محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيتين. وعلى هذا فلا وجه لما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من جعل التقديم مبنياً على وجهة نظر مذهبنا.

اما ان أصل الحكم بالتقديم في هذه الموارد صحيح فلأجل انه لا مانع من فعلية وجوب ما هو المشروط بالقدرة عقلا في مقام المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة شرعا ، لفرض انه غير مشروط بشيء ما عدا القدرة التكوينية عليه ، وهي موجودة ، وهذا بخلاف وجوب ما هو المشروط بالقدرة شرعا ، فان المانع من فعلية وجوبه موجود ، وهو فعلية وجوب ذاك الواجب ، لفرض انها توجب عجز المكلف عن الإتيان به في الخارج. وعليه فلا يكون قادراً عليه ، ومع انتفاء القدرة ينتفي الوجوب لا محالة ، لاستحالة بقاء الحكم مع انتفاء موضوعه. هذا هو وجه التقديم في تلك الموارد ، وترى انه لا يبتنى على وجهة نظر مذهب دون آخر. ولا يفرق فيه بين ان يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعا أهم منه أو لا يكون أهم كما انه لا يفرق بين ان يكون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً عليه ، فان ملاك التقديم في الجميع واحد ، وهو ان وجوب الإتيان بالواجب الآخر فعلا ـ أو وجوب التحفظ عليه في ظرفه كذلك لئلا يفوت ـ مانع عنه وموجب لعجز المكلف عن امتثاله تشريعاً.

وأما القسم الثاني وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعا ، فلا يخلو من أن يكون أحدهما أسبق من الآخر زماناً أم لا.

اما الأول فيقدم فيه ما كان الأسبق من الآخر زماناً في الفعلية وتحقق موضوعه في الخارج. وذلك لأن ما كان متقدماً بالزمان على غيره صار فعلياً بفعلية موضوعه خارجا وهو القدرة عليه تكويناً وتشريعاً ، اما تكويناً فظاهر واما تشريعاً فلأجل ان الرافع للقدرة الشرعية في المقام ليس الا وجود خطاب إلزاميّ فعلى في عرضه يقتضى الإتيان بمتعلقه ، فانه يوجب عجز المكلف عن امتثاله تشريعاً فينتفي بانتفاء موضوعه والمفروض عدم وجود خطاب كذلك ، فاذن لا مانع من فعليته أصلا ، ومثاله ما إذا وقع

٢٤١

التزاحم بين القيام في صلاة الصبح ـ مثلا ـ والقيام في صلاة الظهر بان لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في الخارج ، فلو صلى صلاة الصبح قائماً فلا يقدر على القيام في صلاة الظهر ، وان ترك القيام في صلاة الصبح فيقدر عليه في صلاة الظهر ، ففي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تقديم القيام في صلاة الصبح على القيام في صلاة الظهر ، ولا يجوز تركه فيها تحفظاً على القدرة عليه في صلاة الظهر.

والوجه فيه واضح وهو ان وجوب صلاة الصبح مع القيام فعلى عليه بفعلية موضوعه وهو قدرته على إتيانها قائماً عقلا وشرعا وعدم مانع في البين ، لأن وجوب صلاة الظهر قائماً في ظرفه ليس بفعلي في هذا الحين ، ليكون مانعاً منه فانه انما يصير فعلياً بعد دخول الوقت. ومن الواضح جداً انه لا يجوز ترك الواجب الفعلي مقدمة لحفظ القدرة على إتيان الواجب في ظرفه.

فالنتيجة انه كلما وقع التزاحم بين واجبين طوليين بان يكون أحدهما متقدماً على الآخر زماناً فلا إشكال في تقديم السابق على اللاحق ، ولا يفرق فيه بين ان يكون الواجب اللاحق أهم من السابق أم لا ، فان الملاك في الجميع واحد ، وهو ان الواجب اللاحق حيث انه لا يكون فعليا في هذا الحال فلا يكون مانعاً عن فعلية وجوب السابق. وعليه فلا يجوز ترك صلاة الصبح في وقتها قائماً مقدمة لحفظ القدرة على صلاة الظهر كذلك. وهذا واضح.

ولكن ذكر شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ان هذا المرجح انما يكون مرجحاً فيما إذا لم يكن هناك جهة أخرى توجب تقديم أحد الواجبين على الآخر ولو كان متأخراً عنه زمانا ، ومثل لذلك بما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه ، فان النذر وان كان سابقاً بحسب الزمان على أشهر الحج ، كمن نذر في شهر رمضان ـ مثلا ـ المبيت ليلة عرفة عند مشهد الحسين عليه‌السلام وبعد ذلك عرضت له الاستطاعة ، فانه مع ذلك يقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.

وأفاد في وجه ذلك ان وجوب الوفاء في أمثال هذه الموارد مع اشتراطه

٢٤٢

بالقدرة شرعا مشروط بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضا ، والوفاء بالنذر هنا حيث انه يستلزم ترك الواجب في نفسه ، مع قطع النّظر عن تعلق النذر به فلا تشمله أدلة وجوب الوفاء به ، فاذن ينحل النذر بذلك ، ويصير وجوب الحج فعلياً رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.

