محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

المائية ، لتمكنه منها غاية الأمر ان المكلف بسوء اختياره قد ارتكب المحرم بدخوله في المكان المزبور وتوضأ أو اغتسل فيه ومن الواضح ان ارتكاب محرم مقدمة للوضوء أو الغسل أو في أثنائه إذا لم يكن متحداً معه لا يوجب. فساده هذا كله فيما إذا لم يكن الفضاء مغصوباً بل كان مباحاً أو مملوكا للمتوضئ.

واما المقام الثاني (وهو الوضوء أو الغسل في الفضاء المغصوب) فالظاهر بطلان الوضوء فحسب ، دون الغسل اما الوضوء فمن جهة المسح حيث يعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف في ملك الغير فيكون محرماً. ومن الواضح جداً ان المحرم لا يقع مصداقاً للواجب ، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء وعدمه ، كما هو ظاهر. نعم لو أوقع المسح في غير الفضاء المغصوب لصح وضوؤه على الأقوى وان كان الأحوط تركه.

ومن هنا استشكلنا في صحة التيمم في الفضاء المغصوب من جهة ان المعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف فيه. ولا يفرق في هذا بين وجود المندوحة وعدمها.

واما الغسل فحيث انه لا يعتبر فيه إمرار اليد فلا يكون تصرفاً فيه ، وان كان الأحوط تركه أيضاً.

ونلخص نتائج الأبحاث المقدمة في عدة نقاط :

١ ـ قد سبق انه يمكن تصحيح الجهر في موضع الخفت وبالعكس والإتمام في موضع القصر بالالتزام بالترتب في مقام الجعل ، ولا يرد عليه شيء مما أورده شيخنا الأستاذ (قده).

٢ ـ قد تقدم ان التضاد الدائمي بين متعلقي الحكمين وان كان يوجب دخولهما في باب التعارض دون باب التزاحم ، كما هو واضح ، إلا انه لا يمنع من الالتزام بالترتب بينهما في مقام الجعل بان يكون جعل أحدهما مترتباً على عدم الإتيان بمتعلق الآخر ، غاية الأمر ان وقوع الترتب في هذا المقام يحتاج إلى دليل ، والدليل موجود في المسألتين كما عرفت.

٢٠١

٣ ـ ان المأمور به ليس خصوص الجهر والخفت في فرض وجود القراءة ، والقصر والتمام في فرض وجود الصلاة ، ليكونا من الضدين الذين لا ثالث لهما ، بل المأمور به هو القراءة الجهرية والإخفاتية في المسألة الأولى ، والصلاة قصراً وتماماً في المسألة الثانية. وعليه فيكونان من الضدين لهما ثالث ، على ان القصر والتمام لا يكونان من الضدين لا ثالث لهما حتى في فرض وجود الصلاة.

٤ ـ انه لا ملزم لكون الشرط لفعلية الخطاب المترتب عصيان الخطاب المترتب عليه ، بل قد عرفت ان الشرط في الحقيقة والواقع هو ترك امتثاله وعدم الإتيان بمتعلقه ، فانه نقطة انطلاق إمكان الترتب لا غيره. وعلى هذا الأساس فلا يلزم المحذور المتقدم.

٥ ـ قد ظهر ان الترتب كما يجري في المقام يجري في موارد العلم الإجمالي ، والشبهات قبل الفحص ، والموارد المهمة بناء على وجوب الاحتياط فيها. نعم لا يجري في خصوص موارد الشبهات البدوية التي تجري أصالة البراءة فيها.

٦ ـ ان جريان الترتب في مورد يرتكز على ركائز ثلاث : ١ ـ وصول الخطاب المترتب عليه إلى المكلف صغرى وكبرى. ٢ ـ عدم الإتيان بمتعلقه في الخارج ٣ ـ إحراز ذلك.

٧ ـ ان مخالفة الخطاب الطريقي بما هو لا توجب العقاب ، والعقاب في صورة مصادفته للواقع انما هو على مخالفة الواقع لا على مخالفته.

٨ ـ قد ذكرنا وجهاً آخر أيضاً لدفع الإشكال عن المسألتين وهو انه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا ، فان الواجب في الواقع اما هو خصوص الجهر ـ مثلا ـ عند الجهل بوجوب الخفت في المسألة الأولى ، وخصوص التمام عند الجهل بوجوب القصر في المسألة الثانية ، واما هو أحد فردي الواجب التخييري. وعلى كلا التقديرين لا معنى للعقاب.

٩ ـ انا لا نعقل التضاد بين الملاكين مع عدم المضادة بين الفعلين.

٢٠٢

١٠ ـ ان الترتب لا يجري بين الواجبين أحدهما موسع والآخر مضيق ، فان البحث عن الترتب إمكاناً وامتناعا يتفرع على تحقق التزاحم بين الحكمين ، فإذا فرض انه لا مزاحمة بينهما وتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا موضوع له وما نحن فيه كذلك ، فان المكلف متمكن من الجمع بينهما من دون اية منافاة.

