محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

أو إخفاتاً وانها مجزئة عن الواقع ، وصحة العقاب على ترك الآخر.

وقد أورد عليه شيخنا العلامة الأنصاري (قده) بقوله (انا لا نعقل الترتب) واكتفي بذلك ولم يبين وجهه.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بان قوله هذا مناقض لما ذهب إليه في تعارض الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب هناك.

وإليك نصّ كلامه : ان الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ، لأن ذلك غير ممكن كما تقدم وجهه في بيان الشبهة ، لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل واحد منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة ، والمفروض ان كل واحد منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا مما يحكم به بداهة العقل ، كما في كل واجبين اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلا تعين الآخر عليه كذلك.

والسر في ذلك انا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتاً بمجرد الإمكان. ولزم كون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم وجود الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منهما في مقام الامتثال بأزيد من الإمكان ، سواء كان وجوب كل منهما بأمر أو كان بأمر واحد يشمل الواجبين ، وليس التخيير في القسم الأول لاستعمال الأمر في التخيير والحاصل إذا انه امر الشارع بشيء واحد استقل العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي ، وإذا امر بشيئين وأنفق امتناع إيجادهما في الخارج استقل بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ، لأنها ممكنة فيقبح تركها ،

١٦١

لكن هذا كله على تقدير ان يكون العمل بالخبر من باب السببية بان يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ظاهراً على المكلف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لاعمال الآخر كما في كل واجبين متزاحمين».

أقول : ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) من المناقضة بين كلام الشيخ (ره) ـ في المقام ـ وما ذكره في بحث التعادل والترجيح متين جداً ، فان كلامه ـ هناك ـ الّذي نقلناه بألفاظه ـ هنا ـ ظاهر بل صريح في التزامه بالترتب ، إذ لا معنى له إلا الالتزام بوجوب أحد الواجبين المتزاحمين عند ترك الآخر بأن يرفع اليد عن إطلاق كل واحد منهما عند الإتيان بالآخر ، لا عن أصله إذا كانا متساويين ، وعن إطلاق واحد منهما إذا كان أحدهما أهم من الآخر.

ومن الواضح جداً انه لا فرق في القول بالترتب بين ان يكون من طرف واحد كما تقدم الكلام فيه مفصلا ، وان يكون من الطرفين كما إذا كان كلاهما متساويين ، فانه عند ذلك بما ان المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في الخارج فلا مانع من ان يكون الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الإتيان بالآخر فهما (الترتب من طرف واحد ، ومن الطرفين) يشتركان في ملاك إمكان الترتب واستحالته ، فان ملاك الإمكان هو ان اجتماع الأمرين كذلك في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع وملاك الاستحالة هو ان اجتماعهما كذلك يستلزم طلبه ، والمفروض ان الأمرين مجتمعان في زمان واحد ، لما عرفت من ان الأمر ثابت حالتي وجود متعلقه وعدمه فلا يسقط بمجرد تركه كما انه لا يسقط بصرف الاشتغال بالآخر. نعم يسقط بعد الإتيان به ، لفرض ان وجوب كل منهما مشروط بعدم الإتيان بالآخر فلا محالة لا وجوب بعد الإتيان به ، وعلى كل حال فهو (قده) قد التزم بالترتب في تعارض الخبرين بناء على السببية غافلا عن كون هذا ترتباً مستحيلا في نظره.

ومن هنا قلنا ان مسألة إمكان الترتب مسألة ارتكازية وجدانية ولا مناص

١٦٢

من الالتزام بها ولذا قد يلتزم بها المنكر لها بشكل آخر وببيان ثان غافلا عن كونه ترتباً مع انه هو في الواقع وبحسب التحليل.

واما شيخنا الأستاذ (قده) فقد أورد على ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) في المسألة (صحة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس جهلا) من ناحية أخرى ، ونحن وان تعرضنا المسألة في آخر بحث البراءة والاشتغال ودفعنا الإشكال عنها من دون حاجة إلى الالتزام بالترتب فيها ، إلا ان الكلام هنا يقع في الوجوه التي ذكرها شيخنا الأستاذ (قده) في وجه عدم جريان الترتب فيها وانها ليست من صغريات كبرى مسألة الترتب. بيانها :

الأول ـ ان محل الكلام في جريان الترتب وعدم جريانه انما هو فيما إذا كان التضاد بين متعلقي الحكمين اتفاقياً. والوجه في ذلك هو ان التضاد بين المتعلقين انما يوجب التزاحم بين الحكمين فيما إذا كان من باب الاتفاق كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد وإنقاذ الغريقين وما شاكلهما بالإضافة إلى من لا يقدر على الجمع بينهما في عالم الوجود ، ولذا لا تزاحم ولا تضاد بينهما بالإضافة إلى من يقدر على الجمع بينهما فيه. واما إذا كان التضاد بينهما دائمياً بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الوجود أصلا كالقيام والجلوس والسواد والبياض وما شابههما فلا يمكن جعل الحكمين لهما معاً ، لأن ذلك لغو صرف فلا يصدر من الحكيم.

نعم يمكن جعلهما على نحو التخيير إلا انه خارج عن محل الكلام وعليه فلا محالة يدخلان في باب التعارض ، لتنافيهما بحسب مقام الجعل.

وعلى هذا الأساس فحيث ان التضاد بين الجهر والإخفات دائمي فلا محالة كان دليل وجوب كل منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر ، فبذلك يخرجان عن باب التزاحم الّذي هو الموضوع لبحث الترتب.

