لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

رواية عبادة بن الصامت.

بهذه المقدّمات أثبت شيخ الشريعة وثاقة وضبط عبادة أولاً ، وأن هذه الأقضية التي نقلت عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هي من الجمع في الرواية حتى في روايات عقبة. وهذا يضعف ظهور روايته في التعليل ثانياً. ومع التعارض بين الروايتين يقدّم نقل عبادة ثالثاً.

وقد استدل شيخ الشريعة على إثبات المقدّمة الأولى بأمرين :

الأوّل : أن عبادة من الصحابة المؤمنين والثقات.

الثاني : استكشاف ضبطه وإتقانه من مطابقة روايته للأقضية مع الروايات المتفرّقة التي وردت من طرقنا الحاكية عن أقضيته صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فإن هذه المطابقة كلّما اتسعت وتعمّقت يبدو منها أن هذا الصحابيّ كان على قدر كبير من الضبط والإتقان والتحفظ على الخصوصيات ، بحيث لم تبق هناك أي ميزة سوى أنها نقلت القضاء بالشفعة بلا ذيل. وكلا هذين الأمرين لا يرجع إلى محصل.

أما الأوّل : فإننا حتى لو فرضنا أن عبادة كان من أجلّاء الصحابة وثقاتهم ، إلا أننا لم نسمع منه الرواية مباشرة ، وإنما تلقيناها من أحمد بن حنبل في مسنده بوسائط متعدّدة ، ورجال هذه السلسلة السندية لا نعرف فيهم شيئاً من هذه المراتب التي تذكر لهذا الصحابي ، بل لعل بعضهم عرفوا بالعكس حتى عند علماء رجالهم. وبناءً على هذا لا يفيدنا ضبطه ووثاقته في المقام.

أما الثاني : فيرد عليه :

أولاً : لو فرض وجود ذلك فلا يقتضي إلا أن عبادة قد أحسن أداء هذه الرواية بتمامها من دون تحريف إلّا من الجهة التي هي محلّ الكلام ، وهذا لا

١٢١

يكشف تلك المرتبة العالية من الضبط والإتقان التي توجب التقديم. نعم يصحّ التقديم لو فرض أننا تتبعنا عدداً كثيراً من روايات عبادة في جملة من الموارد ، وتأكّدنا من أنها وردت بشكل صحيح ومتقن ؛ فمثل هذا الاستقراء قد يؤدّي إلى اكتشاف مزيد من الضبط والإتقان فيه. أما التطابق في رواية واحدة ولو كانت طويلة فلا يوجب وحده كشف هذه المرتبة من الوثاقة.

وثانياً : أن مثل هذا التطابق المدّعى غير موجود في المقام ، كيف وفي بعض الروايات التي وردت في أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نحو اختلاف عمّا جاء في رواية عبادة من غير ناحية كون القاعدة مستقلّة أو تعليلاً.

فمنها : أنه ذكر للشفعة ذيلاً غير مذكور في رواية عبادة بن الصامت ، وهي قوله : «إذا أرّفت الأرف وحُدَّت الحدود فلا شفعة». فهذه الجملة قرينة متصلة لرفع اليد عن إطلاق قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الشفعة.

ومنها : أن جملة من الأقضية التي جاءت في رواية عبادة لم تنقل أصلاً من طرقنا ، وذلك من قبيل قضائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمنع الزوجة من التصرّف في مالها إلّا بإذن الزوج ، ولم يستطع شيخ الشريعة أن يجمع من طرقنا أكثر من ثلث الأقضية الواردة في رواية عبادة ، بل إن ما جمعه من مجموع الأقضية الواردة من طرقنا ولو من غير طريق عقبة يبلغ زهاء النصف ، فهذا أيضاً نحو آخر من عدم التطابق بينهما ، مضافاً إلى جملة من الروايات التي عُزِّزت بها رواية عبادة ضعيفة السند ، فلا يمكن المصير إليها.

وثالثاً : أنه لو فرضت المطابقة الكاملة ، فلا نسلم كونه من قبل عبادة ، لنثبت إتقانه ووثاقته ، بل من المحتمل أن تكون هذه النصوص من موضوعات بعض الوسائط التي بيننا وبين عبادة ، لأن المفروض عدم ثبوت وثاقة تلك

١٢٢

الوسائط.

من هنا قد يقال : إنه كانت هناك أقضية معروفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشهورة ومتداولة بين التابعين وتابعيهم نسبوها إليه وهو لم ينقلها بتمامها. وليست رواية عبادة من تلك الروايات المشهورة أو المتواترة كي يقال إنه لا يمكن الزيادة فيها ، ولم تنقل في شيء من الصحاح ، وإنما اختص بنقلها مسند أحمد فقط. إذن فهذا القدر من التطابق لا يمكن أن يكون أمارة على دقة عبادة وضبطه.