١١ ـ ذكر شيخنا الأستاذ (قده) ان المكلف إذا التفت إلى تنجس المسجد ـ مثلا ـ أثناء الصلاة فلا يتوقف الحكم بصحتها على القول بالترتب ، وهذا بخلاف ما إذا علم بتنجسه قبل الشروع بها ، أو كان الواجب مما لا يحرم قطعه ، ووجهه هو ان دليل وجوب الإزالة لبي فلا يشمل هذه الصورة ولكن قد عرفت فساد ذلك وان دليل حرمة قطع الصلاة على تقدير تسليمها أيضاً لبي ، والروايات لا تدل على ذلك.

١٢ ـ انه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو أواني الذهب والفضة فيما إذا أخذ الماء منها دفعة واحدة بمقدار يكفي له ، لأن المكلف بعد الأخذ واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعاً.

١٣ ـ ان المأمور به ـ هنا ـ غير متحد مع المنهي عنه فان المأمور به هو الغسلتان والمسحتان ـ مثلا ـ والمنهي عنه هو أخذ الماء من الآنية.

١٤ ـ قد تقدم انه لا دليل على اعتبار القدرة الفعلية في ابتداء العمل وعند الشروع في الامتثال ، بل تكفي القدرة على نحو التدريج ، ولا يحكم العقل بأزيد من ذلك ، ولا يفرق في هذا بين ان تكون تدريجية القدرة من ناحية تدريجية مقتضيها ، أو من ناحية تدريجية ارتفاع مانعها ، أو من ناحية تدريجية ارتكاب معصية المولى.

١٥ ـ صحة الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني مطلقاً وعلى جميع الصور المتقدمة من صورة انحصار الماء وعدمه ، وصورة إمكان التفريغ في إناء آخر وعدم إمكانه بناء على ما حققناه من صحة الترتب.

٢٠٣

١٦ ـ ان ما ذكرناه من النزاع مبتن على ما هو المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقاً. واما بناء على عدم حرمة استعمالهما في غير الأكل والشرب كما لا يخلو عن وجه فلا موضوع لهذا النزاع أصلا.

١٧ ـ ان صحة الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة مبنية على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً ، وعدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الاتفاقية ، اذن لا مانع من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب ، ولا فرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء وعدمه كما هو واضح.

١٨ ـ فساد الوضوء في الفضاء الغصبي على الأقوى من جهة حرمة المسح بلا فرق بين صورتي الانحصار وعدمه.

بيان التزاحم والتعارض ونقطة امتياز

أحدهما عن الآخر

هاهنا جهات من البحث :

الأولى ـ بيان حقيقة التزاحم وواقعه الموضوعي.

الثانية ـ بيان حقيقة التعارض وأساسه.

الثالثة ـ بيان النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.

الرابعة ـ بيان مرجحات باب التعارض من جانب ، وما تقتضيه القاعدة فيه من جانب آخر.

الخامسة ـ بيان مرجحات باب التزاحم ، وما تقتضيه القاعدة عند فقدانها.

واما الجهة الأولى فالتزاحم على نوعين :

الأول ـ التزاحم بين الملاكات الواقعية بان تكون ـ مثلا ـ في فعل جهة

٢٠٤

مصلحة تقتضي إيجابه ، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه ، أو كانت فيه جهة تقتضي استحبابه وجهة أخرى تقتضي كراهته. وهكذا ، ففي هذه الموارد وما شاكلها لا محالة تقع المزاحمة بين المصلحة والمفسدة ، أو كانت مصلحة في فعل ومصلحة أخرى في فعل آخر مضاد له. وهكذا.

ومن الواضح جداً ان الأمر في هذا النوع من التزاحم بيد المولى حيث ان عليه ان يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النّفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد ، ويقدم ما هو الأقوى والأهم من تلك الملاكات على غيره التي لم تكن بهذه المرتبة من القوة والأهمية ، ويجعل الحكم على طبق الأهم دون غيره.

ومن الضروري ان هذا ليس من وظيفة العبد بشيء ، فان وظيفته العبودية وامتثال الأحكام التي جعلت من قبل المولى ووصلت إليه والخروج عن عهدة تلك الأحكام وتحصيل الأمن من ناحيتها من دون ملاحظته جهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أصلا ، بل إذا فرضنا ان العبد علم ـ بان المولى قد اشتبه عليه الأمر كما يتفق ذلك في الموالي العرفية فجعل الوجوب ـ مثلا ـ يزعم ان في الفعل مصلحة ، مع انه لا مصلحة فيه ، أو علم ان فيه مفسدة ـ لم يكن له بمقتضى وظيفة العبودية مخالفة ذلك التكليف المجعول وترك امتثاله معتذراً بأنه لا مقتضى للوجوب أو ان فيه مقتضى الحرمة ، فان كل ذلك لا يسمع منه ويستحق العقاب على مخالفته ، كما ان من وظيفة الرعايا الالتزام بالقوانين المجعولة في الحكومات ، فلو ان أحداً خالف قانوناً من تلك القوانين اعتذاراً بأنه لا مصلحة في جعله أو ان فيه مفسدة فلا يسمع هذا الاعتذار منه ويعاقب على مخالفة ذلك.

