محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

واما في غير المقام ومحل الفرض يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل من الخارج ، وإلا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه ، بعد سقوط الأمر عن المجموع بتعذر جزئه.

ولكن بعد ما دل الدليل من الخارج على وجوبه ، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، فكما ان فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في باب التعارض ، لفرض ان المجعول في هذا الحال ليس إلا وجوب أحدهما ، ولا يعقل أن يكون وجوب كليهما معاً ، لاستلزامه التكليف بالمحال. ومن المعلوم انه لا موضوع للتزاحم في مثله ، كما هو واضح. فكذلك فيما نحن فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في هذا الباب وذلك لأنا نعلم إجمالا في هذا الحال بوجوب أحدهما ، لفرض تعلق الأمر الآخر بالباقي وسقوط الأمر الأول عن المجموع ـ كما عرفت ـ ومعه لا محالة نشك في ان المجعول وجوب خصوص هذا أو ذاك ، أو وجوب الجامع بينهما بعد عدم إمكان وجوب كليهما معاً ، فعندئذ لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما ، ومعه لا موضوع للتزاحم أصلا.

ولعل منشأ تخيل ان هذا من باب التزاحم الغفلة عن تحليل نقطة واحدة وهي تعلق الأمر بالباقي من الابتداء ، من دون حاجة إلى التماس دليل خارجي عليه ، فان عدم تحليلها أوجب تخيل ان الأوامر الضمنية المتعلقة باجزاء مثل هذا المركب لم تسقط بسقوط جزء منه ، غاية الأمر ان تعذره أوجب سقوط خصوص الأمر الضمني المتعلق به لا بغيره ، وعليه فان كان الجزء المتعذر معيناً سقط الأمر عنه خاصة ، وان كان مردداً بين هذا وذاك سقط امر أحدهما بسقوط موضوعه ـ وهو القدرة ـ دون الآخر بعد ثبوت كليهما معاً في مقام الجعل ، من دون أي تناف بينهما فيه. ومن المعلوم انا لا نعنى بالتزاحم إلا هذا ، غاية الأمر على القول بالترتب الساقط هو إطلاق الخطاب ، وعلى القول بعدمه الساقط أصله.

ووجه الغفلة عن ذلك هو ما عرفت من ان الأمر وان تعلق بالباقي من الأول

٣٠١

إلا انه امر آخر بالتحليل ، ضرورة ان الأمر الأول المتعلق بالمجموع المركب قد سقط يقيناً من جهة تعذر جزء منه ، ولا يعقل بقاؤه في هذا الحال ـ كما مر ـ ومع سقوطه لا محالة تسقط الأوامر الضمنية المتعلقة باجزائه. وعليه فلا محالة نشك في هذا الفرض وما شاكله في ان الأمر المجعول ثانياً للباقي هل هو مجعول للمركب من هذا أو ذاك يعنى ان الشارع في هذا الحال جعل هذا جزء أو ذاك فيكون الشك في أصل المجعول في هذا الحال. ومن المعلوم انه لا يعقل فيه التزاحم ، ولا موضوع له ، ضرورة انه إنما يعقل فيما إذا كان أصل المجعول لكل منهما معلوماً ، وكان التنافي بينهما في مقام الامتثال ، لا في مثل المقام ، كما لا يخفى.

فقد أصبحت النتيجة بوضوح انه لا فرق في عدم جريان التزاحم بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط من واجب واحد بين ان يكون الأمر متعلقاً به بعنوان كون اجزائه مقدورة ، وان يكون متعلقاً به على نحو الإطلاق بلا تقييد بحالة خاصة دون أخرى.

نعم فرق بينهما في نقطة أجنبية عما هو ملاك التزاحم والتعارض بالكلية وهي ان ثبوت الأمر بالباقي هنا مقتضى نفس تخصيص جزئية أجزائه بحال القدرة ـ كما عرفت ـ وهناك يحتاج إلى دليل خارجي يدل عليه وإلا فلا وجوب له ، نعم قد ثبت في خصوص باب الصلاة وجوب الباقي بدليل وهو ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حال ، إلا لفاقد الطهورين على ما قويناه ، ومع قطع النّظر عن ذلك تكفينا الروايات الخاصة الدالة على وجوب الإتيان بالصلاة جالساً إذا لم يتمكن من القيام ، وعلى وجوب الإتيان بها بغير الاستقبال إلى القبلة إذا لم يتمكن منه ، وعلى وجوب الإتيان في الثوب النجس أو عارياً على الخلاف في المسألة ، وغير ذلك ، فهذه الروايات قد دلت على وجوب الإتيان بالباقي وانه لا يسقط ، والساقط إنما هو الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء أو القيد المتعذر ، فلو لم يتمكن المصلى من القيام ـ مثلا ـ وجبت

٣٠٢

عليه الصلاة جالساً بمقتضى النص الخاصّ ، وكذا لو لم يتمكن من الجلوس وجبت عليه الصلاة مضطجعاً. وهكذا.

وعلى الجملة فمع قطع النّظر عما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال تكفينا في المقام هذه الروايات الخاصة الدالة على وجوب الباقي وعدم سقوطه بتعذر جزء أو شرط ، ولكن عرفت ان هذه القاعدة أي قاعدة عدم سقوط الباقي بالتعذر تختص بخصوص باب الصلاة ، فلا تعم غيرها ، ولذا لو لم يتمكن المكلف من الصوم في تمام آنات اليوم لم يجب عليه الإمساك في الآنات الباقية من هذا اليوم ، كما لو اضطر الصائم إلى الإفطار في بعض اليوم فلا يجب عليه الإمساك في الباقي.

