محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

أيضاً بان لا يكون وجوده في تلك المرتبة ولا عدمه.

ومن ذلك يعلم ان مراده ـ قده ـ من انه لا منافاة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر ، بل بينهما كمال الملاءمة ما ذكرناه من ان المضادة بين شيئين لا تقتضي إلا استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في آن واحد أو رتبة واحدة ، وإذا استحال تحققهما في مرتبة فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة واجباً ـ مثلا ـ عدم البياض في مرتبة وجود السواد وكذلك عدم السواد في مرتبة وجود البياض ضروري ، كيف ولو لم يكن عدم البياض في تلك المرتبة يلزم أحد محذورين : اما ارتفاع النقيضين عن تلك المرتبة لو لم يكن وجود البياض أيضاً في تلك المرتبة ، أو اجتماع الضدين فيها إذا كان البياض موجوداً فيها ، وليس غرضه من ذلك نفى المقدمية والتوقف بمجرد كمال الملاءمة بينهما ليرد عليه ما أورده شيخنا المحقق (قده) من أن كمال الملاءمة بينهما لا يدل عليه. فان بين العلة والمعلول كمال الملاءمة ومع ذلك لا يكونان متحدين في الرتبة.

كما ان غرضه (قده) من قوله : «كما ان قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين» هو ما ذكرناه ، وليس غرضه من ذلك الاستدلال على نفي التوقف والمقدمية بقياس المساواة ، بدعوى : ان عدم أحد الضدين في مرتبة وجوده لأنهما نقيضان والنقيضان في رتبة واحدة وبما ان وجود أحد الضدين في مرتبة وجود الآخر لأن ذلك مقتضى التضاد بينهما كان عدم أحد الضدين في مرتبة وجود الآخر.

وذلك لما ذكرناه غير مرة من ان التقدم والتأخر والتقارن بين شيئين تارة تلاحظ بالإضافة إلى الزمان ، ومعنى ذلك ان الملاك في تقدم شيء على شيء آخر أو تأخره عنه أو تقارنه معه هو نفس الزمان لا غيره. وتارة أخرى تلاحظ بالإضافة إلى الرتبة مع تقارنهما بحسب الزمان ، وحينئذ فالملاك فيه شيء آخر غير الزمان.

٢١

اما إذا كان التقدم والتأخر بين شيئين أو التقارن بينهما بالزمان فكل ما هو متحد مع المتقدم في الزمان متقدم على المتأخر بعين الملاك الموجود في المتقدم ، وهو كونه في الزمان المتقدم وكل ما هو متحد مع المتأخر في الزمان متأخر عن المتقدم بعين الملاك الموجود في المتأخر ، وهو كونه في الزمان المتأخر. وكل ما هو متحد مع المقارن في الزمان مقارن لتحقق ملاك التقارن فيه ، وهذا من الواضحات فلا يحتاج إلى مئونة بيان.

واما إذا كان التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر ليس كذلك ، فان ما هو متحد مع المتقدم في الرتبة لا يلزم أن يكون متقدماً على المتأخر وكذا ما هو متحد مع المتأخر فيها أو المقارن لا يلزم أن يكون متأخراً ، أو مقارناً ـ مثلا ـ العلة متقدمة على المعلول رتبة ، وما هو متحد معها في الرتبة ـ وهو العدم البديل لها ـ لا يكون متقدماً عليه ، والمعلول متأخر عن العلة رتبة ـ وما هو متحد معه وهو عدمه البديل له ـ لا يكون متأخراً عنها.

والوجه في ذلك هو : ان التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع لا يكون جزافاً ، بل لا بد أن يكون ناشئاً من ملاك مقتض له ، فكل ما كان فيه الملاك الموجب لتقدمه أو تأخره فهو ، وإلا فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر أصلا ، فهذا الملاك تارة يختص بوجود الشيء فلا يمكن الالتزام بالتقدم أو التأخر في عدمه ، وتارة أخرى يختص بعدمه ، فلا يعقل الالتزام به في وجوده ، فانه تابع لوجود الملاك ، ففي كل مورد لا يوجد فيه الملاك لا يمكن فيه التقدم أو التأخر ، بل لا بد فيه من الالتزام بالاتحاد والمعية في الرتبة ، فان ملاك المعية انتفاء ملاك التقدم والتأخر ، لا انها ناشئة من ملاك وجودي.

وعلى ضوء ذلك نقول : ان تقدم العلة على المعلول بملاك ترشح وجود المعلول من وجود العلة ، كما ان تقدم الشرط على المشروط بملاك توقف وجوده على وجوده ، وتقدم عدم المانع على الممنوع بملاك توقف وجوده عليه ، واما عدم

٢٢

العلة فلا يكون متقدماً على وجود المعلول ، لعدم ملاك التقدم فيه ، كما ان عدم المعلول لا يكون متأخراً عن وجود العلة مع انه في مرتبة وجود المعلول ، لعدم تحقق ملاك التأخر فيه ، وكذا لا يكون عدم الشرط متقدماً على المشروط ، ولا عدم المشروط متأخراً عن وجود الشرط ، لاختصاص ملاك التقدم والتأخر بوجود الشرط ووجود المشروط دون وجود أحدهما وعدم الآخر.