ويمكن المناقشة فيما أفاده (قده) وذلك لأن ما ذكره ـ من ان التضاد بين المتعلقين إذا كان دائمياً فيدخلان في باب التعارض ـ وان كان متيناً جداً ، إلا ان

١٦٣

ذلك لا يمنع عن جريان بحث الترتب فيهما إمكاناً واستحالة ، فان ملاك إمكانه هو ان تعلق الأمرين بالضدين على نحو الترتب لا يرجع إلى طلب الجمع بينهما في الخارج وملاك استحالته هو ان ذلك يرجع إلى طلب الجمع بينهما فيه. ومن الواضح جداً انه لا يفرق في ذلك بين ان يكون التضاد بينهما اتفاقياً أو دائمياً ، ضرورة ان مرجع ذلك ان كان إلى طلب الجمع فهو محال على كلا التقديرين من دون فرق بينهما أصلا ، وان لم يكن إلى طلب الجمع فهو جائز كذلك ، إذ على هذا كما يجوز تعلق الأمر بالصلاة والإزالة ـ مثلا ـ على نحو الترتب ، كذلك يجوز تعلق الأمر بالقيام والقعود ـ مثلا ـ على هذا النحو.

وعلى الجملة فالمحال إنما هو طلب الجمع ، فكما يستحيل طلب الجمع بين القيام والقعود خارجاً فكذلك يستحيل طلب الجمع بين الصلاة والإزالة ، واما طلبهما على نحو الترتب الّذي هو مناقض لطلب الجمع ومعاند له فلا مانع منه أصلا.

فالنتيجة من ذلك هي ان الترتب كما يجري بين الخطابين في مقام الفعلية والمزاحمة بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ، كذلك يجري بينهما في مقام الجعل والمعارضة بتقييد جعل أحد الحكمين المتعارضين بعصيان الحكم الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه على نحو القضية الحقيقية ، وفي مسألتنا هذه لا مانع من جعل وجوب الجهر في موضع الخفت وبالعكس على نحو الترتب ـ بان يكون الواجب على المكلف ابتداء هو الإخفات ـ مثلا ـ وعلى تقدير عصيانه وتركه جهلا يكون الواجب عليه هو الجهر أو بالعكس ، وكذا الحال في موضع القصر والتمام ، فان المجعول ابتداء على المسافر هو وجوب القصر ، وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به جهلا يكون المجعول عليه هو وجوب التمام ، ولا مانع من ان يؤخذ في موضوع أحد الخطابين عصيان الخطاب الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه في مقام الجعل أصلا.

نعم الترتب في مقام الجعل في هاتين المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام الفعلية والامتثال في نقطتين :

١٦٤

الأولى ـ ان المأخوذ في موضوع الخطابين فيهما عدم الإتيان بالآخر في حال الجهل ـ لا مطلقاً ـ ولذا لو لم يأت المكلف بالصلاة جهراً في صورة العلم والعمد أو الصلاة قصراً فلم تجب عليه الصلاة إخفاتاً أو الصلاة تماماً بالترتب ، فيختص القول بالترتب فيهما بحال الجهل.

الثانية ـ ان وقوع الترتب في مقام الجعل يحتاج إلى دليل ، فلا يكفي إمكانه لوقوعه. وهذا بخلاف الترتب في مقام التزاحم والامتثال ، فان إمكانه يستغنى عن إقامة الدليل على وقوعه فيكون الوقوع على طبق القاعدة ، لما عرفت سابقاً من انه بناء على إمكان الترتب ـ كما هو المفروض ـ فالساقط انما هو إطلاق خطاب المهم دون أصله ، لأن سقوط أصله بلا موجب وسبب ، إذا الموجب له انما هو وقوع التزاحم بينه وبين خطاب الأهم ، والمفروض ان التزاحم يرتفع برفع اليد عن إطلاق خطاب المهم. وعليه فلا بد من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور. واما الزائد عليه فيستحيل سقوطه.

وعلى هذا يترتب بقاء خطاب المهم في ظرف عصيان خطاب الأهم وعدم الإتيان بمتعلقه. وهذا معنى ان وقوعه لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس ما دل على وجوب المهم كاف.

ولكن للشيخ الكبير (قده) ان يدعى ان الدليل قد دل على وقوعه في المسألتين المزبورتين وهو الروايات الصحاح الدالة على صحة الجهر في موضع الخفت وبالعكس ، وصحة التمام في موضع القصر. وعليه فيتم ما أفاده (قده) ثبوتاً وإثباتاً ، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) فانه لم يدع الترتب في مقام التزاحم والفعلية ، ليرد عليه ما أورده ، بل هو يدعى الترتب في مقام الجعل ، وقد عرفت انه بمكان من الوضوح ، غاية الأمر أن وقوعه يحتاج إلى دليل ، وقد عرفت الدليل عليه ـ وهو الروايات المزبورة ـ فاذن يتم ما أفاده.

الثاني ـ ما أفاده (قده) من ان مورد بحث الترتب هو ما إذا كان خطاب المهم

١٦٥

مترتباً على عصيان الخطاب بالأهم وترك متعلقه. ومن الواضح ان هذا إنما يعقل فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود في الخارج عند عصيان الأهم وعدم الإتيان به وإلا فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال ، ضرورة استحالة تعلق الطلب بما هو ضروري الوجود في الخارج ، كما انه يستحيل تعلقه بما هو ممتنع الوجود فيه ، وبذلك يظهر ان مورد البحث في المسألة انما هو في الضدين الذين لهما ثالث كالصلاة والإزالة ـ مثلا ـ والقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما ، فان وجود أحدهما لا يكون ضرورياً عند عصيان الآخر وتركه. واما الضدان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شابههما فلا يعقل جريان الترتب فيهما ، لأن وجود أحدهما عند عصيان الآخر وتركه ضروري فلا يكون قابلا لأن يتعلق به الخطاب الترتبي ، بداهة ان طلبه عندئذ يكون من قبيل طلب الحاصل.