فالنتيجة هي : ان وظيفة المولى جعل الأحكام على طبق جهات المصالح والمفاسد الواقعيتين ، وترجيح بعض تلك الجهات على بعضها الآخر في مقام المزاحمة ، غاية الأمر انه إذا كان المولى مولى حقيقياً يجعل الحكم على وفق ما هو الأقوى من تلك الجهات في الواقع ونفس الأمر ، وإذا كان عرفياً يجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى بنظره ، لعدم إحاطته بجهات الواقع تماماً ، ووظيفة العبد الانقياد

٢٠٥

والإطاعة وامتثال الأحكام سواء أعلم بوجود مصلحة في متعلقاتها أم لم يعلم ، ضرورة ان كل ذلك لا يكون عذراً له في ترك الامتثال ، بل يعد هذا منه تدخلا في وظيفة المولى وهو قبيح.

على انه ليس للعبد طريق إلى إحراز جهات المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام الشرعية مع قطع النّظر عن ثبوتها ، ليراعي ما هو الأقوى منها. نعم قد يستكشف من أهمية الحكم أهمية ملاكه فيرجح على غيره ، ولكن هذا أجنبي عما نحن فيه وهو وقوع المزاحمة بين الملاكات والجهات الواقعية ، فاذن ليست لتلك الكبرى صغرى في الأحكام الشرعية أصلا.

وقد تحصل من ذلك امران :

الأول ـ ان هذا النوع من التزاحم ليس في مقابل التعارض ، فان ما هو في مقابله التزاحم في الأحكام الفعلية بعضها ببعض ، دون التزاحم في الملاكات ، ولذا لا تترتب على البحث عنه اية ثمرة.

الثاني ـ ان وقوع التزاحم بين الملاكات يرتكز على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، أو في نفسها. واما على وجهة مذهب الأشعري المنكر للقول بالتبعية مطلقاً فلا موضوع له.

النوع الثاني ـ تزاحم الأحكام بعضها مع بعض في مقام الامتثال والفعلية ، ومنشأه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً ، ويكون امتثال كل واحد منهما متوقفاً على مخالفة الآخر ، فانه إذا صرف قدرته على امتثاله يعجز عن امتثال الآخر ، فيكون الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ مثلا إذا فرضنا ان إنقاذ الغريق أو نحوه متوقف على التصرف في مال الغير ، أو كان هناك غريقان ، ولكن المكلف لا يقدر على إنقاذ كليهما معاً فعندئذ لو اختار امتثال أحدهما يعجز عن امتثال الثاني فينتفي بانتفاء موضوعه.

٢٠٦

وبعبارة واضحة قد تعرضنا في غير موضع أن لكل حكم مرتبتين ولا ثالث لهما.

الأولى ـ مرتبة الجعل والإنشاء وهي جعله لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون تعرضه لحال موضوعه وجوداً وعدماً. ومن هنا قلنا ان كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له. ومن الواضح جداً ان التالي لا يكون ناظراً إلى حال الشرط وجوداً ولا عدماً ، بل هو ثابت على تقدير تحققه في الخارج ، وكذا الحكم لا يكون ناظراً إلى حال موضوعه أصلا ، بل هو ثابت على فرض تحققه ، وهذا معنى كون الموضوع مأخوذاً في القضية الحقيقية على نحو فرض وجوده.

الثانية ـ مرتبة فعلية الحكم وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج ووجوده ضرورة ان فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه. ومن هنا قلنا ان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته ، فكما ان فعلية المعلول تدور مدار فعلية علته ، فكذلك فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان ان في موارد التزاحم لا تنافي بين الحكمين بحسب مرتبة الجعل أصلا ، بداهة انه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق للقادر على نحو القضية الحقيقية وحرمة التصرف في مال الغير كذلك ، كيف فان عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب الإنقاذ والدليل الدال على حرمة التصرف في مال الغير من الواضحات الأولية ، وكذا لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر ووجوب الإزالة له. وهكذا ، فالتنافي في مورد التزاحم إنما هو في مرتبة فعلية الأحكام وزمن امتثالها ، ضرورة أن فعلية كل من حكمين متزاحمين تأبى عن فعلية الآخر ، لاستحالة فعلية كليهما معاً.

وسره ان القدرة الواحدة لا تفي إلا بإعمالها في أحدهما ، فلا تكفي للجمع بينهما في مقام الإتيان والامتثال. وعليه فلا محالة كان اختيار كل واحد منهما في

٢٠٧

هذا المقام يوجب عجزه عن الآخر فيكون الحكم الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ من دون تصرف في دليله أصلا.

والوجه في ذلك ما ذكرناه غير مرة من ان الخطابات الشرعية تستحيل ان تتعرض لحال موضوعاتها نفياً وإثباتاً ، وانما هي متعرضة لبيان الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها في الخارج. ومن هنا قلنا ان الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية ، ومفادها مفاد تلك القضايا ، مثلا الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للحائض أو النفساء أو المستطيع أو ما شاكل ذلك لا يتكفل شيء منها لبيان حالها وجوداً أو عدماً وإنما هي متكفلة لبيان الأحكام لها على تقدير تحققها في الخارج ، ولذا ذكرنا ان كل دليل إذا كان ناظراً إلى موضوع دليل آخر نفياً أو إثباتاً حقيقة أو حكما لا يكون أي تناف بينه وبين ذلك الدليل ، وذلك كما في موارد الورود والحكومة ، ضرورة ان مفاده ثبوت الحكم على تقدير تحقق موضوعه خارجاً.