ثم أورد على نفسه بان وجوب الوفاء بالنذر غير مشروط بالقدرة شرعا. وعليه فلا وجه لتقديم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعا في لسان الدليل عليه ولو سلمنا ان وجوب الوفاء أيضا مشروط بها ، الا انه لا وجه لتقديم وجوب الحج على وجوبه ، لفرض ان كل واحد منهما صالح لأن يكون رافعاً لموضوع الآخر في حد نفسه ، ولكن النذر من جهة تقدمه زماناً يكون رافعاً للاستطاعة.

وأجاب عن الإشكال الأول بان وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعة وضيقاً. ومن المعلوم ان النذر تعلق بالفعل المقدور ، ضرورة ان حقيقته عبارة عن الالتزام بشيء لله تعالى. ومن الطبيعي ان العاقل الملتفت لا يلتزم بشيء خارج عن اختياره وقدرته ، فنفس تعلق الالتزام بفعل يقتضى اعتبار القدرة فيه ، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه. ومن هنا قلنا ان متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم. وعليه فلا محالة يكون متعلق النذر فيما نحن فيه حصة خاصة وهي الحصة المقدورة ، دون الأعم منها ومن غيرها ، وهذا عين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعا الكاشف عن اختصاص الملاك بخصوص الحصة المقدورة ، لا الجامع بينها وبين غير المقدورة.

وأجاب عن الإشكال الثاني (وهو دعوى كون النذر رافعاً للاستطاعة) بوجهين :

الأول ـ ان صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً في نفسه في ظرف العمل ، والا فلا ينعقد ، وبما ان في المقام متعلقه ليس براجح في ظرف العمل فلا ينعقد ، ليزاحم وجوب الحج.

٢٤٣

الثاني ـ انا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر في ظرف العمل في صحته وانعقاده وشمول أدلة وجوب الوفاء له ، وقلنا بكفاية رجحان متعلقه حين النذر ، وان لم يكن راجحاً حين العمل ، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته في المقام لاشتراط صحته بعدم كون متعلقه مخالفاً للكتاب أو السنة ، وموجباً لترك الواجب أو فعل الحرام ، وبما ان متعلقه في مفروض الكلام يوجب في نفسه ترك الواجب باعتبار استلزامه ترك الحج فلا يمكن الحكم بصحته ووجوب الوفاء به وعليه فيقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر أو ما شاكله.

وعلى الجملة فلا مانع من فعلية وجوب الحج على الفرض غير وجوب الوفاء بالنذر ، وحيث انه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه محللا للحرام فلا يكون فعلياً في مفروض المقام ، ليكون مانعاً عن فعلية وجوب الحج ومزاحما له. وعلى هذا فلا محالة يكون وجوب الحج فعليا ورافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه ، وأما وجوب الوفاء به فلا يعقل ان يكون رافعاً لملاك الحج ، ضرورة ان فعليته تتوقف على عدم التكليف بالحج ، لئلا يلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب النذر لزم الدور.

وهذا الّذي ذكرناه يجري في كل ما كان وجوبه مشروطا بعدم كونه محللا للحرام ، كموارد الشرط والحلف ، واليمين ، وما شابهها ، فعند مزاحمته مع ما هو غير مشروط به يقدم غير المشروط به ، ولو فرض انه أيضا مشروط بالقدرة شرعا.

ثم قال ـ قده ـ واما ما عن السيد ـ قده ـ في العروة من ان المعتبر هو ان يكون متعلق النذر راجحاً في طرف العمل ولو بلحاظ تعلق النذر به ، وبذلك صحح جواز نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فيظهر فساده مما قدمناه من ان المعتبر في صحة النذر وانعقاده هو كون متعلقه راجحا وغير موجب لتحليل الحرام في نفسه مع قطع النّظر عن تعلق النذر به ، الا لأمكن تحليل جميع المحرمات بالنذر

٢٤٤

وهذا ضروري البطلان.

نلخص نتيجة ما أفاده ـ قده ـ في عدة نقاط :

الأولى ـ تسليم ان التزاحم بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب فريضة الحج انما هو من صغريات التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا ، وليس من صغريات الكبرى المتقدمة ، وهي المزاحمة بين واجبين يكون أحدهما مشروطا بالقدرة عقلا والآخر مشروطاً بها شرعا.

الثانية ـ تسليم انه داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون أحدهما أسبق زماناً من الآخر.

الثالثة ـ ان الأسبق زمانا انما يكون مرجحا وموجبا لتقديمه على الآخر فيما إذا لم تكن هناك جهة أخرى تقتضي تقديم الآخر عليه ، كما هو الحال فيما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ، فان النذر وان كان متقدما على الحج زمانا ، كما إذا كان قبل أشهر الحج ، الا ان الوفاء به بما انه يستلزم ترك الواجب فلا ينعقد ، ليزاحم وجوب الحج.

الرابعة ـ ان وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مشروط بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل ، وبما ان متعلق النذر في مفروض المقام ليس براجح في ظرف العمل ، لاستلزامه تحليل الحرام وهو ترك الحج ، فلا يكون مشمولا لأدلة وجوب الوفاء ، ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كفاية الرجحان حين النذر وان لم يكن راجحاً حين العمل ، فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته ، لفرض اشتراط انعقاده بان لا يكون متعلقه في نفسه محللا للحرام ، وبما انه في المقام موجب له فلا ينعقد.

الخامسة ـ ان اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا انما هو باقتضاء نفس الالتزام النذري فانه يقتضى كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة ، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه ، وهذا عين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعا.

