لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

شريطة أن تكون موجودة في عصر الشارع ، أما تلك التي استجدّت في العصور المتأخّرة عن ذلك فلا يشملها إطلاق الدليل.

أما شمول الإطلاق للارتكازات العقلائية المعاصرة له ، فلأن المتكلّم أي الشارع مستعمل عرفي للكلام ، فيلحقه القانون الذي يحكم المحاورات العرفية ، فيجري على حسب الطريقة المتّبعة عند تلك الأعراف ، ولما كان اللفظ بحسب الارتكاز العقلائي شاملاً لتمام هذه الأفراد ، إذن إذا استعمله الشارع يكون الأصل فيه أن يجعله شاملاً بإطلاقه اللفظي لهذه الأفراد المعاصرة له. وبتعبير آخر : المفروض في هذا المستعمل أن يلحظ ذلك النظر العرفي في مقام استعمال العنوان ، ومن الواضح أن المفهوم بلحاظ هذا النظر شامل لخصوص الأفراد الموجودة في عصر صدور النص لا غيرها.

وأما عدم شمول الخطاب للأفراد المستجدة بعد عصر الشارع ، فذلك لأن مثل هذا الفرد الذي استجدّ من خلال عرف أو ارتكاز عقلائي بعد عصر النص ، لا يمكن أن يشمله الخطاب ، لأن شموله له فرع إحراز أن يكون الشارع قد لاحظ هذا النظر العرفي الجديد حين استعماله اللفظ. ولا قرينة تدل على ذلك. بخلافه بالنسبة إلى النظر العرفي المعاصر له حيث توجد قرينة على ذلك ، هي عرفيته وانتسابه إلى ذلك العرف باعتباره فرداً من أفراده. من هنا لا يمكن تعميم الإطلاق اللفظي ليشمل الأفراد المستجدة بعد ذلك ، وكذلك لو قلنا بالإطلاق المقامي ، فإنه لا يمكن التعميم أيضاً ، لكون سكوت الشارع إنّما هو إمضاء لتلك الارتكازات المعاصرة له لا غير.

وتأسيساً على ذلك لو طبّقنا هذه الكبرى على قاعدة «لا ضرر» في المقام ، فإنها لا يمكن أن تشمل المصاديق والأفراد الضررية الاعتبارية المستجدّة

٢٨١

بعد عصر التشريع ، لعدم انعقاد إطلاق لفظي أو مقامي لشمولها كما لا يخفى.

ومنه يتضح عدم تمامية ما ذكرناه في ذيل الوجه الثاني ، من أن الإطلاق اللفظي لو تمّ فإنه ينتج قضية حقيقية تشمل كل ضرر حتى المستجدّ منه بعد عصر التشريع.

لكن حتى لو افترضنا تمامية الإطلاق اللفظي في «لا ضرر» لمثل هذه الإضرار المستحدثة ، فلا بد من تقييد مفادها بما كان في عصر التشريع ضرراً لا أكثر ، وذلك لأننا لا نحتمل أن يكون التشريع الإلهي المجعول بهذه القاعدة تابعاً للضرر الحاصل من النظر التشريعي المتجدّد للعرف والعقلاء عبر الزمن. وبتعبير آخر : لا نحتمل أن يكون النظر العقلائي المتجدّد مأخوذاً على وجه الموضوعية لهذا الحكم الشرعي ، بحيث إن الشارع يعلّق حكمه على صدق عنوان الضرر بحسب الارتكازات العقلائية المتغيّرة ، بسبب تطوّر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها من العوامل المؤثرة في تكوين جملة من الارتكازات والحقوق والأعراف التي لم تعهدها الشريعة في زمان صدورها.

نعم من المعقول أن يرتبط الحكم الشرعي بالارتكاز العقلائي بنحو المعرّفية ، وهذا إنّما يتصوّر فيما لو قصر النظر على الارتكاز المعاصر للمعصوم (عليه‌السلام) حيث إن مرجعه إلى أن هناك ارتكازات محدّدة ومعيّنة كانت قائمة بين يدي الشارع ، فصار بصدد إمضاءها لأنها مصيبة للواقع ؛ وإلّا لو لم يكن كذلك للزم ما نقطع بعدم إرادة الشارع له.