وعلى الجملة : فما كان مع المتقدم في الرتبة كالعلة والشرط ليس له تقدم على المعلول والمشروط ، إذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيرها ، والتقدم بالشرطية شأن الشرط دون غيره ، فان التقدم بالعلية أو الشرطية أو نحوها الثابت لشيء لا يسرى إلى نقيضه المتحد معه في الرتبة. ولذا قلنا انه لا تقدم لعدم العلة على المعلول ولا للعلة على عدم المعلول ، مع انه لا شبهة في تقدم العلة على المعلول. والسر فيه ـ ما عرفت ـ من ان التقدم والتأخر الرتبيين تابعان للملاك ، فكل ما لا يكون فيه الملاك لا يعقل فيه التقدم والتأخر أصلا ، بل لا مناص فيه من الحكم بالمعية والاتحاد في الرتبة.

ومن ذلك يظهر الحال في الضدين ، إذ يمكن أن يكون عدم أحدهما متقدماً على وجود الآخر بملاك موجب له ، ولا يكون ما هو متحد معه في الرتبة متقدماً عليه ، فمجرد اتحاد الضدين والنقيضين في الرتبة لا يأبى ان يكون عدم الضد متقدماً على الضد الآخر ، مع عدم تقدم ما هو في مرتبته عليه ، لاختصاص ملاك التقدم بعدم كل منهما بالإضافة إلى وجود الآخر ، دون عدم كل منهما بالإضافة إلى وجوده ، ودون وجود كل منهما بالإضافة إلى وجود الآخر. ولأجل ذلك كان ما هو متحد مع العلة في الرتبة ـ وهو عدمها ـ متحداً مع المعلول في الرتبة ، وكان ما هو متحد مع المعلول في الرتبة وهو عدمه متحداً مع العلة في الرتبة ، مع ان العلة متقدمة على المعلول رتبة.

ثم ان ما ذكره في النقيضين ـ من أن قضية المنافاة بينهما لا تقتضي تقدم

٢٣

أحدهما في ثبوت الآخر ـ لا بد من فرضه في طرف واحد منهما ، وهو طرف الوجود دون كلا الطرفين ، وذلك لأن وجود الشيء يغاير عدم نقيضه ـ أعني به عدم العدم ـ مفهوماً ، واما عدم الشيء فهو بنفسه نقيض الشيء ، ولا يغايره بوجه كي يقال ان ارتفاع الوجود يلائم نقيضه من دون أن يكون بينهما تأخر وتقدم. مثلا وجود الإنسان يغاير عدم نقيضه (عدم الإنسان) مفهوماً ، فان مفهوم عدم العدم غير مفهوم الوجود ، وان كان في الخارج عينه. فإذاً يمكن ان يقال : ان الشيء كالإنسان متحد في الرتبة مع عدم نقيضه. واما عدم الإنسان فلا يغاير عدم نقيضه (وجود الإنسان) حتى مفهوماً ، فان نقيضه هو الإنسان ، وعدم نقيضه هو عدم الإنسان. إذاً فلا معنى لأن يقال : ان عدم الإنسان متحد في الرتبة مع عدم الإنسان.

فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت ان التمسك بقياس المساواة إنما يصح في التقدم الزماني ، فان ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم لا محالة دون ما إذا كان التقدم في الرتبة.

وقد عرفت ان غرض المحقق ـ صاحب الكفاية (قده) ـ ليس التمسك بقياس المساواة لإثبات نفي المقدمية والتقدم لعدم أحد الضدين للضد الآخر ليرد عليه ما بيناه ، بل غرضه ما ذكرناه سابقاً. هذا غاية توجيه لما أفاده (قده) في المقام.

وقد ظهر من ضوء بياننا هذا امران :

الأول ـ بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التمسك لإثبات كون عدم أحد الضدين في مرتبة الضد الآخر ، بقياس المساواة. وقد تقدم بيانه مع جوابه مفصلا فلا حاجة إلى الإعادة.

الثاني ـ بطلان ما أفاده شيخنا المحقق (قده) من أن المعية في الرتبة كالتقدم أو التأخر الرتبي لا بد أن تكون ناشئة من ملاك وجودي ، فلا يكفي فيها انتفاء ملاك

٢٤

التقدم أو التأخر.

والوجه في ذلك ما عرفت من أن التقدم أو التأخر لا بد ان يكون ناشئاً من ملاك وجودي موجب له ، واما المعية في الرتبة فلا.

والسر في ذلك ان كل شيء إذا قيس على غيره ولم يكن بينهما ملاك التقدم والتأخر فهو في رتبته لا محالة ، إذ لا نعنى بالمعية في الرتبة إلا عدم تحقق موجب التقدم والتأخر بينهما ، ضرورة انها لا تحتاج إلى ملاك آخر غير عدم وجود ملاك التقدم والتأخر ، فكل ما لم يكن متقدماً على شيء ولا متأخراً عنه في الرتبة ، كان متحداً معه في الرتبة لا محالة.

وبعد بيان هذا نقول : انه يمكن المناقشة فيما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره) أيضا والوجه في ذلك هو ان ما أفاده (قده) مبتن على أصل فاسد وهو ان استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين إنما تكون مع وحدة الرتبة ، واما مع تعددها فلا استحالة أبداً ، أو فقل : انه كما يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الزمان ، كذلك يعتبر فيه وحدة الرتبة ، ومع اختلافها فلا تناقض ولا تضاد.

ولكن هذا الأصل بمكان من الفساد وذلك لأن التضاد من صفات الوجود الخارجي فالمضادة والمعاندة بين السواد والبياض أو بين الحركة والسكون ـ مثلا ـ إنما هي في ظرف الخارج بداهة انه مع قطع النّظر عن وجودهما في الخارج لا مضادة ولا معاندة بينهما أبداً.