٢٤٥

السادسة ـ ان لازم ما ذكره السيد ـ قده ـ في العروة هو جواز تحليل المحرمات بالنذر. وهذا باطل قطعا.

ولنأخذ بالمناقشة في عدة من هذه النقاط :

أما النقطة الأولى ، فيرد عليها ان المقام غير داخل في كبرى تزاحم الواجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا. والوجه فيه هو ان ذلك يبتنى على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا ، كما هو المناسب لمعناها لغة ، فعندئذ لا محالة يكون المقام داخلا في تلك الكبرى ، واما بناء على ما هو الصحيح من تفسيرها بان يكون عنده الزاد والراحلة مع أمن الطريق كما في الروايات [١] فلا يكون داخلا فيها ، ضرورة ان

__________________

[١] منها رواية هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عزوجل «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ما يعنى بذلك؟ قال من كان صحيحاً في بدنه ومخلى سربه له زاد وراحلة» (صحيحة).

ومنها رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في ضمن كتابه إلى المأمون قال : «حج البيت فريضة على من استطاع إليه سبيلا : والسبيل الزاد والراحلة مع صحة البدن» (صحيحة).

ومنها رواية محمد بن مسلم «قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال يكون له ما يحج به» (صحيحة).

ومنها رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ما السبيل؟ قال : ان يكون له ما يحج به» (صحيحة) وغيرها من الروايات الواردة في الباب. الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحج.

أقول : لا يخفى ان صحة البدن المذكورة في الصحيحة الأولى والثانية ليست شرطاً لأصل وجوب فريضة الحج ، ضرورة ان تلك الفريضة واجبة على من كان عنده زاد وراحلة مع أمن الطريق مطلقاً أي سواء أكان صحيحاً في بدنه أم لم يكن ، ولذا تجب عليه الاستنابة عنها إذا منعه عن أدائها مرض أو نحوه ، وقد دلت على ذلك روايات كثيرة :

٢٤٦

وجوب الحج على هذا ليس مشروطاً بالقدرة شرعا ، بل هو مشروط بوجدان الزاد والراحلة وأمن الطريق ، فعند وجود هذه الأمور واجتماعها يجب الحج ، كان هناك واجب اخر في عرضه أم لم يكن.

__________________

ـ منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : وان كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو امر يعذره الله فيه ، فان عليه ان يحج عنه من ماله صرورة لا مال له ، وغيرها من الروايات والنصوص.

نعم لو كنا نحن وهاتين الصحيحتين ولم تكن هناك روايات أخر تدل على عدم سقوط وجوب الحج عن المكلف بتعذره عليه بمرض أو نحوه لقلنا بكونها شرطاً له على الإطلاق لتكون نتيجته سقوطه بتعذره ، ولكن عرفت ان الأمر ليس كذلك ، وانه لا يسقط بسقوطه وتعذره.

وبتعبير آخر : ان صحة البدن شرط لوجوب أداء فريضة الحج على المكلف مباشرة لا مطلقاً ، بمعنى انه لو كان صحيحاً في بدنه وجب عليه إتيانها بالمباشرة ، فلا تشرع في حقه الاستنابة ، والصحيحتان المذكورتان ناظرتان إلى شرطيتها من هذه الجهة ، واما إذا لم يكن صحيحاً في بدنه فتجب عليه الاستنابة ، لدلالة جملة من الروايات على ذلك كما عرفت.

ونتيجة ما ذكرناه هي : ان صحة البدن ليست شرطاً لوجوب الحج على الإطلاق لتكون نتيجته سقوط وجوبه بفقدانها ، وانما هي شرط له على نحو المباشرة. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان الاستطاعة في الصحيحتين الأخيرتين وان فسرت بقوله عليه‌السلام : (يكون له ما يحج به) ، الا ان الظاهر ان هذا التفسير ليس تفسيراً مغايرا لتفسيرها في الصحيحتين الأوليين ، بل هو عبارة أخرى عن تفسيرها بوجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق. والوجه فيه واضح وهو ان قوله عليه‌السلام (يكون له ما يحج به) ظاهر في ان يكون للمكلف ما يتمكن بسببه من أداء فريضة الحج فعلا. ومن الواضح جداً انه لا يتحقق الا بملكه الزاد والراحلة مع أمن الطريق ، إذ مع تحقق هذه الأمور ووجدانها يتمكن من أداء تلك الفريضة فعلا وإلا فلا.

ثم انه لا يخفى انه يعتبر في وجوب فريضة الحج امر آخر أيضاً زائداً على الأمور

٢٤٧

وعلى هذا الأساس فلا يكون وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه ، فان موضوعه ـ وهو وجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق ـ موجود بالوجدان ، بل الأمر بالعكس ، فان وجوب الحج على هذا مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه ، حيث ان وجوب الوفاء به منوط بكون متعلقه مقدوراً للمكلف عقلا وشرعا. ومن الواضح ان وجوب الحج عليه معجز مولوي عن الوفاء به فلا يكون معه قادراً عليه ، فاذن ينتفي وجوب الوفاء به بانتفاء موضوعه.

