محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٣

صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ولذا كان سيدنا الأستاذ (قده) لا يلتزم به على ما هو ببالي وكنا نورد به على الترتب وكان بصدد تصحيحه».

أقول : توضيح ما أفاده (قده) هو ان غرضه من ذلك بيان نفي القول بالترتب بطريق الإن بتقريب انا لو سلمنا انه لا يلزم من فعلية خطاب المهم وخطاب الأهم في زمان واحد على نحو الترتب طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج ، بل قلنا ان ترتب أحد الخطابين على عصيان الخطاب الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه يناقض طلب الجمع ويعانده ، إلا انه لا يمكن الالتزام بما هو لازم للقول بالترتب وهو تعدد العقاب عند ترك المكلف امتثال كلا الواجبين معاً ـ أعني الواجب الأهم والمهم ـ ضرورة ان العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف قبيح بحكم العقل ، وبما ان المفروض في المقام استحالة الجمع بين متعلقيهما خارجاً من جهة مضادتهما فكيف يمكن العقاب على تركهما أليس هذا من العقاب على ترك ما هو خارج عن قدرة المكلف واختياره؟!

وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بعدم تعدد العقاب وان تارك الأهم والمهم معاً يستحق عقاباً واحداً ـ وهو العقاب على ترك الأهم ـ دون ترك المهم وهو يلازم إنكار الترتب وعدم تعلق امر مولوي إلزاميّ بالمهم ، وان كان في الخارج أمر إنشائي فهو إرشاد إلى كونه واجداً للملاك والمحبوبية في هذه الحال ، ضرورة انه لا معنى للالتزام بوجود الأمر المولوي الإلزامي وعدم ترتب استحقاق العقاب على مخالفته ، لاستحالة تفكيك الأثر عن المؤثر.

أو فقل : ان القائل بالترتب لا يخلو من أحد أمرين : اما ان يلتزم بتعدد العقاب. واما ان لا يلتزم به. فالأوّل يستلزم العقاب على امر غير مقدور وهو محال والثاني يستلزم إنكار الترتب. فبالنتيجة انه لا يمكن القول بالترتب أصلا ، بل لا مناص من الالتزام باستحالته من جهة استحالة ما يترتب عليه.

١٤١

وغير خفي ما فيه من الخلط بين ان يكون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين ـ أعني بهما الواجب الأهم والمهم ـ وان يكون العقاب على الجمع في الترك بمعنى انه يعاقب على ترك كل منهما في حال ترك الآخر ، فان المستحيل انما هو العقاب على الأول ، حيث ان الجمع بينهما من جهة تضادهما في الخارج غير ممكن وخارج عن قدرة المكلف واختياره ، فالعقاب على تركه لا محالة يكون عقاباً على امر غير مقدور وهو محال ، إلا ان القائل بالترتب لا يقول باستحقاق العقاب على ذلك ليقال انه محال ، فان القائل به إنما يقول باستحقاق العقاب على الفرض الثاني ـ وهو الجمع بين تركي الأهم والمهم خارجاً ـ وهو مقدور للمكلف ، فلا يكون العقاب عليه عقاباً على غير مقدور.

والوجه في ذلك هو ان الأمر في المقام لم يتعلق بالجمع بينهما ، ليقال باستحالة العقاب على تركه من جهة استحالة طلب الجمع بينهما ، بل الأمر تعلق بذات كل واحد منهما مع قطع النّظر عن الآخر ، ولا يرتبط أحدهما بالآخر في مقام الجعل والتعلق ، غاية الأمر قد وقعت المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والفعلية ، وبما ان المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال قيدنا فعلية الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه.

ونتيجة ذلك هي ان الأهم مطلوب على وجه الإطلاق والمهم مطلوب في ظرف ترك الأهم وعصيانه. وقد سبق ان ذلك يناقض طلب الجمع ويعانده ، لا انه يستلزمه.

وعلى هذا فكل منهما مقدور للمكلف على نحو الترتب ، فانه عند إعمال قدرته في فعل الأهم وامتثاله ، لا امر بالمهم ، والمفروض انه في هذا الحال قادر على فعل الأهم تكويناً وتشريعاً ، وعندئذ لا يكون العقاب على تركه وعصيان امره عقاباً على ما لا يقدر.

واما مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم ، وحينئذ لو تركه

١٤٢

وعصى أمره فلا مانع من العقاب عليه ، إذ المفروض انه مقدور في هذا الحال ، وهذا معنى الجمع بين تركي الواجبين والعصيانين (ترك المهم عند ترك الأهم وعصيانه عند عصيانه) وحيث انه باختيار المكلف فيستحق عقابين. عقاباً على ترك الواجب الأهم وعقاباً على ترك الواجب المهم.

ومن ذلك يستبين ان الالتزام بجواز الترتب يستلزم الالتزام بجواز تعدد العقاب ، ولا يلزم من الالتزام به (الترتب) كون العقاب عند مخالفة الأمرين من العقاب على امر مستحيل ، ضرورة ان معنى إمكان الترتب هو جواز تعلق الأمر بالأهم على وجه الإطلاق ، وبالمهم مقيداً بعصيان الأهم ، لفرض انهما على هذا النحو مقدور للمكلف ، فإذا كانا مقدورين فلا محالة يستحق عقابين على تركهما في الخارج وعصيان الأمرين المتعلقين بهما ، ولا يكون ذلك من العقاب على المحال ، فان المحال وما لا يقدر عليه المكلف انما هو الجمع بين الضدين في الخارج ، لا الجمع بين تركيهما على نحو الترتب ، فانه بمكان من الوضوح ، بداهة ان الإنسان قادر على ترك القيام ـ مثلا ـ عند تركه الجلوس أو بالعكس ، وقادر على ترك إيجاد السواد ـ مثلا ـ عند تركه إيجاد البياض وهكذا ، وما لا يتمكن منه ولا يقدر عليه انما هو الجمع بين فعليهما خارجاً ، فلا يقدر على إيجاد القيام عند وجود الجلوس ، أو إيجاد السواد عند وجود البياض ، وهكذا. وسنبين إن شاء الله تعالى عند الفرق بين باب التزاحم والتعارض ان التزاحم يختص بالضدين الذين لهما ثالث. واما الضدين الذين لا ثالث لهما فلا يمكن وقوع التزاحم بينهما ، بل هما يدخلان في كبرى باب التعارض.