وعلى الجملة : فالمضادة والمماثلة والمناقضة جميعاً من الصفات التي تعرض الموجودات الخارجية ، لا الرتب العقلية ، ضرورة ان الوجود والعدم انما يستحيل اجتماعهما في الخارج ، وكذا السواد والبياض ، والحركة والسكون ، وكل ما يكون من هذا القبيل ، ولذا لو فرضنا ان الضدين كانا مختلفين في الرتبة عقلا كان اجتماعهما خارجا في موضوع واحد محالا ، فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما في الوجود الخارجي في آن واحد وفي موضوع فارد ، سواء أكانا مختلفين بحسب الرتبة أم

٢٥

كانا متحدين فيها ، إذ العبرة إنما هي بالمقارنة الزمانية ، ومن المعلوم ان المختلفين بحسب الرتبة قد يقترنان بحسب الزمان كالعلة والمعلول.

وعليه فلا يتم ما في الكفاية من ان المعاندة والمنافرة بين الضدين تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة أيضا ، فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً ، وإلا لزم اما ارتفاع الضدين أو اجتماعهما ، وكلاهما محال.

والوجه فيه ما عرفت من ان المعاندة والمنافرة بين الضدين إنما هي بلحاظ وجوديهما في الخارج وإلا فلا معاندة ولا مضادة بينهما أبداً ، فإذاً لا مانع من أن يكون عدم أحدهما متقدماً على الآخر بالرتبة ، ولا يلزم عليه المحذور المذكور أصلا ، واما عدم تقدم أحد الضدين على الآخر فليس من ناحية المضادة بينهما ، ليقال ان قضيتها اتحادهما في الرتبة ، بل من ناحية انتفاء ملاك التقدم والتأخر.

ومن هنا لم يعدوا من الوحدات المعتبرة في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة وهذا منهم شاهد على عدم اعتبارها فيه.

وذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) وجهاً رابعاً لاستحالة كون عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر بأنه مستلزم للدور ، فان التمانع بينهما لو كان موجباً لتوقف وجود كل منهما على عدم الآخر من باب توقف المعلول على عدم مانعه لاقتضى ذلك توقف عدم كل منهما على وجود الضد الآخر من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه ، فيلزم حينئذ توقف وجود كل منهما على عدم الآخر وتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر. وهذا محال.

وقد أورد عليه كما في الكفاية بان توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر فعلى ، فان وجود السواد في محل متوقف فعلا على عدم تحقق البياض فيه واما توقف عدم الضد على وجود الآخر فهو شأني ، لا فعلى فلا دور.

والوجه في ذلك هو ان وجود الضد في الخارج لا محالة يكون بوجود علته

٢٦

التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، ومن الواضح ان توقف وجود المعلول على جميع اجزاء علته ومنها عدم المانع فعلى ، لأن للجميع دخلا فعلا في تحققه ووجوده في الخارج ، وهذا معنى ان توقف وجود الضد على عدم الآخر فعلى ، فانه من توقف وجود المعلول على عدم مانعه في ظرف تحقق المقتضى والشرط.

واما عدم الضد فلا يتوقف على وجود الضد الآخر فعلا ، لأن عدمه يستند إلى عدم المقتضى له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضى مع بقية الشرائط ، ليكون توقفه عليه فعلياً ، بل يحتمل استحالة تحقق المقتضى له أصلا ، لأجل احتمال ان يكون وقوع أحد الضدين في الخارج وعدم وقوع الآخر فيه منتهياً إلى تعلق الإرادة الأزلية بالأول وعدم تعلقها بالثاني ، فانها علة العلل وجميع الأسباب الممكنة لا بد أن تنتهي إلى سبب واجب وهو الإرادة الأزلية فيكون عدم الضد عندئذ دائماً مستنداً إلى عدم المقتضى ، لا إلى وجود المانع ، ليلزم الدور.

وما قيل : ـ من أن هذا إنما يتم فيما إذا كان الضدان منتهيين إلى إرادة شخص واحد فان إرادة الضدين من شخص واحد محال سواء أكانت الإرادتان منتهيتين إلى الإرادة الأزلية أم لم تنتهيا إليها ، فإذا أراد أحدهما فلا محالة يكون عدم الآخر مستنداً إلى عدم الإرادة والمقتضى لا إلى وجود المانع. واما إذا كان كل منهما متعلقاً لإرادة شخص فلا محالة يكون عدم أحدهما مستنداً إلى وجود المانع ، لا إلى عدم ثبوت المقتضى له ، لفرض ان المقتضى له موجود وهو الإرادة ، فان إرادة الضدين من شخصين ليست بمحال ـ مدفوع بان عدم الضد هنا أيضا مستند إلى قصور في المقتضى ، لا إلى وجود الضد الآخر مع تماميته ، فان الإرادة الضعيفة مع مزاحمتها بالإرادة القوية لا تؤثر. لخروج متعلقها عن تحت القدرة ، فلا يكون المغلوب منهما في إرادته قادراً على إيجاد متعلقها.