توضيحه : أن الارتكازات العقلائية لو كانت موضوعاً للحكم الشرعي بنحو القضية الحقيقية ، فهذا مرجعه إلى أن هذه الارتكازات تكون هي مدار

٢٨٢

التحليل والتحريم ، وعلى هذا الأساس لو تحوّل الارتكاز لتغيّر الحكم الشرعي تبعاً لذلك أيضاً. كما لو فرض أن الأعراف الاجتماعية والارتكازات العقلائية اقتضت ضمن ظروف سياسية واقتصادية معيّنة نابعة من بعض الأفكار الاشتراكية ونحوها ، أن يكون للعامل حق في الربح الذي يجنيه صاحب العمل ، بحيث كان عدمه ضرراً حقيقة بلحاظ هذا النظر العرفي ، فإنه يلزم بناءً على ذلك جواز تطبيق «لا ضرر» في المقام وإثبات الحق للعامل. مع أنه لا إشكال في عدم إمكان تطبيق القاعدة في مثل هذه الموارد وما يشابهها.

من هنا قلنا إننا لا نحتمل تبعية الحكم الشرعي لمثل هذه الارتكازات المتجدّدة ، وهذا سوف يكون بنفسه صارفاً للكلام عن الظهور في هذا الوجه لو كان له ظهور في ذلك. ويتعيّن حينئذٍ الاقتصار على خصوص الارتكاز المعاصر للشارع ، وتكون القاعدة إمضاءً له ، إما بنحو الإطلاق اللفظي أو المقامي.

اللهمّ إلّا أن يقال : إن المولى قد علم بمقتضى علم الغيب ، أن كل ما سيجعله العقلاء خارجاً ، سوف يكون مطابقاً لما يريده الشارع منهم.

إلّا أن هذه الدعوى مقطوعة البطلان ، لعلمنا أن الشارع في مثل هذه البيانات الملقاة إلى الناس لتحديد مواقفهم الشرعية ، لا يستعين بأساليب خارجة عن قوانين المحاورات العرفية عند العقلاء.

فتحصل إلى هنا أن هذه القاعدة وأمثالها من الخطابات الشرعية ، إنّما تختص بأفرادها الحقيقية والاعتبارية التي تثبت من خلال ارتكازات عقلائية نحرز وجودها في عصر التشريع فقط ، ولا يمكن تعميمها للمصاديق العرفية المتأخّرة عن ذلك ؛ إلّا أنه مع هذا يمكن إبراز بعض النكات التي قد توجب

٢٨٣

توسعةً ما في مفاد الدليل ، لكي يشمل بعض المصاديق التي ثبتت في أزمنة متأخّرة عن عصر النصّ.

النكتة الأولى : أننا لا بد أن نرى أن الشارع عند ما أمضى ذلك الارتكاز العقلائي المعاصر له ، هل كان بصدد إمضاء ما هو في حدود المعمول به خارجاً وقام التعارف عليه ، أم كان الإمضاء أوسع من مقدار الجري العملي لذلك الارتكاز؟

فإن قلنا : إن الإمضاء كان بالنحو الثاني ، فالميزان حينئذ ليس هو التفات العرف المعاصر للشارع إلى أن هذا الفرد الحادث بعد عصر النص مصداق لذلك الارتكاز ، وإنما المعيار تصديقه بفردية الفرد وإن كان غير ملتفت إليه بالفعل. ولما كان المفروض أن المستعمل لهذا اللفظ أي الشارع ، نظره مطابق لنظر العرف في مقام الاستعمال ، فلازمه أن يصدّق بفردية هذا الفرد ، فيشمله إطلاق خطابه.