أما المقدّمة الثانية ، وهي استظهار شيخ الشريعة أن روايات عقبة مرجعها إلى رواية واحدة ، فقد استدل عليها بأمارتين :

الأولى : أن جميع هذه الروايات وردت بطريق واحد ، من هنا قد يحدس بأنها كانت رواية واحدة بسند واحد ، ولكن قطّعها الأصحاب ووزّعوها على الأبواب الفقهية المختلفة ، وإلّا لو كانت متعدّدة فكيف اتفق أن يتحد رواة هذه الروايات كلها حتى انتهت إلى عقبة بن خالد. فمن الواضح أن مثل هذا الاتفاق ضعيف جدّاً بمقتضى حساب الاحتمالات.

إلّا أن هذه الأمارة غير تامة ، لأن عقبة بن خالد له كتاب كما ذكره النجاشي وله طريق إليه ، وهو ينتهي إلى الراويين الطوليين اللذين ينتهي إليهما سند الكليني فمن المحتمل جدّاً أن يكون طريق الكليني إلى هذه الروايات ، إنما هو هذا الكتاب. وهذا الطريق وإن اختلف في وسائطه الأخيرة ، لكن وسائطه الأولى متفقة مع طريق النجاشي. وسند الكليني إلى عقبة وقع في آخره كلا الراويين اللذين وقعا في آخر سند النجاشي. وعليه فتكون هذه الروايات كلّها بسند واحد ، ولكن ليس ذلك من باب أنها رواية واحدة ، بل من جهة أنها

١٢٣

نقلت من كتابه. والذي يعزِّز هذا المطلب أننا راجعنا روايات أخرى لعقبة لا ترتبط بأقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فوجدنا فيها أيضاً كلا هذين الراويين ، من قبيل ما رواه الصدوق في كتاب «الوصية» من «الفقيه».

والحاصل أن هذه الشواهد تؤيّد أن لعقبة كتاباً ، وهذه الروايات جميعاً منقولة عنه ، وإلّا فكيف اتفق أن يكون اتحاد السند فيها جميعاً حتى تلك التي لا ترتبط بأقضيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فوحدة الرواة نشأت من وحدة الكتاب الذي رواه بمجموعه هؤلاء الرواة لا وحدة الرواية.

الثانية : أن هذه الأقضية المجتمعة في رواية واحدة ، كيف تقطعت في أخبارنا وتفرّقت ، مع أنه خلاف الطبع الأولي؟ هنا توجد احتمالات هي : إما أن يكون من ناحية تقطيع الإمام الصادق (عليه‌السلام) أو من قبل عقبة بن خالد

الراوي عنه ، أو أصحاب الجوامع الحديثية وضعاً لكل حديث في موضعه المناسب له. والأولان بعيدان ، فيتعيّن الثالث ، فهو ليس بمستبعد بعد الالتفات إلى أن مبنى الأصحاب على التقطيع في الروايات المشتملة على أحكام فقهيّة متعلّقة بأبواب مختلفة.

هذا الكلام غير تام أيضاً ، لأنه يفترض أن حديثاً واحداً صدر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مجلس واحد ، وكان مشتملاً على جميع هذه الأقضية ، ونقله لنا عبادة بن الصامت ، مع أن الأمر ليس كذلك ، لأن مدلول كلام عبادة ليس هو أن ما نقله حديث واحد صادر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بل يمكن أن تكون روايات عديدة بينها جامع أنها أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لذا جمعها في سياق واحد لكي تكون مرجعاً للمسلمين في أحكامهم. فأي ظهور يقتضي أن الإمام الصادق (عليه‌السلام) لا بد وأن

١٢٤

يسلك نفس الطريقة التي اتبعها ذلك الصحابي؟ فلعل الإمام (عليه‌السلام) لم يكن في مقام الجمع ، بل يذكر في كل موردٍ القضاء الذي يناسبه ، ثم ذكرها جميعاً مرّة واحدة ، ورواها عقبة في كتابه ثم وزّعها الأصحاب.

أما المقدّمة الثالثة : وهي دعوى وجود تطابق تام بين رواية عبادة ورواية عقبة ، إلّا في خصوصية واحدة ، هي الذيلية والتعليل أو الاستقلالية ، فهذه الدعوى ممنوعة لما تقدّم ، لوجود اختلافات أخرى غير ما ذكرها شيخ الشريعة. وعليه فلا يمكن تتميم هذه المقدّمة أيضاً.