__________________

ـ المزبورة وهو وجود مئونة العيال وكفايتهم حتى يرجع إليهم بمقتضى قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن محبوب فما السبيل قال : «فقال عليه‌السلام : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضا لقوت عياله أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها الا على من يملك مائتي درهم» وهو يدل على اعتبار وجود مئونة العيال إلى زمان الرجوع إليهم في وجوب الحج ، وانه لا يكفي في وجوبه وجود ما يفي بحجه فحسب. وعليه فلا محالة تكون هذه الصحيحة مقيدة لإطلاقات الروايات المتقدمة بصورة ما إذا كان المال واسعا بحيث يفي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع معاً ، ولا يكفي مجرد وفائه للأول دون الثاني.

نعم لو كنا نحن وإطلاقات تلك الروايات مع الغض عن هذه الصحيحة لكان مقتضاها وجوب الحج على من كان عنده مال يفي بحجه فحسب وان لم تكن عنده كفاية عياله إلى يوم الرجوع الا ان تلك الصحيحة تدل على اعتبار وجود الكفاية فيه.

وقد تحصل مما ذكرناه امران :

الأول ـ ان وجود مقدار قوت العيال إلى وقت الرجوع شرط لوجوب فريضة الحج.

الثاني ـ انه لا وجه لتفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا ، كما هو المشهور ، لما عرفت من ان الروايات مطبقة على خلاف هذا التفسير ، وانه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات والنصوص الواردة في هذا الباب.

ونتيجة ما قدمناه لحد الآن هي ان الشرط لوجوب الحج على ما يستفاد من جميع روايات الباب ، هو وجدان الزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع والراحلة مع أمن الطريق.

.

٢٤٨

ونتيجة ذلك هي : ان التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ليس داخلا في الكبرى المزبورة (التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا) بل هو داخل في الكبرى الأولى وهي التزاحم بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعا والآخر مشروطا بالقدرة عقلا ، وذلك لما عرفت الآن من ان وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا فحسب ، ولا يعتبر في وجوبه ما عدا تحقق الأمور المزبورة ، ووجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلا وشرعا.

وقد تقدم انه في مقام وقوع المزاحمة بينهما يتقدم ما كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية على ما كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية ، فان الأول يوجب عجز المكلف عن امتثال الثاني ، فيكون منتفيا بانتفاء موضوعه ، ولا يوجب الثاني عجزه عن امتثال الأول ، لأن المانع من فعليته انما هو عجزه التكويني ، والمفروض انه لا يوجب ذلك.

فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من ان التزاحم بينهما من صغرى التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعا لا يمكن المساعدة عليه.

واما النقطة الثانية فيرد عليها ان مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن كبرى مسألة التزاحم بين واجبين يكون أحدهما متقدما زماناً على الآخر ، وليس خروجها عن تلك الكبرى خروجا حكمياً كما عن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ بل خروجها عنها خروج موضوعي بمعنى انها حقيقة ليست من صغريات تلك الكبرى ، وهي لا تنطبق عليها أبداً.

والوجه في ذلك هو ان النذر وان فرض تقدمه على حصول الاستطاعة زماناً ، الا ان العبرة انما هي بتقدم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر كتقدم زمان صلاة الفجر على زمان صلاتي الظهرين ـ مثلا ـ وهكذا ، ولا عبرة بتقدم زمان أحد الوجوبين على زمان الآخر.

وعلى الجملة انا لو تنزلنا عما ذكرناه وسلمنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة

٢٤٩

شرعا بناء على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا كما هو المشهور ، فمع ذلك ليست المزاحمة بينه وبين وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه داخلة في الكبرى المتقدمة ، لما عرفت من عدم تقدم زمان الوفاء بالنذر على زمان الحج وان فرض تقدم سبب وجوبه على سبب وجوب الآخر ، فانه لا عبرة به والعبرة انما هي بتقدم أحد الواجبين على الآخر زماناً ، والمفروض انهما في عرض واحد فلا تقدم لأحدهما على الآخر أصلا. وعليه فلا يبقى مجال لتوهم تقدم وجوب الوفاء بالنذر على وجوب الحج بملاك تقدم الواجب السابق على الواجب اللاحق. فما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من ان المقام داخل في الكبرى المزبورة فيما إذا فرض تقدم النذر بحسب الزمان على أشهر الحج لا يرجع إلى أصل صحيح ، لما عرفت من انه غير داخل في تلك الكبرى حتى على هذا الفرض والتقدير ، من جهة ان العبرة انما هي بتقدم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر ، ولا عبرة بتقدم سبب أحدهما على سبب الآخر أصلا ، كما مر.

ولا يفرق في ذلك بين القول باستحالة الواجب المعلق كما هو مختار شيخنا الأستاذ ـ قده ـ والقول بإمكانه وصحته ، كما هو المختار عندنا ، فانه على كلا القولين لا تقدم لأحد الواجبين على الآخر بحسب الزمان ، غاية ما في الباب على القول بالاستحالة فكما لا وجوب فعلا للوفاء بالنذر قبل تحقق ليلة عرفة فكذلك لا وجوب فعلا للحج قبل تحقق وقته ومجيئه ، فاذن عدم تقدم أحدهما على الآخر زماناً واضح وعلى القول بالإمكان ، فكما ان وجوب الوفاء بالنذر فعلى قبل مجيء وقت الواجب فكذلك وجوب الحج فعلى قبل وقته ، فالوجوبان عرضيان وكل منهما قابل لرفع موضوع الآخر. ودعوى ـ ان وجوب الوفاء بالنذر على هذا سابق على وجوب الحج باعتبار ان سببه مقدم على سببه ـ مدفوعة بأنه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول الاستطاعة بعد فرض انه مزاحم بوجوب الحج بقاء ، بل قد عرفت انه لا مزاحمة بين الواجبين الا في زمانهما وهو زمان الامتثال والعمل لا في زمان وجوبهما كما هو ظاهر.

