لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

نجد أنّه كان يعتقد أنّ الإنسان قد تحصل له قناعة بشيء وهي حجّة ينبغي قبولها وإن لم يكن واقفاً على الدليل عليها.

يقول : «إنّ هذا النزوع والاتجاه نحو وجدان دليل وفق ما تقتضيه تلك الحالة النفسية لعلّه والله العالم من نتائج المنطق الأرسطي القائل بأن الشيء لا بدّ من أن يكون ضرورياً أو مكتسباً منتهياً إلى الضروري ، فخلّف هذا المنطق في الأذهان في مختلف العلوم ، ومنها علم الفقه تخيّل أن الإنسان غير الساذج لا ينبغي له تسليم أي دعوى لا تكون ضرورية ولا منتهية إلى الضروريات. ومن هنا يحاول الفقيه أن يجد دليلاً وفق مقصوده كي لا يكون مدّعياً لشيء بلا دليل.

ولكن الواقع أنّ العلم ليس دائماً ناشئاً من البرهان بل قد ينشأ عن علّة أثّرت في النفس تكويناً فأوجدت العلم بلا برهان. والعلم بنفسه أمر حادث قائم بممكن حادث تسيطر عليه قوانين العلّية والمعلولية ، ومهما وجدت علّته يوجد العلم قهراً سواءً علمت تلك العلّة أو لا ، وليس حصول العلم بحاجة إلى التفتيش عن علّته كي نجدها فيوجد العلم ، وليست نسبة العلم إلى علّته إلّا كنسبة الحرارة إلى علّتها ، فكما أنّ الحرارة توجد بوجود علّتها سواء فتّشنا عن علّتها ووجدناها أو لا ، كذلك الحال في العلم فلا موجب لهذا النزوع والاتجاه.

نعم لو أُريد إعطاء صفة الحجّية المنطقية للعلم يجب التفتيش عن علّته ، وملاحظة مدى انطباقها على قوانين المنطق القديم» (١).

وهذا النصّ وإن كان يبيّن بوضوح أنّ تلك الحالة النفسية والقناعة الوجدانية قد تحصل عند الإنسان وإن لم يقف على دليلها ويتعرّف عليه ، إلّا أنّ الظاهر كما

__________________

(١) مباحث الاصول ؛ مصدر سابق ، ج ٢ ص ١٣٣.

٦١

قال السيّد الحائري بأنّ هذا الكلام إنّما صدر من الأستاذ بعد استكشافه لمنطق الاحتمالات ، وعدم برهانية كثير من العلوم الموضوعية للإنسان وقبل انتهائه إلى تحقيقاته النهائية في منطق حساب الاحتمالات وما أسماه أخيراً بالمنطق الذاتي.

أمّا بعد ذلك فمن الواضح أنّ هذا البيان غير صحيح ، لأنّ العلم موجود حادث وممكن يتبع علّته ، لكن العلم في غير الضروريات إنّما يكون موضوعاً إذا انتهى إما إلى البرهان أو إلى قوانين حساب الاحتمالات المنقّحة في بحث المنطق الذاتي ، وإن لم ينته إلى هذا ولا ذاك فهو علم غير موضوعي ناتج عن وهم ، أو عن مقاييس لم يكن ينبغي للإنسان أن يحصل له العلم منها. ونفس التفتيش عن علّة هذا العلم قد يوضّح للإنسان أنّ علمه هل هو موضوعي أو لا؟ فإن عرف أنّه غير موضوعي فقد تصبح نفس هذه المعرفة سبباً لزوال ذاك العلم ، والإنسان الذي يعلم بشيء ميّال إلى معرفة سبب علمه ومدى موضوعيته ، وعن طريق معرفة السبب يستطيع أن ينقل علمه إلى الآخرين ، فليس من الصحيح القول بأنّه لا حاجة إلى التفتيش عن سبب العلم لأنّه إن حصلت علّته حصل وإلّا فلا كما لا يخفى» (١).

وكيفما كان فالمدرسة الأصولية والاستدلالات الفقهية التي تركها لنا الأستاذ الشهيد كلّها تثبت بما لا مجال للشكّ فيه أنّه كان ملتزماً بتلك المسلّمات التي تسلّمها فقهاؤنا الأوائل من يد الشارع الأقدس على حدّ تعبيره وأن الإبداعات الأصولية التي جاء بها الصدر كانت ضمن ذلك الإطار الذي تبلورت خطوطه العامّة على يد الرعيل الأوّل من فقهاء الطائفة.