ثم إنه لو سلمنا الأصل الموضوعي الذي ذكره هذا المحقق ، من أن روايات عقبة كلها رواية واحدة ذات متن طويل ، وأن الأصحاب هم الذين قطّعوها وجعلوها روايات متعدّدة بحسب المناسبات ، فإنه يمكن لشيخ الشريعة أن يدّعي دعويين :

الدعوى الأولى : أننا وإن كنّا نرى ظهوراً سياقياً في ترابط الجملتين في رواية الشفعة لعقبة ، بيد أنه بعد تسليم ذلك الأصل الموضوعي ، لا يبقى أي ظهور في التعليل وذيلية نفي الضرر لقضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الشفعة ، لأن هذه المتون لو أرجعناها إلى متن واحد مفصّل ، لكان الأمر هكذا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الشفعة بين الشركاء ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : دية الجنين ... إلخ. ومن الواضح أنه لا ترابط بين هذه الجمل ، لأن المتكلِّم هو في مقام نقل المتفرّقات ، فينعدم هذا الظهور رأساً.

وبهذا التقريب يعلم أنه لا تتوقف تمامية هذه الدعوى على أن تكون تمام الأقضية التي نقلها عبادة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) موجودة في روايات عقبة ، بل تتوقف على إثبات ذلك الأصل الموضوعي وإن لم تكن مساوية لها.

١٢٥

ومن ثم يتبيّن أن الإشكال عليه (قدس‌سره) بأن روايات عقبة المروية من طرقنا لا تساوي العدد المذكور في رواية عبادة غير وارد.

والجواب عن هذه الدعوى : أنه لا يمكن قبول أن هذا الظهور في التعليل نشأ من تقطيع الأصحاب ، بل هو محفوظ في نفس الكلام الصادر من الإمام الصادق (عليه‌السلام) حتى بعد التسليم بذلك الأصل الموضوعي المتقدّم ؛ وذلك :

أوّلاً : كيف يمكن توجيه تكرّر جملة «لا ضرر ولا ضرار» مرّتين ، حيث جعلت مرّة في حديث الشفعة وأخرى في حديث منع فضل الماء ، مع أن التقطيع لا يقتضي تكرارها. فهذا التكرار لا يمكن تفسيره إلّا إذا كان واقعاً في كلام الإمام (عليه‌السلام) في مقام النقل.

لا يقال : إنه لما صدّرت جملة «لا ضرر ولا ضرار» ب «قال» فهو دليل على عدم كونها من تتمّة القضاء بالشفعة ، وإلّا لما استأنفت «قال» مرّة أخرى ،

لأن المفروض أن هذه الجملة هي استمرار للكلام السابق.

لأنه يقال : إن كل الأقضية افتتحت ب «قضى رسول الله» ، أو «من أقضيته صلى‌الله‌عليه‌وآله». ومن الواضح أن طبيعة مثل هذا السياق لا تسمح بعطف هذه الجملة على ما قبلها. نعم لو كان الراوي يقول : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشفعة بين الشركاء ، ... ولا ضرر ولا ضرار ...» لما كانت هناك حاجة إلى تكرار القول ، لكنه بدأ الحديث بقوله : «قضى» فلا بد أن يأتي ب «قال» ليمكن عطفها على ما قبله.

وثانياً : أن «لا ضرر ولا ضرار» حفّت بجملتين متعلّقتين بالشفعة ، حيث قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة في الأراضي والمساكن ،

١٢٦

وقال : " لا ضرر ولا ضرار" وقال : " إذا أرّفت الأُرف وحدَّت الحدود فلا شفعة"» ، إذن من البعيد جدّاً أن الذي قطّع الحديث جاء بهذه الجملة ووضعها قبل قوله «إذا أرّفت الأرف ...» التي هي قيد للقضاء بالشفعة ، مع أن التسلسل الطبيعي يقتضي أن لا يذكر القضاء الآخر إلّا بعد استكمال القضاء الأوّل. فلو لم تكن هذه الجملة من شؤون القضاء بالشفعة لما استحسن ذكرها بين هاتين الجملتين. وهذا يجعل لها ظهوراً في أنها متعلّقة بالشفعة ، لا أنها قضاء مستقل.

وثالثاً : حرص الكليني في «الكافي» على ذكر هذه الجملة منضمّة إلى الشفعة وحرمة منع فضل الماء ، وهذا لا وجه له إلّا إذا كان الأمر في نفسه كذلك ، فلم يشأ التفكيك بينهما ، وإلّا كان من المناسب بعد أن عقد باباً مستقلا باسم باب الضرار أن يذكر هذه الجملة كقضاء مستقلّ كما في غيره من الموارد. فربْط هذه الجملة بالشفعة لا وجه له ، إلّا إذا كان الترابط قائماً بينهما في أصل الرواية.

والحاصل أن ظهور هذه الجملة في التعليل والذيلية محفوظ حتى لو بنينا على أن تمام هذه الروايات هي رواية واحدة ، وقطّعها الأصحاب ، ولا يمكن

دعوى أن هذا الظهور نشأ من التقطيع محضاً ، بحيث لولاه لانهدم.