ومن الواضح ان نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون من رفع اليد عن دليله الدال عليه ، فانه إنما يكون في مورد التعارض حيث ان فيه نفي الحكم عن الموضوع الثابت ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومقامنا من قبيل الأول ، فان التكليف حيث انه مشروط بالقدرة يستحيل ان يكون ناظراً إلى حالها وجوداً أو عدماً ، بل هو ناظر إلى حال متعلقه ومقتض لوجوده ان كان التكليف وجوبياً والبعد عنه ان كان تحريمياً ، وعليه فكون المكلف قادراً في الخارج أو غير قادر أجنبي عن مفاد الدليل الدال عليه ، فلا يكون انتفاؤه بانتفاء القدرة من رفع اليد عن دليله ومنافياً له ، ضرورة ان ما لا اقتضاء له بالإضافة إلى وجود القدرة وعدمها لا يكون منافياً لما هو مقتض لعدمها ، كما هو واضح.

نعم لو كان هناك دليل دل على انتفائه مع ثبوت موضوعه لكان منافياً له وموجباً لرفع اليد عما دل عليه ، إذ هذا مقتض لثبوته ، وذاك مقتض لعدمه فلا يمكن ان يجتمعا في موضوع واحد ، ولكنهما عندئذ صارا من المتعارضين

٢٠٨

فلا يكونان من المتزاحمين ، ومحل كلامنا فعلا في الثاني لا في الأول.

وصفوة القول في ذلك هي : انا قد ذكرنا غير مرة انه لا مضادة ولا منافاة بين الأحكام بأنفسها ، لأنها أمور اعتبارية فلا شأن لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ولا واقع موضوعي لها غير ذلك. ومن المعلوم انه لا تعقل المضادة والمنافاة بين الأمور الاعتبارية بعضها ببعض ذاتاً وحقيقة. ومن هنا قلنا ان التنافي والتضاد بين الأحكام اما ان يكون من ناحية مبدئها ، واما ان يكون من ناحية منتهاها ولا ثالث لهما.

اما التنافي من ناحية المبدأ فيبتني على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها ، وحيث ان المصلحة والمفسدة متضادتان فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

واما التنافي من ناحية المنتهى فلعدم تمكن المكلف من امتثال الوجوب والحرمة معاً ـ مثلا ـ في شيء واحد ، وكذا عدم تمكنه من امتثال وجوبين أو تحريمين متعلقين بالضدين الذين لا ثالث لهما. وهكذا ، ولا يفرق في هذه الناحية بين مذهب العدلية وغيره.

وعلى هذا الأساس فإذا كان بين حكمين تناف من ناحية المبدأ أو المنتهى بالذات كالوجوب والحرمة لشيء واحد ، أو بالعرض كما إذا علم إجمالا بكذب أحدهما فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما.

واما إذا لم يكن بينهما تناف لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى كوجوب صلاة الفريضة ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد ـ مثلا ـ فلا مانع من جعل كليهما معاً أصلا ، بداهة انه لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر وجعل وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، غاية الأمر انه قد يتفق لبعض افراد المكلفين انه لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال. وعليه فلا محالة لا يكون أحدهما فعلياً ، لما عرفت من ان فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه ـ وهو القدرة ـ في مفروض المقام

٢٠٩

وحيث ان فعلية القدرة بالإضافة إلى كلا الحكمين ممتنعة على الفرض امتنعت فعلية كليهما معاً.

ومن البديهي ان هذا المقدار من التنافي لا يمنع من جعلهما على نحو القضية الحقيقية ، لوضوح انه لو كان مانعاً فانما يكون من جهة انه يوجب كون جعلهما لغواً ومن الواضح انه لا يوجب ذلك باعتبار انه تناف اتفاقي في مادة شخص ما ، والموجب له إنما هو التنافي الدائمي وبالإضافة إلى جميع المكلفين ، كما هو الحال في الضدين الذين ليس لهما ثالث ، حيث لا يمكن للشارع إيجابهما معاً ، فانه لغو محض ، وصدوره من الحكيم محال ، بل الحال كذلك في مطلق الضدين ولو كان بينهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما ، فانه لا يمكن للشارع إيجاب كليهما معاً في زمان واحد ، وذلك لعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أبداً من جهة ان التنافي بينهما أبدى ، لا اتفاقي. وعليه فإيجابهما لغو محض فلا يصدر من الحكيم.