وعليه فمن الواضح جداً ان ترك كل من الضدين لهما ثالث عند ترك الآخر مقدور ، فلا مانع من العقاب عليه.

أو فقل : ان استحقاق العقاب على عصيان الأهم وتركه مورد تسالم من الكل ، وانما الكلام في استحقاق العقاب على ترك المهم مضافاً إلى استحقاق العقاب

١٤٣

على ترك الأهم. ومن الضروري ان المهم في ظرف عصيان الأهم مقدور عقلا وشرعاً ، وإنما لا يكون مقدوراً في صورة واحدة وهي صورة الإتيان بالأهم ـ لا مطلقاً ـ وعليه فلا يكون العقاب على تركه محالا.

والغفلة عن هذا أوجبت تخيل انه على تقدير القول بإمكان الترتب لا يمكن الالتزام بما هو لازمه من استحقاق عقوبتين في صورة مخالفة الأمرين ، لأنه عقاب على ما لا يقدر عليه المكلف (وهو الجمع بين الضدين) غافلا عن ان القول بإمكان الترتب يرتكز على أساس يناقض طلب الجمع ويعانده. وعليه فكيف يمكن ان يقال ان القول بإمكانه يستلزم كون العقاب على تركه (الجمع) ليقال انه محال ، فلا يمكن الالتزام به ، بل القول به يستلزم كون العقاب على عصيان الأهم على وجه الإطلاق ، وعلى عصيان المهم في ظرف عصيان الأهم ـ لا مطلقاً ـ والمفروض ان كلا العصيانين على هذا الشكل مقدور للمكلف ، فيستحق عقابين عليهما ، ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.

نعم لو كان القول بالترتب مستلزماً لطلب الجمع لكان العقاب على مخالفته قبيحاً ، إلا انه على هذا لا يمكن الالتزام بأصل الترتب لتصل النوبة إلى التكلم عن إمكان الالتزام بما هو لازمه وعدم إمكانه به.

فالنتيجة قد أصبحت ان القول بإمكان الترتب يستلزم ضرورة الالتزام بتعدد العقاب في صورة مخالفة الأمرين ، ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.

فما أفاده (قده) من ان القائل بالترتب لا يمكن ان يلتزم بما هو لازم له ـ وهو تعدد العقاب ـ لا يرجع إلى معنى معقول أصلا ومنشأه غفلته (قده) عن تصور حقيقة الترتب ، وما هو أساس إمكانه وجوازه ، والا لم يقع في هذا الاشتباه فان تعدد العقاب فيما نحن فيه نظير تعدده في الواجبات الكفائية ، فان صدور واجب واحد من جميع المكلفين وان كان مستحيلا ، إلا ان تركه عند ترك الباقين مقدور له فلا مانع من العقاب عليه.

١٤٤

بل يمكن ان يقال ان تعدد العقاب في صورة مخالفة المكلف وتركه الواجب الأهم والمهم معاً من المرتكزات في الأذهان ـ مثلا ـ إذا فرض وقوع المزاحمة بين صلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات بحيث لو اشتغل المكلف بصلاة الآيات لفاتته فريضة الوقت ، فعندئذ لو عصى المكلف الأمر بالصلاة ولم يأت بها فلا محالة يدور امره بين ان يأتي بصلاة الآيات وان يتركها. ومن الواضح جداً انه إذا تركها في هذا الحال فتشهد المرتكزات العرفية على انه يستحق العقوبة عليه أيضاً ، فان المانع بنظرهم عن الإتيان بها هو الإتيان بفريضة الوقت. واما إذا ترك الفريضة فلا يجوز له ان يشتغل بفعل آخر ويترك الآيات. وبذلك نستكشف إمكان الترتب وإلا لم يكن هذا المعنى مرتكزاً في أذهانهم.

الثالث ـ ان القول بالترتب بما انه يبتنى على فعلية كلا الأمرين في زمان واحد ـ أعني بهما الأمر بالأهم والأمر بالمهم ـ فلا محالة يستلزم طلب الجمع والمحال ، ضرورة انه لا معنى لكون الأمرين فعليين في زمان واحد إلا اقتضائهما إيجاد متعلقيهما في ذلك الزمان ، وهذا معنى طلب الجمع والتكليف بالمحال. ومن الظاهر ان مثل هذا التكليف لا يمكن جعله.

والوجه في ذلك هو ان الغرض الداعي إلى جعل التكليف واعتباره على ذمة المكلف سواء أكان التكليف وجوبياً أو تحريمياً جعل الداعي له ، ليحرك عضلاته نحو الفعل وينبعث منه.