__________________

(١) المصدر السابق ، ج ٢ ص ١٣٤.

٦٢

الخصوصية الثالثة

الروح العامة التي تحكم الشريعة

والأخذ بها في عملية الاستنباط

توضيح ذلك : أننا لكي نقف على الأحكام التفصيلية للدين في مختلف المجالات لا بدّ من التعرّف أوّلاً على الروح العامّة والمقاصد الأساسية لذلك الدين. فمثلاً عند ما نراجع القرآن الكريم نجد أنّه يضع إقامة العدل الاجتماعي على رأس الأهداف الأساسية التي لأجلها بُعث جميع الأنبياء والمرسلين ، ونزلت جميع الشرائع الإلهية ، يقول تعالى في سورة الحديد (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(١).

فأقامه القسط والعدل الاجتماعي هو في رأس لائحة الأهداف السماوية ، وتأسيساً على ذلك فإنّ كلّ حكم شرعي لا بدّ من أن يكون منسجماً مع هذا الهدف الأساسي للشريعة ، وإلّا لو انتهت بنا بعض المباني والاستدلالات الفقهية إلى ما يخالف هذا الأصل القرآني فلا بدّ من ردّه وعدم قبوله.

وتظهر ثمرة هذا الأصل في مواضع متعدّدة :

منها : أنّه وردت جملة من الروايات عن الرسول الأعظم وأئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) مفادها أنّ الميزان في قبول الخبر الوارد عنهم هو العرض على

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

٦٣

القرآن الكريم ، فما وافق يؤخذ به وما خالف فهو زخرف لم يصدر عنهم.

عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) قال : خطب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : «يا أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله». (١)

وعن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله الصادق (عليه‌السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ، ومنهم من لا نثق به. قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإلّا فالذي جاءكم به أولى به. (٢)

يقول الأستاذ الشهيد : إنّ أخبار العرض على الكتاب يمكن تفسيرها بنحو آخر لا يحتاج معه إلى كثير من الأبحاث التي جاءت في كلمات الأصحاب وهو : أنّه لا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم ، أو ما ليس عليه شاهد منه ، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودة فيه ، ويكون المعنى حينئذٍ أنّ الدليل الظنّي إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العامّة لم يكن حجّة ، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آياته. فمثلاً لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنّهم قسم من الجنّ ، قلنا : إنّ هذا يخالف

__________________

(١) تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، تأليف الفقيه المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت : ١١٠٤ ه‍) ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، ج ٢٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) المصدر السابق.

٦٤

الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ، ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم. وأمّا مجيء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً ، فهي ليست مخالفة للقرآن الكريم وما فيه من بحث على التوجّه إلى الله والتقرّب منه عند كلّ مناسبة وفي كلّ زمان ومكان ، وهذا يعني أنّ الدلالة الظنّية المتضمّنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون بشكل عام موافقة للكتاب وروح تشريعاته العامة.

وممّا يعزّز هذا الفهم مضافاً إلى أنّ هذا المعنى هو مقتضى طبيعة الوضع العام للأئمّة المعصومين (عليهم‌السلام) ودورهم في مقام بيان الأحكام ، الأمر الذي كان واضحاً لدى المتشرّعة ورواة هذه الأحاديث أنفسهم ، والذي على أساسه أمروا بالتفقّه في الدين والاطّلاع على تفاصيله وجزئياته ، التي لا يمكن معرفتها من القرآن الكريم ، ممّا يشكّل قرينة منفصلة بهذه الأحاديث تصرفها إلى إرادة هذا المعنى ما نجده في بعضها من قوله «إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من الكتاب» فإنّ التعبير بالشاهد الذي يكون بحسب ظاهره أعمّ من الموافق بالمعنى الحرفي ، مع عدم الاقتصاد على شاهد واحد خير قرينة على أنّ المراد وجود الأمثال والنظائر لا الموافقة الحدّية.

وقد جاء هذا المعنى في رواية الحسن بن الجهم عن العبد الصالح قال : «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإنّ أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل».

