محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

لم يشتغل بغير الحرام وقع في الحرام لا محالة إذا كان الاشتغال بغير الحرام واجباً مقدمة لترك الحرام.

الثانية ـ ان الفعل الاختياري يحتاج في حدوثه وبقائه إلى المؤثر ، فلا يستغنى الحادث في بقائه عن المؤثر كما لا يستغنى عنه في حدوثه ، فالنتيجة على ضوء هاتين الركيزتين هي أن ترك الحرام حدوثاً وبقاء متوقف على إيجاد غيره من الأفعال الاختيارية في الخارج. وبما ان إيجاده مقدمة لترك الحرام فيكون واجباً بوجوب مقدمي ، إذاً لا يمكن فرض مباح في الخارج. وهذا معنى القول بانتفاء المباح وانحصار الأفعال بالواجب والحرام.

ويرد عليه : ان الركيزة الثانية وإن كانت في غاية الصحة والمتانة كما سبق إلا ان الأولى منهما واضحة البطلان. والوجه في ذلك هو : ان ما ذكره الكعبي في هذه الركيزة اما مبتن على مانعية وجود أحد الضدين عن الضد الآخر بدعوى ان فعل الحرام بما انه مضاد لغيره من الأفعال الوجودية فلا محالة يتوقف تركه على فعل ما من تلك الأفعال من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه. واما مبتن على دعوى الملازمة بين حرمة شيء ووجوب ضده.

ولكن كلا الأمرين واضح الفساد.

اما الأمر الأول فقد تقدمت استحالة مانعية وجود أحد الضدين عن الضد الآخر بصورة مفصلة ، فلا يكون عدم الضد مستنداً إلى وجود ضده ، بل هو اما مستند إلى عدم مقتضية ، أو إلى وجود المقتضى للضد الآخر. وعلى هذا فلا يكون ترك الحرام متوقفاً على فعل ما غير الحرام من الأفعال الوجودية ، بل يكفي في عدمه عدم إرادته وعدم الداعي إليه ، أو إرادة إيجاد فعل آخر. وكيف كان فلا يتوقف ترك الحرام على أحد تلك الأفعال ، على ان الكبرى أيضا غير ثابتة ، وهي وجوب مقدمة الواجب كما سبق.

واما الأمر الثاني ـ فلما عرفت من انه لا دليل على سراية الحكم من أحد

٤١

المتلازمين إلى الملازم الآخر.

نعم ربما يمكن أن يعلم المكلف بأنه لو لم يأت بفعل ما غير الحرام لوقع في الحرام باختياره وإرادته ، فحينئذ وان وجب الإتيان به فراراً عن الوقوع في الحرام إلا ان وجوبه عقلي لا شرعي كما تقدم ، اذن فما أفاده الكعبي من انحصار الأفعال الاختيارية بالواجب والحرام لا يرجع إلى معنى محصل. هذا تمام كلامنا في الضد الخاصّ.

ونتيجة جميع ما ذكرناه عدة نقاط :

الأولى ـ ان هذه المسألة من المسائل الأصولية العقلية وليست من المسائل الفقهية ، ولا من المبادئ كما تقدم.

الثانية ـ ان العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة وهذه الأجزاء تختلف من ناحية استناد وجود المعلول إليها واستناد عدمه إلى تلك الاجزاء ، فان وجوده مستند إلى الجميع في مرتبة واحدة فلا يمكن أن يستند إلى بعضها دون بعضها الآخر ، وهذا بخلاف عدمه ، فانه عند عدم المقتضى أو الشرط لا يستند إلى وجود المانع كما عرفت.

الثالثة ـ ان كبرى كون عدم المانع من المقدمات مسلمة إلا أن عدم أحد الضدين ليس مقدمة لوجود الضد الآخر ، لما تقدم من استحالة مانعية وجود أحد الضدين للضد الآخر بالوجهين السابقين» الدور والتفتيش عن حال المقتضيات وعدم إمكان فرض صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضد الآخر»

الرابعة ـ ان المانع إنما يكون متصفاً بالمانعية عند ثبوت المقتضى مع بقية الشرائط ، ليزاحم المقتضى في تأثيره. وهذا معنى دخل عدمه في وجود المعلول.

الخامسة ـ إمكان ثبوت المقتضى لكل من الضدين في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر وقد عرفت ان هذا غير داخل في الكبرى المتسالم عليها ، وهي ان اقتضاء المحال محال خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) حيث انه قد أصر على استحالة

٤٢

ثبوت المقتضى لكل منهما ، وان ذلك من مصاديق تلك الكبرى ، ولكن قد سبق ان الأمر ليس كذلك فان تلك الكبرى إنما تتحقق في أحد موردين : ١ ـ (اقتضاء شيء واحد بذاته امرين متنافيين في الوجود). ٢ ـ (فرض ثبوت المقتضى لكل من الضدين بقيد الاجتماع والتقارن) والمقام ليس منهما في شيء.

السادسة ـ ان التقدم أو التأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك وجودي كامن في صميم ذات الشيء لا في أمر خارج عنه ، دون المعية في الرتبة ، فانه يكفي في تحققها عدم تحقق ملاك التقدم أو التأخر خلافاً لشيخنا المحقق (قده) حيث قال : ان المعية في الرتبة أيضا تحتاج إلى ملاك وجودي. وقد تقدم فساده فلاحظ.