٢٥٠

وبعد ذلك نقول : انه لا بد من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة ، وذلك لوجهين :

الأول ـ ان وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه لأمكن لكل مكلف رفع وجوبه عن نفسه بإيجاب شيء ما عليه بنذر أو نحوه في ليلة عرفة المنافي للإتيان بالحج كمن نذر ان يصلى ركعتين من النافلة ـ مثلا ـ في ليلة عرفة في المسجد الفلاني ، كمسجد الكوفة أو نحوه ، أو نذر ان يقرأ سورة ـ مثلا ـ في ليلة عرفة فيه أو في مكان آخر ـ مثلا ـ وهكذا. ومن الواضح جداً ان بطلان هذا من الضروريات فلا يحتاج إلى بيان وإقامة برهان ، كيف فان لازم ذلك هو ان لا يجب الحج على أحد من المسلمين ، إذ لكل منهم ان يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذر أو شبهه يكون منافياً ومضاداً له ، وهذا مما قامت ضرورة الدين على خلافه ، كما هو ظاهر.

الثاني ـ أنه قد ثبت في محله ان صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً فلو نذر ترك واجب أو فعل حرام لم يصح ، بل لو نذر ترك مستحب أو فعل مكروه كان كذلك ، فضلا عن ان ينذر ترك واجب أو فعل محرم.

ومن هنا لو نذرت المرأة على ان تصوم غداً ثم رأت الدم فلا ينعقد نذرها ولا يجب عليها الصوم في الغد بمقتضى وجوب الوفاء بالنذر ، لعدم رجحانه في هذه الحالة.

وعلى الجملة فلا شبهة في اعتبار رجحان متعلقه في نفسه في انعقاده ، كزيارة الحسين عليه‌السلام ، والصلاة في المسجد ـ مثلا ـ وما شاكلهما. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى يعتبر في صحته وانعقاده أيضا ان لا يكون محللا للحرام بمعنى ان الوفاء به لا يستلزم ترك واجب أو فعل محرم. والحاصل انه لا إشكال في فساد النذر أو الشرط المخالف للكتاب أو السنة وما يكون محللا للحرام ، وقد دلت على ذلك عدة من الروايات ، ويترتب على هذا ان النذر في مفروض المقام بما ان

٢٥١

متعلقه في نفسه محلل للحرام ، لاستلزامه ترك الواجب وهو الحج فلا ينعقد ، لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم كون متعلقه كذلك. وعليه فلا مناص من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.

أو فقل : انه لا مانع من فعلية وجوب الحج ـ هنا ـ على الفرض ما عدا وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه ، وحيث انه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه مستلزماً لترك واجب أو فعل حرام فلا محالة لا يكون فعلياً في هذا الفرض أي فرض مزاحمته مع وجوب الحج ـ ليكون مانعاً عن فعلية وجوبه ، لاستلزام الوفاء به ترك الواجب وهو الحج. وعليه فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، كما هو واضح.

وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك كبرى كلية وهي ان كل واجب لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلقه في نفسه محللا للحرام يتقدم في مقام المزاحمة على واجب كان وجوبه مشروطاً بذلك كالواجبات الإلهية التي ليست بمجعولة في الشريعة المقدسة ابتداء ، بل هي مجعولة بعناوين ثانوية كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقد وما شاكل ذلك ، فان وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعاً مشروط بعدم كونها مخالفة للكتاب أو السنة ومحللة للحرام ، فتؤخذ هذه القيود العدمية في موضوع وجوب الوفاء بها.

وعلى ذلك يترتب ان تلك الواجبات لا تصلح ان تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدسة ابتداء ، كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك ، لعدم أخذ تلك القيود العدمية في موضوع وجوبها. وعليه ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات. فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.

فالنتيجة ان عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها في هذه الموارد ـ أعنى بها موارد مخالفة الكتاب أو السنة وتحليل الحرام في نفسها ـ لانتفاء موضوعها ، لا لوجود مانع في البين. ومن هنا قلنا ان أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة

٢٥٢

إلى الأحكام الأولية ، ودالة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفة لشيء من تلك الأحكام. واما في صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها كما عرفت. وتمام الكلام في ذلك في محله.

وأما النقطة الثالثة (وهي ان الأسبق زماناً انما يكون مرجحاً فيما إذا لم تكن هناك جهة أخرى تقتضي تقديم الآخر عليه) فهي في غاية الوضوح ، لأن كل مرجح وان كان يستدعى تقديم صاحبه على غيره الا ان استدعاءه ليس على نحو العلة التامة ، بل هو على نحو الاقتضاء ، فلو كان هناك مانع من تقديمه أو كانت هناك جهة أخرى تقتضي تقديم غيره عليه فلا أثر له.

وعلى الجملة فلا شبهة في ان أسبقية أحد الواجبين زماناً على الواجب الآخر من المرجحات في مقام المزاحمة ، ولكن من المعلوم انها انما تقتضي التقديم فيما إذا لم يكن هناك مانع عن اقتضائها ذلك ، أو لم تكن هناك جهة أخرى أقوى منها تقتضي تقديم الواجب اللاحق على السابق. وهذا ظاهر.