وعلى الجملة فإذا كان وجود الشيء ضرورياً على تقدير ترك الآخر كوجود الحركة ـ مثلا ـ على تقدير ترك السكون أو بالعكس لاستحال تعلق الأمر به على هذا التقدير ، لأن قبل تحقق ذلك التقدير يستحيل كون الأمر المتعلق به فعلياً ، لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه وتحققه ، وبعد تحققه يكون طلبه طلباً لإيجاد الموجود وهو محال. فقد تحصل ان طلب أحد الضدين الذين لا ثالث لهما على تقدير ترك الآخر طلب لما هو مفروض الوجود في الخارج ، وهو مستحيل ، كما انه يستحيل طلب الشيء على فرض وجوده أو عدمه فيه على ما سبق.

وبعد ذلك نقول : ان الجهر والإخفات في القراءة بما ـ انهما من الضدين الذين لا ثالث لهما ، وكذا القصر والتمام ، فان المكلف في حال القراءة لا يخلو من الجهر أو الإخفات ، وكذا في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام ، ولا ثالث في البين ـ فلا يعقل جريان الترتب فيهما ، لفرض ان وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري. وعليه فيستحيل تعلق الأمر بأحدهما في ظرف ترك الآخر ، لأنه طلب الحاصل ، فلا يمكن ان يقال : ان الإخفات

١٦٦

مأمور به على تقدير ترك الجهر أو بالعكس ، أو التمام مأمور به على تقدير ترك القصر.

فالنتيجة من ذلك هي ان هاتين المسألتين خارجتان عن موضوع الترتب رأساً.

وغير خفي ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الكبرى وهي اختصاص القول بجواز الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث في غاية المتانة والصحة.

والوجه فيه ما عرفت في ضمن كلامه من ان وجود أحدهما إذا كان ضرورياً عند ترك الآخر فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال ، إلا ان تلك الكبرى لا تنطبق على المسألتين المزبورتين وانهما ليستا من صغرياتها ومصاديقها ، وذلك لأن جعل محل الكلام في المسألتين من الضدين الذين لا ثالث لهما غير مطابق للواقع ، ومبنى على تخيل ان المأمور به هو نفس الجهر والإخفات في هذه المسألة ، والقصر والتمام في تلك المسألة. وعليه فالمكلف في حال القراءة ـ لا محالة ـ لا يخلو من الجهر أو الإخفات ، كما انه في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام. ولكنه غفلة عن الواقع ، وذلك لأن المأمور به في المسألة الأولى انما هو القراءة الجهرية أو الإخفاتية ، وفي المسألة الثانية انما هو الصلاة قصراً أو الصلاة تماماً. ومن الواضح جداً انهما من الضدين الذين لهما ثالث ، ضرورة ان القراءة الجهرية ليست ضرورية الوجود عند ترك القراءة الإخفاتية أو بالعكس ، كما ان الصلاة تماماً ليست ضرورية الوجود عند ترك الصلاة قصراً ، إذ المكلف عند ترك القراءة جهراً يمكن ان يأتي بها إخفاتاً ويمكن ان لا يأتي بها أصلا ، كما انه عند ترك الصلاة قصراً يمكن ان يأتي بالصلاة تماماً ويمكن ان لا يأتي بها أبداً. وعلى هذا فلا مانع من تعلق الأمر بهما على نحو الترتب بأن يكون الأمر بإحداهما مشروطاً بعصيان الأمر بالأخرى وعدم الإتيان بمتعلقه.

نعم لا واسطة بين الجهر والإخفات في ظرف وجود القراءة ، كما انه لا واسطة بين القصر والتمام في فرض وجود الصلاة ، فان الصلاة إذا تحققت فلا محالة

١٦٧

لا تخلو من كونها قصراً أو تماماً ولا ثالث لهما ، كما ان القراءة إذا تحققت فلا تخلو من كونها جهرية أو إخفاتية. ولكن هذا ليس من محل الكلام في شيء ضرورة ان المأمور به ـ كما عرفت ـ ليس هو الجهر أو الإخفات بما هو ، والقصر أو التمام كذلك ، بل المأمور به هو القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية ، والصلاة قصراً والصلاة تماماً. وقد عرفت ان بينهما واسطة فلا يكون وجود إحداهما ضرورياً عند ترك الأخرى. بل يمكن ان يقال ان ما ذكره (قده) لو تم فانما يتم بالإضافة إلى مسألة الجهر والخفت. واما بالنسبة إلى الإتمام والتقصير فالواسطة موجودة ، فان معنى التقصير هو الإتيان بالتسليمة في الركعة الثانية ، ومعنى الإتمام هو التسليم في الركعة الرابعة ، ويمكن المكلف ترك كلا الأمرين كما هو واضح.

وقد تحصل من ذلك ان المسألتين داخلتان في موضوع بحث الترتب. فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من انهما من الضدين الذين ليس لهما ثالث مبنى على غفلته عما ذكرناه ، وتخيل ان المأمور به هو نفس الجهر والإخفات.