وهذه الرواية وإن كانت واردة في فرض التعارض إلّا أنّها بحسب سياقها

٦٥

تشير إلى نفس القاعدة المؤكّدة عليها في مجموع أخبار الباب». (١)

وهذه النظرية لو تمّت أصولها الموضوعية لفتحت علينا آفاقاً جديدة في عملية الاستدلال ، وألقت بمسؤوليات إضافية على عاتق الممارس لعملية الاستنباط ؛ لأنّه في مثل هذه الحالة لا يمكن الاكتفاء بالتوفّر على الفقه والأصول والاقتصار عليهما للدخول في ممارسة العملية الاجتهادية ، وإنّما لا بدّ من الوقوف على روح التشريعات العامّة للقرآن الكريم ومعرفة الأسس والقواعد الكلية ، التي تحكم هذا الكتاب السماوي ليمكن معرفة صحّة الخبر من عدم صحّته عند العرض عليه ، خصوصاً فيما يرتبط بالأصول العقائدية والمفاهيم العامّة والجوانب الاجتماعية في الدين.

فالإنسان لا يكون فقيهاً جامعاً لشرائط الاستنباط إلّا إذا كان مفسّراً قبل ذلك ، وإلّا فلا يحقّ له ممارسة هذا الدور.

وسيتّضح من خلال هذا البحث الذي بين أيدينا أن جملة من تلك النكات التي أشرنا إليها فيما سبق ، تجد لها تطبيقات واضحة في هذا المجال. فمثلاً عند ما يأتي السيد الأستاذ للإجابة على واحدة من أهم الإشكالات التي ذكرت على هذه القاعدة وهي كثرة التخصص يقول :

«من الإشكالات الأساسية التي أُثيرت حول هذه القاعدة ، لزوم تخصيص الأكثر المستهجن. وهذه المشكلة إنما تنجم لو أخذنا بالظهور الأوّلي للكلام وجمدنا على حاقّ الإطلاقات الثابتة بهذه الجملة ، من دون تحكيم عنصر مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية لفهم النص ، فإنه يمكن أن

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٧ ، ص ٣٣٣.

٦٦

يقال : إن هذه القاعدة تنفي كثيراً من الأحكام الفقهية الثابتة كالقصاص والديات والضرائب المالية وبعض العبادات كالحج ونحوها ، فيلزم تخصيص هذه القاعدة في الموارد المذكورة التي هي أضعاف ما يبقى فيها ، ولما كان تخصيص العام في أكثر مدلوله غير جائز ، فيتوجّه الوهن إلى العام.

إلا أن الاقتصار على مثل هذا الإطلاق غير صحيح ، لأنه حينما يقال : «لا ضرر» من ناحية الشريعة ، فهذه الإضافة المستفادة من تلك القرينة اللبية والحالية التي تقدّم الكلام عنها ، تعطي نوعاً من التخصيص والتقييد لمفاد هذه الجملة بحسب مناسبات الحكم والموضوع. فإن المركوز في الأذهان العقلائية أن من المقوّمات الأصلية للشريعة اشتمالها على قواعد وأنظمة وتشريعات تحقّق العدالة الاجتماعية للناس. ولعل هذه هي المسئولية الأساسية التي أُلقيت على عاتق الشريعة الحقّة العادلة. ومن الواضح أن تحقيق ذلك لا يمكن إلّا من خلال مجموعة من التشريعات والقوانين الفردية والاجتماعية التي تحدّد للناس ما لهم من الحقوق وما عليهم من المسئوليات والالتزامات. ولا يمكن أن يقال إن مثل هذه التحديدات الصادرة من الشارع الأقدس ضررٌ على الناس ، لما فيه من المصالح الحقيقية في الدنيا والعقبى ، وإن لم تظهر لهم جميعاً بكامل تفاصيلها وآثارها ؛ والتاريخ والتجربة الإنسانية خير شاهد على ذلك. بل الضرر أن تخلو الشريعة التي تدّعي لنفسها ضمان سعادة الإنسان ، من تلك الأحكام التي تقتصّ من الجاني وتعاقب السارق وتشغل ذمّة من أتلف مال الغير وتأخذ الحقوق المالية كالزكاة والخمس من الأغنياء للفقراء ونحوها.