السابعة ـ انه لا مقتضى لكون المتلازمين متوافقين في الحكم ، بل قد سبق ان ذلك لغو فلا يترتب عليه أثر شرعي أصلا. نعم الّذي لا يمكن هو اختلافهما في الحكم كما مر.

الثامنة ـ ان قياس المساواة إنما ينتج في المتقدم والمتأخر بالزمان ، فان ما كان متحداً مع المتقدم أو المتأخر زماناً متقدم أو متأخر لا محالة ، لا في المتقدم والمتأخر بالرتبة والطبع. وسر ذلك ان ملاك التقدم والتأخر في الأولين أمر خارج عن مقتضى ذاتهما وهو وقوعهما في الزمان المتقدم والمتأخر ، ومع قطع النّظر عن ذلك فلا يقتضى أحدهما بذاته التقدم على شيء آخر ولا الآخر التأخر ، فان المتقدم والمتأخر بالذات نفس اجزاء الزمان وما يشبهها كالحركة ونحوها ، والحوادث الأخر إنما تتصف بهما بالعرض لا بالذات. ونتيجة ذلك هي ان كل ما كان واقعاً في الزمان المتقدم واجد لملاك التقدم ، وكل ما كان واقعاً في الزمان المتأخر واجد لملاك التأخر ، وكل ما كان واقعاً في الزمان المقارن واجد لملاك التقارن من دون اختصاص بحادث دون آخر. وملاك التقدم والتأخر في الأخيرين أمر راجع إلى مقتضى ذاتهما فكل ما كان في صميم ذاته من الوجود أو العدم اقتضاء التقدم على شيء أو التأخر متقدم عليه أو متأخر لا محالة ، وكل ما لم يكن فيه اقتضاء كذلك

٤٣

فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر ولو كان في رتبة ما فيه الاقتضاء.

التاسعة ـ بطلان التفصيل بين الضد المعدوم والضد الموجود بتوقف وجود الأول على ارتفاع الثاني دون العكس. وقد عرفت ان منشأ هذا التفصيل توهم استغناء الباقي عن المؤثر. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا فراجع.

العاشرة ـ بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من تسليم الدلالة على الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده في النقيضين ، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة ، بل في الضدين الذين لا ثالث لهما. وقد عرفت عدم الدلالة في الجميع.

الحادية عشرة ـ قد تقدم انه على تقدير تسليم الملازمة فيما إذا لم يكن للضدين ثالث فلا بد من تسليمها فيما إذا كان لهما ثالث أيضاً ، لأن ملاك الدلالة كما مر هو (استلزام فعل الشيء لترك ضده) أمر يشترك فيه جميع الأضداد ، فلا وجه للتفصيل بينهما ، كما عن شيخنا الأستاذ (قده).

الثانية عشرة ـ ان ، ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح لا يرجع إلى معنى محصل كما سبق.

الضد العام

واما الكلام في المقام الثاني وهو الضد العام فقد اختلفت كلماتهم في كيفية دلالة الأمر بالشيء على النهي عنه بعد الفراغ عن أصل الدلالة ـ إلى ثلاثة أقوال :

الأول ـ ان الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام فالامر بالصلاة ـ مثلا ـ عين النهي عن تركها ، فقولنا صل عين قولنا : لا تترك الصلاة.

الثاني ـ ان الأمر بالشيء يدل على النهي عنه بالتضمن بدعوى انه مركب من طلب الفعل والمنع من الترك ، فالمنع من الترك مأخوذ في مفهوم الأمر فيكون دالا عليه بالتضمن.

الثالث ـ ان الأمر بالشيء يقتضى النهي عنه بالدلالة الالتزامية باللزوم البين

٤٤

بالمعنى الأخص ، أو البين بالمعنى الأعم.

اما القول الأول : فان أريد من العينية في مقام الإثبات والدلالة ـ أعني بها ان الأمر بشيء والنهي عن تركه يدلان على معنى واحد وإنما الاختلاف بينهما في التعبير فقط ـ فهذا مما لا إشكال فيه إذ من الواضح انه لا مانع من أبرار معنى واحد بعبارات متعددة وألفاظ مختلفة فيبرزه تارة بلفظ وأخرى بلفظ آخر ، وهكذا ـ مثلا ـ يمكن إبراز كون الصلاة على ذمة المكلف مرة بكلمة «صل» ومرة أخرى بكلمة لا تترك الصلاة بان يكون المقصود من كلتا الكلمتين أبرار وجوبها وثبوتها في ذمة المكلف ، لا ان المقصود من الكلمة الأولى إبراز وجوب فعلها ومن الكلمة الثانية إبراز حرمة تركها لئلا تكون إحدى الكلمتين عين الأخرى في الدلالة والكشف. وهذا هو المقصود من الروايات الناهية عن ترك الصلاة. وليس المراد من النهي فيها النهي الحقيقي الناشئ من مفسدة إلزامية في متعلقه ، ولذلك لم يتوهم أحد حرمة ترك الصلاة وان تاركها يستحق عقابين عقاباً لتركه الواجب ، وعقاباً لارتكابه الحرام.