ومن هنا قد ذكرنا سابقاً ان التضاد بين الفعلين إذا كان دائمياً كان دليل وجوب أحدهما معارضاً لدليل وجوب الآخر لا محالة ، فالملاك الرئيس للدخول في باب التزاحم هو ان يكون التضاد بينهما اتفاقياً بمعنى انه كان في مورد دون آخر ، وبالإضافة إلى مكلف دون مكلف آخر. وقد مر ان مثل هذا التنافي والتضاد لا يكون مانعاً عن الجعل أبداً. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان المنشأ الأساسي لهذا التنافي والتضاد انما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال والإطاعة اتفاقاً بعد ما كان قادراً على إتيان كل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر ، ولكنه لم يقدر على الجمع بينهما في الخارج صدفة ، لا من ناحية المضادة بينهما دائماً ، بل من ناحية ان القدرة الواحدة لا تفيء لامتثال كليهما معاً. وعليه فلا محالة كان إعمالها في امتثال هذا موجبا لانتفاء فعلية ذاك بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا انه يوجب انتفاءه

٢١٠

مع بقاء موضوعه كما هو الحال في موارد المعارضة بين الدليلين ، وقد ذكرنا غير مرة ان الحكم يستحيل ان يقتضى وجود موضوعه ، فلا هذا يقتضى وجود القدرة ولا ذاك ، لتقع المصادمة بين اقتضائهما إيجاد القدرة ، بل كل واحد منهما بالإضافة إلى إيجادها وتحققها في الخارج لا اقتضاء. وعليه فبما ان المكلف قادر على امتثال كل واحد منهما في نفسه مع قطع النّظر عن الآخر فلا محالة يقتضى كل منهما إعمال القدرة في امتثاله ، وحيث ان المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً فتقع المزاحمة بين اقتضاء هذا لامتثاله واقتضاء ذاك.

وقد تحصل مما ذكرناه ان المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين تكليفين نقطتان :

الأولى ـ جعل الشارع كلا التكليفين معاً وفي عرض واحد ، ولازم ذلك هو اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له.

الثانية ـ عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال ، فإذا تحققت هاتان النقطتان تحققت المزاحمة بينهما لا محالة ، واما إذا انتفت إحداهما ، كما إذا لم يجعل الشارع إلا أحدهما دون الآخر ، أو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً فلا مزاحمة أصلا.

وعلى أساس هذا البيان قد ظهر أمور :

الأول ـ ان المزاحمة بين التكليفين إنما تكون بالإضافة إلى من لم يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال واما مع القدرة عليه فلا مزاحمة بينهما أبدا بل كلا التكليفين يكون فعلياً من دون اية منافاة بينهما.

الثاني ـ ان التزاحم بين الحكمين انما هو في مرتبة متأخرة عن مرتبة جعلهما وهي مرتبة الامتثال وحكم العقل لزومه. ومن هنا قلنا ان في باب التزاحم لا تنافي في مقام الجعل أصلا.

الثالث ـ ان ارتفاع أحد الحكمين في باب التزاحم وعدم فعليته مستند إلى ارتفاع موضوعه وعدم فعليته ، لا إلى شيء آخر مع بقاء موضوعه ، ليقع التنافي بينه وبين ذاك الشيء ، ولأجل ذلك يجري التزاحم بين الحكمين المستفادين من آيتين

٢١١

أو سنتين قطعيتين ، وكذلك الحكم المستفاد من رواية والحكم المستفاد من آية من الكتاب أو سنة قطعية ، بل لا مناص من تقديم الرواية على الكتاب أو السنة القطعية في مقام المزاحمة إذا كانت واجدة لإحدى مرجحات بابها.

لحد الآن قد تبين ان النقطة الرئيسة التي ينبثق منها التزاحم بين الحكمين بعد الفراغ من جعلهما إنما هي عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية ، واما مع التمكن فلا مزاحمة أصلا.

ولكن لشيخنا الأستاذ ـ قده ـ في المقام كلام ، وهو ان التزاحم قد ينشأ من عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال كما هو الغالب. وقد ينشأ من جهة أخرى غير ذلك.

اما الأول فقد قسمه ـ قده ـ على خمسة أقسام :

الأول ـ ما إذا كان عدم القدرة اتفاقياً كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يقدر المكلف على إنقاذ كليهما معاً.

الثاني ـ ما إذا كان التزاحم من جهة وقوع التضاد بين الواجبين اتفاقاً ، لما عرفت من ان التضاد بينهما إذا كان دائمياً فيقع التعارض بين دليليهما فتكون المصادمة عندئذ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال والفعلية.

الثالث ـ موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان اتحدتا في الخارج بنحو من الاتحاد كالصلاة والغصب ـ مثلا ـ بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها فوقتئذ تقع المزاحمة بينهما ، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة كإكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب ، وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة ، فان مورد الاجتماع على هذا يدخل في باب التعارض دون التزاحم. وكذا إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان بناء على سراية الحكم من إحداهما إلى الأخرى ، وسيأتي بيان ذلك تماماً في بحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

٢١٢

الرابع ـ ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب كما إذا توقف إنقاذ الغريق ـ مثلا ـ أو نحوه على التصرف في مال الغير ، هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً ، وإلا فيدخل في باب التعارض ، كما هو واضح.

الخامس ـ موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحد المتلازمين محكوماً بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة ، ومثال ذلك استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن في العراق وما شاكله من البلاد ، فانه لا تلازم بينهما بالذات ، فالتلازم انما يتفق بينهما لخصوص أهل العراق أو ما سامته من النقاط. واما إذا كان التلازم دائمياً فيدخل في باب التعارض.