على هذا الأساس ، فالضرر الذي يكون مؤدّياً إلى تحقيق تلك المصالح الاجتماعية والفردية ، لا يكون منفياً بمثل هذه العبارة ، بل المنفيّ بها هو ذلك

٦٧

الضرر الذي يكون خارجاً عن حريم تلك المصالح المركوزة في الأذهان العقلائية. فمناسبات الحكم والموضوع الاجتماعية ، أو ما نصطلح عليه بالفهم الاجتماعي للنص ، تقتضي في المقام أن يكون المقصود من الضرر المنفيّ غير تلك الإضرار التي يراد منها التحفظ على تلك المصالح.

بناءً على ما ذكرنا فمثل الحدود والقصاص والديات ونحوها من الأحكام الضررية وإن كانت مؤدية إلى إضرار بالنسبة إلى الأفراد حقيقة ، لكننا بلحاظ إضافتها إلى الشريعة من جهة ، ونفي عنوان الضرر عن الشريعة من جهة أخرى ، نستكشف بمناسبات الحكم والموضوع القائمة على أساس ارتكاز أن الشريعة صلاحيتها بأن تكون في مقام التحفظ على المصالح النوعية أن هذا الضرر المنفيّ لا يمكن أن يكون شاملاً لهذه الأحكام الضررية.

فهذه النكتة كافية في مقام بيان أن أكثر ما ذكر من هذه التخصيصات ليست هي في الحقيقة تخصيصاً للقاعدة ، وإنما هي خارجة تخصصاً. وما بقي من التخصيصات الأخرى ، فهي طبيعية يمكن أن تطرأ على أي قاعدة أخرى ، وليست هي بالقدر الذي تهدم ظهورها وتوجب وهنها في كونها قاعدة عامّة.

هذا هو الحل الصحيح لهذه المشكلة». (١)

هذه المحاولة

لقد شهدت الدائرة العلمية التي تنتهي إلى مدرسة الشهيد الصدر أكثر من صياغة في تقرير قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» مما يضع هذه المحاولة تحت السؤال ،

__________________

(١) ص ٢١٧ ـ ٢١٩ من الكتاب.

٦٨

ويحوطها باستفهامات تسعى أن تعرف البواعث التي أملت علينا تقديم بحث جديد حيال القاعدة ذاتها.

في الحقيقة يمكن الباعث الأساسي فيما اتفقت عليه كلمة تلامذته وأشرنا إليه خلال المقدمة مرات من أنّ الجهود الأصولية للسيد الصدر تستبطن بذور مرحلة رابعة على خط تطوّر الفكر الأصولي. ومن الجلي أن عملية اكتشاف قواعد هذه المدرسة ومعرفة مكوّناتها ، وبانها بداعاتها نقداً وتأسيساً ، ويضاح سهاماتها المنهجية والمضمونية ، هي عملية شاقّة ودائمة لا تتوقّف عند هذا الجهد أو ذاك ، بل تمتد لتستوعب كل بادرة تطمح أن ترى نجاز السيد الشهيد وهو يأخذ موقعه اللائق في الأصولي المعاصر.

فلما كان سيدنا الأستاذ بجهازه العقلي العملاق وعدته المنهجية الرفيعة وأسلوبة الرائق في البيان ، هو الأقدر على بأنه معالم فكره ، فقد اخترنا أن نعرض هذا البحث وهو أقرب ما يكون لي عبارته وأسلوبه.

على أن لهذه الطريقة فضيلة أخرى وهي تكشف عن نمو الأفكار وتحولاتها في طارٍ تأريخي يسمع للباحث أن يصحب السيد الشهيد ويرافقه بدقّة في مساره الفكري. فما تمتاز به هذه البادرة أنها جاءت أقرب ما تكون روحاً وأسلوباً ولفظاً لي دروس السيد الشهيد وهو يقرّر القاعدة على تلاميذه.

وما تهدف إليه ، هي أن تكون لبنة جديدة في الصرح العلمي للسيد الأستاذ تسهم في الكشف عن مدرسته الأصولية وصفها مرحلة أخرى على خط تطور علم الأصول.

عند هذه النقطة صار من المناسب التوفر على ذكر ملاحظتين :

٦٩

الأولى : علاقة كاتب الطور بدروس السيد الشهيد.

الثانية : عمله في هذا الكتاب.