الثالث ـ ما ذكره (قده) من ان الخطاب المترتب على عصيان خطاب آخر انما يكون فعلياً عند تحقق امرين :

الأول ـ تنجز الخطاب المترتب عليه من ناحية وصوله إلى المكلف صغرى وكبرى. وقد ذكرنا في محله ان التكليف ما لم يصل إلى المكلف بحسب الصغرى والكبرى لا يكون محركا له وموجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته.

الثاني ـ عصيانه الّذي هو الموضوع للخطاب المترتب. وقد ذكرنا غير مرة ان فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، ويستحيل ان يكون الحكم فعلياً بدون فعلية موضوعه وتحققه في الخارج ، وحيث ان المفروض فيما نحن فيه توقف صحة الصلاة مع القراءة الجهرية ـ مثلا ـ على الجهل بوجوب الإخفات فلا يمكن تحقق العصيان للتكليف بالإخفات ووجوبه ، ليتحقق موضوع وجوب الجهر ، لأن التكليف الواقعي

١٦٨

لا يتنجز مع الجهل به ، وبدون التنجز لا يتحقق العصيان الّذي أخذ في موضوع وجوب الجهر.

وعلى هذا فلا يتحقق شيء من الأمرين المزبورين ، وبدون ذلك يستحيل فعلية الخطاب المترتب ، فإذا استحالت فعليته استحال جعله أيضاً ، لما ذكرناه من ان الغرض من جعل التكليف ـ سواء أكان وجوبياً أم تحريمياً ـ انما هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك. ومن الواضح انه انما يكون داعياً فيما إذا أمكن إحرازه صغرى وكبرى واما إذا لم يمكن إحرازه كذلك فيستحيل أن يكون داعياً.

ومن هنا قد ذكرنا في بحث البراءة ان التكليف إذا لم يصل إلى المكلف صغرى فلا يكون محركا له بمجرد وصوله كبرى ، كما إذا علم بحرمة شرب الخمر ـ مثلا ـ في الشريعة المقدسة ، ولكن لم يعلم ان هذا المائع المعين خمر فلا يكون مثل هذا العلم داعياً إلى ترك شرب هذا المائع ، وكذا الحال فيما إذا كان التكليف وأصلا صغرى ، ولكنه لم يصل كبرى ، كما إذا علم ان هذا المائع المعين خمر ، ولكن لم يعلم حرمة شربه فلا يكون مجرد العلم بكونه خمراً مؤثراً في تركه.

ومن ذلك قلنا انه لا فرق في جريان البراءة بين الشبهات الحكمية والموضوعية فكما انها تجري في الأولى ، فكذلك تجري في الثانية ، لأن ملاك الجريان فيهما واحد ـ وهو عدم العلم بالتكليف الفعلي ـ غاية الأمر ان جريانها في الأولى مشروط بالفحص فلا تجري قبله ، دون الثانية ، وفي المقام بما انه لا يمكن إحراز موضوع الخطاب المترتب ـ وهو عصيان الخطاب المترتب عليه ـ فلا يمكن جعله ، لأنه لغو فلا يصدر من الحكيم.

ثم أورد على نفسه بان المفروض في محل الكلام هو ان الجهل بالخطاب المترتب عليه ناشئ عن التقصير فلا يكون مانعاً عن تنجز الخطاب المزبور ، وحصول عصيانه الّذي أخذ في موضوع الخطاب المترتب ، فان المانع عن ذلك انما هو الجهل عن قصور.

١٦٩

وأجاب عنه بان الخطاب الواقعي لا يكون منجزاً وقابلا للدعوة في ظرف الجهل من دون فرق فيه بين كون الجهل عن قصور أو عن تقصير ، واما استحقاق العقاب فانما هو على مخالفة الواقع في ظرف وجوب الاحتياط أو التعلم. والوجه فيه ما ذكرناه في محله من ان وجوب الاحتياط أو التعلم إنما هو من باب تتميم الجعل الأول فالعقاب على مخالفة الواقع هو بعينه العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط أو التعلم وبالعكس. وعلى هذا يترتب ان استحقاق العقاب على تقدير مخالفة الحكم الواقعي في موارد وجوب الاحتياط أو التعلم لا يصحح إحراز العصيان ، فان إحرازه يتوقف على وصول الحكم الواقعي بنفسه بالوجدان أو بطريق معتبر من أمارة أو أصل محرز. ومن الواضح انه ما لم يحرز العصيان لا وجداناً ولا تعبداً لا يكون الحكم المترتب عليه محرزاً أيضاً.

وبتعبير آخر : ان تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب يبتنى على أخذ عصيان الأمر المترتب عليه في موضوع الأمر المترتب ، وهذا في محل الكلام غير معقول فلا يمكن أخذ عصيان الأمر بالإخفات ـ مثلا ـ في موضوع الأمر بالجهر. والوجه في ذلك هو ان المكلف بالقراءة الإخفاتية لا يخلو من ان يكون عالماً بوجوب الإخفات عليه ، أو يكون جاهلا به ولا ثالث لهما ، اما الفرض الأول فهو خارج عن محل الكلام ، إذا المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الإخفات ، فلا يقع صحيحاً في صورة العلم بوجوبه بالضرورة. واما على الفرض الثاني فعصيان وجوب الإخفات وان كان متحققاً في الواقع ، إلا انه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل ، لاستحالة جعل حكم على موضوع لا يمكن إحرازه أصلا ، فان المكلف إذا علم بعصيانه وجوب الإخفات ينقلب الموضوع فيصير الواجب عليه عندئذ هو الجهر دون الإخفات ، وإذا كان جاهلا به فلا يصل. وعليه فكيف يمكن أخذه في موضوع وجوب الجهر.

