اجتماع الأمرين للجمع بين متعلقيهما في الخارج يتصور في صور ، وما نحن فيه ليس بشيء منها.

الثامنة عشرة ـ ان النقطة التي ينطلق منها إمكان الترتب بل ضرورته هي انه لا تنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم في ذاتهما ، مع قطع النّظر عن اقتضائهما للإتيان بمتعلقيهما ، فالمنافاة إنما هي بين متعلقيهما من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. ومن الواضح ان هذه المنافاة ترتفع بتقييد فعلية الأمر بالمهم بترك الأهم وعصيان امره ، مع عدم اقتضائه لعصيانه وتركه ، لما عرفت من استحالة اقتضاء الحكم لوجود موضوعه في الخارج ، وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم أصلا لا بالذات ، كما عرفت ولا باعتبار اقتضائهما لمتعلقيهما ، فان متعلق الأمر بالأهم مطلوب على الإطلاق وليس في عرضه مطلوب آخر ، ليزاحمه وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به ، فالمهم ـ حينئذ ـ مطلوب ، والمفروض انه في هذا الظرف مقدور للمكلف عقلا وشرعاً ، فإذا كان كذلك فلا مانع من تعلق الأمر به ، وليس فيه تكليف بالمحال والجمع أبداً ، ومجرد ثبوت الأمر بالأهم في هذا الحال لا ينافيه لا ذاتاً ولا اقتضاء ، ولعل المنكرين للترتب

١٣٦

لم ينظروا إلى هذه النقطة نظرة عميقة صحيحة ، بل نظروا إليها نظرة سطحية ، وتخيلوا ان اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد غير معقول. وكيف ما كان فإمكان الترتب على ضوء بياننا هذا قد أصبح امراً ضرورياً ، فلا مناص من الالتزام به أصلا.

التاسعة عشرة ـ انه لا تنافي ولا تزاحم بين الملاك القائم بالمهم في ظرف ترك الأهم وعصيان امره ، والملاك القائم بالأهم على وجه الإطلاق ، كما انه لا تنافي بين إرادة المهم في هذا الظرف وإرادة الأهم على الإطلاق كما عرفت.

العشرون ـ ان الخطاب الناظر إلى موضوع خطاب آخر على قسمين أحدهما ما كان رافعاً لموضوعه بصرف وجوده وتحققه ، وقد مثل شيخنا الأستاذ (قده) لذلك بفروع كثيرة ولكن قد عرفت ان الرافع الموضوع في تلك الفروعات ليس هو صرف وجود الخطاب بل الرافع له شيء آخر كما عرفت. وثانيهما ما كان رافعاً له بامتثاله والإتيان بمتعلقه وقد تقدم ان القسم الأول خارج عن محل الكلام ، ولا يمكن فيه فرض الترتب ، والقسم الثاني داخل فيه.

أدلة استحالة الترتب ونقدها

الأول ـ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك نصه :

قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك فانه وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما إلا انه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضاً ، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضاً. لا يقال نعم ولكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصى

١٣٧

فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلا الطلب بالأهم ، ولا برهان على على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار. فانه يقال استحالة طلب الضدين ليست إلا لأجل استحالة طلب المحال واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال ، وإلا لصح فيما علق على امر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع انه محال بلا ريب ولا إشكال.

ان قلت فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، فان الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فان الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم ، فانه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان امره.

قلت ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته ومضادة متعلقه له ، وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا يوجب عدم طرده ، لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان امره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين مع انه يكفي الطرد من طرف الأهم ، فانه على هذا الحال يكون طارداً لطلب الضد ـ كما كان في غير هذا الحال ـ فلا يكون له معه أصلا بمجال.

أقول : ملخص ما أفاده (قده) هو ان اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد كما هو المفروض في محل الكلام يقتضى الجمع بينهما في ذلك الزمان ، لما عرفت من ان نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضى إلى مقتضاه في الخارج ، وعلى هذا فكما ان الأمر بالأهم يقتضى إيجاد متعلقه في الزمان المزبور ، فكذلك الأمر بالمهم يقتضى إيجاده فيه ، لفرض كونه فعلياً في ذلك الزمان إذ لا معنى لفعلية الأمر في زمان إلا اقتضائه إيجاد متعلقه فيه خارجاً ودعوته إليه فعلا ، وعلى هذا فلا محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان من جهة مضادة متعلقيهما في الوجود مع ان الأمر بالمهم لو لم يقتض طرد الأهم

١٣٨

فالامر به لا محالة يقتضى طرد الأمر بالمهم ، وهذا يكفي في استحالة طلبه.