وعلى ضوء هذا الأصل فإذا تعذر أحد أجزاء الصلاة أو شرائطه وكان المتعذر متعيناً ، كما إذا لم يتمكن المصلى من القيام ـ مثلا ـ أو القراءة أو ما شاكل ذلك فلا إشكال في وجوب الإتيان بالباقي. واما إذا كان المتعذر مردداً بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما ، للعلم الإجمالي بجعل أحدهما في الواقع دون الآخر ، لفرض انتفاء القدرة الا على أحدهما ، فاذن لا بد من النّظر إلى أدلتهما وإعمال قواعد التعارض بينهما.

فنقول : ان الدليلين الدالين عليهما لا يخلو أن من أن يكون أحدهما لبياً والآخر لفظياً ، وان يكون كلاهما لبياً ، أو كلاهما لفظياً ، وعلى الثالث فائضاً لا يخلو ان من أن تكون دلالة أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم ، وان تكون دلالة كليهما بالعموم ، أو بالإطلاق.

أما القسم الأول وهو ما إذا كان الدليل على أحدهما لبياً وعلى الآخر لفظياً فلا إشكال في مقام المعارضة بينهما في تقديم الدليل اللفظي على اللبي. والوجه في ذلك واضح وهو ان الدليل اللبي كالإجماع أو نحوه حيث انه لا عموم ولا إطلاق له فلا بد فيه من الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو غير مورد المعارضة مع الدليل اللفظي فلا نعلم بتحققه في هذا المورد ، وذلك كما إذا دار الأمر بين القيام ـ مثلا ـ في الصلاة

٣٠٣

والاستقرار فيها فان الدليل على اعتبار الاستقرار لبي وهو الإجماع فيجب الاقتصار فيه على المقدار المتيقن.

ونتيجته هي انه لا إجماع على اعتبار الاستقرار في الصلاة في هذا الحال والدليل على اعتبار القيام بما انه لفظي ، وهو قوله عليه‌السلام في صحيحة أبي حمزة : (الصحيح يصلى قائماً وقعوداً ، والمريض يصلى جالساً ... إلخ وقوله عليه‌السلام : في صحيحة زرارة في حديث (وقم منتصباً فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من لم يقم صلبه فلا صلاة له) ونحوهما من الروايات الدالة على ذلك فيجب الأخذ بإطلاقه.

ونتيجته : هي وجوب الإتيان بالصلاة قائماً في هذا الحال بدون الاستقرار والطمأنينة ، لما عرفت من عدم الدليل على اعتباره في هذه الحالة.

وعلى الجملة فإذا دار الأمر بين ان يصلى قائماً بدون الطمأنينة والاستقرار ، وان يصلى جالساً معها ، فيما ان الدليل الدال على اعتبار الطمأنينة لبي فلا إشكال في تقديم القيام عليها ، فيحكم بوجوب الصلاة قائماً بدون الطمأنينة ومن هنا حكم السيد (قده) في العروة بتقديم القيام عليها إذا دار الأمر بينهما ولعل نظره (قده) إلى ما ذكرناه.

واما القسم الثاني وهو ما إذا كان كلا الدليلين لبياً فلا يشمل مورد المعارضة. وذلك لما مر من ان الدليل إذا كان لبياً فلا بد من الاقتصار في مورده على المقدار المتيقن منه. ومن المعلوم ان المقدار المتيقن منه غير هذا المورد ، ضرورة انا لم نحرز تحققه فيه لو لم نحرز عدمه. وعليه فمورد المعارضة لا يكون مشمولا لهذا ولا لذاك ، فوقتئذ لو كنا نحن وهذا الحال ولم يكن دليل من الخارج على عدم سقوط كليهما معاً فنرجع إلى البراءة عن وجوب كل منهما ، فلا يكون هذا واجباً ولا ذاك.

وأما إذا كان دليل من الخارج على ذلك ، كما هو كذلك ، حيث انا نعلم بوجوب أحدهما في الواقع ، فعندئذ مرة يدور الأمر بين الأقل والأكثر بمعنى ان الجزء هو الجامع بينهما أو مع خصوصية هذا أو ذاك ، ومرة أخرى يدور الأمر بين المتباينين

٣٠٤

بمعنى انا نعلم ان الجزء أحدهما بالخصوص في الواقع ونفس الأمر لا الجامع ، ولكن دار الأمر بين كون الجزء هذا وذاك.

فعلى الأول ندفع اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك بالبراءة ، فنحكم بان الجزء هو الجامع بينهما ، فتكون النتيجة هي التخيير شرعاً يعنى ان الشارع في هذا الحال جعل أحدهما جزء مع إلغاء خصوصية كل منهما.

وعلى الثاني فمقتضى القاعدة هو الاحتياط للعلم الإجمالي بجزئية أحدهما بخصوصه في الواقع ، وأصالة عدم جزئية هذا معارضة بأصالة عدم جزئية ذاك ، فيتساقطان ، فاذن يكون العلم الإجمالي موجباً للاحتياط على تقدير إمكانه ، وإلا فالوظيفة هي التخيير بين إتيان هذا أو ذاك.

واما القسم الثالث وهو ما إذا كانت دلالة أحدهما على ذلك بالإطلاق والآخر بالعموم فيقدم ما كانت دلالته بالعموم على ما كانت دلالته بالإطلاق. وذلك لأن دلالة العام تنجيزية ، فلا تتوقف على اية مقدمة خارجية ، ودلالة المطلق تعليقية ، فتتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ، منها عدم البيان له. ومن الواضح جداً أن العام يصلح ان يكون بياناً للمطلق ، ومعه لا تتم مقدمات الحكمة ، ليؤخذ بإطلاقه.