واما النقطة الرابعة (وهي أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحا في ظرف العمل ولا يكون محللا للحرام) فهي تامة بالإضافة إلى ناحية ، وغير تامة بالإضافة إلى ناحية أخرى.

اما بالإضافة إلى ناحية ان الوفاء بالنذر في ظرفه مستلزم لترك الواجب وهو الحج فهي تامة ، لما عرفت من ان صحة النذر وأشباهه مشروطة بعدم كون الوفاء به محللا للحرام ، وحيث انه في مفروض الكلام موجب لذلك فلا يكون منعقداً.

واما بالإضافة إلى ناحية ان متعلقه ليس براجح في نفسه في ظرف العمل لاستلزامه ترك الواجب فهي غير تامة ، ضرورة ان المعتبر في صحته هو رجحان متعلقه في نفسه ، والمفروض انه كذلك في المقام ، ومجرد كونه مضاداً لواجب فعلى لا يوجب مرجوحيته ، الا بناء على القول بان الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده. وقد تقدم فساد هذا القول بشكل واضح ، وقلنا هناك ان الأمر بشيء

٢٥٣

لا يقتضى النهي عن ضده بوجه ، على انه نهى غيري لا ينافي الرجحان الذاتي ، كما هو واضح.

واما النقطة الخامسة (وهي ان نفس الالتزام النذري يقتضى كون متعلقه حصة خاصة وهي الحصة المقدورة نظير اقتضاء نفس التكاليف ذلك) فقد ظهر فسادها مما تقدم. وملخصه : ان ذلك لا يتم حتى على مسلك المشهور من ان حقيقة التكليف عبارة عن البعث أو الزجر إلى الفعل أو عنه فضلا عما حققناه من ان حقيقته عبارة عن اعتبار فعل على ذمة المكلف ، أو اعتبار تحريمه وبعد المكلف عنه وإبرازه في الخارج بمبرز ، ولا نعقل لغير ذلك معنى محصلا للتكليف.

ومن الطبيعي ان اعتبار شيء على الذّمّة لا يقتضى اشتراطه بالقدرة لا عقلا ولا شرعا. ومن هنا قلنا ان القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف لا من ناحية العقل ولا من ناحية الشرع ، فالقدرة انما هي معتبرة في مقام الامتثال فحسب ، ولا يحكم العقل باعتبارها بأزيد من ذلك وقد سبق الكلام في ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الإعادة.

ومن ذلك يظهر الكلام فيما نحن فيه وذلك لأن حقيقة النذر أو ما شابهه بالتحليل ليست الا عبارة عن اعتبار الناذر الفعل على ذمته لله تعالى ، وقد عرفت ان اعتبار شيء على الذّمّة لا يقتضى اعتبار القدرة في متعلقه لا عقلا ولا شرعا ، ضرورة انه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغيره على الذّمّة أصلا ، فاذن لا يقتضى تعلق النذر بشيء اعتبار القدرة فيه عقلا وشرعا ، فما أفاده ـ قده ـ من اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا من هذه الناحية غير تام.

على ان ما أفاده ـ قده ـ هنا ـ من اختصاص الملاك بخصوص الفعل المقدور مناقض لما أفاده سابقاً.

وملخص ما أفاده هناك هو ان القدرة مرة مأخوذة في متعلق الطلب لفظاً كما في آيتي الحج والوضوء وما شاكلهما ، فالتقييد في مثل ذلك لا محالة يكشف عن

٢٥٤

دخل القدرة في الملاك واقعاً ، ضرورة انها لو لم تكن دخيلة فيه في مقام الثبوت والواقع لم يكن معنى لأخذها في متعلقه في مقام الإثبات والدلالة. وعلى ذلك يترتب انه بانتفاء القدرة ينتفي الملاك ، لاختصاصه بخصوص الحصة المقدورة دون الأعم وعليه فلا يمكن تصحيح الوضوء بالملاك في موارد الأمر بالتيمم. ومرة أخرى لم تؤخذ في متعلقه في مرتبة سابقة على الطلب ، بل كان اعتبارها فيه من ناحية تعلق الطلب به سواء أكان باقتضاء نفس الطلب ذلك أو من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، فالتقييد في مثل ذلك بما انه كان في مرتبة لاحقة وهي مرتبة عروض الطلب فيستحيل ان يكون تقييداً في مرتبة سابقة على تلك المرتبة وهي مرتبة معروضه.

أو فقل : ان الطبيعة التي يتعلق بها الطلب وان كانت مقيدة بالقدرة عليها حال تعلقه بها الا انها مطلقة في مرتبة سابقة عليه. ومن الواضح ان إطلاقها في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك ، وانها بإطلاقها واجدة للملاك التام ، وإلا لكان على المولى تقييدها في تلك المرتبة ، أذن فمن الإطلاق في مقام الإثبات يستكشف الإطلاق في مقام الثبوت.

أقول : هذا البيان بعينه يجري فيما نحن فيه ، فان ـ متعلق النذر في مرتبة سابقة على عروض النذر عليه ، ووجوب الوفاء به ـ مطلق ، والتقييد انما هو في مرتبة لاحقة ، وهي مرتبة عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به ، وقد عرفت ان مثل هذا التقييد لا يكشف عن دخل القدرة في المتعلق ، ضرورة انه لا يصلح ان يكون بياناً ومقيداً للإطلاق في مرتبة سابقة عليه ، اذن ذات الفعل الّذي هو معروض الالتزام النذري واجد للملاك على إطلاقه ، والمفروض عدم الدليل على تقييده في تلك المرتبة بخصوص الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة.