وان شئت فقل : ان فعلية الخطاب المترتب تتوقف على توفير شروط :

١٧٠

الأول ـ ان يكون الخطاب المترتب عليه فعلياً ومنجزاً.

الثاني ـ كون المكلف عاصياً له وغير آت به في الخارج.

الثالث ـ كونه عالماً بعصيانه ، فعند توفر هذه الشروط الثلاثة يمكن القول بالترتب وبفعلية الخطاب المترتب ، وإلا فلا يمكن القول به أبداً ، فالموارد التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول كما في الشبهات البدوية تنتفي فيها الشروط الثلاثة معاً ضرورة انه مع جريان البراءة لا يتنجز التكليف الواقعي ومع عدم تنجزه فلا عصيان فضلا عن العلم به. وعليه فلا يمكن القول بالخطاب الترتبي في تلك الموارد ، كما انه ـ في الموارد التي لا تجري فيها أصالة البراءة من جهة وصول التكليف الواقعي بطريقه وذلك كموارد الشبهات قبل الفحص ، والموارد التي اهتم الشارع بها يمتنع جعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي في تلك الموارد فان التكليف الواقعي فيها وان كان فعلياً ومنجزاً إلا أن مجرد ذلك لا يجدى في صحة الخطاب بنحو الترتب ، لانتفاء الشرطين الأخيرين فيها ، أعني بهما تحقق العصيان ، والعلم به.

والوجه فيه ما عرفت من ان العصيان في تلك الموارد حقيقة انما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي (وهو وجوب الاحتياط أو التعلم) الواصل عند المصادفة للواقع دون الخطاب الواقعي المجهول. وكما ان في موارد العلم الإجمالي التي كان التكليف فيها معلوماً إجمالا وواصلا به ، وفعليته وعصيانه كانا متحققين واقعاً على تقدير تحقق المخالفة ومصادفة الاحتمال للواقع فمع ذلك لا يمكن الالتزام بالترتب فيها ، وجعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي ، وذلك لأن الشرط الأخير الّذي اعتبر في صحة الخطاب الترتبي ـ أعني به العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول الخطاب المترتب وتنجزه على المكلف ـ منتف في هذا الفرض. والحاصل ان المكلف ان لم يكن محرزاً للعصيان المترتب عليه خطاب آخر لم يتنجز عليه ذلك الخطاب ، لعدم إحراز موضوعه ـ وهو العصيان ـ وان كان محرزاً له فجعل

١٧١

الخطاب المترتب في مورده وان كان صحيحاً ولا مانع منه أصلا الا انه خلاف مفروض الكلام في المقام ، فان مفروض الكلام هو جعل خطاب آخر مترتباً على العصيان الواقعي للخطاب الأول في ظرف جهل المكلف به ـ لا مطلقاً ـ ومن الواضح ان كل خطاب يستحيل وصوله إلى المكلف صغرى أو كبرى يستحيل جعله من المولى الحكيم.

وعلى ذلك يتفرع استحالة أخذ النسيان في موضوع خطاب ، فان المكلف ان التفت إلى نسيانه انقلب الموضوع وخرج عن عنوان الناسي ، وان لم يلتفت إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه فلا يمكن جعل مثل هذا التكليف الّذي لا يعقل وصوله إلى المكلف أبداً. هذا ملخص ما أفاده (قده) في المقام مع شيء من التوضيح.

أقول : ما ذكره (قده) ينحل إلى عدة نقاط :

الأولى ـ ان فعلية الخطاب المترتب على عصيان الخطاب الآخر ترتكز على ركائز ثلاث : ١ ـ فعلية ذلك الخطاب وتنجزه. ٢ ـ عصيانه. ٣ ـ العلم بعصيانه ، والا فتستحيل فعلية الخطاب المترتب على ذلك.

وعلى ضوء تلك النقطة تترتب أمور :

الأول ـ عدم إمكان جريان الترتب في محل الكلام وفي مسألة القصر والتمام لعدم توفر الركيزة الثانية والثالثة فيهما ـ وهما تحقق العصيان في الواقع والعلم به ـ والعصيان وان كان متحققاً في كلتا المسألتين ، الا انه حقيقة انما هو بالإضافة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع ـ وهو وجوب التعلم ـ لا على مخالفة الخطاب الواقعي المجهول.

الثاني ـ عدم إمكان جريانه في الشبهات البدوية التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول ، لعدم توفر شيء من الركائز المزبورة في تلك الشبهات كما هو واضح.

الثالث ـ انه لا يمكن جعل خطاب مترتب على عصيان خطاب آخر في

١٧٢

موارد الشبهات قبل الفحص ، أو الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها ، لانتفاء الركيزة الثانية والثالثة فيهما ـ أعني بهما تحقق العصيان ، والعلم به ـ وذلك لما عرفت من ان العصيان حقيقة انما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند مطابقته للواقع ، دون الخطاب الواقعي المجهول.

الرابع ـ عدم إمكان جريانه في موارد العلم الإجمالي ، لعدم توفر الركيزة الثالثة في تلك الموارد ، وان كانت الركيزة الأولى والثانية متوفرتين فيها ، فان التكليف المعلوم بالإجمال وأصل إلى المكلف بالعلم الإجمالي ، وعصيانه متحقق على تقدير تحقق المصادفة للواقع ، وذلك لأن العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول التكليف المترتب ، وتنجزه على المكلف منتف في هذا الفرض.