وعلى الجملة فقد ذكرنا أن مسألة دوران الأمر بين العام والمطلق خارجة عن كبرى مسألة التعارض ، لعدم التنافي بين مدلوليهما في مقام الإثبات على الفرض ، ضرورة ان العرف لا يرى التنافي بينهما أصلا ، ويرى العام صالحاً للقرينية على تقييد المطلق ، ولا يفرق في ذلك بين كون العام متصلا بالكلام أو منفصلا عنه ، غاية الأمر انه على الأول مانع عن ظهور المطلق في الإطلاق ، وعلى الثاني مانع عن حجية ظهوره.

واما القسم الرابع وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالعموم ، فلا بد فيه من الرجوع إلى المرجحات السندية من موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما ذكرنا من انحصار الترجيح بهما ، لوقوع المعارضة بينهما ، فلا يمكن الجمع الدلالي بتقديم أحدهما

٣٠٥

على الآخر. وهذا واضح.

واما القسم الخامس وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالإطلاق ، كما هو الغالب في أدلة الاجزاء والشرائط ، فيسقط كلا الإطلاقين معاً إلا إذا كان أحدهما من الكتاب والآخر من غيره فيقدم إطلاق الكتاب عليه فيما إذا كانت النسبة بينهما عموم من وجه كما لا يخفى واما إذا لم يكن أحدهما من الكتاب أو كان كلاهما منه فيسقطان ، وذلك لما ذكرناه من ان التعارض بين الدليلين إذا كان بالإطلاق ، فمقتضى القاعدة سقوط إطلاق كليهما والرجوع إلى الأصل العملي إذا لم يكن هناك أصل لفظي من عموم أو إطلاق ، وليس المرجع في مثله المرجحات السندية. وذلك لعدم تمامية جريان مقدمات الحكمة في كل منهما في هذا الحال ، فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر إذا كان واجداً للترجيح ، ومقتضى الأصل العملي في المقام هو التخيير ، حيث انا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما من الخارج ، فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك.

ونتيجة ذلك هي جزئية الجامع بينهما من دون اعتبار اية خصوصية.

وقد تحصل مما ذكرناه ان الرجوع إلى مرجحات باب التعارض منحصر في خصوص القسم الرابع فحسب ، اما في الأقسام الباقية فلا يرجع في شيء منها إلى تلك المرجحات أبداً. هذا كله إذا كان الأمر دائراً بين جزءين أو شرطين مختلفين في النوع.

واما إذا كان الأمر دائراً بين فردين من نوع واحد ، كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى وتركه في الركعة الثانية ، أو دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الأولى وتركها في الثانية ، وهكذا ، ففي أمثال هذه الموارد الدليل على وجوب ذلك وان كان واحداً في مقام الإثبات والإبراز ، إلا انه في الواقع ينحل بانحلال افراد هذا النوع ، فيثبت لكل منها وجوب. وعليه فلا محالة تقع المعارضة بين وجوب هذا الفرد ووجوب ذاك الفرد ـ بمعنى استحالة جعل وجوب كليهما معاً في هذا الحال ـ ففي هذين المثالين تقع المعارضة بين وجوب القيام في الركعة

٣٠٦

الأولى ووجوبه في الثانية ، وبين وجوب القراءة في الأولى ووجوبها في الثانية. وهكذا ، للعلم الإجمالي بجعل أحدهما في الواقع ، واستحالة جعل كليهما معاً. ومن الواضح انا لا نعنى بالتعارض إلا التنافي بين الحكمين بحسب مقام الجعل ، وهو موجود في أمثال تلك الموارد.

وعلى هذا فمقتضى القاعدة هنا التخيير بمعنى جعل الشارع أحدهما جزء ، إذ احتمال اعتبار خصوصية كل منهما مدفوع بأصالة البراءة ، فان اعتبارها يحتاج إلى مئونة زائدة ، ومقتضى الأصل عدمها ، فاذن النتيجة هي جزئية الجامع بينهما ، لا خصوص هذا ولا ذاك ، هذا كله حسب ما تقتضيه القاعدة في دوران الأمر بين فردين طوليين من نوع واحد.

واما بحسب الأدلة الخاصة فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القيام تعينه في الركعة الأولى وهو قوله عليه‌السلام في صحيحة جميل بن دراج إذا قوى فليقم فانه ظاهر في وجوب القيام مع القدرة عليه فعلا ، وان المسقط له ليس إلا العجز الفعلي ، والمفروض ان المكلف قادر عليه فعلا في الركعة الأولى ، فإذا كان قادراً عليه كذلك يتعين بمقتضى قوله عليه‌السلام إذا قوى فليقم. ومن المعلوم انه إذا قام في الأولى عجز عنه في الثانية فيسقط بسقوط موضوعه ، وهو القدرة ، واما غير القيام كالقراءة والركوع والسجود ونحوها فلا يظهر من أدلتها وجوب الإتيان بها في الركعة الأولى في مثل هذه الموارد ـ أعني موارد دوران الأمر بين ترك هذه الاجزاء في الأولى وتركها في الثانية ـ لعدم ظهورها في وجوب تلك الأمور مع القدرة عليها فعلا بل هي ظاهرة في وجوبها مع القدرة عليها في تمام الصلاة. وعليه فلا فرق بين القدرة عليها في الركعة الأولى والقدرة عليها في الركعة الثانية أصلا ولا تجب صرف القدرة فيها في الأولى بل له التحفظ بها عليها في الثانية ، فاذن المرجع فيها هو ما ذكرناه من التخيير باعتبار ان الدليل كما عرفت لا يمكن ان يشمل كليهما معاً ، لفرض عدم القدرة عليهما ، كذلك. هذا من جانب. ومن جانب آخر انا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما ونرفع

٣٠٧

اعتبار خصوصية كل منهما بالبراءة.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي التخيير لا محالة ووجوب الجامع بينهما ، لا خصوص هذا ولا ذاك.

وعلى ما ذكرناه من الضابط في باب الاجزاء والشرائط يظهر حال جميع الفروع المتقدمة التي ذكرها شيخنا الأستاذ (قده) وكذا حال عدة من الفروع التي تعرضها السيد (قده) في العروة.