الدعوى الثانية : أنه حتى لو سلّمنا للقرائن التي ذكرت أن الحديث ظاهر في التعليل والذيلية ، إلّا أنه لا بد أن يرفع اليد عنه باعتبار وجود معارض أقوى ، وهو شهادة عبادة بأن هذه الجملة لم تكن ذيلاً وتعليلاً ، وإلّا لنقلها كذلك.

هذه الدعوى غير تامّة أيضاً ؛ وذلك :

١٢٧

أوّلاً : أن التعارض بين نقل عبادة ورواية عقبة إنّما يتم لو أحرز وحدة القضية المنقولة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو غير ثابت ، إذ من المحتمل أن هذه القضية التي سمعها عبادة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة لم تكن معلّلة ، إذ لا يستبعد أن يكون الحكم بالشفعة قد صدر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرّتين ، مرّة قضى بها معللة ونقلها الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، وأخرى لم تكن كذلك ، ونقلها عبادة. إذن فلا تعارض بينهما لعدم إحراز وحدة القضية.

وثانياً : لو سلمنا أن عبادة ينقل نفس القضية التي نقلها عقبة ، لكنه أسقط الذيل ، ولا ضير فيه ؛ لما تقدّم في الأبحاث السابقة أن إسقاط ما لا يكون قرينة على ما أتى به من الكلام لا محذور فيه ، و «لا ضرر ولا ضرار» ليس قرينة على الحكم بالشفعة بوجه من الوجوه ، لأنه هو مجرّد تعليل بقاعدة عامة للحكم. فعدم نقله لهذه الجملة لا يكون شهادة منه بعدم وجودها فيقع التعارض بين شهادته وظهور رواية عقبة ، ليقدم عليه بالأوثقيّة ونحوها. ولعل الذي شجّعه على عدم نقلها أنه تعرّض لنقل هذه الجملة المباركة مستقلا ، لأنها كانت من الأقضية المستقلّة التي سمعها من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

فتحصّل أنه لا يمكن تتميم الدعوى الأولى ولا الثانية ، مضافاً إلى عدم

تمامية الأصل الموضوعي في نفسه ؛ وعليه فلا يمكن إثبات استقلالية هذه الجملة ، بل الصحيح هو ذيليتها وفقاً لما نقله عقبة بن خالد.

تأييد النائيني لنظرية شيخ الشريعة

ثم إن المحقّق النائيني (قدس‌سره) بعد أن استعان بالأمارات والقرائن التي

١٢٨

ذكرها شيخ الشريعة لإثبات أن هذه الجملة هي قضاء مستقلّ من قِبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على مستوى سائر الأقضية الأخرى ، وليست تعليلاً وذيلاً لقضائه بالشفعة ، أضاف إليها نكاتٍ أخرى انتصاراً وتعزيزاً لهذا القول ، وهي :

الأولى : لو قلنا إن هذه الجملة هي تعليل لقضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة ، للزم منه أن تخلو رواية عقبة المفصّلة عن هذا القضاء المستقل الذي هو من أهم وأشهر قضاياه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المعدودة في سيرته التشريعية.

إلا أن هذا الكلام غير صحيح ؛ وذلك :

أوّلاً : أنه مبنيّ على افتراض وجود قضاء مستقلّ من قِبل النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمفاد هذه الجملة ، بحيث لو التزمنا أنها جاءت في رواية ذيلاً لا أصلاً ، فلا بد من فرض جملة أخرى تكون واردة بعنوان القضاء المستقل ، وهذا لا موجب له ، لأن الأنسب أن تكون «لا ضرر ولا ضرار» هي كبرى كلية تنشأ منها الأقضية المتنوّعة في الأبواب المختلفة.

ببيان آخر : إن القضاء عبارة عن الحكم في مقام فصل مشكلة من المشاكل التي يعيشها المسلمون ، ومن المعلوم أن «لا ضرر» إنما تكون حلّاً لمشكلة بعد أن تتحدّد وتتعيّن تعيّناً خارجيّاً في قضية معيّنة كالشفعة وإحياء الموات أو في قصة سمرة وأمثالها ؛ لذا فالمناسب أن ينصبّ القضاء على مصاديق هذه القاعدة.