وهذا التعبير ـ أعني به التعبير عن طلب شيء بالنهي عن تركه ـ امر متعارف في الروايات في باب الواجبات والمستحبات وفي كلمات الفقهاء (رض) فترى انهم يعبرون عن الاحتياط الواجب بقولهم لا يترك الاحتياط. وعليه فمعنى ان الأمر بالشيء عين النهي عن ضده هو انهما متحدان في جهة الدلالة والحكاية عن المعنى ، في مقابل ما إذا كانا متغايرين في تلك الجهة.

وعلى ضوء ذلك صح ان يقال : ان الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام بحسب المعنى والدلالة عليه. فان أريد من العينية : العينية بهذا المعنى فهي صحيحة ، ولا بأس بها ، ولكن الظاهر ان العينية بذلك المعنى ليست مراداً للقائل بها كما لا يخفى.

وان أريد بها العينية في مقام الثبوت والواقع ـ أعني بها كون الأمر بشيء

٤٥

عين النهي عن تركه في ذلك المقام وبالعكس ـ فيرد عليه انه ان أريد من النهي عن الترك طلب تركه المنطبق على الفعل إذ قد يراد من النهي عن الشيء طلب تركه كما هو الحال في تروك الإحرام والصوم ، حيث يراد من النهي عن الأكل والشرب ومجامعة النساء ، والارتماس في الماء ، ولمس المرأة ، ولبس المخيط للرجال. والتكحل والنّظر إلى المرأة ، والمجادلة ، وغيرها مما يعتبر عدمه في صحة الإحرام طلب ترك هذه الأمور فان هذا النهي لم ينشأ عن مبغوضية تلك الأمور. وقيام مفسدة إلزامية بها ، بل نشأ عن محبوبية تركها ، وقيام مصلحة إلزامية به. وعليه لم يكن مثل هذا النهي نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ملزمة في متعلقه ، بل هو في الواقع أمر ، ولكن أبرز بصورة النهي في الخارج ـ ان أريد ذلك فلا معنى له أصلا ، وذلك : لأن ترك الترك وان كان مغايراً للفعل مفهوماً إلا انه عينه مصداقاً وخارجاً ، لأنه عنوان انتزاعي له ، وليس له ما بإزاء في الخارج ما عداه.

أو فقل : ان في عالم التحقق والوجود أحد شيئين لا ثالث لهما ، أحدهما الوجود ، والثاني العدم البديل له. واما عدم العدم فهو لا يتجاوز حد الفرض والتقدير : وليس له واقع في قبالهما وإلا لأمكن أن يكون في الواقع إعدام غير متناهية فان لكل شيء عدما ، ولعدمه عدم ، وهكذا إلى أن يذهب إلى ما لا نهاية له. نعم انه عنوان انتزاعي منطبق على الوجود ، وعليه فالقول بان الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده في قوة القول بان الأمر بالشيء يقتضى الأمر بذلك الشيء ، وهو قول لا معنى له أصلا.

فالنتيجة : انه لا يمكن أن يراد من النهي عن الترك طلب تركه لاستلزام ذلك النزاع في أن الأمر بالشيء يقتضى نفسه ، وهذا النزاع لا محصل له أبداً.

وان أريد بالنهي عن الترك النهي الحقيقي الناشئ عن مبغوضية متعلقه ، وقيام مفسدة ملزمة به فالنهي بهذا المعنى وان كان أمراً معقولا في نفسه إلا انه لا يمكن ان يراد فيما نحن فيه ، وذلك لاستحالة ان يكون بغض الترك متحداً مع

٤٦

حب الفعل أو جزئه وذلك لاستحالة اتحاد الصفتين المتضادتين في الخارج.

وبعبارة واضحة : انه لا شبهة في أن الأمر الحقيقي يباين النهي الحقيقي تبايناً ذاتياً ، فلا اشتراك بينهما لا في ناحية المبدأ ولا في ناحية الاعتبار ولا في ناحية المنتهى. اما من ناحية المبدأ فلان الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه والنهي تابع للمفسدة الإلزامية فيه. واما من ناحية الاعتبار فلما ذكرناه غير مرة من ان حقيقة الأمر ليست إلا اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف ، وإبرازه في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو نحوها. وحقيقة النهي ليست إلا اعتبار المولى حرمة الفعل عليه ، وجعله محروماً عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرز من صيغة النهي أو ما شاكلها. ومن الواضح ان أحد الاعتبارين أجنبي عن الاعتبار الآخر بالكلية. واما من ناحية المنتهى فلان الأمر يمتثل بإتيان متعلقه والنهي يمتثل بترك متعلقه.

وعلى هذا الضوء فكيف يمكن القول بان الأمر عين النهي فهل هو عينه في ناحية المبدأ أو في ناحية المنتهى أو في ناحية الاعتبار كل ذلك غير معقول. فالنتيجة اذن هي ان القول بالعينية قول لا محصل له.