وعلى أساس ذلك تمتاز نظريتنا عن نظرية شيخنا الأستاذ (قده) في هذه الفروعات.

والنقطة الرئيسية للامتياز بين النظريتين هي انا لو قلنا بانطباق كبرى باب التزاحم على تلك الفروعات ، فلا بد عندئذ من الالتزام بمرجحاتها ومراعاة قوانينها كتقديم الأهم أو محتمل الأهمية على غيره ، وتقديم ما هو أسبق زماناً على المتأخر ، وما هو مشروط بالقدرة عقلا على ما كان مشروطاً بها شرعاً. وهكذا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق كبرى باب التعارض عليها ، فانه على هذا لا أثر لشيء من تلك المرجحات أصلا ضرورة ان الأهمية أو الأسبقية لا تكون من المرجحات في باب التعارض. ووجهه واضح وهو ان الأهمية أو الأسبقية إنما تكون مرجحة على تقدير ثبوتها ، وفي فرض تحقق موضوعها. ومن المعلوم أن في باب التعارض أصل الثبوت غير محرز فان أهمية أحد المتعارضين على فرض ثبوته في الواقع ، وكونه مجعولا فيه. ومن الواضح جداً انها لا تقتضي ثبوته.

ومن هنا قد ذكرنا ان كبرى مسألة التعارض كما تمتاز عن كبرى مسألة التزاحم بذاتها ، كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها ، فلا تشتركان في شيء أصلا. وعليه فالمرجع باب الاجزاء والشرائط هو ما ذكرناه ، ولا أثر للسبق الزماني والأهمية فيها أبداً.

وعلى هدى تلك النقطة تظهر الثمرة بين القول بالتزاحم والقول بالتعارض في عدة موارد وفروع.

٣٠٨

منها ـ ما إذا دار الأمر بين ترك الركوع في الركعة الأولى وتركه في الثانية فعلى القول الأول يتعين تقديم الركوع ـ مثلا ـ في الركعة الأولى على الركوع في الثانية من جهة انطباق كبرى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره هنا ، فلو ترك الركوع في الأولى وأتى به في الثانية بطلت صلاته وعلى القول الثاني فالامر فيه التخيير ، كما عرفت. وعليه فيجوز للمكلف ان يأتي بالركوع في الأولى ويترك في الثانية وبالعكس ، فتكون صلاته على كلا التقديرين صحيحة. وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الأولى وتركها في الثانية. وهكذا.

ومنها ـ ما إذا دار الأمر في الصلاة بين ترك القيام وترك الركوع ، فعلى الأول يمكن الحكم بتقديم القيام نظراً إلى سبقه زماناً ، ويمكن الحكم بالعكس نظراً إلى كون الركوع أهم منه وقد فعل شيخنا الأستاذ (قده) ذلك في هذا الفرع كما تقدم ، وعلى الثاني فالامر فيه التخيير باعتبار ان التعارض بين دليليهما بالإطلاق ، فيسقط كلا الإطلاقين ، فيرجع إلى أصالة عدم اعتبار خصوص هذا وذاك ، فتكون نتيجة ذلك التخيير أعنى وجوب أحدهما لا بعينه.

ومنها ـ ما إذا دار الأمر بين ترك الطمأنينة في الركن كالركوع والسجود وما شاكلهما ، وتركها في غيره كالأذكار والقراءة ونحوهما ، فعلى الأول يتعين سقوط قيد غير الركن ، لكون قيده أهم منه ، فيتقدم الأهم في باب المزاحمة. وعلى الثاني فلا وجه للتقديم أصلا ، لما عرفت من أن الدليل على اعتبار الطمأنينة هو الإجماع ومن المعلوم انه لا إجماع في هذا الحال. وعليه فترجع إلى أصالة البراءة عن اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ، فتكون النتيجة هي التخيير.

ومنها ـ ما إذا دار الأمر بين القيام المتصل بالركوع والقيام في حال القراءة فبناء على الأول لا بد من تقديم القيام المتصل بالركوع على القيام في حال القراءة ، لكونه أهم منه ، اما من جهة انه بنفسه ركن أو هو مقوم للركن كالركوع ، ولذا حكم شيخنا الأستاذ (قده) بتقديمه عليه في الفروعات المتقدمة. وبناء على الثاني فلا وجه

٣٠٩

للتقديم أصلا ، بل الأمر في مثله العكس ، وذلك لما أشرنا إليه من ان المستفاد من صحيحة جميل بن دراج المتقدمة وجوب القيام عند تمكن المكلف منه فعلا والمفروض ان المكلف في مثل المقام قادر فعلا على القيام في حال القراءة ، فإذا كان الأمر كذلك يتعين عليه ، ولا يجوز له تركه باختياره وإرادته.

فما ذكره (قده) من الكبريات التي بنى فيها على إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته لا يرجع إلى معنى محصل أصلا ، وقد عرفت ان تلك الكبريات جميعاً داخلة في باب التعارض فالمرجع فيها هو قواعد ذلك الباب ، ولأجل ذلك تختلف نظريتنا فيها عن نظرية شيخنا الأستاذ (قده) تماماً ، وان كانت النتيجة في بعضها واحدة على كلتا النظريتين ، وذلك كما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك جزء أو قيد آخر فلا إشكال في تقديم الطهور على غيره على كلا المسلكين. اما على مسلك من ابتنى ذلك على باب التزاحم فواضح ، لكون الطهور أهم من غيره ومن هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده. وهذا واضح. واما على مسلك من ابتنى ذلك على باب التعارض فائضاً كذلك والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة من أن الطهور مقوم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه ولذا ورد في الرواية ان الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث منها الركوع ، وثلث منها السجود ، وثلث منها الطهور ، وقد ذكرنا في محله ان الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا الصلاة وثلثاها لا بخصوص مرتبتهما العالية كما انا ذكرنا أن المراد من الطهور الّذي هو ركن للصلاة الجامع بين الطهارة المائية والترابية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن الصلاة لا تسقط بحال فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط مرتبة أخرى منها. وهكذا ، للنصوص الدالة على ذلك كما عرفت ، فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا بد في مقام دوران الأمر بين الطهور وغيره من تقديم الطهور ، ضرورة انه في فرض العكس ـ أي تقديم غيره عليه ـ لا صلاة لتجب مع ذلك القيد بل اذن لا تعارض ولا دوران في البين أصلا ضرورة ان التعارض بين دليلي الجزءين أو الشرطين أو الشرط والجزء انما يتصور