وان شئت فقل : ان الفعلين المتضادين اما ان يلاحظا بالإضافة إلى شخص واحد أو بالإضافة إلى شخصين ، فعلى الأول كان عدم ما لم يوجد منهما مستنداً إلى

٢٧

عدم تعلق الإرادة به فعدمه لعدم مقتضية لا لوجود المانع ، وعلى الثاني يستند عدمه إلى عدم الشرط أعني به عدم القدرة على الإيجاد مع تعلق الإرادة القوية بخلافه. وهذا التقريب ألخص وامتن ، فانه لا يتوقف على انتهاء أفعال العباد إلى الإرادة الأزلية حتى يرد عليه ان افعال العباد غير منتهية إلى إرادة الله تعالى أولاً ، وليست إرادته سبحانه أزلية ثانياً ، كما تقدم الكلام فيه مفصلا في بحث الطلب والإرادة.

وحاصل الاعتراض على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) ـ من أن وجود أحد الضدين إذا توقف على عدم الآخر لزم الدور ، فان عدم الآخر أيضاً متوقف على وجود الأول توقف عدم الشيء على وجود مانعه ـ هو ان عدم أحد الضدين لا يستند إلى وجود الآخر أبداً بل يستند إلى عدم المقتضى أو عدم الشرط فالتوقف من طرف الوجود فعلى واما من طرف العدم فلا توقف إلا على فرض محال وهو ان يفرض وجود المقتضى للوجود مع جميع شرائطه ، هذا غاية ما يمكن ان يقال في دفع غائلة استلزام الدور.

ولكنه يرد عليه ما أفاده في الكفاية وحاصله ان المورد إذا سلم إمكان استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر وان لم يتحقق ذلك خارجاً فمحذور الدور يبقى على حاله لا محالة إذ كيف يمكن ان يكون ما هو من اجزاء العلة لشيء معلولاً له بعينه. واما إذا لم يسلم ذلك وذهب إلى استحالة استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر كما هو مقتضى التقريب المتقدم فمعناه إنكار توقف أحد الضدين على عدم الآخر ، فانه إذا استحال ان يكون شيء مانعاً عن ضده فكيف يمكن أن يقال ان ضده يتوقف على عدمه توقف الشيء على عدم مانعه.

وبعبارة واضحة ان المدعى انما هو توقف أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم مانعه ، فإذا فرض انه لا يمكن أن يكون مانعاً فكيف يمكن ان يكون عدمه موقوفاً عليه.

٢٨

ثم ان المحقق الخوانساري (قده) قد فصل بين الضد الموجود والضد المعدوم وربما نسب هذا التفصيل إلى شيخنا العلامة الأنصاري (قده) أيضاً بدعوى ان وجود الضد إنما يتوقف على عدم الضد الآخر إذا كان موجوداً ، لا مطلقاً بمعنى ان المحل إذا كان مشغولا بأحد الضدين فوجود الضد الآخر في هذا المحل يتوقف على ارتفاع ذلك الضد ، واما إذا لم يكن مشغولا به فلا يتوقف وجوده على عدمه ونتيجة ذلك هي ان عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر دون عدم الضد المعدوم.

بيان ذلك : ان المحل اما أن يكون خالياً من كل من الضدين ، واما أن يكون مشغولا بأحدهما دون الآخر ، فعلى الأولى : فالمحل قابل لكل منهما بما هو مع قطع النّظر عن الآخر ، وقابلية المحل لذلك فعلية فلا تتوقف على شيء ، فعندئذ إذا وجد المقتضى لأحدهما فلا محالة يكون موجوداً من دون توقفه على عدم وجود الآخر ـ مثلا ـ إذا كان الجسم خالياً من كل من السواد والبياض فقابليته لعروض كل منهما عليه عندئذ فعلية ، فإذا وجد مقتضى السواد فيه فلا محالة يكون السواد موجوداً ، من دون أن يكون لعدم البياض دخل في وجوده أصلا ..

فالنتيجة : ان وجود الضد في هذا الفرض لا يتوقف على عدم الضد الآخر وعلى الثاني ـ فالمحل المشغول بالضد لا يقبل ضداً آخر في عرضه ، بداهة ان المحل غير قابل بالذات لعروض كلا الضدين معاً. نعم يقبل الضد الآخر بدلا عنه ، وعليه فلا محالة يتوقف وجود الضد الآخر على ارتفاع الضد الموجود ، ضرورة ان الجسم الأسود لا يقبل البياض كما ان الجسم الأبيض لا يقبل السواد ، فوجود البياض لا محالة ـ يتوقف على خلو الجسم من السواد ليقبل البياض ، وكذا وجود السواد يتوقف على خلوه من البياض ، ليكون قابلا لعروض السواد ، وهذا بخلاف الضد الموجود فانه لا يتوقف على شيء عدا ثبوت مقتضية.

٢٩

أقول : ان مرد هذا التفصيل إلى ان الأشياء محتاجة إلى العلة والسبب في حدوثها لا في بقائها ، فهي في بقائها مستغنية.

بيان ذلك ان الحادث إذا كان في بقائه غير محتاج إلى المؤثر كان وجود الحادث المستغني عن العلة مانعاً عن حدوث ضده فلا محالة يتوقف حدوث ضده على ارتفاعه. واما إذا كان الحادث محتاجاً في بقائه إلى المؤثر فان لم يكن لضده مقتض فعدمه يستند إلى عدم مقتضية ، وان كان له مقتض ولم يكن شرطه متحققاً فعدمه يستند إلى عدم شرطه ، وان كان شرطه أيضا موجوداً ومع ذلك كان معدوماً فهو مستند إلى وجود مقتضى البقاء المانع من تأثير مقتضى ضده ، اذن لا فرق بين الضد الموجود وغير الموجود في أن وجود الشيء لا يتوقف على عدم ضده ، بل يتوقف على عدم مقتضى ضده إذا كان مقتضى الشيء وشرطه موجوداً في الخارج.

إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدرس هذه النقطة (استغناء البقاء عن المؤثر) مرة في الأفعال الاختيارية ، ومرة أخرى في الموجودات التكوينية.

اما في الأفعال الاختيارية التي هي محل الخلاف في المسألة فهي بديهية البطلان ولو سلمنا انها صحيحة في الموجودات التكوينية. والوجه في ذلك ما ذكرناه في بحث الطلب والإرادة من ان الفعل الاختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار وهو ـ فعل اختياري للنفس ـ وليس من مقولة الصفات ، وواسطة بين الإرادة والأفعال الخارجية ، فالفعل في كل آن يحتاج إليه ، ويستحيل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه.

أو فقل : ان الفعل إذا كان تابعاً لاعمال قدرة الفاعل فلا محالة كان الفاعل إذا أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج ، وان لم يعملها فيه استحال تحققه ، وكذا ان استمر على إعمال القدرة فيه استمر وجوده ، وان لم يستمر عليه استحال استمراره ، وهذا واضح.

وعلى الجملة لا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلة (وهو إعمال القدرة) فان سر الحاجة وهو إمكانه الوجوديّ وفقره الذاتي

٣٠

كامن في صميم ذاته ووجوده ، مع ان البقاء هو الحدوث ، غاية الأمر انه حدوث ثان ووجود آخر في مقابل الوجود الأول ، والحدوث هو الوجود الأول غير مسبوق بمثله ، وعليه فإذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار كالتكلم ـ مثلا ـ الّذي هو مضاد للسكوت ، أو الحركة التي هي مضادة للسكون ، أو الصلاة التي هي منافية للإزالة ، فهذا الفعل كما انه في الآن الأول بحاجة إلى إعمال القدرة فيه والاختيار ، كذلك بحاجة إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا ، فلا يمكن ان نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.

وعلى هذا الضوء لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ، إذ كما ان تحقق كل منهما في الزمان الأول كان متوقفاً على وجود مقتضية (الاختيار وإعمال القدرة) كذلك تحققه في الزمان الثاني كان متوقفاً عليه. وقد أشرنا آنفاً ان نسبة بقاء الضد الموجود في الآن الثاني كنسبة حدوث الضد المعدوم فيه في الحاجة إلى المقتضى وفاعل ما منه الوجود ، فكما ان الأول لا يتوقف على عدم الثاني فكذلك الثاني لا يتوقف على عدم الأول.

أو فقل : ان كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان فيكون في كل آن فعل صادر بالإرادة والاختيار ، فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه ، ولذلك لا فرق بين الدفع والرفع عقلا إلا بالاعتبار هو ان الدفع مانع عن الوجود الأول والرفع مانع عن الوجود الثاني ، فكلاهما في الحقيقة دفع ، ومثال ذلك ما إذا أراد المكلف فعل الإزالة دون الصلاة ، فكما ان تحقق كل واحدة منهما في الزمن الأول كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه ، فكذلك تحقق كل منهما في الزمن الثاني كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.

فالنتيجة : ان احتياج الأفعال الاختيارية إلى الإرادة والاختيار من الواضحات الأولية فلا يحتاج إلى مئونة بيان وإقامة برهان.

٣١

وأما في الموجودات التكوينية فالامر أيضاً كذلك ، إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب فيستحيل ان توجد بدونها.

وسر حاجة تلك الأشياء بصورة عامة إلى العلة وخضوعها لها هو ان الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء ، لا في أمر خارج عنها ، فان كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن ، ضرورة ان فقرها كامن في نفس وجوده ، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلة ، فان سر الحاجة وهو إمكان الوجود لا ينفك عنه ، كيف فان ذاته عين الفقر والإمكان ، لا انه ذات لها الفقر.

وعلى أساس ذلك فكما ان الأشياء في حدوثها في أمس الحاجة إلى سبب وعلة ، فكذلك في بقائها ، فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة أو فقل : ان النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ الإيجاد ليست هي حدوثها ، لأن هذه النظرية تستلزم تحديد حاجة الممكن إلى العلة من ناحيتين : المبدأ والمنتهى.

اما من ناحية المبدأ فلأنها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم ، واما إذا فرض ان للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لم تكن فيه حاجة إلى المبدأ ، وهذا لا يطابق مع الواقع ، إذ الممكن يستحيل وجوده من دون علة وسبب ، وإلا انقلب الممكن واجباً وهذا خلف. واما من ناحية المنتهى فلأن الأشياء على ضوء هذه النظرية تستغني في بقائها عن المؤثر ، ومن الواضح انها نظرية خاطئة لا تطابق الواقع ، كيف فان حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم وجودها كما عرفت.

تلخص ان هذه النظرية بما انها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ ، وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص فلا يمكن الالتزام بها.

والصحيح أن منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً

٣٢

هو إمكانها الوجوديّ وفقرها الواقعي.

وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح انه لا فرق بين الضد الموجود والضد المعدوم فكما ان الضد المعدوم يحتاج في حدوثه إلى سبب وعلة ، كذلك الضد الموجود يحتاج في وجوده في الآن الثاني والثالث ، وهكذا إلى سبب وعلة ولا يستغنى عنه في لحظة من لحظات وجوده ، ونسبة حاجة الضد الموجود في بقائه إلى السبب والعلة ، والضد المعدوم في حدوثه إلى ذلك على حد سواء.