واما الثاني (وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف) فقد مثل بما إذا كان المكلف مالكا من الإبل بمقدار النصاب الخامس (وهو خمس وعشرون إبلا) الّذي يجب فيه خمس شياة ، ثم بعد مضي ستة أشهر ملك ناقة أخرى فتحقق النصاب السادس الّذي يجب فيه بنت مخاض ، وعلى هذا فمقتضى أدلة وجوب الزكاة هو وجوب خمس شياة بعد انقضاء سنة النصاب الخامس ووجوب بنت مخاض بعد تمامية حول النصاب السادس ، والمكلف قادر على دفع كليهما معاً ، ولم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، بل هي ناشئة من ناحية قيام الدليل من الخارج على ان المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين.

وللمناقشة فيما أفاده (قده) ـ هنا ـ مجال. اما ما ذكره من ان التزاحم الناشئ من ناحية عدم قدرة المكلف فينقسم إلى خمسة أقسام فيرد عليه :

أولا ـ انه لا أثر لهذا التقسيم أصلا ، ولا تترتب عليه أية ثمرة فيكون نظير تقسيم ان التزاحم قد يكون بين وجوبين ، وقد يكون بين تحريمين ، وقد يكون بين وجوب وتحريم. وهكذا ، فلو كان مثل هذه الاعتبارات موجباً للقسمة لازدادت الأقسام بكثير كما لا يخفى.

٢١٣

وثانياً ـ ان أصل تقسيمه إلى تلك الأقسام لا يخلو عن إشكال. والوجه في ذلك هو ان القسم الثاني (وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن التضاد بين الواجبين اتفاقاً) داخل في القسم الأول (وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم القدرة اتفاقا) ضرورة ان المضادة بين فعلين من باب الاتفاق لا يمكن تحققها إلا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الإتيان والامتثال. وعليه فلا معنى لجعله قسما ثانيا من التزاحم في قبال القسم الأول ، بل هو هو بعينه.

واما ما ذكره ـ قده ـ من ان المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليلي حكميهما ففي غاية الصحة والمتانة في الضدين الذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما ، ضرورة انه لا يعقل تعلق الأمر بهما حتى على نحو الترتب ، كما تقدم. واما في الضدين الذين لهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض ونحوهما فالأمر ليس كما أفاده. وذلك لأن المعارضة في الحقيقة ليست بين نفس دليليهما ، كما هو الحال في الضدين الذين لا ثالث لهما ، وإنما هي بين إطلاق كل منهما وثبوت الآخر. وعليه فلا موجب إلا لرفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده عند الإتيان بمتعلق الآخر ، لوضوح انه لا معارضة بين أصل ثبوت الخطاب بهذا في الجملة وثبوت الخطاب بذاك كذلك ، وإنما تكون المعارضة بين إطلاق هذا ووجود الآخر وبالعكس ، وهي لا توجب إلا رفع اليد عن إطلاق كل منهما لا عن أصله ، فيكون إطلاق كل واحد منهما مترتبا على عدم الإتيان بالآخر.

ونتيجة ذلك هو الالتزام بالترتب من الجانبين أو الالتزام بالوجوب التخييري إلا فيما إذا علم بكذب أحدهما وعدم صدوره في الواقع ، فعندئذ تقع المعارضة بينهما ، فيرجع إلى قواعد باب التعارض.

واما موارد اجتماع الأمر والنهي فان قلنا بالامتناع اما لدعوى سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ، واما لدعوى ان التركيب بينهما اتحادي فهي من صغريات مسألة التعارض دون التزاحم. وعليه فلا معنى للقول بالترتب فيها

٢١٤

أصلا ، وان قلنا بالجواز وتعدد الجمع ، فان كانت هناك مندوحة وتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا تزاحم بينهما أصلا ، كما تقدم ، وان لم تكن هناك مندوحة فتقع المزاحمة بينهما لا محالة.

ولكن عندئذ يدخل هذا القسم في القسم الخامس ، ولا يكون قسما آخر في قباله ، بل هو من أحد مصاديقه ، وسيأتي بيان كل واحد من هذه الأقسام بصورة مفصلة إن شاء الله تعالى ، والغرض من التعرض هنا الإشارة إلى عدم صحة هذا التقسيم ، وان منشأ التزاحم في جميع تلك الأقسام نقطة واحدة وهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين متعلقي الحكمين في ظرف الامتثال والإطاعة ، كما اعترف ـ قده ـ بذلك. ومن الواضح انه لا يفرق في هذا بين ان يكون التزاحم بين واجبين متضادين من باب الاتفاق أو بين واجب وحرام سواء أكانا متلازمين أو كان أحدهما متوقفا على الآخر ، فان الجميع بالإضافة إلى تلك النقطة على نسبة واحدة.

واما ما ذكره ـ قده ـ من ان التزاحم قد لا ينشأ من جهة عدم قدرة المكلف بل من جهة أخرى كالمثال المتقدم فهو غريب منه ـ قده ـ وذلك لأن المثال المذكور وما شاكله داخل في باب التعارض ، وليس من باب التزاحم في شيء.