٣١٠

مع فرض وجود الموضوع وهو حقيقة الصلاة ليكون وجوبها ثانياً بدليل خاص موجباً للتعارض بينهما ، وأما إذا فرض دوران الأمر بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وغيره فيتعين تقديم الأول وصرف القدرة فيه ولا يمكن العكس ، بداهة انه يلزم من وجوب هذا القيد عدمه إذ معنى تقديمه هو انه واجب في ضمن الصلاة ، والمفروض ان تقديمه عليه مستلزم لانتفاء الصلاة ومن المعلوم ان كل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال ، وهذا لا من ناحية أهمية الطهور ، ليقال انه لا عبرة بها في باب التعارض أصلا ، بل هو من ناحية ان تقديم غيره عليه يوجب انتفاء حقيقة الصلاة ، فلا صلاة عندئذ لتجب.

وبتعبير آخر ان دوران الأمر بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط على كلا القولين أي القول بالتعارض والقول بالتزاحم إنما هو في فرض تحقق حقيقة الصلاة وصدقها بان لا يكون انتفاء شيء منهما موجباً لانتفاء الصلاة ، فعندئذ يقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر ، فبناء على القول بالتزاحم يرجع إلى قواعده وأحكامه وبناء على القول بالتعارض يرجع إلى مرجحاته وقواعده. واما إذا فرضنا دوران الأمر بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وغيره فلا إشكال في تقديم الأول على الثاني وعدم الاعتناء به ، ضرورة ان مرجع هذا إلى دوران الأمر بين سقوط أصل الصلاة وسقوط جزئها أو قيدها. ومن المعلوم انه لا معنى لهذا الدوران أصلا ، حيث انه لا يعقل سقوط أصل الصلاة وبقاء القيد على وجوبه ، لفرض ان وجوبه ضمني لا استقلالي وقد تحصل من ذلك كبرى كلية وهي انه لا معنى لوقوع التزاحم أو التعارض بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وبين غيره من الاجزاء أو الشرائط. هذا بناء على ما قويناه من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وغيرهما من الأركان. وأما بناء على عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظرية التزاحم في أمثال هذه الموارد عن نظرية التعارض ، إذ على الأول لا بد من تقديم الطهور على غيره في مقام وقوع المزاحمة بينهما لأهميته. واما على الثاني (وهو نظرية التعارض) فلا وجه لتقديمه على غيره

٣١١

من هذه الناحية أصلا ، لما عرفت من انه لا عبرة بالأهمية في باب التعارض أبداً ، فاذن لا بد من الرجوع إلى أدلتهما ، فان كان الدليل الدال على أحدهما عاماً والآخر مطلقاً ، فيقدم العام على المطلق ، كما عرفت وان كان كلاهما عاماً ، فيقع التعارض بينهما فيرجع إلى مرجحاته ، وان كان كلاهما مطلقاً فيسقط كلا الإطلاقين ، ويرجع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ونتيجته التخيير كما سبق.

وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى وتركه في الثانية ، فان النتيجة في هذا الفرع أيضا واحدة على كلا القولين ، وهي تقديم القيام في الركعة الأولى على القيام في الثانية ، ولكن على القول بالتزاحم بملاك انه أسبق زماناً من الآخر ، وقد عرفت ان ما هو أسبق زماناً يتقدم على غيره ، فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، كما هو كذلك في المقام ، وعلى القول بالتعارض فمن ناحية النص المتقدم. هذا تمام كلامنا في الناحية الأولى.

واما الناحية الثانية (وهي ما ذكره (قده) من الترجيح للتقديم في هذه الفروعات) فائضاً لا تتم على إطلاقها على فرض تسليم أن تلك الفروعات من صغريات باب التزاحم.

وبيان ذلك يحتاج إلى درس كل واحد من هذه الفروعات على حده.

أما الفرع الأول (وهو ما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك قيد آخر من قيودها) فقد ذكر (قده) انه يسقط قيد آخر ولو كان وقتاً.

وغير خفي انه لا بد من فرض هذا الفرع في غير الأركان من الأجزاء أو الشرائط ، ضرورة انه في فرض دوران الأمر بين سقوط الطهور وسقوط ركن آخر بعرضه العريض ، كالركوع أو السجود أو التكبيرة لا صلاة ، لتصل النوبة إلى أنها واجبة مع هذا أو ذاك ، لفرض انها تنتفي بانتفاء ركن منها ، فاذن لا موضوع للتزاحم ولا التعارض.

٣١٢

نعم يمكن دوران الأمر بين سقوطه وسقوط مرتبة منها ، فان حاله حال دوران الأمر بينه وبين سقوط بقية الأجزاء والشرائط ، كما هو واضح.

ومن هنا يظهر انه لا يعقل التزاحم بين الطهور والوقت أيضاً ، ضرورة انتفاء الصلاة بانتفاء كل منهما فلا موضوع عندئذ للتزاحم ليرجح أحدهما على الآخر. فما أفاده (قده) من انه يسقط ذلك القيد وان كان وقتاً لا يرجع إلى معنى محصل لفرض ان الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة عندئذ لتجب مع الطهور.