ومن الواضح البين ان جعل الداعي له وإيجاده في نفسه لتحريك عضلاته إنما يمكن فيما إذا كان الفعل في نفسه ممكناً ، ولا يلزم من فرض وقوعه في الخارج أولا وقوعه فيه محال ، فإذا كان الفعل ممكناً بالإمكان الوقوعي أمكن حصول الانبعاث له أو الانزجار من بعث المولى المتعلق به. أو زجره عنه. واما إذا كان الفعل ممتنعاً وخارجا عن قدرة المكلف واختياره فلا يمكن حصول الانبعاث أو الانزجار له من بعثه أو زجره ، فإذا لم يمكن حصوله استحال البعث أو الزجر

١٤٥

فان الغرض منه كما عرفت إمكان داعويته ، فإذا استحالت استحال جعله ، لكون جعله عندئذ لغواً صرفاً فلا يصدر من الحكيم ، لاستحالة تكليف العاجز.

وتترتب على هذا استحالة فعلية كلا الأمرين المزبورين في زمان واحد كما هو مبنى الترتب. وذلك لأن معنى فعليتهما في زمان واحد هو ان كليهما يدعو فعلا إلى إيجاد متعلقيهما في الخارج في ذلك الزمان ، وإلا فلا معنى لكونهما فعليين ، والحال انك قد عرفت استحالة جعل الداعي بجعل التكليف نحو المحال وما لا يقدر عليه المكلف ، وبما ان الجمع بين متعلقيهما في الخارج في زمان واحد محال فلا يمكن ان يكون كلاهما داعياً في ذلك الزمان ، لاستحالة حصول الداعي للمكلف وانبعاثه عنهما في زمان واحد ، اذن يستحيل جعل كليهما في هذا الحال ، لما مر من ان استحالة داعوية التكليف تستلزم استحالة جعله.

فالنتيجة استحالة القول بالترتب وان المجعول في الواقع هو الأمر بالأهم دون الأمر بالمهم.

والجواب عنه يظهر مما تقدم وملخصه : هو انه لا يلزم من اجتماع الأمرين في زمان واحد طلب الجمع ، ليستحيل داعوية كل منهما لإيجاد متعلقه في هذا الزمان.

والوجه فيه هو ان الأمر بالمهم بما انه كان مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه خارجاً فلا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً ، لما عرفت من ان الحكم يستحيل ان يقتضى وجود موضوعه أو عدمه ، والأمر بالأهم بما انه كان محفوظاً في هذا الحال فهو يقتضى هدم عصيانه ورفعه باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج.

ومن الواضح ان الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع بل هو في طرف النقيض معه.

ومن هنا قلنا انه لو تمكن المكلف من الجمع بينهما خارجاً فلا يقعان على صفة

١٤٦

المطلوبية ، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الواجب الأهم دون المهم ، وبما ان المفروض قدرة المكلف على الإتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم فلا مانع من تعلق التكليف به على هذا التقدير وحصول الانبعاث منه ، ضرورة ان المانع عن ذلك إنما هو عدم قدرة المكلف عليه ، وحيث ان المطلوب لم يكن عند اجتماع الطلبين هو الجمع بين متعلقيهما وحصول الانبعاث منهما معاً فلا مانع منه أبداً.

وقد ذكرنا ان طلب الجمع انما يلزم على أحد تقادير لا رابع لها.

الأول ان يكون كلا الخطابين على وجه الإطلاق.

الثاني ان خطاب المهم على تقدير اشتراطه بعصيان خطاب الأهم يكون ناظراً إلى حال عصيانه وضعاً ورفعاً.

الثالث ان الخطاب بالمهم مشروط بإتيان الأهم بان يكونا مطلوبين على نحو الاجتماع في آن واحد.

ومن المعلوم ان ما نحن فيه ليس من شيء منها.

اما انه ليس من قبيل الأول فواضح ، لفرض ان الأمر بالمهم مقيد بعصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه خارجاً.

واما انه ليس من قبيل الثاني ، فلما عرفت غير مرة من ان الحكم يستحيل ان يقتضى وجود موضوعه في الخارج ويكون ناظراً إلى حاله وضعاً أو رفعاً.

واما انه ليس من قبيل الثالث فظاهر ، بل هو في طرف النقيض معه إذ المفروض في المقام ان الأمر بالمهم مقيد بعدم الإتيان بالأهم على عكس ذلك تماماً.

فالنتيجة على ضوء ذلك ان مقتضى (بالفتح) مثل هذين الخطابين يستحيل ان يكون هو الجمع بين متعلقيهما ، بداهة ان مقتضى (بالفتح) أحدهما رافع لموضوع الآخر وهادم له ، اذن لا يلزم من اجتماع الخطابين في زمان واحد طلب الجمع ، ليقال باستحالة ذلك وعدم إمكان الانبعاث عنهما.

نعم هو جمع بين الطلبين ، لا طلب للجمع بين الضدين. وبذلك ظهر ان انبعاث

١٤٧

المكلف عن كلا الأمرين في عرض واحد وان كان لا يمكن ، إلا ان انبعاثه عنهما على نحو الترتب لا مانع منه أصلا ، فانه عند انبعاثه عن الأمر بالأهم لا بعث بالإضافة إلى المهم ليزاحمه في ذلك ويقتضى انبعاث المكلف نحوه ، وعلى تقدير عدم انبعاثه عنه باختياره وإرادته لا مانع من انبعاثه عن الأمر بالمهم ، بداهة ان المهم مقدور للمكلف في هذا الحال عقلا وشرعاً ، فإذا كان مقدوراً فلا مانع من تعلق الأمر به الموجب لانبعاث المكلف عنه نحو إيجاده. فهذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنى محصل.

وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ (قده) بما ملخصه : ان الأمر بالأهم والأمر بالمهم وان كانا فعليين حال العصيان معاً إلا أن اختلافهما في الرتبة أوجب عدم لزوم طلب الجمع من فعليتهما ، لما عرفت من ان الأمر بالأهم في رتبة يقتضى هدم موضوع الأمر بالمهم وعدمه ، واما هو فلا يقتضى وضع موضوعه ، وانما يقتضى إيجاد متعلقه في الخارج على تقدير وجود موضوعه ، وحيث انه لم يكن بين الأمرين اتحاد في الرتبة يستحيل ان تقتضي فعليتهما طلب الجمع بين متعلقيهما.

ومن هنا قال : ان ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) من ان الأمر بالمهم مشروط بالعزم على عصيان الأمر بالأهم غير صحيح ، فانه على هذا لا يكون الأمر بالأهم رافعاً لموضوع الأمر بالمهم وهادماً له تشريعاً ، فان الأمر بالأهم إنما يقتضى عدم عصيانه ، لا عدم العزم على عصيانه.

فالنتيجة ان ما أفاده (قده) ـ هنا ـ امران :

الأول ـ ان ملاك عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في زمان واحد إنما هو اختلافهما في الرتبة.

الثاني ـ ان ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) غير صحيح.

ولنأخذ بالمناقشة في كلا الأمرين :

اما الأمر الأول فيرده : أولا ـ ما ذكرناه مراراً من ان الأحكام الشرعية

١٤٨

ثابتة للموجودات الزمانية ، ولا أثر لاختلافها في الرتبة وعلى هذا فلا أثر لتقدم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم رتبة بعد ما كانا متقارنين زماناً ، بل القول بالاستحالة أو الإمكان يبتنى على ان قضية اجتماع الأمرين في زمان هل هي طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج أم لا ، ولا يفرق في ذلك بين كونهما مختلفين في الرتبة أم لا ، ضرورة ان اختلافهما في الرتبة لا يوجب اختلافهما في الزمان فان من الواضح أن المحال إنما هو طلب الجمع بين الضدين في الخارج ، لا في الرتبة ، لما عرفت من ان التضاد والتماثل والتناقض وما شاكلها جميعاً من صفات الموجودات الخارجية فلا تتصف الأشياء بتلك الصفات مع قطع النّظر عن وجوداتها في الخارج.

ومن هنا قلنا انه لا مضادة ولا مناقضة في المرتبة أصلا. ومن هنا جاز اجتماع الضدين أو النقيضين في رتبة واحدة ، كما جاز ارتفاعهما عنها. اما الأول فلما حققناه من ان النقيضين ، وكذا الضدين في مرتبة واحدة ، وهذا معنى اجتماعهما في المرتبة. واما الثاني فلان النقيضين قد ارتفعا من الماهيات من حيث هي ، فانها بما هي لا موجودة ولا معدومة.

فالنتيجة هي انه لا يمكن القول بان ـ ملاك عدم لزوم طلب الجمع من فعلية الأمر بالأهم والأمر بالمهم معاً ـ هو اختلافهما في الرتبة.

فالصحيح في الجواب هو ما تقدم من ان الملاك الرئيسي لعدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين هو تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم وعصيانه وعدم تعرضه لحاله ـ أصلا ـ كما تقدم ذلك بشكل واضح.

وثانياً ـ ما سبق من ان الأمر بالأهم لا يتقدم على الأمر بالمهم رتبة ، فان تقدم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك كامن في صميم ذات المتقدم ، فلا يتعدى منه إلى ما هو في مرتبته فضلا عن غيره. ومن الواضح انه لا ملاك لتقدم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم.

ودعوى ان الأمر بالأهم مقدم على عصيانه وعدم امتثاله الّذي أخذ في

١٤٩

موضوع الأمر بالمهم ، والمفروض ان الموضوع مقدم على الحكم رتبة ، فلازم ذلك تقدم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم برتبتين ـ يدفعها ما أشرنا إليه من ان التقدم أو التأخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك راجع إلى ذات الشيء وطبعه ، وتقدم الأمر بالأهم على عصيانه بملاك لا يقتضى تقدمه على ما هو متأخر عن العصيان رتبة كما لا يقتضى تقدمه على ما هو في مرتبته بعد ما كان الجميع متحدة في الزمان ، وموجودات في زمان واحد. ومن هنا قلنا أن العلة مقدمة على المعلول دون عدمه ، مع انه في مرتبته.

واما الأمر الثاني فيظهر فساده مما ذكرناه من ان ملاك استحالة الترتب وإمكانه هو لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في زمان واحد ، وعدم لزومه ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم أو بالعزم عليه ، فانه كما يقتضى هدم تقدير عصيانه يقتضى هدم تقدير العزم عليه أيضاً ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. وعلى الجملة فملاك جواز الترتب على تقدير اشتراط الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم موجود بعينه في صورة اشتراطه بالعزم على عصيانه.

نعم الّذي يرد عليه هو ان العزم ليس بشرط. والوجه فيه هو ان هذا الاشتراط قد ثبت بحكم العقل. ومن الواضح ان العقل لا يحكم إلا بثبوت الأمر بالمهم في ظرف عصيان الأمر بالأهم خارجاً وعدم الإتيان بمتعلقه.

وان شئت فقل : ان مقتضى المزاحمة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم هو سقوط إطلاق الأمر بالمهم حال العجز وعدم القدرة على امتثاله ، وبقاؤه في حال القدرة على امتثاله ، لعدم موجب لسقوطه حينئذ ، ومقتضى ذلك هو اشتراط الأمر بالمهم بنفس العصيان الخارجي ، لا بالعزم على عصيانه.