إذن فلا حاجة إلى الالتزام بأن هناك قضاءً مستقلا بمفاد هذه الجملة ، لكي نتساءل على فرض ورودها ذيلاً : أين صار ذاك القضاء المستقل؟

١٢٩

وثانياً : لو سلّما وجود مثل هذا القضاء المستقل ، فإنه يمكن أن يقال : إن «لا ضرر ولا ضرار» وردت كقضاء مستقل تارة وكتعليل لقضاء آخر كالشفعة مثلاً أخرى ، وعقبة نقل الثاني دون الأوّل ، ولا غرابة فيه ، لأنّ عقبة إذا كان في مقام استقصاء تمام أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لكان لهذا الاستغراب مجال ، إلا أنه لم يعلم ذلك بوجه ، خصوصاً إنه لم يذكر عنه في مجموع كتبنا وطرقنا إلّا ما يقارب الثلث من أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) المنقولة في رواية عبادة الذي قبِل هذان العلمان روايته. فهذا بنفسه يكون مبعّداً لأن يكون عقبة في مقام استقصاء تمام أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، إذ لعل هذا من جملة ما لم ينقله لنا ؛ مضافاً إلى أن الذي شجّعه على عدم النقل أنه ذكر القاعدة بعنوان الذيل في بعض الأقضية ، فلا يرى مسؤولية في نقلها بعنوان مستقل أيضاً.

الثانية : أن «لا ضرر ولا ضرار» لو كان تعليلاً لقضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة ، فما يكون تعليلاً إنّما هو نفي الضرر ، أما نفي الضرار بالمعنى الذي سوف يأتي منه (قدس‌سره) فليس مرتبطاً بباب الشفعة. إذن فالفقرة الثانية لا دخل لها في التعليل ، فكيف يمكن أن يقال : إن هذه الجملة وردت في مقام التعليل؟

هذا الكلام غير تام أيضاً ؛ لأن الجملة الثانية وإن لم يكن لها دخل في تشريع الشفعة ، إلا أن ذكرها لا يتوقف على ذلك ، بل يكفي أن يكون بينها وبين الجزء الأول مناسبة تقتضي ذكرها وإن كان التعليل بالجزء الأول فقط ، خصوصاً إذا التفتنا أن من المحتمل أن يكون الغرض من إلقاء هذه الجملة بمجموع جزئيها أن تصاغ صياغة قانونية بنحو تكون شعاراً ورمزاً لقانون معهود في

١٣٠

الشريعة الإسلامية ، ومن الواضح أن هذا لا يتحقّق إلّا من خلال ذلك.

الثالثة : أن يقال : كما أن «لا ضرار» لا دخل له في الشفعة ، كذلك «لا ضرر» حيث لا يوجد أي ربط بينها وبين الحكم بالشفعة ، فإن هذا التعليل معناه أن مورد الشفعة هو من صغريات «لا ضرر» بحيث إن الفقيه إذا لم يكن عنده دليل على الحكم بالشفعة ، كان يفتي بذلك استناداً إلى هذه القاعدة ، مع أنه لا يظن بفقيه أن يستنبط حكم الشفعة على أساس ذلك. وحيث إن تطبيق هذه الكبرى على هذا الحكم خطأ بنحو لو صدر من فقيه لقلنا إنه استدلال خاطئ ، إذن فلا نحتمل صدور مثل هذا الاستدلال من قبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، ومن ثم لا بد من قبول أن هذه الكبرى كانت مستقلة ولم تكن تعليلاً بالنسبة إلى هذا المورد.

والجواب عن ذلك :

أوّلاً : فلما سيأتي في الفصل الرابع إن شاء الله أنّ التطبيق على الحكم بالشفعة تامّ وصحيح ، بحيث لو لم يكن هذا التطبيق موجوداً ، لاستطعنا استخراج هذا الحكم من القاعدة.

وثانياً : لو فرض أن جملة «لا ضرر ولا ضرار» بالمعنى المفهوم منها عرفاً لا تنطبق على مورد القضية ، فالأولى أن يجعل ذلك قرينة على إرادة غير المعنى الظاهر منها ، بنحو تقبل الانطباق على المورد ، لا أن يجعل ذلك قرينة على اشتباه الراوي ، لأنه إذا دار الأمر بين أن يراد المعنى غير الظاهر وبين أن نحمل كلام الراوي على الاشتباه والخطأ ، فمقتضى الصناعة التحفّظ على الأوّل ، لا أن نفترض كلاماً لا ينطبق مع الظهور المقتضي من كلام الراوي تحفّظاً على المعنى المأنوس في الذهن.

١٣١

وهكذا يتبيّن أن ما ذكره المحقّق النائيني (قدس‌سره) تأييداً لدعوى شيخ الشريعة لا يرجع إلى محصل. وعلى هذا فالنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الصحيح هو التحفظ على ظهور رواية عقبة بن خالد بأن هذه الجملة جاءت ذيلاً وتعليلاً للقضاء بالشفعة ، والنهي عن منع فضل الماء ومن ثم فهي تدلّ على نفي الضرر كقاعدة مشرعة. هذا إن قبلنا تماميّة سندها. أما إذا لم نقبل فسوف تكون رغم عدم حجيتها معزّزة ومقرِّبة للمعنى الذي سيأتي بيانه في محلّه.