وبعد ذلك نقول : انه لا إشكال في تقديم الطهور على غيره من الاجزاء والشرائط ، وليس وجهه مجرد كونه أهم ، بل وجهه ما ذكرناه من أن الطهور بما أنه مقوم لحقيقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بينه وبين غيره ، ضرورة ان مرجع ذلك إلى دوران الأمر بين ترك نفس الصلاة وترك قيدها. ومن الواضح جداً انه لا معنى لهذا الدوران أصلا. ومن هنا قلنا أن التزاحم بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط إنما يعقل فيما إذا لم يكن أحدهما مقوماً لحقيقة الصلاة وإلا فلا موضوع له لتصل النوبة إلى ملاحظة المرجح لتقديم أحدهما على الآخر ، ولا يشمله ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال من رواية أو إجماع قطعي ، ضرورة ان هذا العمل ليس بصلاة.

وأما الفرع الثاني (وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط قيد آخر) فقد ذكر (قده) انه يسقط الطهارة المائية وأفاد في وجه ذلك أن أجزاء الصلاة وشرائطها وان كانت مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، إلا أن الطهارة المائية خاصة تمتاز عن بقية الاجزاء والشرائط من ناحية جعل الشارع لها بدلا ، دون غيرها ، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع.

ونأخذ بالمناقشة عليه وملخصها : هو ان ثبوت البدل شرعاً لا يختص بخصوص الطهارة المائية ، فكما ان لها بدل وهو الطهارة الترابية ، فكذلك لبقية الاجزاء والشرائط.

والوجه في ذلك هو أن الصلاة إنما هي مأمور بها بعرضها العريض ، لا بمرتبتها

٣١٣

الخاصة وهي المرتبة العليا المعبر عنها بصلاة المختار وعلى هذا فكما ان المكلف لو لم يتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية فكذلك لو لم يتمكن من الصلاة في الثوب أو البدن الطاهر ، أو مع الركوع والسجود ، أو في تمام الوقت ، أو مع قراءة فاتحة الكتاب ، أو غير ذلك فتنتقل وظيفته إلى الصلاة في بدل هذه الأمور ، وهو في المثال الأول الصلاة عارياً على المشهور ، وفي الثوب النجس على المختار. وفي الثاني الصلاة مع الإيماء والإشارة. وفي الثالث إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت ، فانه بدل لإدراك تمام الركعات فيه. وفي الرابع الصلاة مع التكبيرة والتسبيح. وهكذا.

وعلى الجملة فيما ان الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضى الروايات العامة والخاصة فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة أخرى. وهكذا.

ونتيجة هذا لا محالة عدم الفرق بين الطهارة المائية وغيرها من الأجزاء والشرائط لفرض انه قد ثبت لكل منها بدل بدليل خاص ، ك (ما دل على وجوب الصلاة مع الإيماء عند تعذر الركوع والسجود ، أو مع الركوع قاعداً عند تعذر الركوع قائماً ، وما دل على وجوبها قاعداً عند تعذر القيام ، وما دل على وجوبها مع التكبيرة والتسبيح عند تعذر القراءة ، وما دل على وجوبها مع إدراك ركعة منها في الوقت عند تعذر إدراك تمام ركعاتها فيه .. وهكذا هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى المفروض ان اجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعاً ، لما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا وجه لتقديم غير الطهارة المائية من الاجزاء والشرائط عليها في مقام المزاحمة ، لا من ناحية أن لها بدل ، ولا من ناحية اشتراطها بالقدرة شرعاً ، لما عرفت من ان البقية جميعاً تشترك معها في هاتين الناحيتين على نسبة واحدة.

وقد تحصل مما ذكرناه ان ما أفاده (قده) من الكبرى الكلية وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل وان كان تاماً إلا انه لا ينطبق على المقام.

٣١٤

ويجب علينا أن ندرس هذا الفرع من جهات :

الأولى ـ فيما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط خصوص السورة في الصلاة.

الثانية ـ فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط الأركان.

الثالثة ـ فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط بقية الاجزاء أو الشرائط.

اما الجهة الأولى فالظاهر انه لا شبهة في تقديم الطهارة المائية على السورة. وذلك لما دل على انها تسقط بالاستعجال والخوف ، وهو صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الّذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته قال لا صلاة إلا ان يقرأ بها في جهر أو إخفات قلت أيما أحب إليك إذا كان خائفاً أو مستعجلا يقرأ سورة أو فاتحة الكتاب قال فاتحة الكتاب ، فانها تدل على سقوطها بالاستعجال والخوف من ناحية فوت جزء أو شرط آخر ، فان موردها وان كان خصوص دوران الأمر بينها وبين فاتحة الكتاب ، إلا انه من الواضح جداً عدم خصوصية لها ، فاذن لا يفرق بينها وبين غيرها من الاجزاء والشرائط منها الطهارة المائية. ضرورة ان العبرة انما هي بتحقق الخوف والاستعجال.

وقد تحصل من ذلك ان هذا التقديم لا يستند إلى إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ، بل هو مستند إلى النص المتقدم.

واما الجهة الثانية فلا شبهة في تقديم الأركان على الطهارة المائية بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) في أمثال المقام. وذلك لأن ملاك التقديم هنا امر آخر ، لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ، ليختلف باختلاف النظرين.

بيان ذلك على وجه الإجمال هو أن الصلاة ـ كما حققناه في محله ـ اسم للأركان خاصة ، وأما بقية الاجزاء والشرائط فهي خارجة عن حقيقتها ، فلذا لا تنتفي بانتفائها ، كما تنتفي بانتفاء الأركان. وعليه فإذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى

٣١٥

إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.). بضميمة ان الصلاة لا تسقط بحال.