ومن ذلك يظهر بطلان القول الثاني أيضا ، وهو القول بان النهي جزء من الأمر فان القول بالجزئية أيضا غير معقول ضرورة انه كما لا يمكن أن يكون النهي متحداً مع الأمر في المراحل المتقدمة كذلك لا يمكن أن يكون جزؤه في تلك المراحل وما قيل : في تعريف الوجوب من انه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك لا يخلو عن ضرب مسامحة ولعل الغرض منه الإشارة إلى مفهوم الوجوب في مقام تقريبه إلى الأذهان لا انه تعريف له على التحقيق وإلا فمن الواضح جداً ان المنع من الترك لم يؤخذ في حقيقة الوجوب بأي معنى من المعاني الّذي فرضناه سواء أكان إرادة نفسانية ، أم كان حكما عقلياً ، أو مجعولا شرعياً فانه على الأول من الاعراض وهي من البسائط الخارجية ، وعلى الثاني فهو من الأمور

٤٧

الانتزاعية العقلية ، بمعنى ان العقل يحكم باللزوم عند اعتبار المولى فعلا ما على ذمة المكلف مع عدم نصبه قرينة على الترخيص في تركه. ومن الظاهر انه أشدّ بساطة من الاعراض فلا يعقل له جنس ولا فصل ، وعلى الثالث فهو من المجعولات الشرعية. ومن الواضح انها في غاية البساطة ولا يعقل لها جنس وفصل. نعم المنع من الترك لازم للوجوب لا انه جزؤه.

وعلى تقدير كون الوجوب مركباً فلا يعقل ان يكون مركباً من المنع من الترك لما عرفت من ان بغض الترك كما لا يمكن أن يكون عين حب الفعل كذلك لا يمكن أن يكون جزؤه.

وقد تحصل من ذلك ان النزاع في عينية أمر بشيء للنهي عن ضده أو جزئيته له لا يرجع إلى النزاع في معنى معقول.

واما القول الثالث : وهو القول بان الأمر بشيء يستلزم النهي عن ضده العام فقد ذهب إليه جماعة ولكنهم اختلفوا في ان الاقتضاء هل هو على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص بان يكون نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع من الترك ، من دون حاجة إلى أمر زائد ، أو انه على نحو اللزوم البين بالمعنى الأعم على قولين؟ فقد قرب شيخنا الأستاذ (قده) القول الأول ، وقال : انه لا يبعد أن نكون دلالته على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص ، وعلى تقدير التنزل عن ذلك فالدلالة الالتزامية بنحو اللزوم البين بالمعنى الأعم مما لا إشكال فيه ولا كلام.

والتحقيق هو : عدم الاقتضاء. والوجه في ذلك هو ان دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللزوم البين بالمعنى الأخص واضحة الفساد ، ضرورة ان الآمر ربما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلا ، ليكون كارهاً له فلو كانت الدلالة على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص لم يتصور غفلة الآمر عن الترك وعدم التفاته إليه في مورد من الموارد ، ومن هنا قد اعترف هو (قده) أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيء عن ترك تركه فضلا عن ان يتعلق به طلبه ، وهذا منه

٤٨

يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللزوم البين بالمعنى الأخص.

واما دعوى الدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم فهي أيضا لا يمكن تصديقها. وذلك لعدم الدليل عليها لا من العقل ولا من الشرع.

اما من ناحية العقل فلأنه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه ، فان كلا من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبار مستقل والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكان من الإمكان ، وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه ، إذ قد يريد الإنسان شيئاً غافلا عن تركه وغير ملتفت إليه ، فكيف يكون كارهاً له.

وان شئت فقل : ان القائل باستلزام وجوب شيء لحرمة تركه اما ان يدعى الحرمة النفسيّة ، أو يدعى الحرمة الغيرية ، وكلتا الدعويين فاسدة : اما الدعوى الأولى فلان الحرمة النفسيّة انما تنشأ من مفسدة إلزامية في متعلقها. ومن الواضح انه لا مفسدة في ترك الواجب فتركه ترك ما فيه المصلحة ، لا فعل ما فيه المفسدة. فلو سلمنا وجود المفسدة في ترك الواجب أحياناً فلا كلية لذلك بالبداهة ، إذن لا مجال لدعوى الملازمة بين وجوب شيء وحرمة تركه ، بل الوجدان حاكم بعدم ثبوتها. واما الدعوى الثانية : فلعدم ملاك الحرمة الغيرية فيه أولا ، لانتفاء المقدمية ، وكونها لغواً ثانياً ، لعدم ترتب أثر عليها من العقاب أو نحوه. وعليه فلا موضوع لدعوى الملازمة أصلا.

واما من ناحية الشرع فلان ما دل على وجوب شيء لا يدل على حرمة تركه. بداهة ان الحكم الواحد وهو الوجوب في المقام لا ينحل إلى حكمين أحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك ، ليكون تاركه مستحقاً لعقابين من جهة تركه الواجب وارتكابه الحرام ، ومن هنا قلنا انه لا مفسدة في ترك الواجب ليكون تركه محرماً ، كما انه لا مصلحة في ترك الحرام ليكون واجباً.

وعلى الجملة فمن الواضح جداً ان الأمر بشيء لا يدل إلا على اعتباره في ذمة

٤٩

المكلف بلا دلالة له على اعتبار حرمة تركه ، فالأمر بالصلاة ـ مثلاً ـ لا يدل إلا على اعتبار فعلها في ذمة المكلف ، دون حرمة تركها ، وهكذا. واما إطلاق المبغوض على ترك الواجب فهو بضرب من العناية والمسامحة ، كما ان إطلاق المحبوب على ترك الحرام كذلك.