والوجه فيه هو ان ما دل على ان المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين يوجب العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين أعني بهما ما دل على وجوب خمس شياة على من ملك النصاب الخامس ومضى عليه الحول ، وما دل على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول ، وان كان لا تنافي بينهما بالذات ومع قطع النّظر عما دل على ان المال الواحد لا يزكى مرتين في عام واحد ، فيكون نظير ما دل على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ، وما دل على وجوب الظهر فيه فانه لا تنافي بين دليليهما بالذات أصلا ، لتمكن المكلف من الجمع بينهما ولكن العلم الخارجي بعدم وجوب ستة صلوات في يوم واحد أوجب التنافي بينهما ، اذن فلا بد من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، ولا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة

٢١٥

أبداً ، ولذا لو لم يكن ذلك الدليل الخارجي لقلنا بوجوب كليهما معا من دون اية منافاة ومزاحمة في البين. ولكن العجب من شيخنا الأستاذ ـ قده ـ كيف غفل عن ذلك وادخل المقام في باب المزاحمة.

ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن هي ان التزاحم بين تكليفين في مقام الامتثال لا يعقل إلا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في ذلك المقام وعليه فالتزاحم منحصر في قسم واحد ولا ثاني له.

إلى هنا قد تم بصورة واضحة بيان كل من التزاحم في الملاكات بعضها ببعض ، والتزاحم في الأحكام. وعلى ضوء ذلك البيان قد ظهر انه لا اشتراك بينهما أصلا لنحتاج إلى بيان نقطة امتياز أحدهما عن الآخر.

واما الجهة الثانية (وهي بيان حقيقة التعارض وأساسه الموضوعي) فقد ذكرنا ان التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.

والأول ـ كما إذا دل دليل على وجوب شيء ودل دليل آخر على عدم وجوبه أو على حرمته ، أو دل دليل على طهارة شيء ودل دليل آخر على نجاسته. وهكذا وأمثلة ذلك في الروايات والنصوص الواردة في أبواب الفقه بشتى أنواعها كثيرة جداً ، بل هي خارجة عن حدود الإحصاء عادة.

والثاني ـ كما إذا دل دليل على وجوب شيء ودل دليل آخر على وجوب شيء آخر أو على حرمته من دون تناف ومضادة بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع لإمكان ثبوت كليهما معاً في ذلك المقام. ولكن علمنا من الخارج بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع من جهة قيام الإجماع أو الضرورة أو نحوها على ذلك ، وهذا العلم الخارجي أوجب التنافي والتعارض بينهما في مقام الإثبات ، وعدم إمكان الجمع بين ثبوت مدلوليهما في مقام الثبوت والواقع ، ومثال هذا ما لو دل دليل على

٢١٦

وجوب الجمعة في يوم الجمعة تعييناً ودل دليل آخر على وجوب الظهر فيها كذلك ، فانه لا تنافي ولا تضاد بين مدلولي هذين الدليلين أصلا بالذات والحقيقة ، لمكان وجوب كلتا الصلاتين معاً في يوم الجمعة ، ولا يلزم منه أي محذور من التضاد أو التناقض ، ولكن بما انا علمنا بعدم وجوب ستة صلوات في يوم واحد يقع التعارض بين الدليلين في مقام الإثبات ، فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.

ومن هذا القبيل التنافي بين ما دل على ان الواجب على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماماً ، وما دل على ان الواجب عليه الصلاة قصراً ، حيث لا تنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة ، ولا مانع من الجمع بينهما في نفسه ، والتنافي بينهما إنما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما في الواقع وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ستة صلوات في يوم واحد ، ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.

وقد تحصل من ذلك ان النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين بشتى اشكاله أي سواء أكان بالذات والحقيقة أو كان بالعرض والمجاز وسواء أكان على وجه التباين أو العموم من وجه هي ان ثبوت مدلول كل منهما في مقام الجعل يقتضى رفع اليد عن مدلول الآخر وموجب لانتفائه في ذلك المقام مع بقاء موضوعه بحاله ، لا بانتفائه ، ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض إلى التناقض حقيقة وواقعاً بمعنى ان ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر اما بالمطابقة ، واما بالالتزام.

وعلى الجملة فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرة من ان كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو القضية الحقيقية. هذا من جانب. ومن جانب آخر انك قد عرفت في غير موضع ان نسبة الحكم إلى الموضوع في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلة التامة في

٢١٧

عالم التكوين ، فكما يستحيل انفكاك المعلول عن علته التامة ، فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي انه إذا كان هناك دليل آخر يدل على نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه ، فلا محالة يقع التعارض والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الإثبات والدلالة ، فان دليله يقتضى ثبوته لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج ، وذاك يقتضى نفيه عن ذلك الموضوع على هذا التقدير. ومن الواضح جداً ان الجمع بينهما غير ممكن لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم في شيء واحد ، والنفي والإثبات في موضوع فارد.

وصفوة القول : ان التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والواقع بالذات أو بالعرض يوجب التنافي والتعارض بين دليليهما في مقام الإثبات والدلالة ولأجل ذلك كان كل منهما في هذا المقام يكذب الآخر فلا يمكن تصديق كليهما معاً والأخذ بهما ، فلا محالة يوجب الأخذ بأحدهما رفع اليد عن الآخر وبالعكس ـ مثلا ـ الأخذ بالدليل الدال على وجوب القصر ـ مثلا ـ في المسألة المزبورة ، أو على وجوب الجمعة في يوم الجمعة لا محالة موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على وجوب التمام ، أو على وجوب الظهر ، والأخذ بالدليل الدال على جواز الجمع بين فاطميتين كما هو المشهور يوجب لا محالة رفع اليد عن الدليل الدال على عدم جواز الجمع بينهما. وهكذا.