الثانية ـ ان العقاب فيما نحن فيه وفي الشبهات قبل الفحص وفي الموارد المهمة انما يكون على مخالفة الوجوب الطريقي كوجوب التعلم أو الاحتياط المستلزمة لمخالفة الواقع. ومن هنا قلنا ان العصيان حقيقة انما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع ، دون الخطاب الواقعي المجهول.

الثالثة ـ انه لا يمكن أخذ النسيان بشيء في موضوع حكم ، لاستحالة كونه وأصلا إلى المكلف ، وذلك لأن المكلف ان التفت إلى نسيانه خرج عن موضوع الناسي وصار ذاكراً ، وان لم يلتفت إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه فلا يمكن جعل مثل هذا الحكم الّذي لا يمكن وصوله إلى المكلف صغرى وكبرى أبداً.

ولنأخذ بدراسة هذه النقاط :

اما النقطة الأولى فبناء على ما أفاده (قده) من ان المأخوذ في موضوع الخطاب المترتب هو عصيان الخطاب المترتب عليه فهي في غاية الصحة والمتانة ، ضرورة انه على أساس تلك النقطة لا يمكن القول بالترتب في شيء من الموارد المزبورة ـ كما عرفت ـ اما فيما نحن فيه وما شاكله فلانتفاء الركيزة الثالثة ـ وهي إحراز عصيان الخطاب المترتب عليه ـ لوضوح ان الأمر بالقراءة الجهرية إذا كان

١٧٣

مشروطاً بعصيان الأمر بالقراءة الإخفاتية وبالعكس ، ومع ذلك كانت صحة كل واحدة منهما مشروطة بحال الجهل بوجوب الأخرى لم يمكن إحراز ذلك العصيان بما هو مأخوذ في الموضوع وإلا لانقلب الموضوع. واما في الموارد الثلاثة الأخيرة فائضاً الأمر كذلك من جهة انتفاء تلك الركيزة فيها بعينها.

نعم ما أفاده (قده) من انتفاء الركيزة الثانية في ما عدا المورد الأخير بدعوى ان استحقاق العقاب على عصيان الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة للواقع ، لا على التكليف الواقعي المجهول لا يمكن المساعدة عليه ، لما سنبين في النقطة الآتية ان شاء الله تعالى. ولكن الالتزام بتلك النقطة وهي لزوم تقييد فعلية الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه بلا ملزم وسبب ، بل الأمر على خلاف ذلك. فهاهنا دعويان :

الأولى ـ انه لا ملزم للتقييد بخصوص العصيان.

الثانية ـ انه لا بد من الالتزام بالتقييد بغيره.

اما الدعوى الأولى فلان صحة القول بجواز الترتب لا تتوقف على ذلك أصلا فان الترتب كما يمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم ، كذلك يمكن تقييده بعدم الإتيان بمتعلقه. فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا ، اذن الالتزام بكون الشرط هو خصوص الأول دون الثاني بلا موجب وسبب. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان صحة الترتب (أي تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب) لم ترد في آية أو رواية ، ليقال ان الموضوع المأخوذ فيها هو عصيان الأمر بالأهم ، لا ترك متعلقه في الخارج.

وعلى هذا فلا مانع من ان يكون الأمر بالقراءة الإخفاتية ـ مثلا ـ مترتباً على ترك القراءة الجهرية وبالعكس ، والأمر بالصلاة تماماً مترتباً على ترك الصلاة قصراً ، فان الترك قابل للإحراز من دون لزوم محذور انقلاب الموضوع.

١٧٤

فالنتيجة انه لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين ، فان المانع منه ليس إلا توهم ان الشرط خصوص العصيان ولكن قد عرفت بطلانه ، وان إمكان الترتب لا يتوقف على ذلك ، فان مناط إمكانه هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في زمان واحد. ومن الواضح انه لا يفرق في ذلك بين ان يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم أو بترك متعلقه في الخارج.

واما الدعوى الثانية فلان الملاك الرئيسي لإمكان الترتب وجوازه هو ان الواجب المهم في ظرف عدم الإتيان بالواجب الأهم وتركه في الخارج مقدور للمكلف عقلا وشرعاً ، فإذا كان مقدوراً في هذا الحال فلا يكون تعلق الأمر به على هذا التقدير قبيحاً ، فان القبيح انما هو التكليف بالمحال وبغير المقدور ، وهذا ليس من التكليف بغير المقدور.

ونتيجة ذلك هي ان شرط تعلق الأمر بالمهم هو عدم الإتيان بالأهم وتركه خارجاً ، لا عصيانه ، ضرورة ان إمكان الترتب ينبثق من هذا الاشتراط سواء أكان ترك الأهم معصية أم لم يكن ، وسواء أعلم المكلف بانطباق عنوان العصيان عليه أم لم يعلم فان كل ذلك لا دخل له في إمكان الأمر بالمهم مع فعلية الأمر بالأهم أصلا ، ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن ترك الأهم معصية لعدم كون الأمر وجوبياً لم يكن مانع من الالتزام بالترتب فيه.

ومن هنا قلنا بجريان الترتب في الأوامر الاستحبابية وعدم اختصاصه بالأوامر الإلزامية.