هذا تمام الكلام في التهافت الواقع في الطائفة الثالثة ، وبه ينتهي الكلام في الجهة الثانية من البحث.

الجهة الثالثة

تعيين المتن في المراسيل

ولا يوجد في هذه الجهة مزيد كلام ؛ إذ ليس ثمّة ما يكون سبباً للتشويش في متن حديث الطائفة الثالثة ، إلّا زيادة «في الإسلام» في بعضها ، وعدم وجود هذا القيد في بعضها الآخر ، فيكون ما ورد مقيّداً منافياً لما ورد مطلقاً ، بل يكون منافياً للصيغة المطلقة الواردة في أقضية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو في قصة سمرة بن جندب ، أو توهم أن هذه القضية وقعت هنا مستقلة عن الصغرى والتطبيق ، في حين إنّه وردت في الطائفتين السابقتين مرتبطة بالصغرى.

وجواب ذلك كله واضح ، حيث إن كل هذا التهافت فرع إحراز وحدة الصدور ، ولم يحرز ذلك في المقام.

وبهذا تم الكلام في الفصل الثاني.

١٣٢

الفصل الثالث

مفاد كلمة «الضرر» و «الضرار»

١٣٣
١٣٤

يعقد هذا الفصل لشرح مفردات الحديث. وقد ورد فيه فقرتا نفي الضرر ونفي الضرار ، فلا بد من تحديد كل من «الضرر» و «الضرار». فهنا بحثان :

البحث الأوّل : بيان معنى الضرر

اختلف كلمات اللغويين في معنى كلمة الضرر ، فذكر بعضهم أنه عبارة عن الضيق والشدّة وسوء الحال ، وذكر آخرون أنه عبارة عن النقص في النفس والمال والعرض.

والذي يساعد عليه الارتكاز العرفي في مقام التوفيق بين هذين المعنيين ، هو حملها على أنهما في مقام بيان جانب من هذا المفهوم ؛ حيث إن له بحسب المتفاهم العرفي جانبين ، أحدهما موضوعي (أي ما هو خارج نطاق ذات الإنسان) والآخر ذاتي.

فالموضوعي يتمثّل في تفسيرهم الضرر بالنقص في المال والنفس والكرامة.

والذاتي أو النفسيّ هو الذي يعبَّر عنه بسوء الحال والضيق والشدّة ؛ فإنّ الضرر من هذه الناحية يختلف عن الحرج والنقص ، لأن مفهوم النقص متمحض في الجانب الموضوعي والخارجي ، من دون أن يلحظ فيه جهة أثر على الإنسان ، وبذلك يختلف عن مفهوم الضرر ؛ وعلى العكس منه مفهوم الحرج أو الضيق وسوء الحال فإنها متمحضة في البُعد النفسي والذاتي ، لأن

١٣٥

الحرج الذي يقع فيه الإنسان قد يكون ناشئاً من وهم وخيال من دون أي واقع خارجي يؤدّي إليه. أما الضرر فهو يختلف عنهما. فاختلافه عن النقص لأنه مطعّم بالناحية النفسية ، وعن الحرج لأنه مطعّم بالناحية الموضوعية. فالضرر ليس هو النقص مطلقاً ولا الحرج مطلقاً ، لذا قد يصدق النقص ولا يصدق الضرر ، كما أنه ليس مساوقاً مع الضيق والشدّة بحيث كلما صدق هذا صدق الضرر ، لأنه يصح أن يقال : إنه ضيّق الصدر بلا سبب ، ولكن لا يصحّ أنه متضرّر بلا سبب. فمن نظر إلى الجانب الموضوعي فسّر الضرر بالنقص ، ومن نظر إلى الجانب الذاتي فسّره بسوء الحال والشدّة والضيق.

والحاصل أن الضرر عبارة عن النقص في حيثية من الحيثيات العائدة إلى الإنسان ، مما يكون مؤدياً إلى الشدّة والضيق وإلى نوعٍ من سوء الحال. ولا يشترط أن يكون سوء الحال مؤثراً بالفعل ، بل أن يكون بحيث يؤدّي بحسب شأنه وطبعه إلى ذلك ؛ لذا يصدق الضرر حتى مع عدم علم المتضرّر ، فيقال : وقع عليه الضرر ، إذا سرقت أملاكه ، وإن لم يعلم بعد. فالضيق لم يتحقّق بالفعل ولكن من شأنه ذلك.