أو فقل : ان المحل كما انه في نفسه قابل لكل من الضدين حدوثاً ، فان قابليته لذلك ذاتية ، كما ان عدم قابليته لقبول كليهما من ذاتياته ، فوجود كل منهما وعروضه لذلك المحل منوط بتحقق علته ، فعلة أي منهما وجدت كان موجوداً لا محالة. كذلك حال المحل في الآن الثاني ، فانه قابل لكل منهما بعين تلك النسبة فان بقاء الضد الموجود أو حدوث الضد الثاني منوط بوجود علته ، فكما ان وجود الضد المعدوم في هذا الآن منوط بتحقق علته كذلك بقاء الضد الموجود فنسبة تحقق علة وجود ذلك الضد ، وتحقق علة وجود الضد الموجود في ذلك الآن على حد سواء ، وعليه فعلة وجود أي منهما وجدت في تلك الحال كان موجوداً لا محالة بلا فرق بين الضد الموجود والمعدوم.

وقد تبين مما مر : ان المعلول يرتبط بالعلة ارتباطاً ذاتياً ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر ، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة ، كما لا يمكن أن تبقى العلة والمعلول غير باق. وقد عبر عن ذلك بالتعاصر بين العلة والمعلول زماناً.

وقد يناقش في ذلك الارتباط : بأنه مخالف لظواهر عدة من الموجودات الكونية التي هي باقية بعد انتفاء علتها ، فهي تكشف عن عدم صحة قانون التعاصر ، وانه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علته.

وذلك كالعمارات التي بناها البناءون وآلاف من العمال فانها بعد انتهاء عملية العمارة والبناء تبقى سنين متطاولة. وكالجسور والطرق ووسائل النقل المادية والمكائن

٣٣

والمصانع وما شاكلها مما شاده المهندسون والفنانون في شتى ميادين العلم ، فانها بعد أن انتهت عمليتها بيد هؤلاء الفنانين والعمال تبقى إلى أمد بعيد من دون علة مباشرة لها. وكالجبال والأحجار والأشجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض فانها باقية ولم تكن في بقائها بحاجة إلى علة مباشرة لها.

والخلاصة : ان المناقش قد عارض قانون التعاصر بظواهر تلك الأمثلة التي تكشف بظاهرها عن ان المعلول لا يحتاج في استمرار وجوده وبقائه إلى علة ، بل هو باق مع انتفاء علته.

والجواب عن تلك المناقشة : انها قد نشأت عن عدم فهم معنى العلية فهما صحيحاً كاملا. وقد تقدم بيان ذلك ، وقلنا هناك ان حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في صميم ذاتها ولا يمكن أن تملك حريتها بعد حدوثها.

والوجه في ذلك هو : ان علة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علتها بقاء. وبما ان المناقش لم ينظر إلى علة تلك الظواهر لا حدوثاً ولا بقاء نظرة عميقة صحيحة وقع في هذا الخطأ ، لأن ما هو معلول للمهندسين والبناءين وآلاف العمال في بناء العمارات والدور وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الأخرى من المكائن والسيارات وغيرها إنما هو نفس عملية صنعها وتصميمها نتيجة عدة من الحركات والجهود التي يقوم بها العمال ونتيجة تجميع المواد الخام من الحديد والخشب والآجر وغيرها من المواد لتصنيع السيارات وتعمير العمارات وتركيب سائر الآلات ، وهذه الحركات هي المعلولة للعمال والصادرة عنهم ولذا تنقطع تلك الحركات بمجرد اضراب العمال عن العمل وكف أيديهم عنها.

واما بقاء تلك الظواهر والأشياء على وضعها الخاصّ فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية وحيويتها ، وقوة الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها. نظير اتصال الحديد بما فيه القوة الكهربائية فانها تجذب الحديد بقوة

٣٤

جاذبية طبيعية تجره إليها آناً فآناً بحيث لو سلبت منه تلك القوة لا نقطع منه الجذب لا محالة.

ومن ذلك تظهر حال بقية الأمثلة ، فان بقاء الجبال على وضعها الخاصّ وموضعها المخصوص ، وكذا الأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها لخصائص طبيعية كامنة في صميم موادها ، والقوة الجاذبية العامة التي تفرض على جميع الأشياء الكونية. وقد صارت عمومية تلك القوة في يومنا هذا من الواضحات. وقد أودعها الله سبحانه وتعالى في صميم هذه الكرة الأرضية للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها ونظامها الخاصّ في حين انها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة.

وعلى الجملة : فبقاء تلك الظواهر ، والموجودات الممكنة واستمرار وجودها في الخارج معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية المحافظة على هذه الظاهرة من ناحية ، والقوة الجاذبة من ناحية أخرى.

فبالنتيجة المحافظ على الموجودات الطبيعية على وضعها الخاصّ وموضعها المخصوص هي خصائصها والجاذبية التي تخضع تلك الظواهر لها ، ولا تملك حريتها حدوثاً وبقاء ، إذاً فلا وجه لتوهم ان تلك الظواهر في بقائها واستمرار وجودها مالكة لحريتها ولا تخضع لمبدإ وسبب.

ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان :

الأولى ـ بطلان نظرية ان سر الحاجة إلى العلة هو الحدوث لأن تلك النظرية مبنية على أساس على عدم فهم معنى العلية فهما صحيحاً وتحديد حاجة الأشياء إلى العلة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق مع الواقع.