وعلى الجملة فتعلق الأمر بالمهم على الإطلاق في مقابل الأمر بالأهم قبيح ، لاستلزام ذلك طلب الجمع. وكذا تعلقه به في حال الإتيان بالأهم قبيح ، لعين المحذور المزبور. واما تعلقه به في حال عدم الإتيان به وترك امتثاله في الخارج فلا قبح فيه ، ولازم ذلك هو كون الشرط لتعلق الأمر بالمهم ترك الأهم واقعاً وعدم الإتيان به خارجاً كان تركه معصية أم لم يكن ، كان المكلف محرزاً لانطباق

١٧٥

عنوان المعصية عليه أم لم يحرز.

واما العصيان بما هو مع قطع النّظر عن تركه وعدم الإتيان به واقعاً فلا يصلح ان يكون شرطاً له ومصححاً لتعلقه به. واما مع انضمامه به فهو كالحجر في جنب الإنسان ، فان المصحح له واقعاً إنما هو تركه خارجاً ، بداهة انه أساس إمكان الترتب ونقطة دائرة إمكانه ، لما عرفت من استحالة تعلق الأمر به في غير تلك الحال.

واما ما تكرر في كلماتنا من أن فعلية الأمر بالمهم مشروطة بعصيان الأمر بالأهم فمن جهة انه عنوان يمكن الإشارة به إلى ما هو شرط في الواقع ـ وهو ترك الأهم ـ غالباً ، لا من ناحية انه شرط واقعاً وله موضوعية في المقام ، إذن فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) هنا لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى صحيح أبداً.

وعلى هذا الأساس لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين ودفع الإشكال المتقدم به. غاية الأمر ان الترتب فيهما حيث انه على خلاف القاعدة فيحتاج وقوعه إلى دليل والدليل موجود هنا وهو الروايات الصحيحة الواردة فيهما وذلك لا ينافي دفع الإشكال بشكل آخر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وعلى ضوء ما حققناه قد تبين انه لا أصل للركيزة الثانية والثالثة (وهما عصيان الأمر بالأهم ، والعلم بعصيانه) ولا دخل لهما في صحة الترتب أصلا.

نعم الّذي ترتكز عليه صحة الترتب وجوازه هو ترك الإتيان بما تعلق الخطاب المترتب عليه بما هو ترك ، وإحراز ذلك الترتب في الخارج.

وعلى هذا الأساس لا بد من التفصيل بين الموارد الثلاثة المتقدمة أعني بها الشبهات البدوية والشبهات قبل الفحص والموارد المهمة وموارد العلم الإجمالي بالالتزام بجريان الترتب فيما عدا الأولى ، وعدم جريانه فيها. فهاهنا دعويان :

الأولى ـ عدم جريان الترتب في موارد الشبهات البدوية.

الثانية ـ جريانه في ما عداها.

١٧٦

اما الدعوى الأولى فهي في غاية الصحة والمتانة. والوجه في ذلك واضح وهو ان التكليف الواقعي في الشبهات البدوية على تقدير ثبوته غير صالح لأن يكون مزاحماً لحكم من الأحكام ، ومع هذا الحال لا موضوع للبحث عن الترتب.

واما الدعوى الثانية فلان التكليف الواقعي في جميع تلك الموارد من جهة وصوله إلى المكلف بطريقه أو بعلم إجمالي صالح لأن يكون مزاحماً لتكليف آخر مضاد له. وعليه فلا مانع من الالتزام بالترتب فيها باعتبار ان التكليف الواقعي بعد تنجزه لا محالة يقتضى لزوم الإتيان بتلك المشتبهات في موارد الشبهات الوجوبية ووجوب الاجتناب عنها في موارد الشبهات التحريمية وعندئذ لو كان هناك واجب آخر يزاحم لزوم الإتيان بها أو وجوب الاجتناب عنها فلا مانع من الالتزام بوجوبه عند ترك ذلك. وهذا واضح.

واما النقطة الثانية فلا يمكن القول بها. والوجه في ذلك هو ان العقاب ليس على مخالفة الوجوب الطريقي الواصل المصادف للواقع ، ضرورة ان مخالفة الوجوب الطريقي بما هو لا توجب العقاب وفي صورة المصادفة للواقع ليس العقاب على مخالفته ، بل انما هو على مخالفة الواقع ، فانه بعد تنجزه بوجوب الاحتياط أو التعلم فلا محالة توجب مخالفته استحقاق العقاب.

وعلى الجملة فوجوب الاحتياط أو التعلم ليس وجوباً نفسياً على الفرض ، لنستلزم مخالفته العقوبة بل هو وجوب طريقي شأنه إحراز الواقع وتنجزه وبعده لا محالة يكون العقاب على مخالفة الواقع بما هو لا على مخالفته ، وضم مخالفته إلى مخالفة الواقع بالإضافة إلى استحقاق العقاب كالحجر في جنب الإنسان ، ضرورة انه لا دخل له في العقاب أصلا.

نعم ما أفاده (قده) من ان العقاب لا يمكن ان يكون على الواقع المجهول بما هو متين ، إلا ان ذلك لا يوجب ان لا يمكن العقاب عليه بعد إحرازه وتنجز من جهة وجوب الاحتياط أو التعلم أيضاً. فما أفاده (قده) هنا لا يلائم مذهبه

١٧٧

من ان وجوب التعلم والاحتياط طريقي لا نفسي.