وعلى الجملة فما أفاده ـ قده ـ هنا من ان اعتبار القدرة في متعلق النذر باقتضاء نفس الالتزام به يلازم اعتبار القدرة في متعلق الوجوب شرعا الكاشف عن

٢٥٥

اختصاص الملاك بالفعل المقدور ، وهو لا يلائم ما ذكره هناك من التفرقة بين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعا واعتبارها فيه باقتضاء نفس التكليف أو من جهة حكم العقل به من باب قبح تكليف العاجز ، كما عرفت.

فالصحيح في المقام ان يقال : ان الدليل على اشتراط وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه بالقدرة شرعا هو ما دل على تقييده بعدم كونه مخالفاً للكتاب أو السنة مرة وبعدم كونه محللا للحرام مرة أخرى.

ونتيجة ذلك انها لا تنعقد إذا كان الوفاء بها مستلزما لترك واجب أو فعل محرم ، لانطباق عنوان محلل الحرام عليه من الواضح ان هذا عين اعتبار القدرة في متعلقه شرعا ، وقد تبين لحد الآن ان الصحيح في وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قده ـ كما مر.

واما النقطة السادسة (وهي ان الاكتفاء في صحة النذر برجحان متعلقه في مقام العمل ولو باعتبار تعلق النذر به يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر) فيردها ان ما ذكره السيد ـ قده ـ في العروة لا يستلزم ما أفاده ، والوجه فيه هو انه لا إشكال في اعتبار رجحان متعلق النذر في صحته ، وانه لا بد ان يكون راجحاً ولو من جهة تعلق النذر به. هذا من جانب.

ومن جانب آخر انه لا يمكن ان يقتضى وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه ، ضرورة استحالة اقتضاء الحكم لوجود شرطه وتحقق موضوعه في الخارج.

فالنتيجة على ذلك هي ان رجحان متعلق النذر مرة يكون باقتضاء ذاته مع قطع النّظر عن عروض أي عنوان عليه ، ومرة أخرى يكون بعروض عنوان خارجي طارئ عليه ، ولا يكون ذلك الا باقتضاء دليل خارجي ولا ثالث لهما ، بمعنى ان الشيء إذا لم يكن في نفسه راجحاً ، فصحة تعلق النذر به تحتاج إلى دليل من الخارج يدل على صحة النذر الكاشفة عن طروء الرجحان عليه ، فان دل دليل على صحته كما هو الحال في الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر حيث قد قام الدليل

٢٥٦

من الخارج على صحة نذرهما ، مع انهما ليسا براجحين في نفسهما فنلتزم بها ، وإلا فلا. ومراد السيد ـ قده ـ من الرجحان الجائي من قبل النذر هو ما ذكرناه من قيام الدليل الخارجي على صحة النذر الكاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوي وهو عنوان تعلق النذر به ، وليس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء بالنذر ، ليلزم منه جواز تحليل المحرمات ، لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب الوفاء بالنذر ذلك أعني رجحان متعلقه.

فما أورده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ على السيد (ره) انما يتم لو كان مراده من الرجحان الناشئ من قبل النذر الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.

وعلى هذا البيان قد ظهر ان ما ذكره السيد ـ قده ـ في العروة لا يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر ، ضرورة ان ما أفاده ـ قده ـ أجنبي عن ذلك تماماً وخاص بما إذا قام دليل على صحة النذر.

وان شئت فقل ان إطلاق أدلة المحرمات كافية لإثبات عدم الرجحان والمفروض ان دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضى رجحان متعلقه كما عرفت. ومن الواضح جداً انه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه أبدا.

نعم إذا قام دليل على صحة تعلق النذر بفرد ما من افراد المحرمات ، فلا مناص من الالتزام بصحته وانعقاده ، وتقييد إطلاق دليل التحريم بغير هذا الفرد ، ولا يفرق فيه بين القول باعتبار رجحان متعلقه في نفسه ، والقول بكفاية الرجحان الناشئ من تعلق النذر به ، ضرورة انه على كلا القولين لا مناص من الالتزام بالصحّة ، غاية الأمر على القول الأول يلزم ان يكون الدليل المزبور مخصصاً لأدلة اشتراط صحة النذر بكون متعلقه راجحاً في نفسه دون القول الثاني ، ولكن لا تترتب على ذلك أية ثمرة عملية.

وقد تحصل مما ذكرناه عدة أمور :

الأول ـ ان وجوب الحج ليس مشروطاً بالقدرة شرعا فانه يبتنى على تفسير

٢٥٧

الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا ولكنك عرفت انه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات الواردة في تفسيرها وبيان المراد منها ، حيث انها قد فسرت في تلك الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق ، وفي بعضها وان زاد صحة البدن أيضا ولكن من المعلوم انها ليست شرط الوجوب مطلقاً ، بل هي شرط له على نحو المباشرة.

ونتيجة ذلك هي انه عند وجود الزاد والراحلة وأمن الطريق يجب الحج سواء أكان هناك واجب آخر أم لم يكن.