وقد تحصل من ذلك بشكل واضح انه لا ملازمة بين اعتبار شيء في ذمة المكلف واعتبار حرمة نقيضه لا عقلا ولا شرعاً.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان : الأولى ـ ان الأمر بشيء لا يقتضى النهي عن ضده العام لا بنحو العينية أو الجزئية ولا بنحو اللزوم. الثانية ـ ان القولين الأولين لا يرجعان إلى معنى معقول ، دون القول الأخير. هذا تمام كلامنا في الضد العام.

الكلام في ثمرة المسألة

قد اشتهر بين الأصحاب ان الثمرة تظهر فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة ـ مثلا ـ وواجب مضيق كالإزالة أو بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر ، فعلى القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده يقع الواجب الموسع أو غير الأهم صحيحاً ، إذ لا مقتضى لفساده أصلا ، فان المقتضى له إنما هو تعلق النهي به ولا نهى على الفرض ، اذن يبقى الواجب على حاله من المحبوبية والملاك. واما على القول بالاقتضاء فيقع فاسداً إذا كان عبادة بضم كبرى المسألة الآتية وهي : ان النهي في العبادات يوجب الفساد.

وقد أورد على هذه الثمرة بإيرادين متقابلين :

أحدهما ـ ما عن الشيخ البهائي (قده) من بطلان العبادة مطلقاً حتى على القول بعدم الاقتضاء وذلك لما يراه (قده) من اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا ، وعلى هذا فلا محالة تفسد عند المزاحمة بالواجب الأهم أو المضيق ، سواء

٥٠

فيه القول بالاقتضاء وعدمه ، ضرورة ان الأمر بشيء لو لم يقتض النهي عن ضده فلا شبهة في انه يقتضى عدم الأمر به ، لاستحالة تعلق الأمر بالضدين معاً ، فإذا كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فعلا فلا محالة تقع فاسدة ، لفرض ان صحة العبادة مشروطة بكونها مأموراً بها ، وبما انه لا أمر في المقام على الفرض فلا صحة لها لانتفائها بانتفاء شرطها.

ثانيهما ـ ما عن جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قده) من صحة العبادة مطلقاً حتى على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده. والوجه في ذلك هو ان صحتها على القول بعدم الاقتضاء واضحة ، لعدم المقتضى للفساد أصلا بناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر ، بل المعتبر فيها هو إضافتها إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة. واما على القول بالاقتضاء فالعبادة كالصلاة ـ مثلا ـ وان كانت منهياً عنها إلا ان هذا النهي بما انه نهى غيري نشأ عن مقدمية تركها أو عن ملازمته لفعل المأمور به في الخارج ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقه فلا يكون موجباً للفساد. ومن هنا قالوا : ان مخالفة الأمر والنهي المقدميين لا توجب بعداً.

وسر ذلك ما سبق من أن النهي الغيري المقدمي لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه وكونه مبغوضاً للمولى لئلا يمكن التقرب به ، فان المبعد لا يمكن التقرب به.

وعلى ضوء ذلك فالعبادة باقية على ما كانت عليه من المصلحة والمحبوبية الذاتيّة الصالحة للتقرب بها ، والنهي المتعلق بها ـ بما انه غيري ـ لا يمنع عن التقرب بها.

وعلى الجملة فبناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر وكفاية قصد الملاك فصحتها عندئذ تدور مدار تحقق الملاك بلا فرق بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه ، وبما انها واجدة للملاك على كلا القولين فهي تقع صحيحة ، اذن فلا ثمرة.

أقول : اما الإيراد الأول ـ فيردّه : ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي

٥١

مفصلا ، وسنتعرض لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى أيضاً من ان المعتبر في صحة العبادة هو قصد القربة بأي وجه تحقق لا خصوص قصد الأمر ، لعدم دليل خاص يدل عليه ، اذن لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين وجود الأمر وعدمه إذا كان الفعل واجداً للملاك وقصد التقرب به.

واما الإيراد الثاني ـ فيظهر حاله مما سنبينه إن شاء الله تعالى.

فنقول : تحقيق الحال في الثمرة المزبورة يستدعى الكلام في مقامين : الأول ـ فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة ـ مثلا ـ وواجب مضيق كالإزالة. الثاني ـ فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر كما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة في آخر الوقت والإزالة بحيث لو اشتغل بالإزالة فاتته الصلاة.

اما الكلام في المقام الأول ـ فقد اختار المحقق الثاني (قده) وتبعه جماعة من المحققين تحقق الثمرة فيه ، فعلى القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة وعلى القول بعدمه تقع صحيحة.

بيان ذلك انا قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الافراد ان الصحيح هو تعلقها بالطبائع الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات دون الافراد ، وعلى هذا فالمأمور به هو الطبيعة المطلقة ، ومقتضى إطلاق الأمر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أي فرد من افرادها شاء تطبيقها عليه من الافراد العرضية والطولية ، ولكن هذا إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق ، واما إذا كان مانع عنه كما إذا كان بعض افرادها منهياً عنه فلا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بالطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه ، لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.

ويترتب على ذلك انه بناء على القول باقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده كان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهياً عنه فيقيد به إطلاق الأمر به ، كما هو

٥٢

الحال في بقية موارد النهي عن العبادات ، لاستحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب ، ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسداً بناءً على عدم كفاية اشتماله على الملاك في الصحة.