الرابع ـ ان العصيان الّذي هو شرط لفعلية الأمر بالمهم ان كان شرطاً بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن فهو هادم لأساس الترتب ، إذا الترتب عند القائل به مبتن على وجود كلا الأمرين ـ أعني بهما الأمر بالأهم والأمر بالمهم ـ في زمان واحد

١٥٠

ولكن في الفرض المزبور يسقط الأمر بالأهم ، فان الأمر كما يسقط بالامتثال والإتيان بمتعلقه خارجاً ، كذلك يسقط بالعصيان وعدم الإتيان به في الخارج.

وعلى هذا فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين في زمان واحد ، فان في زمان فعلية الأمر بالمهم قد سقط الأمر بالأهم من جهة العصيان ، وفي زمان ثبوت الأمر بالأهم لا امر بالمهم. لعدم تحقق شرطه. وقد تقدم ان تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الكلام ولا إشكال في جوازه ، فان محل الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً في زمن واحد ، وهذا غير معقول ، مع فرض كون معصية الأمر بالأهم علة لسقوطه ، إذ عندئذ لا ثبوت له حال العصيان ليجتمع مع الأمر بالمهم في ذلك الحال.

واما إذا كان العصيان شرطاً على نحو الشرط المتأخر ، أو كان وجوده الانتزاعي ـ وهو كون المكلف متصفاً بأنه يعصى فيما بعد ـ شرطاً في فعلية الأمر بالمهم فلا محالة يلزم منه طلب الجمع بين الضدين ، وذلك لأن الأمر بالمهم يصير فعلياً في زمان عدم سقوط الأمر بالأهم ، إذ المفروض ان العصيان شرط متأخر ، أو ان الشرط في الحقيقة هو عنوان تعقبه بالعصيان المتأخر ، وعلى كل حال فالامر المتعلق به فعلى ، كما ان الأمر بالأهم فعلى ، وهو لم يسقط بعد ، لأن مسقطه ـ وهو العصيان على الفرض ـ لم يتحقق ، فاذن يتوجه إلى المكلف تكليفان فعليان في زمان واحد ، ولا محالة يقتضى كل منهما لإيجاد متعلقه في الخارج في ذلك الزمان ، ضرورة انه لا معنى لفعلية تكليف إلا اقتضائه إيجاد متعلقه خارجاً ودعوته إليه فعلا ، وفي المقام بما ان كلا من الأمر بالأهم والأمر بالمهم فعلى في زمن واحد فلا محالة يدعو كل منهما إلى إيجاد متعلقه في ذاك الزمن. وهذا معنى لزوم طلب الجمع بين الضدين.

وصفوة هذا الوجه هي ان العصيان ان كان شرطاً بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن فلا يمكن عندئذ فرض اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان

١٥١

واحد ، لأن يتحقق العصيان خارجاً وان صار الأمر بالمهم فعلياً ، إلا انه في هذا الزمان يسقط الأمر بالأهم ، فزمان ثبوت أحدهما هو زمان سقوط الآخر فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد.

وقد تقدم ان هذا خارج عن محل الكلام في المسألة ولا إشكال في جوازه ، فان ما كان محلا للكلام هو ما إذا كان الأمران مجتمعين في زمان واحد. واما ان كان شرطاً بنحو الشرط المتأخر ، أو كان الشرط في الحقيقة هو عنوانه (العصيان) الانتزاعي المنتزع منه باعتبار وجوده في زمان متأخر ، فحينئذ وان كان الأمران مجتمعين في زمان واحد ، إلا ان لازم اجتماعهما فيه هو طلب الجمع بين إيجاد متعلقيهما في الخارج ، بداهة انه لا معنى لتعلق التكليف بشيء إلا اقتضائه إيجاده خارجاً ، وبما انهما متضادان على الفرض فيلزم طلب الجمع بينهما ، وهو محال.

فالنتيجة عدم إمكان القول بالترتب :

والجواب عن هذا الوجه على ضوء ما بيناه واضح.

وتفصيل ذلك ان ـ ما ذكر من ان العصيان إذا كان شرطاً متأخراً ، أو كان الشرط عنوانا انتزاعيا من العصيان المتأخر في ظرفه فهو يستلزم طلب الجمع ، بين الضدين لفرض اجتماع الأمرين في زمان واحد ـ فيرده :

أولا ـ ان العصيان ليس بوجوده المتأخر ، ولا بعنوانه الانتزاعي شرطا بان يكون الأمر بالمهم فعلياً لمن يعصى في زمان متأخر ، لما سنبين إن شاء الله من ان العصيان شرط بوجوده الخارجي. وعليه فما لم يتحقق العصيان في الخارج لم يصر الأمر بالمهم فعلياً.

وثانياً ـ قد تقدم ان اجتماع الأمرين في زمان واحد على نحو الترتب لا يستلزم طلب الجمع ، بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع ، ومعاندة رأساً.

والأصل في ذلك ما سبق من ان طلب الجمع بين الضدين إنما يلزم على أحد التقادير المتقدمة ، وقد مضى الكلام فيها بشكل واضح فلا حاجة إلى الإعادة

١٥٢

وقلنا ان ما نحن فيه ليس من شيء من تلك التقادير.

ومما يشهد على ما ذكرنا انه إذا فرض فعلان في حد ذاتهما ممكني الجمع كقراءة القرآن والدخول في المسجد ـ مثلا ـ فمع ترتب الأمر بأحدهما على عدم الإتيان بالآخر لا يقعان على صفة المطلوبية عند جمع المكلف بينهما خارجاً ، بداهة ان مطلوبية أحدهما إذا كانت مقيدة بعدم الإتيان بالآخر فيستحيل وقوعهما معا في الخارج على صفة المطلوبية. وهذا برهان قطعي على عدم مطلوبية الجمع.