من هنا يتضح أن النكتة العقلائية إذا كانت عامة غير مستجدّة ، بل موجودة منذ عصر التشريع ، لكنها لم تكن متجلّية إلّا في أفراد محدودة بسبب ضيق الحياة وقتئذ ، وادّى بعد تطوّر الحياة إلى أن تستجدّ أفراد أُخر لو التفت إليها أولئك العقلاء ، لحكموا بانطباق تلك النكتة عليها ؛ فمثل ذلك يشمله إطلاق الدليل بلا إشكال. وهذا ما نصطلح عليه بأن الإمضاء منصبّ على تلك النكتة العقلائية التي هي أساس العمل الخارجي للعقلاء وملاكه في نظرهم. ومن الواضح أننا في مثل هذه الموارد لا نحتاج إلى التطبيق الفعلي والالتفات التفصيلي لكل الأفراد التي تشملها تلك النكتة العقلائية ؛ من قبيل ما لو فرضنا أن السيرة العقلائية كانت قائمة على سببيّة الحيازة للتملّك ،

٢٨٤

وكان المقدار المعمول به فيها خارجاً هو الحيازة بما يتناسب مع الإمكانات والوسائل المتاحة في ذلك الزمان ، كالاغتراف والاحتطاب ونحوهما ، لكن بعد تطوّر الحياة بحسب إمكاناتها العلمية ، استجدّت مصاديق جديدة كحيازة الطاقة الكهربائية مثلاً ، فإنه يمكن أن يقال إنها مشمولة لنكتة المالكية بالحيازة الثابتة في عصر التشريع.

كذلك في المقام فإنه لو فرض أن فرداً من أفراد الضرر في عرفنا المعاصر لم يكن موجوداً في عصر التشريع بشخصه ، من قبيل حق التأليف للمؤلف وحق الطبع للناشر وغيرهما من الحقوق المعنوية والاعتبارية ، ففي مثل هذه التطبيقات وما يشابهها ، تثبت هذه الحقوق ب «لا ضرر» ، لأن المفروض أن سلبها يعدّ ضرراً عرفاً ؛ إذ الملاك في جريان القاعدة هو النظر إلى سعة النكتة العقلائية الممضاة في عصر التشريع ، ولا عبرة بالحدود المعمول بها خارجاً من مصاديق تلك النكتة.

النكتة الثانية : إذا كانت نكتة الارتكاز في نظر الفقيه في أي عصر تقتضي نفي الحكم لكونه ضرريّاً ، وشككنا في أن هذه النكتة كانت موجودة في عصر التشريع أم لا؟ فهذا معناه أن الخطاب الموجود في هذا العصر ظاهر في الشمول لمثل هذا الفرد ، لكن نشك في أن هذا الظهور ، هل هو حادث أو كان موجوداً في عصر صدور الخطاب أيضاً؟

هنا تجري أصالة الثبات في الظهور على ما اصطلحنا عليه في مبحث حجية الظواهر ، أو أصالة عدم النقل كما هو المتعارف في كلمات المشهور