بشأن الملاحظة الأولى تتوزع علاقتي مع الدروس الأصولية للسيد الشهيد كما يلي :

١ أتيحت لي فرصة حضور دروسه الأصولية مباشرة والتتلمذ على يديه (قدس‌سره) لمدة وصلت الى خمس سنوات استوعبت آخر مباحث المطلق والمقيد لي مباحث الاشتغال من الدورة الثانية.

٢ أفدت بحث الاستصحاب كاملاً استعارة من تقريرات السيد الشهيد محمد الصدر (قدس‌سره) الذي يتحلى في هذا المجال بروح كريمة وأريحية عالية.

٣ بين هذا وذاك استكملت مباحث القسم الثاني من تقريرات المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي.

إما بشأن الملاحظة الثانية ، فيمكن أن أضع النقاط التالية :

١ لما كانت فلسفة هذه المبادرة أنها تحاول تقديم البحث أقرب ما يكون صلةً لي السيد الشهيد ، فقد حرصت على أن أقلل تدخلي في المتن ، إلّا ما كان ضرورياً كحذف المكرّر إذا اشترك في بيانٍ واحد ، وتنظيم العباثر ، وإدخال أدوات الربط ، ووضع العناوين الدالة.

٢ بذلت جهدي لكي يأتي هامش الكتاب مكملاً للمتن لما يخدم إبراز مقولات السيد الأستاذ واعتراضاته ، حيث عمدت الاستخراج ما أستطيع من الأقوال والمناقشات ، مشيراً إلى مصادرها ونصوصها إذا كان ثم ضرورة لذلك ، مع الكشف عن خلفيات بعض النظريات وغير ذلك مما سيلمسه القارئ مباشرة.

٣ توفرت في هذه المقدمة على بيان بعض معالم التحديد في الفكر

٧٠

الأصولي للسيد الصدر ، منطلقاً من بداية لا أزال أراها الأقدر من غيرها على إبانة عناصر الإبداع في المدرسة الصدرية تمتلك في بيان موقف السيد الأستاذ من نظرية المعرفة ، والإسهام الذي قدمه في هذا المضمار تم متابعة بعض النتائج التي انعكست على الممارسة الأصولية للسيد الشهيد كأثر لمتبنياته المعرفية ، وذلك لما يكشف الترابط الوثيق بين الموقف المعرفي والمتبنيات الفكرية على مختلف الضعف الفلسفية والكلامية والأصولية والفقهية.

لقد تحامل السيد الصدر مع نظرية المعرفة تعاملاً منهجياً دقيقاً وداعياً ، فقرّر موقفه المعرفي في البدء ، ثم انطلق منه كحجر أساس وبنّاءٍ تحتي لتشييد رؤاه في بقية العلوم.

ولا يزيد ما جاء في المقدمة على هذا الصعيد ، أكثر من كونه إشارات أولية وبسيطة ترمي أن تفتح الطريق للتعاطي في قراءة الراحل العظيم.

إلى جوار نظرية المعرفة ؛ انطلقت المقدمة من الخصائص البارزة التي تنتظم المنظومة الفكرية للسيد الصدر عامة ، في درس تمهيدي سعى أن يستقصي نتائج هذه الخصائص وما تبسطه من آثار على النسيج العلمي للسيد الشهيد في علم الأصول كما في غيره.

يبقى أن أشير إلى أن هذه محاولة أولى أخطط أن أشفعها بدراسات أخرى على المنوال ذاته ؛ يزيدني في العزم موقعها الذي تلقاه عند أهل العلم وطبيعة تلقّي الأروقة العلمية لها. وما توفیقی الا بالله علیه توکلت والیه انیب.

كمال الحيدري

قم المقدسة

٢١ شوال ١٤٢٠

٧١

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

وقع الكلام في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» بمناسبة أن الفاضل التوني (قدس‌سره) ذكر أنه يُشترط في جريان أصالة البراءة أن لا يلزم منها ضرر على مسلم آخر ؛ ففي مقام تحديد هذه الشرطية ذكر الشيخ الأعظم (قدس‌سره) ومن تأخّر عنه أن هذا الشرط مستدرك ولا موضع له ، لأنّه إذا فرض أن الواقعة كانت بنفسها من الوقائع المشمولة لهذه القاعدة ، فيكون الحكم ثابتاً فيها بالدليل الاجتهادي ، وتكون لها الحكومة على سائر الأدلّة الاجتهادية الأخرى ، فضلاً عن البراءة ، وإن لم تكن الواقعة في نفسها مشمولة للقاعدة ، فلا مجال لدعوى أن البراءة لا تجري فيها إذا استلزم من جريانها الإضرار بالآخرين.