فالنتيجة هي ان الصلاة المفروغ عنها في الخارج التي هي عبارة عن الأركان قد أمر الشارع في هذه الآية الكريمة بإتيانها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه.

وعلى الجملة فالصلاة حيث أنها كانت اسماً للأركان ، والبقية قيود خارجية قد اعتبرت فيها في ظرف متأخر ، وان قلنا انها عند وجودها داخلة في المسمى ، إلا ان دخولها فيه ليس بمعنى دخلها فيه بحيث ينتفي بانتفائها ، بل بمعنى أن المسمى قد أخذ لا بشرط بالإضافة إلى الزيادة ، فلا محالة لا تنتفي بانتفائها.

وعلى ذلك فإذا ضممنا هذا إلى ما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، وإلى أدلة الاجزاء والشرائط منها هذه الآية المباركة ، فالنتيجة هي ان الإتيان بالأركان واجب على كل تقدير وانها لا تسقط مطلقاً أي سواء أكان المكلف متمكناً من البقية أم لم يكن متمكناً ، ضرورة ان في صورة العكس أي تقديم الاجزاء أو الشرائط على الأركان فلا يصدق على العمل المأتي به صلاة ليتمسك بما دل على ان الصلاة لا تسقط بحال ، فاذن لا موضوع للتعارض ولا التزاحم هنا ، كما هو واضح. هذا كله فيما إذا دار الأمر بين ترك ركن بعرضه العريض وترك الطهارة المائية أو غيرها من القيود.

وأما إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من الركن وسقوط الطهارة المائية فهل الأمر كما تقدم أم لا وجهان :

الظاهر هو الوجه الثاني ، وذلك لأن ما ذكرناه في وجه تقديم الركن عليها لا يجري في هذا الفرض. والوجه فيه ما حققناه في بحث الصحيح والأعم من أن لفظة الصلاة موضوعة للأركان بغرضها العريض ، لا لخصوص المرتبة العليا منها. وعلى هذا يترتب ان الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة ، وانما تنتفي بانتفاء جميع مراتبها ، فاذن يكون المراد من الصلاة في الآية المباركة وهي قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم.).» هو الأركان بعرضها العريض ،

٣١٦

لا خصوص مرتبة منها ، غاية الأمر يجب الإتيان بالمرتبة العليا في فرض التمكن منها عقلا وشرعاً ، والمرتبة الأخرى دونها في فرض عدم التمكن من الأولى .. وهكذا ، وكذا الحال في الطهور حيث انه يجب على المكلف الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، والطهارة الترابية في فرض فقدانه.

وعلى ضوء هذا فالآية الكريمة تدل على ان الصلاة المفروغ عنها في الخارج (وهي الجامع بين مراتبها) واجبة على المكلف مع الوضوء أو الغسل في فرض كونه واجداً للماء ، ومع التيمم في فرض كونه فاقداً له. ولا تدل على وجوب كل مرتبة من مراتبها كذلك ، فإذا دار الأمر بين الإتيان بالمرتبة العالية منها مع الطهارة الترابية ، والمرتبة الدانية منها مع الطهارة المائية ، فالآية لا تدل على وجوب الإتيان بالأولى دون الثانية أصلا ، بل ولا اشعار في الآية بذلك ، لفرض ان الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة. وقد عرفت ان الآية تدل على وجوب الصلاة وهي الجامع بين هذه المراتب بالكيفية المزبورة ، فعندئذ الحكم بوجوب تلك المرتبة ومشروعيتها في هذا الحال وسقوط الطهارة المائية يحتاج إلى دليل آخر ، ولا يمكن إثبات مشروعيتها بالآية المباركة ، لاستلزامه الدور ، فان مشروعيتها في هذا الحال تتوقف على دلالة الآية ، وهي تتوقف على مشروعيتها في هذا الحال.

وعلى الجملة فلو دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر فلا إشكال في سقوط المرتبة ، بل لا دوران في الحقيقة بمقتضى الآية الكريمة ، لفرض ان اعتبار الأركان بعرضها العريض مفروغ عنه دون اعتبار كل مرتبة من مراتبها ، ولذا قلنا ان الأركان مشروطة بالقدرة عقلا دون كل مرتبة منها ، فانها مشروطة بالقدرة شرعاً. وهذا واضح.

وأما إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر ـ كما في مفروض الكلام ـ فلا دلالة للآية على تقديم بعضها على بعضها الآخر أبداً ، ضرورة ان دلالتها في محل الكلام تبتنى على نقطة واحدة ، وهي أن

٣١٧

تكون الداخل في مسمى الصلاة المرتبة العليا من الأركان مع الطهور الجامع بين المائية والترابية فحسب ، وعلى هذا فإذا دار الأمر بين سقوط تلك المرتبة وسقوط الطهارة المائية تسقط الطهارة المائية ، لفرض ان اعتبارها عندئذ متفرع على ثبوتها ، لا في عرضها ، لدلالة الآية الكريمة وقتئذ على وجوب الإتيان بها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه ، إلا انك عرفت أن تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع وان الصلاة موضوعة للجامع بين مراتبها لا غير.

وعليه ففي مسألتنا هذه وما شاكلها على وجهة نظر من يرى انها داخلة في كبرى باب التعارض ، فلا بد من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب على ما تقدم بصورة مفصلة وعلى وجهة نظر من يرى انها داخلة في كبرى باب التزاحم ، فلا بد من الرجوع إلى مرجحات وقواعد ذلك الباب ، كالسبق الزماني والأهمية ونحوهما.