٢٨٥

من علمائنا (١) ، فإنه كلّما وجد ظهور في لفظ وشك في تأخّره وتقدّمه ، يبنى

__________________

(١) قال أستاذنا الشهيد في مبحث حجية الظواهر : «أن اللغة إنما جعلت وقررت لأجل قضاء حاجة الإنسان في مقام التفهيم والتفهّم وإبراز مراد كل شخص للآخرين ؛ من هنا كانت تتأثر وتنفعل بمختلف العوامل والمؤثرات التي تؤثر في حياة الإنسان ، فمهما اختلفت حاجات الإنسان وأغراضه وطرز معيشته ، فسوف تختلف اللغة بقدرٍ ما تبعاً لذلك. وهذا التطور فيها لا يقتصر على خصوص الظواهر الإفرادية ، بنحو يكون للكلمة معنىً فينقل إلى معنىً آخر ، بل هناك مصاديق أخرى ، كالتطور الحاصل في الظواهر والتركيبات اللغوية. فإنه كما يختلف المدلول التصوّري والوضعي لكلمة واحدة من عصر إلى آخر وهو المسمّى بالنقل عندنا ، كذلك يختلف المدلول السياقي للجملة التركيبية ، بحيث إن ظهور جملة بمجموعها وإن كانت كل مفردة فيها باقية على معناها الموضوع له ، ولم يختلف باب الوضع فيها ، إلا أن الظهور السياقي للمجموع المركّب قد يعطي في عصر معنىً يختلف عمّا يعطيه في عصر آخر ، وذلك باعتبار اختلاف حياة الناس وتجدّد أفكارهم ومعلوماتهم ونحوها. بل قد نجد التغيّر في الظهورات التصديقية والسياقية يتفق بالنسبة إلى طبقة دون أخرى ، وإن كانوا جميعاً يعيشون في عصر واحد ، من قبيل أن يعيش صنف من الناس أبحاثاً مخصوصة تجعلهم يفهمون معنىً من جملة ، لو أُلقيت على آخرين لم يعيشوا تلك الأبحاث لفهموا منها معنىً آخر. نعم هناك ثبات نسبي لفترة معينة ، إلّا أن هذا الثبات لو لوحظ مع عمود الزمان لم يكن كذلك.

والحاصل أن ظواهر اللغة والكلام تتطور وتتغيّر على مرّ الزمن ، بفعل مؤثرات مختلفة لغوية وفكرية واجتماعية ، فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور النص مخالفاً للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك. من هنا قد يفصّل بين الشخص الواقع في قطعة الثبات من اللغة ، وبين الآخر الواقع في عمود الزمان الخارج عن هذه القطعة النسبية لثبات اللغة ، فيقال إن الظهور حجّة بالنسبة إلى

٢٨٦

__________________

الأوّل دون الثاني.

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ أن نرى موضوع الحجية ، هل هو الظهور في عصر صدور الكلام أم في عصر السماع المغاير له؟ إنْ فُرض أنّ موضوع الحجّية هو الظهور في عصر السماع ، فهذا لازمه أن هذا الظهور الفعلي هو الحجّة علينا ، كما كان الظهور المعاصر لزرارة مثلاً هو الحجّة عليه. وهكذا بالنسبة إلى كلّ عصر. إلّا أن التحقيق بين الأصوليين أن موضوع الحجية ليس هو الظهور في عصر السماع ، بل هو الظهور في عصر الصدور ، وذلك لأن حجية الظهور من الأصول العقلائية الثابتة بملاك الكشف النوعي ، لا بملاك التعبّد الصرف ، ومن المعلوم أن ما هو الكاشف عن مراد الشارع إنما هو الظهور في عصره لا في عصرنا ، لأن ظاهر حال المتكلِّم أن إرادته الجدّية على طبق ما هو ظاهر كلامه بحسب قواعد اللغة المعاصرة له.

وعلى هذا الأساس تتولّد مشكلة أساسية مهمّة في فهم النصوص ، مفادها أنه كيف يثبت أن هذا الظهور الفعلي بعد ما عرفنا من حقيقة اللغة وطبيعتها في التغير والتطوّر ، كأي ظاهرة اجتماعية أخرى ، وإن كان ذلك بطيئاً مطابق للظهور المنعقد في عصر صدور النص. وقد حاول الأصوليون أن يعالجوا المشكلة من خلال أصل عقلائي أسموه أصالة عدم النقل ، وقد يسمّونه بالاستصحاب القهقرائي ، لأنه يشبه الاستصحاب ، ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً ، إلّا أنه من الواضح عدم إمكان استفادة حجّيته من دليل الاستصحاب ، وإنما هو مفاد السيرة العقلائية. ومن خلال ذلك أثبتوا أن الظهور الفعلي المعاصر لنا هو نفس الظهور المنعقد في عصر الشارع ، وبذلك يتنقح موضوع أصالة الظهور ، فتثبت الحجية لهذا الظهور الفعلي. إلا أن أصالة عدم النقل قاصرة عن إثبات عدم التغيّر في الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضاً ، من هنا أبدلنا هذا الاصطلاح بأصالة الثبات في الظهور

٢٨٧

__________________

ليشمل كلا القسمين معاً.

والظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في تمامية أصالة الثبات وعدم النقل في الظهور ، بلحاظ السيرة العقلائية والمتشرعية.

أما الأوّل ، فإنا نجد العقلاء يبنون على عدم النقل ، وهذا البناء منهم يقوم على أساس استنتاج خاطئ من التجربة الشخصية لكل فرد منهم ، حيث إن كل واحد بحسب تجربته الخاصة في الفترة المنظورة له في حياته ، لا يجد أي تغيّر في اللغة غالباً ، وذلك للثبات النسبي الذي تعيشه اللغة بسبب التطوّر البطيء فيها ، وهذا ما يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مر الزمن.

طبعاً لو أن كلّ إنسان كان منطقياً في استنتاجاته لما استطاع أن ينتهي من خلال تجربة شخصية محدودة وقصيرة بحسب عمر الزمان إلى أن اللغة ظاهرة ثابتة ، وأن التغيّر حالة استثنائية طارئة عليها ، ولكن العرف لا يتبع الاستنتاجات المنطقية دائماً فيما ينتهي إليه من ارتكازات. من هنا نجد العقلاء بما هم أهل العرف يعمّمون نتيجة هذه التجربة المحدودة والقصيرة ، ويفرضون الثبات في طبيعة اللغة ، ويجعلون ذلك هو الأصل الحاكم فيها. وهذه النكتة هي التي ارتكزت في أذهانهم وأدّت إلى أصالة عدم النقل ، أي إن هذا الفهم المغلوط والإيحاء الخادع أصبح سبباً لبناء العقلاء على أن احتمال التغيير ملغىً في قبال احتمال الثبات.

وهذا البناء العقلائي له مظاهر متعدّدة ، من قبيل أننا نجد العقلاء في مقام التوصل إلى أغراضهم ومقاصدهم ، يعتمدون هذا الأصل ، فلو أرادوا أن يفهموا نصّاً لصيغة وقف أو وصية ونحوهما ، فإنهم يستظهرون من اللفظ ما هو المتعارف في عصرهم ، حتى لو كان الفاصل الزمني بينهم وبين زمان الوقف والواقف ممتداً وطويلاً. فإذا ثبتت مثل هذه النكتة في ارتكاز العقلاء ، أمكن أن يقال : إنّ هذه النكتة بطبيعتها تقتضي جريان العقلاء على وفقها في نصوص الشارع أيضاً. فلو فرض أن مثل هذا المطلب

٢٨٨

علی أنّه كان موجوداً من أوّل الأمر. من هنا فلا نحتاج في مقام تطبيق قاعدة

__________________

لم يكن مرضياً عنده ، وكان يرى أن إلغاء احتمال التغيير تعبّداً غير تام ، لنبّههم وردعهم ، لأن المفروض أن هذه النكتة تشكّل خطراً على أغراضه التشريعية ، وحيث إنه لم يردع نستكشف منه إمضاءه لهذه الطريقة وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور المعاصر لصدور الكلام. وليس معنى إمضاء هذه النكتة أن الشارع غفل عمّا غفل عنه العرف ، بل المراد أنه أمضى هذه الحجية الموجودة في أذهان العقلاء وإن لم تصحّ مبانيها النظرية ، لعدم وجود الملازمة بين إمضاء الحجية وقبول مبانيها النظرية ؛ إلّا أنه رأى بحكمته البالغة أن إرجاع الناس إلى أصالة عدم النقل والثبات ، أصلح من إرجاعهم إلى مرجع آخر ، فنستكشف من ذلك إمضاء الشارع هذا القدر من الحجية لا ذلك الأساس النظري المغلوط.