ودعوى ـ ان عدم وقوعهما على صفة المطلوبية معا ـ هنا ـ انما هو من جهة عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ، فلو تمكن من ذلك فلا محالة يقعان على صفة المطلوبية ـ مدفوعة بان وقوعهما على هذه الصفة مع فرض بقاء تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم وعصيان امره في هذا الحال غير معقول ، بل الإتيان بالمهم عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرم. واما ـ مع فرض ارتفاع التقييد في هذا الحال ـ كما هو الصحيح ـ لأن التقييد من جهة المزاحمة بين التكليفين وعدم تمكن المكلف من الجمع بين متعلقيهما في مقام الامتثال ، واما مع فرض عدم المزاحمة وتمكن المكلف من الجمع بينهما في تلك المرحلة فلا تقييد في البين ، ولا حكم للعقل به ، لأنه انما يحكم به في صورة المزاحمة لا مطلقا ـ فهو خارج عن محل الكلام ، فان محل الكلام هو ما إذا لم يتمكن المكلف من الجمع بينهما ، فانه يوجب تقييد الواجب للمهم بعدم الإتيان بالأهم بحكم العقل ، وفي هذا الفرض لا يمكن وقوعهما على صفة المطلوبية كما سبق.

واما ـ ما ذكر من ان العصيان إذا كان شرطا بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين (الأمر بالأهم والأمر بالمهم) في زمان واحد ـ فهو يبتنى على نقطة فاسدة وهي توهم ان العصيان مهما تحقق ووجد في الخارج فهو مسقط للأمر ، ولكن الشأن ليس كذلك.

والوجه فيه هو ان إذا حللنا مسألة سقوط الأمر تحليلا علميا نرى ان الموجب

١٥٣

لسقوطه امران لا ثالث لهما :

الأول ـ امتثاله والإتيان بمتعلقه في الخارج هذا باعتبار ان ذلك موجب لحصول الغرض منه. وقد ذكرنا غير مرة ان الأمر معلول للغرض الداعي له حدوثا وبقاء ، فمع تحقق الغرض في الخارج لا يعقل بقاء الأمر ، وإلا لزم بقاء الأمر بلا غرض وهو ـ كبقاء المعلول بلا علة ـ محال. فالنتيجة ان الامتثال والإتيان بمتعلقه خارجا انما يوجب سقوط الأمر باعتبار حصول الغرض بذلك وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه (المأمور به) في الخارج ، لا ان الامتثال في نفسه يقتضى سقوط الأمر وعدمه ، بداهة ان الامتثال معلول للأمر فلا يعقل ان يكون معدما له ، لاستحالة ان يكون وجود المعلول خارجا علة لعدم وجود علته ووجود المقتضى (بالفتح) علة لعدم مقتضية.

وعلى الجملة فامتثال الأمر والإتيان بمتعلقه خارجا بما انه يوجب حصول الغرض يكون مسقطاً له لا محالة ، فان أمد اقتضائه لإيجاد متعلقه خارجاً ينتهى بوجوده وتحققه في الخارج ، وبعده لا اقتضاء له أبداً.

الثاني ـ امتناع الامتثال وعدم تمكن المكلف منه ، فانه يوجب سقوط الأمر لا محالة ، لقبح توجيه التكليف نحو العاجز. ولا يفرق في ذلك بين ان يكون عدم تمكن المكلف من ناحية ضيق الوقت أو من ناحية مانع آخر.

فالنتيجة قد أصبحت ان الأمر بما انه تابع للغرض الداعي له حدوثاً وبقاء فمع تحقق هذا الغرض ووجوده لا يعقل بقاء الأمر ، وإلا لزم بقاء المعلول بلا علة كما انه مع امتناع حصول هذا الغرض في الخارج من جهة عدم تمكن المكلف من تحصيله ، لعجزه عن الامتثال والإتيان بالمأمور به لا يعقل بقاء الأمر. واما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا يعقل سقوط الأمر ، بداهة انه لا يسقط بلا سبب وموجب.

واما العصيان بما هو عصيان فلا يعقل ان يكون مسقطاً للأمر ، وذلك لما

١٥٤

تقدم من ان ثبوت الأمر في حال العصيان والامتثال امر ضروري لا مناص من الالتزام به ، وإلا فلا معنى للامتثال والعصيان ، ضرورة ان الأمر لو سقط في حال الامتثال أو العصيان فلا امر عندئذ ليمتثله المكلف أو يعصيه.

نعم لو استمر العصيان إلى زمان لا يتمكن المكلف بعده من الامتثال لسقط الأمر لا محالة ، ولكن لا من جهة العصيان بما هو ، بل من جهة عدم قدرة المكلف عليه وعدم تمكنه منه ، كما ان الامتثال إذا استمر إلى آخر جزء من الواجب لسقط الأمر من جهة حصول الغرض به.

وسر ذلك هو ما عرفت من انه لا موجب لسقوط التكليف إلا أحد الأمرين المزبورين أعني بهما عجز المكلف عن امتثاله ، وحصول الغرض منه.

واما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال ، ولكنه عصى ولم يأت به في الآن الأول فمن الواضح ان مجرد تركه في ذلك الآن وعدم الإتيان به فيه لا يوجب سقوطه مع تمكنه منه في الآن الثاني.

وعلى ضوء هذا يترتب ان التكليف بالأهم في محل الكلام لا يسقط بعصيانه في الآن الأول مع تمكن المكلف من امتثاله في الآن الثاني. والوجه في ذلك هو انه لا موجب لسقوط الأمر بالأهم في المقام ما عدا عجز المكلف عن امتثاله والإتيان بمتعلقه ، والمفروض ان المكلف غير عاجز عنه ، ضرورة ان فعل الشيء لا يصير ممتنعاً حال تركه وكذا تركه حال فعله ، إذ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف بالبداهة. وعلى ذلك فالأهم مقدور للمكلف حال تركه ، كما كان مقدوراً حال فعله ، وكذا هو مقدور حال فعل المهم.