وهذا معناه أن الضيق مستبطن بنحو الشأنية في مفهوم الضرر لا بنحو الفعلية. وعلى هذا الأساس تخرج مراتب النقص التي لا تستبطن هذا الضيق ، ولا يصدق عليه أنه ضرر وإن كان نقصاً ، فالتاجر الذي تلف منه درهم لا يصدق عليه أنه تضرّر وإن كان نقصاً. وقد يختلف النقص الواحد باختلاف الموارد ، فقد يكون في بعضها ضرراً وقد لا يكون ، باعتبار ما يترتّب عليه من سوء الحال أو لا يترتّب. إذن فالضرر ليس مجرّد النقص حتى يساوقه ، بل هو يستبطن بعداً نفسيّاً لا بد أن يلحظ حدوده في مقام صدقه.

١٣٦

انقسام الضرر إلى مطلق ومقيّد

ثم إن الضرر ينقسم إلى مطلق ومقيّد.

وهذا الإطلاق والتقييد يلحظ تارة في جانب الموضوع ، أي الشخص المتضرّر ، وأخرى في جانب المحمول ، أي صدق هذه الصفة. مثاله : أن الضرر مرّة يصدق عليه باعتبار شؤونه العامة بلا إضافة حيثية عارضة عليه ، كمن فقد شيئاً من أمواله ، فيصدق عليه أنه متضرّر ، وصدق الضرر هنا مطلق ، لأنه يصدق على الذات بلا أن يؤخذ معها قيد خاص. وأخرى يُفرض أن الضرر لا يصدق على الذات ، إلا إذا أُخذ معها حيثية خاصة. فالذات بما هي متحيّثة بتلك الحيثية يصدق عليها أنها متضرّرة ، لا بما هي ، وذلك كالتاجر عند ما لا يربح في تجارته.

وليس هذا الإطلاق من باب أن عدم النفع مع وجود مقتضيه يكون ضرراً كما قيل لأنه لا يطّرد في جميع الموارد. فلو كان لشخصٍ ابنُ عم ثريّ يرثه إذا مات ، فلا يصدق عليه أنه تضرّر إن خسر المورث ماله. وإنما يصدق الضرر على عدم ربح التاجر باعتبار نكتة الحيثية التقييدية ، فإن التاجر يتعلّق غرضه بالاسترباح. فزيد المقيَّد بأنه ذو غرض في الاسترباح وقع عليه الضرر ، لا بما هو زيد ، لأن نفسه وماله وكرامته محفوظة لم تنقص. أليس الربح للتاجر نحو غرض عقلائي يترقّب حصوله وتحقّقه خارجاً ، فلو لم يتحقق لكان نقصاً بحسب النظر العرفي. وهذا هو الضرر المقيّد والمضاف ، لأنه ضرر بلحاظ هذه الحيثية ، لا ضرر بقول مطلق.

أما الضرر من ناحية المحمول ، فأيضاً يصدق تارة في نظر كل شخص ، كما لو فرض أنه نقص من أموال شخص شيء إما بنحو الشبهة الموضوعية

١٣٧

كما لو تلف بعض أمواله ، أو بنحو الشبهة الحكمية ، كما لو أمّمت أمواله أو أُلغيت ملكيته ، فيقع عليه الضرر فيهما معاً. وأخرى يفرض أن الضرر يختلف من نظر إلى آخر ، فيكون بحسب لحاظ ضرريّاً دون الآخر. فتشريع عدم تملك الشخص لما يحييه من الأرض كما هو المتعارف في الأنظمة الاشتراكية تختلف ضرريته باختلاف الأنظار ، لا أنه ضرر بقول مطلق ، فهو ليس ضرراً أصلاً في النظر التشريعي لهذا المشرّع ، لأنه لم ينقص بهذا شيء من ماله. أما في نظر تشريعي آخر مرتكز فيه أن من أحيى أرضاً مواتاً فهي له ، فيعتبر هذا التشريع ضرريّاً. هذا هو الضرر المقيّد بلحاظ المحمول ، في قبال المطلق الذي يكون ضرراً في نظر كل شخص.

من هنا كان هذا الضرر في مقابل المنفعة ، فإنها أيضاً تستبطن جانباً موضوعيّاً وآخر ذاتياً ، وبهذا تختلف عن الزيادة ، فإن المنفعة فيها الزيادة التي هي الجانب الموضوعي ، وفيها حيثية إضافة هذه الزيادة إلى المنتفع وهو الجانب النفسي والذاتي. فكما أن مفهوم الضرر يستبطن كلا الجانبين فكذلك مفهوم المنفعة من هذه الناحية.

وهكذا اتضح المراد من تقسيم الضرر إلى مطلق ومقيّد ، وأن المطلق هو الضرر المضاف إلى الذات بما هي بلا أخذ حيثية طارئة عليها إلّا بمقدار ما يؤخذ من هذا اللفظ من عنايات واعتبارات أولية بلا ضميمة غرض اتفاقي قد يحصل وقد لا يحصل ، والمقيد هو الذي يصدق إذا لوحظ في الموضوع خصوصية ، فما لم تكن تلك القرينة على ملاحظة تلك الخصوصية الزائدة ، فإن إطلاق الضرر لا يكون شاملاً له.