وأما الثاني ، فلأن المتشرّعة في عصر الأئمّة (عليهم‌السلام) عاشوا مدّة طويلة من الزمان ، منذ أيام عصر النبوّة إلى عصر الإمامين الهادي والعسكري (عليهما‌السلام). وفي هذه الفترة الممتدة لقرنين ونصف تقريباً. اختلفت أوضاع المسلمين في مجالات كثيرة ، فكرية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ، وذلك لعوامل متعدّدة كالترجمة والفتوحات ونحوهما ، بالرغم من ذلك كلّه نجد أن المتشرعة كانوا يعملون بظواهر الكتاب والسنّة على نحو واحد ، من دون فرق بين أوائل هذه الفترة أو أواسطها أو أواخرها ، من دون أي رادع من قبل أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) وهذا تعبير آخر بحسب الحقيقة عن أن العقلاء عملوا على طبق سجيتهم وارتكازاتهم في نصوص الشارع أيضاً. فسكوت المعصومين (عليهم‌السلام) وعدم تصديهم للردع ، دليل على إمضاء هذه الطريقة وقبولها» (تقريراتي الشخصية عن الأستاذ الشهيد) مخطوط.

٢٨٩

«لا ضرر» على المصاديق الضررية في عرفنا المعاصر ، أن نقيم دليلاً تاريخياً يثبت أن هذا الارتكاز كان ثابتاً في عصر صدور الكلام أيضاً ، وهو ما يتعسّر غالباً أو يتعذّر. وإنّما يكفي أن يكون لهذا الارتكاز وجود في زماننا بنحو يكون للقاعدة ظهور في الشمول له. حينئذ يثبت هذا الظهور من أوّل الأمر أيضاً ببركة أصالة الثبات وعدم النقل. وهذه هي سيرة علمائنا الفقهية على مر التاريخ ، فإنهم كانوا يستدلون بقاعدة «لا ضرر» حسب ارتكازاتهم التي يعيشونها في مقام استنباط الأحكام من هذه القاعدة.

على أساس هاتين النكتتين تترتّب آثار مهمّة على هذه القاعدة وأمثالها في مقام الاستنباط ، وتنحلّ عقدة كان يعيشها الفقه السنّي أولاً ثم عاشها الفقه الشيعي ثانياً ، وحاصلها : أن الفقه السنّي انقطعت عنه الروايات والأحاديث بانتهاء عهد النبوّة ، حيث إن ذلك الاتجاه لم يقبل امتداد عصر النص من خلال أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام). وبمرور الزمان استحدثت وقائع كثيرة لم تكن مورداً للنصوص. فصاروا بصدد تأسيس جملة من المباني لأجل تغطية حاجة الفقيه في هذه المسائل كالمصالح المرسلة ، حيث صار الفقيه يشخّص بحسب ارتكازاته وذوقه المصالح والمفاسد ويحكم على أساسها. إلا أن أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام) لما كانوا يعتقدون بأن النص الوارد عن الإمام (عليه‌السلام) كالنص الوارد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقعوا في تلك المشكلة بعد العهد النبوي ، وإنما كانوا يراجعون أئمة أهل البيت «عليهم‌السلام» في هذه الوقائع والمسائل المستجدّة لمعرفة أحكامها.

بيد أن هذه المشكلة بدأت في الظهور بالنحو الذي واجهت الفقه السنّي ، بعد أن انقطعت صلة أئمّة أهل البيت «عليهم‌السلام» بشيعتهم ، ولما لم يكن بالإمكان

٢٩٠

إرجاع جميع هذه الوقائع والحوادث إلى العمومات الاجتهادية لمعرفة أحكامها ، فتح جملة من الفقهاء باب الاستدلال بالسيرة العقلائية ، فصاروا يعوّضون عن الفراغ الموجود في الروايات بالسيرة ، لذا نرى أن كثيراً من أحكام فقه المعاملات يُستدل فيها بالسيرة ولا تذكر آية أو رواية فيها.

وهذا بحسب الحقيقة علاج لنفس المشكلة التي عالجها الفقه السنّي عن طريق المصالح المرسلة ونحوها ، حتى قيل أخيراً إن السيرة هي الدليل الخامس في الفقه.