وعلى هذا الأساس فلا مجال لتوهم ان وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا ، فان منشأ هذا التوهم ليس الا التفسير المزبور ، وقد عرفت انه تفسير غير مطابق. للواقع. فاذن يتقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر في مقام المزاحمة ، وان فرض ان وجوب الوفاء بالنذر سابق عليه زماناً ، لما مضى من ان الواجب المشروط بالقدرة عقلا يتقدم في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعا مطلقاً أي سواء أكان في عرضه أو سابقاً عليه بحسب الزمان أو متأخراً عنه ، أما وجه تقديمه في الصورتين الأوليين فواضح لفرض ان التكليف به بما انه فعلى يكون معجزاً مولوياً بالإضافة إلى الآخر وموجباً لانتفائه بانتفاء موضوعه ، دون العكس. واما في الصورة الأخيرة فلان المفروض ان ملاكه حيث انه تام في ظرفه فلا يجوز تفويته ، إذ لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه ، فكما ان الأول قبيح عنده فكذلك الثاني. وعليه فيجب التحفظ على ملاكه وعدم تفويته ، وبما ان الإتيان بالواجب الآخر موجب لتفويته فلا يجوز ، وهذا معنى عدم قدرة المكلف على إتيانه شرعا.

الثاني ـ انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا بناء على صحة التفسير المزبور ، فائضاً لا وجه لتقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه عليه ، وذلك لما عرفت من عدم دخول ذلك في كبرى تزاحم الواجبين كان أحدهما

٢٥٨

أسبق زماناً من الآخر فان العبرة بذلك انما هي بتقديم أحد الواجبين على الآخر زماناً كما مر ، ولا عبرة بتقديم سبب وجوب أحدهما على سبب وجوب الآخر أو بتقديم حدوث وجوب أحدهما على حدوث وجوب الآخر بعد كونه مزاحماً به بقاء.

الثالث ـ انه لو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلمنا ان وجوب الوفاء بالنذر وما شاكله مقدم على وجوب الحج زماناً فمع ذلك لا وجه لتقديمه عليه ، وذلك لما عرفت من الوجهين المتقدمين ، ونتيجتهما هي ان حصول الاستطاعة في زمن متأخر كاشف عن بطلان النذر من الأول وعدم انعقاده.

ومن ذلك البيان قد ظهر فساد ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب الجواهر ـ قده ـ من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج بملاك ان النذر مقدم عليه زماناً ، فيكون رافعاً للاستطاعة ، ولا عكس.

أو فقل ان وجوب الوفاء به مطلق ووجوب الحج مشروط فلا يمكن ان يزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق. ووجه فساده ما عرفت من منع ذلك صغرى وكبرى ، فلا حاجة إلى الإعادة.

ثم انه من الغريب ما صدر عن السيد الطباطبائي ـ قده ـ في العروة في المسألة (٣٠) من مسائل الحج وإليك نصّ كلامه : «إذا نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين عليه‌السلام في كل عرفة ، ثم حصلت لم يجب عليه الحج ، بل وكذا لو نذر ان جاء مسافره ان يعطى الفقير كذا مقداراً فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه ، بل وكذا لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يصرف مقدار مائة ليرة ـ مثلا ـ في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فان هذا كله مانع عن تعلق وجوب الحج به وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ، ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج ، ثم حصلت الاستطاعة ، وان لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج ، لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب. وأما لو حصلت الاستطاعة أولا ، ثم حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينه وبين

٢٥٩

الحج يكون من باب المزاحمة ، فيقدم الأهم منهما ، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدم على الحج ، وحينئذ فان بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحج فيه والا فلا الا ان يكون الحج قد استقر عليه سابقاً ، فأنه يجب عليه ولو متسكعا».

ثم قال : في مسألة أخرى ما لفظه : «النذر المعلق على أمر قسمان تارة يكون التعليق على وجه الشرطية ، كما إذا قال ان جاء مسافري فلله على ان أزور الحسين عليه‌السلام في عرفة ، وتارة يكون على نحو الواجب المعلق كان يقول لله على ان أزور الحسين عليه‌السلام في عرفة عند مجيء مسافري ، فعلى الأول يجب حج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره ، وعلى الثاني لا يجب ، فيكون حكمه حكم النذر المنجز في انه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحج سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها ، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحج من دون فرق بين الصورتين. والسر في ذلك ان وجوب الحج مشروط والنذر مطلق فوجوبه يمنع عن تحقق الاستطاعة».

أقول : نتيجة ما ذكره ـ قده ـ أمور :

الأول ـ ان وجوب الوفاء بالنذر يتقدم على وجوب الحج مطلقا إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة ، وكان منجزاً ثم حصلت الاستطاعة ، لأن وجوب الوفاء بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج وهو الاستطاعة ، فلا يكون المكلف معه قادراً على أداء فريضة الحج شرعا.

الثاني ـ انه إذا كان هناك واجب مطلق فوري قبل تحقق الاستطاعة ، ثم تحققت ولم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين الحج قدم ذلك الواجب على الحج وان لم يكن أهم منه.

الثالث ـ ان يكون وجوب الحج مزاحماً بواجب فوري بعد حصول الاستطاعة ففي مثل ذلك يقدم الأهم ، فلو كان مثل إنقاذ الفريق قدم على الحج.

الرابع ـ ان النذر المعلق إذا كان على نحو الواجب المشروط فلا يكون مانعاً

٢٦٠