نعم قد يتّفق الغرض الذي هو الخصوصية الزائدة من الأغراض العقلائية

١٣٨

الملازمة بحسب وضع العقلاء مع العموم ، بحيث تبلغ إلى مرتبة من المشروعية في نظرهم ، بنحو لا تزيد على نفس الإنسان ، فتكون من الجهات المندمجة في ملاحظة الإنسان بالعنوان الأوّلي بلا حاجة إلى عناية زائدة ؛ ومن هذا القبيل : الأغراض المعاملية التي استقر ديدن الفقهاء (قدّست أسرارهم) في كل العصور على الحكم بالخيار في فرض تخلّفها ، وتمسّك كثير منهم بقاعدة «لا ضرر» ، وسوف يأتي في تنبيهات المسألة تحقيق الكلام فيه. إلّا أننا على سبيل المثال نشير إلى أن هناك أغراضاً معاملية من قبيل غرض الصحة في البيع ، وغرض عدم تبعّض الصفقة ، وغرض المساواة بين الثمن والمثمن في المالية. هذه أغراض يوجب تخلّفها في المعاملة نحو ضرر ، وباعتبار عمومية هذه الأغراض بحسب النظر العقلائي والتصاقها بكل إنسان ، تكون كأنها داخلة تحت النظر الأولي للإنسان من دون حاجة لأن يفرض التفات آخر إليها كغرض الاسترباح بالتجارة ، فإنه من الأغراض الاتفاقية التي قد تحصل وقد لا تحصل ، فيحتاج شمول الإطلاق إلى عناية ملاحظة هذه الخصوصية.

انقسام الضرر إلى الحقيقي والاعتباري

ثم إن الضرر المطلق والمقيّد من حيث المحمول ، يكون تارة واقعياً حقيقياً من دون أن يختلف فيه نظر ، كمن قطعت أصابع يده ؛ وأخرى يفرض أنه ضرر بلحاظ التشريع وفي طوله ، لا أنه ضرر بقطع النظر عنه. فمن احترق داره لا يكون ضرراً عليه ، إذا قطع النظر عن كونه مالكاً لهذا البيت ومتعلّقاً به بحسب التعايش الاجتماعي ، نعم هو ضرر في طول رابطة اعتبارية اقتضتها طبيعة العلاقات الاجتماعية. فالضرر هنا ليس حقيقياً تكوينياً ، بل هو ضرر

١٣٩

في طول تلك الرابطة التشريعية.

ومن الواضح أن القسم الأول من الضرر يختلف عن القسم الثاني ، وذلك لأن الأول ضرر تكويني ولا ربط للتشريع في تحقّقه ، ومن ثم فهو صادق مطلقاً.

أما الثاني فيختلف صدقه باختلاف الأنظار بالنسبة إلى ذلك التشريع ؛ لذا تقدم أن حكماً واحداً قد يكون بنظر تشريعي ضرراً دون نظر تشريعي آخر.

إذا اتّضحت هذه الأقسام نقول : إن الضرر إذا كان مطلقاً ، فلا إشكال في شمول الدليل له. أما إذا كان مقيّداً ، أي بلحاظ دون آخر ، فهنا لو استفيد من الدليل إمضاء ذلك اللحاظ والنظر الذي به يصدق عنوان الضرر ، يكون الإطلاق شاملاً له أيضاً ، من قبيل الحكم بعدم ملكية محيي الأرض في النظام الإسلامي ، وإلّا فلا يشمله ، كمن يتلف الخمر الراجع إلى الغير مثلاً ، فإنه ليس ضرراً عليه في التشريعات الإسلامية لعدم اعتبارها مالاً ، ولكنه ضرر في القوانين غير الإسلامية.

شمول الضرر لما يعدّ هتْكاً للكرامة

ثم إننا قلنا : إن الضرر له جانب موضوعي هو النقص ، فلا بد من تحديد دائرة النقص ، ذكروا : أن النقص إما أن يكون في النفس أو المال أو العرض ، ولنعبّر عن الثالثة بتعبير أوسع وهو الكرامة والاعتبار. فإن الحيثيات المرتبطة بالإنسان ، إما حقيقية راجعة إلى نفسه ووجوده ، وإما اعتبارية كالجاه والعرض والكرامة ، وإما ماليّة. فأي نقص يطرأ على واحد منها يكون ضرراً بلا إشكال ، كما أن أي زيادة تطرأ في مثل هذه الأمور تعدّ منفعة.

وتوهم عدم صدق الضرر بالنسبة إلى العنوان الثالث من هذه العناوين

١٤٠