أو فقل : ان الأمر بالشيء لو كان مقتضياً للنهي عن ضده كان الفرد المزاحم منهياً عنه لا محالة ، وعليه فلا يجوز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه ، وبضميمة المسألة الآتية وهي ان النهي في العبادات يوجب الفساد يقع فاسداً.

واما بناء على القول بعدم الاقتضاء فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق هو عدم الأمر بالفرد المزاحم ، لاستحالة الأمر بالضدين معاً ، وهذا لا يقتضى فساده.

والوجه في ذلك ما عرفت من ان متعلق الوجوب صرف وجود الطبيعة وخصوصية الافراد جميعاً خارجة عن حيز الأمر ، والمفروض ان القدرة على صرف الوجود منها تحصل بالقدرة على بعض وجوداتها وافرادها وان لم يكن بعضها الآخر مقدوراً. ومن الواضح ان التكليف غير مشروط بالقدرة على جميع افرادها العرضية والطولية ، ضرورة انه ليست طبيعة تكون مقدورة كذلك ، وعليه فعدم القدرة على فرد خاص من الطبيعة المأمور بها وهو الفرد المزاحم بالأهم لا ينافي تعلق الأمر بها ، فان المطلوب هو صرف وجودها وهو يتحقق بإيجاد فرد منها في الخارج ، فالقدرة على إيجاد فرد واحد منها كاف في تعلق الأمر بها.

وعلى هذا الضوء يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة المأمور بها لانطباق تلك الطبيعة عليه كانطباقها على بقية الافراد ، ضرورة انه لا فرق بينه وبين غيره من الافراد من هذه الجهة أصلا.

وبتعبير آخر : انه لا موجب لتقييد إطلاق المأمور به على هذا القول بغير الفرد المزاحم للواجب المضيق ، فان الموجب لذلك إنما هو تعلق النهي به ، وحيث لا نهى على الفرض فلا موجب له أصلا ، وعندئذ فغاية ما يقتضيه الأمر

٥٣

بالواجب المضيق هو عدم الأمر به ، ومن الواضح انه غير مانع من انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، إذ الافراد جميعاً في عدم تعلق الأمر بها وعدم اتصافها بالواجب على نسبة واحدة ، ولا فرق في ذلك بين الفرد المزاحم للواجب المضيق وغيره ، فان متعلق الأمر الطبيعة الجامعة بين الافراد بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات فيه ، ولذا لا يسرى الوجوب منها إلى تلك الافراد. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان ضابط الامتثال انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج.

فالنتيجة ـ على ضوء هاتين الناحيتين ـ هي صحة الإتيان بالفرد المزاحم لاشتراكه مع بقية الافراد في كلتا الناحيتين.

نعم يمتاز عنها في ناحية ثالثة وهي ان الفرد المزاحم غير مقدور شرعاً وهو في حكم غير المقدور عقلاً ، إلا انها لا تمنع عن الصحة وحصول الامتثال به ، لأن الصحة تدور مدار الناحيتين الأوليين ، وهذه الناحية أجنبية عما هو ملاك الصحة ، ضرورة ان المكلف لو عصى الأمر بالواجب المضيق وأتى بهذا الفرد المزاحم لوقع صحيحاً ، لانطباق المأمور به عليه.

وان شئت فقل : ان ما كان مزاحماً للواجب المضيق وان كان غير مقدور شرعاً إلا انه ليس بمأمور به ، وما كان مأموراً به ومقدوراً للمكلف وهو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى غير مزاحم له. وعلى ذلك الأساس صح الإتيان بالفرد المزاحم ، فان الانطباق قهري والاجزاء عقلي.

ونتيجة ما أفاده المحقق الثاني (قده) هي ان الفرد المزاحم بناء على القول بالاقتضاء حيث انه كان منهياً عنه فلا ينطبق عليه المأمور به ، وعليه فلا اجزاء لدورانه مدار الانطباق. وبناء على القول بعدم الاقتضاء حيث انه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزياً.

وقد أورد على هذا التفصيل شيخنا الأستاذ (قده) بان ذلك انما يتم بناء

٥٤

على ان يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، إذ على هذا الأصل يمكن ان يقال ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه ، فإذا كان المكلف قادراً على الواجب ولو بالقدرة على فرد واحد منه لا يكون التكليف به قبيحاً ، وبما ان الواجب الموسع في مفروض الكلام مقدور من جهة القدرة على غير المزاحم للواجب المضيق من الافراد ، فلا يكون التكليف به قبيحاً.

وعليه فعلى القول بالاقتضاء بما أن الفرد المزاحم منهي عنه لا ينطبق عليه المأمور به فلا يكون مجزياً. وعلى القول بعدم الاقتضاء حيث انه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزياً. اذن ما ذكره المحقق الثاني (قده) من التفصيل متين.

واما إذا كان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك ـ كما هو الصحيح ـ لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، فلا يتم ما ذكره ، ولا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلاً. فهاهنا دعويان : الأولى ـ ان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل. الثانية ـ ان التفصيل المزبور لا يتم على هذا الأصل.