اما الأول (وهو السبق الزماني) فان كان موجوداً بان يكون أحدهما سابقاً على الآخر زماناً فلا مانع من الترجيح به ، وذلك لما ذكرناه من أن السبق الزماني مرجح في الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ، والمفروض ان كل مرتبة من مراتب الأركان مشروطة بالقدرة شرعاً ، وان كانت الأركان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلا ، فاذن يقدم ما هو الأسبق زماناً على الأخرى.

واما الثاني (وهو الأهمية) فالظاهر انه مفقود في المقام ، وذلك لأنا لم نحرز ان المرتبة العالية من الركوع مثلا أهم من المرتبة العالية من الطهور وبالعكس ، كما هو واضح ، نعم احتمال كون المرتبة العالية منه أهم منها موجود ، ولا مناص عنه ، ولا سيما بالإضافة إلى المرتبة العالية من الركوع والسجود ، وذلك لأنا نستكشف من جعل الشارع التراب أحد الطهورين ان المصلحة القائمة بالطهارة الترابية ليست أدون بكثير من المصلحة القائمة بالطهارة المائية ، وهذا بخلاف المرتبة الدانية من الركوع والسجود ، وهي الإيماء ، فان المصلحة الموجودة فيه أدون بكثير من المصلحة الموجودة فيهما ، كما لا يخفى. وعليه فلا بد من تقديمها على الطهارة المائية ، لما تقدم مفصلا من ان

٣١٨

محتمل الأهمية من المرجحات ، فلا مناص من تقديمه على الآخر في مقام المزاحمة.

وأما الثالث ـ وهو ان المشروط بالقدرة عقلا يتقدم على المشروط بها شرعاً ـ فهو مفقود في المقام ، لما عرفت من ان كلتيهما مشروطة بالقدرة شرعاً.

ونتيجة ما ذكرناه عدة نقاط :

الأولى ـ انه لا يعقل دوران الأمر بين سقوط ركن وسقوط ركن آخر ، لانتفاء الصلاة عندئذ على كل تقدير.

الثانية ـ انه إذا دار الأمر بين ترك ركن وترك مرتبة من ركن آخر فلا إشكال في تعين ترك المرتبة ، بل قد عرفت انه لا دوران في مثله ولا موضوع للتعارض ولا التزاحم ، فيقدم الركن على مرتبة من الركن الآخر بمقتضى لا تسقط الصلاة بحال ، وبمقتضى الآية الكريمة كما سبق.

الثالثة ـ ان في فرض دوران الأمر بين سقوط مرتبة من ركن كالركوع أو السجود ، وسقوط مرتبة من آخر ، كالطهور لا تدل الآية ، ولا تسقط الصلاة بحال على سقوط الثانية دون الأولى ، بل لا بد فيه من الرجوع إلى قواعد باب التعارض أو التزاحم على ما عرفت.

واما الجهة الثالثة (وهي ما إذا دار الأمر بين الطهارة المائية وبقية الاجزاء أو الشرائط) فالصحيح انه لا وجه لتقديم سائر الاجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية ، وذلك لأن ما ذكرناه في وجه تقديم الأركان عليها لا يجري هنا. والوجه فيه ما تقدم من ان الصلاة اسم للأركان خاصة ووجوب تلك الأركان مفروغ عنه في الخارج مطلقاً أي سواء أكان المكلف متمكناً من بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم يتمكن من ذلك ، لفرض ان اعتبار البقية متفرع على ثبوتها وفي ظرف متأخر عنها ، لا مطلقاً ، كما هو الحال فيها.

ومن هنا قلنا ان المراد من الصلاة في الآية الكريمة هو الأركان ، فانها حقيقة الصلاة ومسماها كانت معها بقية الاجزاء أو الشرائط أم لم نكن ، وكذا المراد من

٣١٩

الصلاة في قوله عليه‌السلام لا تسقط الصلاة بحال ، ولذلك ذكرنا ان الآية تدل على وجوب الإتيان بها مطلقاً ، سواء أكانت معها البقية أم لم تكن.

وعلى هذا الأصل فلا تدل الآية على تقديم سائر الاجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أصلا ، لفرض انها غير دخيلة في المسمى من ناحية ، وعدم تفرع اعتبار الطهارة المائية على اعتبارها من ناحية أخرى ، بل هو في عرض اعتبار تلك.

ودعوى ان المراد من الصلاة في الآية المباركة بضميمة ما استفدنا من أدلة اعتبار الاجزاء والشرائط هو الواجدة للجميع ، لا خصوص الأركان. هذا من جانب. ومن جانب آخر انا قد ذكرنا في بحث الصحيح والأعم ان البقية عند وجودها داخلة في المسمى ، وعدمها لا يضر به على تفصيل هناك. فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي ان الآية تدل على وجوب الإتيان بالصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء ، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه ، وهذا معنى دلالتها على تقديم البقية عليها.

مدفوعة بان اعتبارها في هذا الحال ودخولها في المسمى أول الكلام ، ضرورة ان اعتبارها يتوقف على دخولها فيه ، والمفروض ان دخولها فيه يتوقف على اعتبارها في هذا الحال ، فاذن لا دلالة للآية ـ بضميمة قوله عليه‌السلام لا تسقط الصلاة بحال ـ على تقديم بقية الاجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية. وعليه فلا بد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض في المقام بناء على دخوله في هذا الباب ، وإلى قواعد باب التزاحم بناء على دخوله فيه ، والثاني هو مختاره (قده) هنا.

اما الأول فقد تقدم ضابطه فلا نعيد.

وأما الثاني وهو بناء على دخوله في باب التزاحم فتقديم سائر الاجزاء أو الشرائط عليها يبتنى على أحد أمور :

الأول ـ دعوى أن للطهارة المائية بدلا دون غيرها ، فيقدم ما ليس له بدل على ما له بدل. ولكن قد عرفت فساد تلك الدعوى بشكل واضح.

٣٢٠