ومن ذلك يظهر ان التعارض بين الدليلين لا يتوقف على تحقق موضوعهما في الخارج بل ثبوت كل منهما بنحو القضية الحقيقية يستلزم عدم ثبوت الآخر كذلك وكذبه في الواقع ومقام الجعل سواء أتحقق موضوعهما في الخارج أم لم يتحقق ، فان ملاك التعارض وأساسه الموضوعي كما عرفت هو عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً وثبوته في مرحلة الجعل والتشريع اما ذاتاً أو من ناحية العلم الخارجي ، بل قد يحتمل عدم ثبوت كليهما معاً كما لا يخفى ، وكيف كان فعلى هذا الأساس ثبوت كل منهما على نحو القضية الحقيقية يستلزم لا محالة عدم ثبوت الآخر كذلك.

٢١٨

وقد تحصل مما ذكرناه ان منشأ التعارض أحد أمرين ولا ثالث لها :

الأول ـ المناقضة أو المضادة بين نفس مدلولي الدليلين ، وهذا هو الكثير في الأدلة والروايات الواردة في أبواب الفقه.

الثاني ـ العلم الخارجي بوحدة الحكم في الواقع ومقام الجعل وعدم مطابقة أحدهما للواقع.

واما الجهة الثالثة (وهي نقطة امتياز كبرى باب التزاحم عن كبرى باب التعارض) فقد اتضح حالها من بيان حقيقة التزاحم والتعارض. وملخصه : ان النقطة الأساسية في كل من البابين تخالف ما هو النقطة الأساسية في الآخر.

اما في باب التزاحم فهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين المتزاحمين في مقام الامتثال بلا اية منافاة ومضادة بينهما في مقام الجعل أصلا ، فالتنافي بينهما إنما هو في مرحلة الفعلية والامتثال ، فان المكلف ان صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن امتثال ذاك ، وان عكس فبالعكس.

ويتفرع على تلك النقطة امران :

الأول ـ اختصاص التزاحم بينهما بالإضافة إلى من كان عاجزاً عن امتثالهما معاً ، واما من كان قادراً على امتثالهما فلا مزاحمة بينهما بالإضافة إليه أبداً ، فالمزاحمة في مادة العاجز دون مادة القادر. وهذا واضح.

الثاني ـ ان انتفاء الحكم في باب المزاحمة انما هو بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا انتفاؤه مع بقاء موضوعه بحاله.

واما في باب التعارض فهي التنافي والتعاند بين الحكمين في مقام الجعل والثبوت ، وعدم إمكان جعل كليهما معاً ، اما بالذات والحقيقة ، واما من ناحية العلم الإجمالي بعدم جعل أحدهما في الواقع.

ونتيجة تلك النقطة امران :

الأول ـ عدم اختصاص التعارض بمكلف دون آخر وبزمان دون زمان ،

٢١٩

بداهة ان استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين لا تختص بشخص دون آخر ، وبزمان دون زمان آخر ، وبحالة دون حالة أخرى ، والمفروض ان جعل كلا الحكمين معاً مستلزم للتناقض أو التضاد وهو محال.

الثاني ـ ان انتفاء الحكم في باب التعارض ليس بانتفاء موضوعه ، وإنما هو بانتفاء نفسه مع ثبوت موضوعه بحاله.

فتحصل مما ذكرناه ان المناط في كل من البابين أجنبي عما هو المناط في الباب الآخر فلا جامع بين البابين أبداً.

وعلى هذا الأساس فالقول بان الأصل عند الشك هل هو التعارض أو التزاحم لا مجال له أصلا. ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ ـ قده ـ ان هذا القول يشبه القول بان الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي.

ثم انه لا يخفى ان ما ذكرناه من افتراق التزاحم والتعارض لا يبتنى على وجهة نظر مذهب دون آخر ، بل تعم جميع المذاهب والآراء سواء فيها القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في أنفسها ، والقول بعدم التبعية مطلقاً ، كما هو مذهب الأشعري. والوجه في ذلك ما عرفت من ان مسألة التزاحم ترتكز على ركيزة واحدة وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين التكليفين المتوجهين إليه في ظرف الامتثال. ومن الواضح انه لا يفرق فيه بين ان يكون لهما ملاك في مورد المزاحمة أم لا؟ ضرورة انه لا دخل لمسألة تبعية الأحكام للملاكات بمسألتنا هذه ولا صلة لإحداهما بالأخرى أبداً. ومسألة التعارض أيضاً ترتكز على ركيزة وهي تنافي الحكمين في مقام الجعل والواقع. ومن الواضح انها أجنبية عن كون أحدهما ذا ملاك في مورد المعارضة أو لم يكن ، بداهة انه لا دخل لوجود الملاك في أحدهما لوقوع التعارض بينهما. وهذا واضح جداً.

فما أفاده المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ابتناء مسألة التزاحم على ان يكون المقتضى لكلا الحكمين موجوداً في مورد المزاحمة ، ومسألة التعارض على

٢٢٠