واما النقطة الثالثة وهي استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم فهي في غاية الجودة والاستقامة. وقد تعرضنا لها في الدورة السابقة في آخر بحث البراءة والاشتغال بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الإعادة هنا ، ويأتي الكلام فيها في محلها إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك نصّ كلامه :

قلت : إنما حكم بالصحّة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها وان كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وانما لم يؤمر بها لأجل انه امر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم. واما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة ، فانها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا مع تمكنه من التعلم فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت. فانقدح انه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام ، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات ، وان كان الوقت باقياً.

ان قلت على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلا ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام. قلت ليس سبباً لذلك غايته انه يكون مضاداً له. وقد حققنا في محله ان الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا. لا يقال علي هذا فلو صلى تماماً أو صلى إخفاتاً في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة ، وان عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر ، فانه يقال لا بأس بالقول به لو دل دليل على انها تكون مشتملة ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص ان يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به كما لا يخفى.

١٧٨

أقول : ملخص ما أفاده (قده) هو ان الحكم بصحة الصلاة جهراً في موضع الإخفات وبالعكس وصحة الصلاة تماماً في موضع القصر يبتنى على أساس اشتمالهما على المصلحة الملزمة في نفسها ، وبعد استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الأخرى التي هي أهم من المصلحة الأولى لتضاد المصلحتين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج. ثم ان اشتمالهما على تلك المصلحة الملزمة يختص بحالة الجهل بوجوب الواجب الواقعي. واما في صورة العلم به فلا مصلحة لهما أبداً ، ولا بعد في ذلك ، ضرورة ان الأشياء تختلف من حيث وجدانها المصلحة أو عدم وجدانها لها باختلاف الحالات والأزمان. وهذا واضح. ويتفرع على ذلك عدم وجوب الإعادة ولو مع بقاء الوقت وتمكن المكلف منها ، لعدم مشروعيتها بعد استيفاء المصلحة المزبورة في ضمن الصلاة تماماً والصلاة جهراً ـ مثلا ـ وقد حققنا في محله ان عدم الضد ليس مقدمة للضد الآخر ليكون فعله منهياً عنه فيكون فاسداً. واما الحكم باستحقاقه العقوبة مع تمكنه من الإعادة في الوقت فمن ناحية تقصيره ، وعدم فائدة الإعادة.

وقد أجبنا عن ذلك في آخر بحث البراءة والاشتغال وملخصه : ان المضادة بين الأفعال الخارجية وان كانت معقولة وواقعة في الخارج بالبداهة كالمضادة بين القيام والقعود والحركة والسكون وما شاكلهما. واما المضادة بين الملاكات الواقعية القائمة بالافعال الخارجية بما هي مع قطع النّظر عن التضاد بين تلك الأفعال ففي غاية البعد ، بل تكاد تلحق بالمحال ، ضرورة انه لا يعقل التضاد بين المصلحتين مع إمكان الجمع بين الفعلين ، فإذا فرضنا ان في كل من صلاتي الجهر والإخفات مصلحة تامة ، أو في كل من صلاتي التمام والقصر مصلحة كذلك ، وكان المكلف متمكناً من الجمع بينهما خارجاً فلا نعقل التضاد بين المصلحتين بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما خارجاً واستيفائهما معاً. فما أفاده (قده) من التضاد بين المصلحتين وعدم إمكان استيفائهما معاً لا نعقل له معنى محصلا أصلا.

١٧٩

أضف إلى ذلك ان المصلحتين المفروضتين القائمة إحداهما بطبيعي الصلاة والأخرى بخصوص القصر أو الإخفات ـ مثلا ـ لا تخلوان من ان تكونا ارتباطيتين أو تكونا استقلاليتين ولا ثالث لهما.

فعلى الأول لا يمكن الحكم بصحة الصلاة تماماً في موضع القصر والصلاة جهراً في موضع الخفت وبالعكس ، لفرض ان المصلحتين ارتباطيتان ، ومع عدم حصول المصلحة الثانية لا يكفي حصول الأولى.

وعلى الثاني يلزم تعدد الواجب بان يكون القصر ـ مثلا ـ أو الجهر أو الإخفات واجباً في واجب ، وهو طبيعي الصلاة مع قطع النّظر عن اية خصوصية من هذه الخصوصيات باعتبار كونها مشتملة على مصلحة إلزامية في حال الجهل بتلك الخصوصيات. ولازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الصلاة على الإطلاق وعدم الإتيان بها أبداً لا تماماً ولا قصراً لا جهراً ولا إخفاتاً ، وهو خلاف الضرورة كما لا يخفى.

فالصحيح هو ما ذكرناه في محله وحاصله انه لا يمكن المساعدة على ما هو المشهور بين الأصحاب من الجمع بين الحكم بصحة الجهر في موضع الخفت وبالعكس وصحة التمام في موضع القصر ، وبين الحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب الواقعي.

والوجه في ذلك هو ان الجاهل بوجوب القصر والإخفات ـ مثلا ـ لو صلى قصراً أو إخفاتاً وتحقق منه قصد القربة في حال الإتيان به فلا يخلو الأمر من ان يحكم بفساد صلاته هذه ووجوب الإعادة عليه عند انكشاف الحال وارتفاع الجهل أو يحكم بصحتها وعدم وجوب الإعادة عليه ولا ثالث في البين.

اما على الأول فلا شبهة في ان مقتضاه هو ان الصلاة تماماً أو جهراً هو الواجب على المكلف تعييناً في الواقع عند جهل المكلف بالحال ، وعلى هذا فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك القصر أو الإخفات ، ضرورة ان القصر أو الإخفات

١٨٠