والأصل في هذا هو ان ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر أو ترجيح فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته فلا يعقل ان يكون ذلك موجباً لامتناع الطرف الآخر ، وإلا لم يكن الشيء من الأول مقدوراً. وهذا خلف

١٥٥

ونتيجة ذلك هي ان الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الإتيان بالمهم ، غاية الأمر ثبوته في هذا الحال على وجهة نظرنا بالإطلاق ، حيث قد ذكرنا غير مرة ان الإهمال في الواقع غير معقول ، فمتعلق الحكم في الواقع اما هو ملحوظ على وجه الإطلاق بالإضافة إلى جميع الخصوصيات حتى الخصوصيات الثانوية ، واما هو ملحوظ على وجه التقييد بشيء منها ولا ثالث لهما. وعليه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر ، وحيث ان في المقام التقييد بالوجود والعدم محال ، فالإطلاق واجب ، وعلى وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده) من جهة انحفاظ المؤثر في ظرف تأثيره واقتضائه هدم عصيانه.

وعلى هذا فالأمر بالأهم لا يسقط في ظرف عصيانه ، فاذن يجتمع الأمران في زمان واحد ـ وهو زمان عصيان الأهم ـ اما الأمر بالمهم فلتحقق شرطه ، واما الأمر بالأهم فلعدم سقوطه بالعصيان.

نعم لو كان الواجب الأهم آنياً لسقط الأمر به بالعصيان في الآن الأول ، ولكن لا من ناحية ان العصيان مسقط له ، بل من ناحية عدم تمكن المكلف من امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجاً في الآن الثاني ، لانتفائه بانتفاء موضوعه في ذلك الآن ، وبعده لا يبقى مجال وموضوع للامتثال. وقد تقدم ذلك سابقاً بشكل واضح ، وقلنا هناك ان هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فان ما كان محلا للكلام ـ هنا ـ هو ما لا يمكن إثبات الأمر بالمهم إلا بناء على القول بالترتب ، ومع الإغماض عنه يستحيل إثبات الأمر به ، وفي هذا الفرض لا مانع من ذلك ، فان المانع منه هو فعلية الأمر بالأهم ، وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم أصلا ، وحيث ان المفروض ـ هنا ـ سقوط الأمر بالأهم في الآن الثاني بسقوط موضوعه (وهو القدرة) فلا محذور في تعلق الأمر بالمهم في ذلك الآن أصلا.

نعم إذا كان الواجب المهم أيضاً آنياً فيدخل في محل النزاع ولا يمكن إثبات

١٥٦

الأمر به عندئذ إلا بناء على القول بالترتب كما سبق.

ومن هذا القبيل ما إذا كان الواجب الأهم مضيقاً على نحو لو عصاه المكلف في جزء من وقته لفاته ، ولا يتمكن بعده من الإتيان به وامتثاله لسقوطه بسقوط موضوعه ، ضرورة انه بعد مضي مقدار من الزمان الّذي لا يتمكن المكلف بعده من الإتيان به يسقط امره ، لأجل امتناع تحصيل ملاكه وغرضه ، لا لأجل مجرد عدم الفعل في الآن الأول وعصيانه فيه ، ومثال ذلك هو ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصوم ـ مثلا ـ ووجوب واجب آخر ، فإذا ترك الصوم في جزء من الزمان فهو لا يتمكن من امتثال امره بعد ذلك فيسقط وجوبه لا محالة.

ولعل المنكر للترتب تخيل أولا : ان محل النزاع خصوص هذا الفرض ، وتخيل ثانياً : ان سقوط الأمر فيه مستند إلى العصيان في الآن الأول لا إلى شيء آخر ، وثالثاً : ان الأمر غير ثابت في حال العصيان. فهاهنا دعاوى ثلاث :

الأولى ـ ان محل البحث في مسألة الترتب انما هو في أمثال هذا الفرض.

الثانية ـ ان سقوط الأمر فيه مستند إلى عدم الفعل في الآن الأول وعصيان الأمر فيه ، لا إلى شيء آخر.

الثالثة ـ ان الأمر ساقط في حال العصيان.

ولكن جميع هذه الدعاوي باطلة.

اما الدعوى الأولى فالأمر على عكسها ـ أعني به ان هذا الفرض وما يشبهه خارج عن محل الكلام في المقام ـ والوجه في ذلك هو ما عرفت من ان محل الكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم إلا بناء على القول بالترتب ، وفي هذا الفرض يمكن إثبات الأمر به مع قطع النّظر عنه ، إذ المانع عن تعلق الأمر به هو فعلية الأمر بالأهم ، وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من تعلقه به أصلا ، وبما ان المفروض هنا سقوطه في الآن الثاني فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم فيه ، لما تقدم من ان صحة تعلق الأمر به بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات الأولية ،

١٥٧

وليس من محل النزاع في شيء.

وقد تحصل من ذلك ان الواجب الأهم إذ كان موقتاً على نحو يكون وقته مساوياً لفعله فهو خارج عن محل البحث ، لسقوط وجوبه في الآن الثاني بمجرد تركه خارجاً وعدم الإتيان به في الآن الأول.