الثانية ـ صحة نظرية ان سر الحاجة إلى العلة هو إمكان الوجود ، فان تلك النظرية قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلية فهما صحيحاً مطابقاً للواقع وان حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجودها فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن ذلك المبدأ.

٣٥

وقد تلخص : ان الأشياء ـ بشتى ألوانها واشكالها ـ خاضعة للمبدإ الأول خضوعاً ذاتياً. وهذا لا ينافي ان يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى وإعمال قدرته كما فصلنا الحديث ـ من هذه الناحية ـ في بحث الطلب والإرادة. وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية.

ثم انا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا صحة نظرية ان منشأ الحاجة هو الحدوث في الموجودات التكوينية وانها تملك حريتها في البقاء ولا تخضع لمبدإ ، إلا انها بديهية البطلان في الأفعال الاختيارية التي هي محل الكلام في المسألة ، ضرورة ان الفعل الاختياري يستحيل بقاؤه بعد ارتفاع الإرادة والاختيار إذاً لا وجه للتفصيل بين الضد الموجود والمعدوم.

ويجدر بنا ان نختم الحديث عن مقدمية عدم الضد للضد الآخر وعدم مقدميته وقد عرفت استحالة مقدميته. هذا بحسب الصغرى.

واما الكبرى وهي وجوب مقدمة الواجب. فقد تقدم الكلام فيها ، وقلنا هناك انه لا دليل على ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته ، وما ذكروه من الأدلة على ذلك قد ناقشناها واحداً بعد واحد ، بل ذكرنا هناك ـ مضافاً إلى ان الوجدان حاكم بعدم ثبوت الملازمة بينهما ـ ان إيجاب المقدمة شرعاً لغو محض فلا يترتب عليه أثر أصلا.

الوجه الثاني ـ قد استدل بعضهم على ان الأمر بشيء يقتضى النهي عن ضده بان وجود الضد ملازم لترك الضد الآخر ، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بان يكون أحدهما واجباً والآخر محرماً ، وعليه فإذا كان أحد الضدين واجباً فلا محالة يكون ترك الآخر أيضا واجباً ، وإلا لكان المتلازمان مختلفين في الحكم وهو غير جائز.

أقول : هذا الدليل أيضا مركب من مقدمتين :

الأولى ـ صغرى القياس ، وهي ثبوت الملازمة بين وجود شيء وعدم ضده.

٣٦

الثانية ـ كبراه وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

اما المقدمة الأولى فلا إشكال فيها.

واما المقدمة الثانية فقد ذكروا ان المتلازمين لا بد ان يكونا متوافقين في الحكم فإذا كانت الإزالة ـ مثلا ـ واجبة فترك الصلاة الّذي هو ملازم لفعل الإزالة لا محالة يكون واجباً لأنه يمتنع أن يكون محرماً لاستلزامه التكليف بالمحال ، ولا فرق في ذلك بين الضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما ، والضدين الذين لهما ثالث كالسواد والبياض والقيام والجلوس ونحوهما ، غاية الأمر انه على الفرض الأول كان الاستلزام من الطرفين ، فكما ان وجود كل منهما يستلزم عدم الآخر كذلك عدم كل منهما يستلزم وجود الآخر. واما على الفرض الثاني فوجود كل واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون العكس إذ يمكن انتفاؤهما معاً. وذلك لأن ملاك دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده هو استلزام وجود ذلك الشيء لعدم ضده ، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد. واما استلزام عدم الشيء لوجود ضده فهو وان كان مختصاً بالضدين الذين لا ثالث لهما إلا انه أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.

وعلى ذلك يظهر انه لا وجه لما يراه شيخنا الأستاذ (قده) من التفرقة بين ما إذا لم يكن للضدين ثالث ، وما إذا كان لهما ثالث فسلم الدلالة في الفرض الأول دون الثاني ، فان ملاك الدلالة ـ كما عرفت ـ واحد ، إذاً فالتفصيل في غير موضعه كما سنتعرض إلى ذلك إن شاء الله تعالى.

والجواب عن ذلك ان الّذي لا يمكن الالتزام به هو كون المتلازمين مختلفين في الحكم ، بان يكون أحدهما متعلقاً للأمر ، والآخر متعلقاً للنهي ، لاستلزام ذلك التكليف بما لا يطاق ، فلا يمكن أن يأمر الشارع باستقبال القبلة ـ مثلا ـ في بلدنا هذا أو ما يقربه من البلاد في الطول والعرض ، وينهى عن استدبار الجدي ، لأن هذا تكليف بغير المقدور ، بل لا يمكن النهي التنزيهي عنه لكونه لغواً فلا

٣٧

يترتب عليه أي أثر بعد فرض وجوب الاستقبال. واما لزوم كونهما محكومين بحكم واحد ومتوافقين فيه فلا موجب له أصلا فان المحذور المتقدم ـ وهو : لزوم التكليف بما لا يطاق ـ كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام. وعليه فلا مقتضى لدفع المحذور بالفرض الأول دون الفرض الثاني ، فان الالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه ، ولا دليل في المقام ، بل قام الدليل على خلافه ، وذلك لأن الشارع إذا أمر بأحد المتلازمين فالامر بالملازم الآخر لغو فإذا أمر باستقبال القبلة ـ مثلا ـ فالامر باستدبار الجدي. أو كون اليمين على طرف المغرب واليسار على طرف المشرق بلا فائدة ، فان تلك الأمور من ملازمات وجود المأمور به في الخارج ، سواء أكانت متعلقة للأمر أم لم تكن ، وما كان كذلك فلا يمكن تعلق الأمر به.