اما الدعوى الأولى ـ فلان الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو الفعل. ومن الواضح ان هذا المعنى بنفسه يستلزم كون متعلقه مقدوراً ، لاستحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلا أو شرعاً ، فإذا كان التكليف بنفسه مقتضياً لاعتبار القدرة في متعلقه فلا تصل النوبة إلى حكم العقل بذلك ، ضرورة ان الاستناد إلى أمر ذاتي في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر عرضي. وان شئت فقل : إن الغرض من البعث انبعاث المكلف نحو الفعل. ومن الواضح امتناع الانبعاث نحو الممتنع ، وحصول الداعي له إلى إيجاده ، فإذا امتنع الانبعاث والداعوية امتنع جعل التكليف لا محالة.

٥٥

واما الدعوى الثانية ـ فهي مترتبة على الدعوى الأولى ، وذلك لأن التكليف إذا كان بنفسه مقتضياً لاعتبار القدرة في متعلقه فلا محالة ينحصر متعلقه بخصوص الافراد المقدورة ، فتخرج الافراد غير المقدورة عن متعلقه.

وعلى الجملة : فنتيجة اقتضاء نفس التكليف ذلك ـ أي اعتبار القدرة ـ هي ان متعلقه حصة خاصة من الطبيعة ، وهي الحصة المقدورة. واما الحصة غير المقدورة خارجة عن متعلقه وان كانت من حصة نفس الطبيعة ، إلا انها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ، ومتعلقة للتكليف. وعلى ذلك فالفرد المزاحم بما انه غير مقدور شرعاً ـ وهو في حكم غير المقدور عقلا ـ خارج عن حيز الأمر ولا يكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، فان انطباق الطبيعة المأمور بها عليه يتوقف على عدم تقييدها بالقدرة. وحيث انها كانت مقيدة بها ـ على الفرض ـ امتنع انطباقها على ذلك الفرد ، ليحصل به الامتثال. أو فقل : ان الطبيعة إذا كانت مقيدة بالقدرة لا تنطبق على الفرد الفاقد لها ، بداهة عدم إمكان انطباق الحصة المقدورة على افراد الحصة غير المقدورة ، فان كل طبيعة تنطبق على افرادها ، ولا تنطبق على افراد غيرها.

وعلى هذا الضوء فلو بنينا على اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا ، ليكون الإتيان بها بداعي ذلك الأمر ، وعدم كفاية قصد الملاك فلا مناص من الالتزام بفساد الفرد المزاحم على كلا القولين. اما على القول بالاقتضاء فلأنه متعلق للنهي. واما على القول بعدم الاقتضاء فلتقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة المانع من انطباقها عليه.

وقد تحصل من مجموع ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) نقطتان :

الأولى ـ عدم تمامية ما ذكره المحقق الثاني (قده) من التفصيل بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه.

٥٦

الثانية ـ انه لا بد من الالتزام بتفصيل آخر ، وهو ان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف ان كان حكم العقل من باب قبح تكليف العاجز ، فما أفاده المحقق الثاني (قده) صحيح ، ولا مناص من الالتزام به ، وان كان اقتضاء نفس التكليف ذلك ، وان البعث بذاته يقتضى ان يكون متعلقه مقدوراً سواء أكان للعقل حكم في هذا الباب أم لم يكن ، فلا يتم ما أفاده المحقق الثاني (قده) إذ لا ثمرة عندئذ ، فان الفرد المزاحم للواجب المضيق محكوم بالفساد مطلقاً ، حتى على القول بعدم الاقتضاء كما عرفت.

هذا كله بناء على القول باشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا ، وعدم كفاية قصد الملاك.

واما إذا بنينا على كفاية الاشتمال على الملاك في الصحة فلا بد من الالتزام بصحة الفرد المزاحم على كلا القولين لأنه تام الملاك حتى بناء على القول بكونه منهياً عنه ، وذلك لأن النهي المانع عن صحة العبادة والتقرب بها إنما هو النهي النفسيّ ، فانه يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه موجبة لاضمحلال ما فيه من المصلحة الصالحة للتقرب بفعل يكون مشتملا عليها ، دون النهي الغيري ، فانه لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه ، ليكشف عن عدم تمامية ملاك الأمر. أو فقل : ان النهي النفسيّ بما انه ينشأ من مفسدة في متعلقه فيكون مانعاً عن التقرب به لا محالة ، والنهي الغيري بما انه لم ينشأ من مفسدة في متعلقه بل ينشأ من أمر آخر ، فلا محالة لا يكون مانعاً عن التقرب ، لأن متعلقه باق على ما كان عليه من الملاك الصالح للتقرب به ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي ان قصد الملاك كاف في صحة العبادة ، وان صحتها لا تتوقف على قصد الأمر بخصوصه ، لعدم دليل يدل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة ، وهو إضافته إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة واما تطبيق ذلك على قصد الأمر أو غيره من الدواعي القربية فانما هو بحكم العقل

٥٧

ومن الواضح انه لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين قصد الأمر وقصد الملاك ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي صحة الفرد المزاحم مطلقاً حتى على القول بالاقتضاء.

وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده المحقق الثاني (قده) من التفصيل بين القولين كما لا يتم على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر ـ كما عرفت ـ كذلك لا يتم على القول بكفاية قصد الملاك ، فان الصغرى ـ وهي كون الفرد المزاحم تام الملاك ـ ثابتة ، والكبرى ـ وهي كفاية قصد الملاك ـ محرزة فالنتيجة من ضم الصغرى إلى الكبرى هي : صحة الفرد المزاحم حتى بناء على كونه منهياً عنه.

ونلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى ـ فساد ما اختاره المحقق الثاني (قده) من التفصيل بين القولين مطلقاً ، أي سواء القول فيه باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر ، وعدم كفاية قصد الملاك ، أو القول بعدم اشتراط صحتها بذلك ، وكفاية قصد الملاك كما مر.

الثانية ـ ان منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، ضرورة ان الاستناد إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي.

الثالثة ـ ان الفرد المزاحم ـ هنا ـ تام الملاك ، وان قصد الملاك كاف في صحة العبادة.

الرابعة ـ ان المانع من صحة العبادة ، والتقرب بها إنما هو النهي النفسيّ لا النهي الغيري ، لأن النهي الغيري لا ينشأ من مفسدة في متعلقه ليكون كاشفاً عن عدم تمامية ملاك الأمر.

ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط :

اما النقطة الأولى فيرد عليها : ان ما أفاده (قده) من الفصيل بين القول

٥٨

بان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، والقول بان منشأ اعتباره اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار فيسلم ما ذكره المحقق الثاني (قده) على الأول دون الثاني ـ لا يرجع إلى معنى محصل ، بناء على ما اختاره (قده) من استحالة الواجب المعلق ، وتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه.

بيان ذلك ان الأمر في الواجب الموسع وان تعلق بالطبيعة ، وبصرف الوجود منها ، إلا انه أيضا مشروط بالقدرة عليها. ومن الواضح ان القدرة عليها لا يمكن إلا بان يكون بعض وجوداتها ، وافرادها ـ ولو كان واحداً منها ـ مقدوراً للمكلف. واما لو كان جميع افرادها ووجوداتها غير مقدور له ، ولو كان ذلك في زمان واحد ، دون بقية الأزمنة ، فلا يمكن تعلق التكليف بنفس الطبيعة ، وبصرف وجودها في ذلك الزمان الّذي فرضنا ان الطبيعة غير مقدورة فيه بجميع افرادها ، إلا على القول بصحة الواجب المعلق ، وحيث ان الواجب الموسع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيق غير مقدور بجميع افراده فلا يعقل تعلق الطلب به عندئذ ، ليكون انطباقه على الفرد المزاحم في الخارج قهرياً وإجزاؤه عن المأمور به عقلياً إلا بناء على صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف حكم العقل بقبح تكليف العاجز وان يكون منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار.

وبتعبير ثان ـ انه بناء على اشتراط صحة العبادة بوجود الأمر فعلا ، والإغماض عما سنتعرض له من صحة تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب فان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) إنما يتم بناء على إمكان تعلق الوجوب بأمر متأخر على نحو الواجب المعلق ، إذ على ذلك لا مانع من تعلق الأمر بالعبادة الموسعة في حال مزاحمتها بالواجب المضيق على نحو يكون الوجوب فعلياً ، والواجب امراً استقبالياً ، لاستحالة تعلق الأمر بها على نحو يكون الواجب أيضاً حالياً ، لأنها

٥٩

في تلك الحال غير مقدورة للمكلف بجميع افرادها.

واما بناء على وجهة نظره (قده) من استحالة الواجب المعلق وعدم إمكان تعلق الطلب بأمر استقبالي مقدور في ظرفه فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم مطلقاً ، حتى على القول بان منشأ اعتبار القدرة هو الحكم العقلي المزبور وذلك لعدم إمكان طلب صرف وجود الطبيعة المأمور بها المزاحمة بالواجب المضيق عندئذ ، ليكون انطباقه على ما أتى به المكلف في الخارج قهرياً ، والاجزاء عقلياً.

فالنتيجة ان ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل بين القول بان منشأ اعتبار القدرة في صحة التكليف هو حكم العقل والقول بان منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار ، فعلى الفرض الأول تظهر الثمرة في المسألة ، دون الفرض الثاني : غير تام على مسلكه (قده) واما على مسلك من يرى صحة الواجب المعلق فلا بأس به. نعم إذا كان للواجب افراد عرضية ، وكان بعض افراده مزاحماً بواجب مضيق دون جميعها لتم ما أفاده (قده) إذ حينئذ يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها ، بناء على القول بان منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل بقبح خطاب العاجز ، كما إذا وقعت المزاحمة بين بعض الافراد العرضية للصلاة ـ مثلا ـ وإنقاذ الغريق كما في مواضع التخيير بين القصر والإتمام ، فانه قد يفرض ان الصلاة تماماً مزاحمة مع الإنقاذ ، لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال دون الصلاة قصراً فيما إذا تمكن المكلف من الجمع بينها وبين الإنقاذ ، ففي هذا الفرض وان كان اللازم على المكلف الإتيان بالصلاة قصراً ، لئلا يفوت منه الواجب المضيق ، ولا يجوز له اختيار فرد آخر منها في مقام الامتثال ـ وهو الصلاة تماماً ـ لأن اختياره يوجب تفويت الواجب الأهم ، ولكن إذا عصى الواجب الأهم واختار ذلك الفرد فلا مناص من الالتزام بصحته ، لانطباق الطبيعة المأمور بها وهي طبيعي الصلاة الجامع بين

٦٠