واما الدعوى الثانية فلما عرفت من ان العصيان بنفسه لا يمكن ان يكون مسقطاً للأمر. وقد سبق ان المسقط له أحد الأمرين المزبورين لا ثالث لهما هما : ١ ـ امتثاله الموجب لحصول الغرض والملاك الداعي له. ٢ ـ وعجز المكلف عنه الموجب لامتناع حصوله. واما مجرد ترك امتثاله في الآن الأول وعصيانه فيه مع تمكنه منه في الآن الثاني فلا يوجب سقوطه ، ضرورة ان سقوطه عندئذ من دون موجب وعلة وهو محال.

واما الدعوى الثالثة فلما تقدم من ان الأمر ثابت في حال العصيان ، ضرورة انه لو لم يكن ثابتاً في آن العصيان فلا معنى لمخالفة المكلف وعصيانه إياه ، فانه لا أمر في هذا الآن ليعصيه. وقد سبق ان ثبوته بالإطلاق على وجهة نظرنا. ومن جهة اقتضائه هدم عصيانه على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده).

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه هنا عدة أمور :

الأول ـ ان الواجب الأهم ـ إذا كان آنياً أو كان على نحو يسقط امره بمجرد عدم إتيانه في الآن الأول وعصيانه فيه بسقوط موضوعه ـ وهو القدرة ـ وكان الواجب المهم تدريجياً ـ فهو خارج عن محل البحث ، لعدم توقف إثبات الأمر بالمهم على القول بالترتب كما مر.

الثاني ـ ان العصيان بأي نحو فرض لا يعقل ان يكون مسقطاً للأمر نعم قد يوجب سقوطه من جهة سقوط موضوعه وعدم تمكن المكلف من امتثاله بعده.

الثالث ـ ان المسقط للأمر بقانون انه تابع للغرض والملاك الداعي له حدوثاً وبقاء إنما هو أحد الأمرين المتقدمين (حصول الملاك والغرض في الخارج بالامتثال ،

١٥٨

امتناع حصوله وتحققه فيه لعجز المكلف عنه).

الرابع ـ ان الامتثال لا يقتضى بذاته سقوط الأمر ، بل اقتضاؤه ذلك باعتبار حصول غرضه وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه في الخارج.

الخامس ـ ان الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن بمعنى انه ما لم يتحقق في الخارج لم يصر الأمر بالمهم فعلياً.

السادس ـ ان الأمر بالأهم والأمر بالمهم وان اجتمعا على هذا في زمان واحد ، إلا ان مقتضاهما ليس هو طلب الجمع بين متعلقيهما بل هو طلب التفريق بينهما. كما حققناه بصورة مفصلة.

فالنتيجة على ضوء هذه الأمور هي بطلان الدليل المزبور وانه لا مجال له أبداً.

إلى هنا قد تبين بطلان جميع أدلة استحالة الترتب وانه لا يمكن تصديق شيء منها.

هذا تمام كلامنا في بحث الترتب جوازاً وامتناعا إمكاناً واستحالة.

بقي الكلام في أمور :

الأول ـ قد ذكرنا في آخر بحث البراءة والاشتغال ان حديث لا تعاد لا يختص بالناسي ، بل يعم الجاهل القاصر أيضاً ، ولذلك قلنا بعدم وجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف ، خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) حيث قد استظهر اختصاصه بالناسي فلا يعم الجاهل. وقد ذكرنا هناك ان ما ذكره (قده) في وجه ذلك غير تام. وتمام الكلام في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى واما الجاهل المقصر فقد تسالم الأصحاب قديماً وحديثاً على عدم صحة عباداته ، واستحقاقه العقاب على ترك الواقع ومخالفته ، ووجوب الإعادة والقضاء عليه عند

١٥٩

انكشاف الخلاف وظهوره ، ولكن استثنى من ذلك مسألتان.

الأولى ـ مسألة الجهر والخفت.

الثانية ـ مسألة القصر والتمام حيث ذهب المشهور إلى صحة الصلاة جهراً في موضع الإخفات وبالعكس ، وصحة الصلاة تماماً في موضع القصر ، وكذلك القصر في موضع التمام للمقيم عشرة أيام ـ لا مطلقاً ـ على المختار ، كل ذلك في فرض الجهل ولو عن تقصير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المشهور قد التزموا في تلك الموارد باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع وتركه فمن صلى جهراً في موضع الإخفات أو بالعكس ، أو صلى تماماً في موضع القصر استحق العقاب على ترك الواقع ، مع الحكم بصحة ما أتى به.

ومن هنا وقع الإشكال في الجمع بين هاتين الناحيتين وانه كيف يمكن الحكم بصحة المأتي به خارجاً وانه مجزئ عن الواقع ، وعدم وجوب الإعادة مع بقاء الوقت والحكم باستحقاق العقاب.

ثم انه لا يخفى ان المسألتين بحسب الفتاوى والنصوص مما لا إشكال فيهما أصلا.

اما بحسب الفتاوى فقد تسالم الأصحاب عليهما.

واما بحسب النصوص فقد وردت فيهما نصوص صحيحة قد دلت على ذلك.

وانما الكلام والإشكال في الجمع بين الناحيتين المزبورتين في مقام الثبوت والواقع ، وقد تفصى عن ذلك بوجهين :

الأول ـ ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) من الالتزام بالترتب في المقام. بتقريب ان الواجب على المكلف ابتداء هو الصلاة جهراً ـ مثلا ـ وعلى تقدير تركه وعصيان امره فالواجب هو الصلاة إخفاتاً أو بالعكس ، أو ان الواجب عليه ابتداء هو الصلاة قصراً ، وعلى تقدير تركه فالواجب هو الصلاة تماماً ، وبذلك دفع الإشكال المزبور وانه لا منافاة عندئذ بين الحكم بصحة العبادة المأتي بها جهراً

١٦٠