نعم لو توقف ترك الحرام خارجاً على الإتيان بفعل ما للملازمة بين ترك هذا الفعل والوقوع في الحرام وجب الإتيان به عقلا. واما شرعاً فلا ، لعدم الدليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية. ونظير ذلك ما تقدم في بحث مقدمة الواجب من ان الإتيان بالمقدمة إذا كان علة تامة للوقوع في الحرام من دون أن يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة واختيار للفاعل ، وجب تركها عقلا لا شرعاً لعدم الدليل على حرمة تلك المقدمة لا حرمة نفسية ولا حرمة غيرية.

اما الحرمة النفسيّة فلان المتصف بها إنما هو المسبب ، لأنه مقدور للمكلف بواسطة القدرة على مقدمته ، ومن الظاهر انه لا فرق في المقدور بين كونه بلا واسطة أو معها. ووجوب وجوده وضرورته من قبل الإتيان بمقدمته لا يضر بتعلق التكليف به لأنه وجوب بالاختيار ، فلا ينافي الاختيار. إذاً لا وجه لصرف النهي المتعلق بالمعلول إلى علته كما عن شيخنا الأستاذ (قده) بدعوى ان العلة مقدورة دون المعلول ، ضرورة ان المقدور بالواسطة مقدور والمعلول وان

٣٨

لم يكن مقدوراً ابتداء ، إلا انه مقدور بواسطة القدرة على علته وهذا يكفي في صحة تعلق النهي به.

وأما الحرمة الغيرية فقد تقدم انه لا دليل عليها لأن ثبوتها يبتنى على ثبوت الملازمة. وقد سبق ان الملازمة لم تثبت.

وبتعبير آخر : لا شبهة في ان مراد القائل بان المتلازمين لا بد أن يكونا متوافقين في الحكم : ليس توافقهما في الإرادة بمعنى الشوق المؤكد ، ولا بمعنى إعمال القدرة ، فان الإرادة بالمعنى الأول من الصفات النفسانيّة ، وليست من سنخ الأحكام في شيء. وبالمعنى الثاني وهو إعمال القدرة في شيء يستحيل أن يتعلق بفعل الغير لأنه ليس واقعاً تحت اختيار المولى وإرادته ، بل مراده من ذلك ان اعتبار المولى أحد المتلازمين في ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز يستلزم اعتبار الآخر في ذمته أيضاً.

ولكن من الواضح جداً : انه لا ملازمة بين الاعتبارين أصلا مضافاً إلى ما عرفت من ان الاعتبار الثاني لغو.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر ان الأمر كذلك في النقيضين ، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة ، كالتكلم والسكوت ، فان اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن نقيضه ، واعتبار عدمه ، كما ان اعتبار الملكة في ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن عدمها ، فالامر بالإزالة ـ مثلا ـ كما لا يستلزم النهي عن الصلاة المضادة لها ، كذلك لا يستلزم النهي عن نقيضها وهو العدم البديل لها ، ضرورة ان المتفاهم منه عرفاً ليس إلا وجوب الإزالة في الخارج ، لا حرمة تركها ولذلك قلنا ان كل حكم شرعي متعلق بشيء لا ينحل إلى حكمين : أحدهما متعلق به ، والآخر بنقيضه.

أو فقل : ان النهي عن أحد النقيضين مع الأمر بالنقيض الآخر لغو فلا يترتب عليه أثر.

٣٩

وبذلك يظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الالتزام بان الأمر بأحد النقيضين يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البين بالمعنى الأخص. والأمر بأحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت ـ مثلا ـ يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البين بالمعنى الأخص أيضاً ، بل الأمر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون يستلزم النهي عن الضد الآخر ولكن باللزوم البين بالمعنى الأعم.

ووجه الظهور هو ، ما قد سبق من انه لا دلالة على الملازمة في شيء من تلك الموارد حتى باللزوم البين بالمعنى الأعم ، فضلا عن البين بالمعنى الأخص ، وان الأمر لا يدل إلا على اعتبار متعلقه في ذمة المكلف ، ولا يدل على النهي عن تركه ، بل قد عرفت ان النهي عنه لغو.

أضف إلى ذلك ما ذكرناه ـ سابقاً ـ من ان ملاك الدلالة في المقام هو استلزام فعل الضد لترك الضد الآخر ، وهو امر مشترك فيه بين الجميع ، فلا يختص بالنقيضين ولا بالمتقابلين بتقابل العدم والملكة ولا بالضدين الذين لا ثالث لهما ، بل يعم الضدين الذين لهما ثالث أيضاً ، لأن فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر لا محالة. واما استلزام ترك الشيء لفعل ضده فهو أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.

فالنتيجة ان ما هو ملاك الدلالة على تقدير تسليمه يشترك فيه الجميع ، ولا يختص بغير الضدين الذين لهما ثالث فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التفرقة لا يرجع إلى معنى محصل.

شبهة الكعبي بانتفاء المباح

وهذه الشبهة ترتكز على ركيزتين :

الأولى ـ ان ترك الحرام في الخارج يتوقف على فعل من الأفعال الوجودية لاستحالة خلو المكلف من فعل ما ، وكون من الأكوان الاختيارية ، وعليه فإذا

٤٠