إلّا أن السيّد الأستاذ (قدس‌سره) دافع على ما في الدراسات عن هذه الشرطية ، وذكر أنها في محلّها ، أي أننا وإن قطعنا النظر عن قاعدة «لا ضرر» ، إلا أننا مع هذا نقول بأن البراءة لا تجري بنحو يلزم من جريانها ذلك. (١)

فمثلاً : لو شككنا في جواز الإضرار بمسلم ، وفرضنا أنه لا يوجد عندنا

__________________

(١) دراسات في علم الأصول : تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى السيد أبي القاسم الخوئي (قدس‌سره) تأليف : آية الله السيد علي الهاشمي الشاهرودي (قدس‌سره) مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي (ج ٣ ، ص ٤٩٠)

٧٢

دليل اجتهاديّ على عدم الجواز ، وانتهى الأمر إلى أصالة البراءة ، لا يمكننا في المقام إجراء البراءة عن الحرمة وعدم الجواز ، لأن جريانها يؤدّي إلى وقوع مسلم آخر في الضرر ، وهو غير جائز ، لأن حديث الرفع مسوق مساق الامتنان ، وهذا يمنع من انعقاد إطلاق لموارد يكون جريان البراءة فيها على خلاف الامتنان بلحاظ شخص آخر ، لأن ظاهر هذا السوق هو الامتنان على مجموع الأمة. إذن فهذه الشرطية تكون تامّة.

إلّا أن هذا الكلام لو سُلِّم أصله الموضوعي ، فلا يجدي في المقام شيئاً ، لأننا لو سلّمنا أن حديث الرفع محفوف بمثل هذه القرينة ، بنحو يقتضي عدم إجراء البراءة في هذه الموارد ، فغايته أن هذا الحديث يبتلي بالإجمال من ناحية اقترانه بما يصلح للقرينية. ولكن لماذا لا يرجع في مثل هذه الموارد إلى قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» التي يقول بها المشهور ، أو سائر أدلّة البراءة الأخرى من الكتاب والسنّة ، فإنها ليست محفوفة بمثل هذه القرينة ، فلا يكون مثل هذا شرطاً في إجراء أصالة البراءة ، وإنّما هذه النكتة توجب الإجمال في بعض نصوصها. نعم لو فرض أن هذه النكتة كانت سبباً في أن ينعقد مفهوم في حديث الرفع ، بحيث يدلّ على عدم جريان البراءة في الموارد التي يلزم منها خلاف الامتنان ، لأمكن حينئذٍ أن يقال بأن هذا المفهوم يقع طرفاً للمعارضة مع سائر الأدلّة الأخرى ، إلّا أنه لا موجب لانعقاد ذلك ، فإن غاية ما تقتضيه هذه العبارة التي يكون إطارها هذا السوق الامتناني أنها لا قابلية لها لشمول هذه الموارد ، لا أنها تقتضي عدم الشمول لكي تنافي ما يقتضي الشمول.

إذن فلا محصّل لهذه الشرطية في المقام.

بعد ذلك نقول الكلام في هذه القاعدة يقع في عدّة فصول :

٧٣

الفصل الأوّل

في إثبات سند الحديث

٧٤
٧٥
٧٦

روايات القاعدة

إنّ روايات هذه القاعدة كثيرة ، إلّا أن أهمها ترجع إلى طوائف ثلاث :

الطائفة الأولى

وهي الروايات التي تحدّثت عن قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري. ويندرج تحت هذه الطائفة عدّة روايات :

منها : ما جاءت فيها هذه القاعدة بصيغة «لا ضرر ولا ضرار» وهي ما رواه الكافي والفقيه عن ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : إن سمرة بن جندب (١) كان له عذق [النخل بحملها] في حائط لرجل من

__________________

(١) «سَمُرَة» بفتح الأوّل وضمّ الثاني وفتح الثالث. و «جُنْدَب» بضم الأوّل وسكون الثاني وفتح الثالث على وزن «لُعْبَة» صحابيّ من بني شمخ بن فزارة.