وغير خفي ان صدور هذا الكلام منه (قده) غريب.

والوجه في ذلك هو انه لا يعقل ان يكون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم ، بداهة ان طرده له يبتنى على أحد تقديرين لا ثالث لهما.

أحدهما ـ ان يكون الأمر بالمهم مطلقاً وفي عرض الأمر بالأهم ، فحينئذ لا محالة تقع المطاردة بينهما من ناحية مضادة متعلقيهما ، وعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما.

الثاني ـ ان يكون الأمر به على تقدير تقييده بعصيان الأهم مقتضياً لعصيانه وتركه في الخارج فعندئذ تقع المطاردة والمزاحمة بين الأمرين لا محالة باعتبار ان الأمر بالمهم يقتضى عصيان الأهم وترك متعلقه ، والأمر بالأهم يقتضى هدم عصيانه ورفعه.

ولكن كلا التقديرين خلاف مفروض الكلام.

اما الأول فواضح لما عرفت من ان محل الكلام فيما إذا كان الأمر بالمهم مقيداً بحال ترك الأهم وعصيان امره فلا يكون مطلقاً.

واما الثاني فلما تقدم من ان الحكم يستحيل ان يقتضى وجود موضوعه في الخارج ، وناظراً إليه رفعاً ووضعاً.

وعلى ضوء هذا فالامر بالمهم بما ـ انه لا يكون مطلقاً ، ولا يكون متعرضاً لحال موضوعه وهو عصيان الأهم ، بل هو ثابت على تقدير تحقق موضوعه ووجوده ـ فيستحيل ان يكون طارداً للأمر بالأهم ومنافياً له ، فانه لا اقتضاء له بالإضافة إلى حالتي وجوده وعدمه. ومن الواضح جداً ان ما لا اقتضاء فيه لا يزاحم ما فيه الاقتضاء.

أو فقل : ان اقتضاء الأمر بالمهم لإتيان متعلقه انما هو على تقدير ترك الأهم وعصيان امره ، واقتضائه على هذا التقدير لا ينافي اقتضاء الأمر بالأهم

١٣٩

أصلا ، ولا يكون الإتيان بمتعلقه في هذا الحال مزاحماً بأي شيء ، غاية ما في الباب ان المكلف من جهة سوء سريرته عصى الأمر بالأهم ، ولم يعمل بمقتضاه فلا يكون عصيانه مستنداً إلى مزاحمة الأمر بالمهم ، كيف فان الأمر به قد تحقق في فرض عصيانه وتقدير وجوده فلا يعقل ان يكون عصيانه مستنداً إليه ، بل هو مستند إلى اختيار المكلف إياه ، وعند ذلك أي اختيار المكلف عصيانه وترك متعلقه يتحقق الأمر بالمهم. وعليه فلا يمكن ان يكون مثل هذا الأمر طارداً ومزاحما له ، فالطرد من جانب الأمر بالمهم غير معقول ، فاذن المطاردة من الجانبين غير متحققة.

واما الطرد من جانب الأمر بالأهم فحسب فهو أيضاً غير متحقق ، والوجه في ذلك هو ان الأمر بالأهم انما يطارد الأمر بالمهم فيما إذا فرض كونه ناظراً إلى متعلقه ومستدعياً لهدمه ، فحينئذ لا محالة يكون طاردا له باعتبار انه يقتضى إيجاد متعلقه في الخارج ، وذاك يقتضى هدمه ، وبما انه أهم فيطارده ، ولكن الفرض انه غير ناظر إليه ، وانما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لرفعه.

وعلى هذا فلا تنافي بينهما أصلا ليكون الأمر بالأهم طارداً للأمر بالمهم ، إذ المفروض ان الأمر بالمهم لا يقتضى وجود موضوعه في الخارج وغير متعرض لحاله أصلا لا وجوداً ولا عدماً ، ومعه كيف يكون الأمر بالأهم طارداً له ، بداهة ان الطرد لا يتصور إلا في مورد المزاحمة ، ولا مزاحمة بين ما لا اقتضاء فيه بالإضافة إلى شيء أصلا وما فيه اقتضاء بالإضافة إليه!

وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) في المقام لا يرجع إلى معنى معقول.

نعم ما أفاده (قده) من ان استحالة طلب المحال لا تختص بحال دون حال متين جداً كما تعرضنا آنفاً إلا انه أجنبي عن محل الكلام بالكلية.

الثاني أيضاً ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك لفظه.

ثم انه لا أظن ان يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في

١٤٠