والمتحصّل من هذه الروايات وتتبّع كتب الرجال والسير ، أن سمرة هذا كان رجلاً معانداً وغير خاضع للحق ولم يكن مراعياً لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كرامة ، وكان من أشدّ الناس قسوة وعداوة لأهل البيت (عليهم‌السلام). وإليك بعض ذلك :

٧٧

الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فشكا إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إن أردت الدخول فاستأذن. فأبى ، فلمّا أبى ساوَمه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ذلك ، فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للأنصاري :

__________________

حكى ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر ، قال : رُوي أن معاوية بذل له مائة ألف درهم على أن يروي أن آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) ...) إلى قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) نزلت في عليّ (عليه‌السلام) وأن آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) نزلت في ابن ملجم ، فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل أربعمائة ألف فقبل».

ما ذكره الطبري في تاريخه في أوائل أحداث سنة خمسين من أن محمد بن سليم ، قال : سألتُ أنس بن سيرين : هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال : وهل يُحصى من قتلهم سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة ، وأتى الكوفة وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له زياد : هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ قال : لو قتلت مثلهم ما خشيت».

قال سمرة : «والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية لما عذّبني أبداً».

القواعد الفقهيّة ، ناصر مكارم الشيرازي ، ص ٢٥ ؛ معجم رجال الحديث ، لمرجع المسلمين زعيم الحوزة العلمية السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي ، ج ٨ ، ص ٣٠٥.

٧٨

«اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار». (١)

ومنها : ما أضيف عليها جملة «على مؤمن» ، وهي ما وردت في الكافي عن عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : إن سمرة بن جندب كان له عذق ... إلى أن قال ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» ، قال : ثم أمرَ بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقُلعت ثم رمى بها إليه ، وقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : انطلق فاغرسها حيث شئت». (٢)

ومنها : في رواية ثالثة لم تذكر هذه القاعدة كبروياً ، وإنّما ذُكر صغراها ، وهي ما رواه الصدوق عن أبيه عن محمد بن موسى المتوكّل ، عن علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، عن أبيه ، عن الحسن بن زياد الصيقل ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، حيث ورد فيها أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لسمرة : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّاً ، اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه» (٣).

__________________

(١) الفروع من الكافي ، ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ، ج ٥ ص ٢٩٢ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، الحديث ٢. الطبعة الثالثة ، ١٤٠١ ه‍ ، والنص للكافي ، وكذلك رواه في «من لا يحضره الفقيه» رئيس المحدِّثين أبو جعفر الصدوق ، ج ٣ ص ١٤٧ ، باب المضاربة ، الحديث ١٨ ، وكذلك روي في تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان الله عليه ، تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، ج ٧ ص ١٤٧ ، باب بيع الماء والمنع منه ... الحديث ٣٦.

(١) الفروع من الكافي ، ج ٥ ص ٢٩٤ ، باب الضرار ، الحديث ٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥٩ ، باب حكم الحريم ، الحديث ٩.

٧٩

الطائفة الثانية

وهي التي تضمَّنت هذه القاعدة ، وكانت في مقام استعراض أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). ففي كتب العامّة رُويت هذه الأقضية بعدّة طرق ، أشهرها طريق عبادة بن الصامت الذي حدّث بأقضية كثيرة للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن جملتها قضاؤه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ب «لا ضرر ولا ضرار» ، حيث جاء في مسند أحمد بن حنبل ، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة قال : «إن من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المعدن جبار والبئر جبّار ...» إلى أن قال : «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار» (١).

وأما في كتب الخاصّة ، فقد جاءت هذه الجملة (لا ضرر ولا ضرار) ملحقة بقضاءين في روايتين عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) :

الرواية الأولى : روى عقبة بن خالد عنه (عليه‌السلام) قال : «قضى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار» (٢).

الرواية الثانية : وهي التي رواها الراوي نفسه بالسند نفسه عن الإمام

__________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وبهامشه منتخب كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال ، ج ٥ ص ٣٢٦ ، دار الفكر ؛ سنن ابن ماجة ، الحديث ٢٣٤٠.

(٢) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، الإمام الشيخ محمد بن الحسن العاملي ، تحقيق عبد الرحيم الربّاني الشيرازي ، ج ١٧ ص ٣٣٣ ، أبواب إحياء الموات ، الباب ٧ ، الحديث ٢.

٨٠