لكن طريقة تصوّر الفقه الشيعي للسيرة العقلائية يختلف تماماً عن تصوّر الفقه السنّي للمصالح المرسلة ونحوها. حيث لم يكن يرى فقهاء مدرسة أهل البيت «عليهم‌السلام» أن الفقيه يدّعي لنفسه التشريع في مقام الاستنباط ، بل كان بصدد بيان أن السيرة كاشفة عن إمضاء الشارع ، فنستكشف الحكم الشرعي من خلال ذلك. ولهذا أكّدنا في مبحث السيرة ضرورة معاصرتها لزمان المعصوم (عليه‌السلام) ليكون سكوته عنها إمضاءً لها. وقد ذكرنا وجوه عديدة لبيان كيفية إثبات معاصرتها لعهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة عليهم‌السلام.

إلّا أن تلك الضوابط لا تنفع إلّا في عدد قليل من تلك السير ، ومن ثم يقع الشك في كثير منها ؛ هل كانت معاصرة لعصر النص أم لا؟ بل حتى لو فرض عدم الشك في أصل وجودها ، يمكن أن يسري الشك في حدودها وأنها مطلقة أو مقيّدة. والفقيه الذي يحصل له الاطمئنان بأن هذه السير كانت موجودة في أيامهم «عليهم‌السلام» بمجرّد أنها معاشة له ، مثل هذا الفقيه غير مطّلع على طبيعة تكوّن مثل هذه الارتكازات العقلائية في المجتمعات البشرية ،

٢٩١

وما تتأثّر به من عوامل فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية. فلو كان يقف على تلك العوامل ، لعلم أن كثيراً من هذه القناعات الاطمئنانية لا مجال لها.

والحاصل أنه لا يمكن الاطمئنان بكثير من هذه السير العقلائية المعاصرة لنا ، لعدم الوثوق بوجودها في زمان المعصوم (عليه‌السلام) أيضاً. ويتركّز هذا الشك غالباً في باب الأمور المعاملية والقوانين الاجتماعية ، لأنها هي التي تتأثّر بالعوامل المختلفة بتطوّر الزمن ، أكثر من سائر دوائر الحياة الأخرى.

إذن لا بد من التوقّف عن العمل بالسيرة بهذا العرض العريض ، إلا أن تلبس لباس المشروعية ، وهذا ما يمكن الوصول إليه في كثير من المجالات من خلال قاعدة «لا ضرر» وأمثالها ، بعد أن نرجعها إلى أنها بصدد إمضاء ملاك ونكتة تلك الارتكازات العقلائية ، هذا مضافاً إلى أن البناء العقلائي قائم على أصالة الثبات وعدم النقل كما تقدّم ، ومرجع ذلك إلى حجية ظهور اللفظ بالنحو المعاصر لنا بمجرد احتمال كونه كذلك من أوّل الأمر. حينئذ يمكن الاستناد إلى قاعدة «لا ضرر» في كثير من الحقوق العرفية المستجدّة بعد عصر النص لاستنباط الأحكام المناسبة لها.

٢٩٢

الفصل الثامن

فقه الحديث بلحاظ «لإضرار»

٢٩٣
٢٩٤

قلنا فيما سبق : إن مفاد القاعدة هو نفي الضرر الخارجي ، لكن لا بلحاظ تمام حيثياته وأسبابه ، بل هو إخبار عن النفي بلحاظ ما يرجع إلى الشارع من أسباب وجوده ، أي إن الشارع وضع تشريعه بنحو ينتفي فيه الضرر خارجاً. وبتعبير آخر : إنه نفي له في العالم الخارجي الذي فرض فيه أن يكون على طبق الشريعة. فالضرر المنفي بهذه القاعدة :

تارة يكون ناشئاً من تكليف إلهي ، من قبيل النقص المالي الناشئ من لزوم المعاملة الغبنية. فالمولى حينما يريد أن ينفي هذا الضرر خارجاً ، فلا بدّ أن ينفي سببه وهو اللزوم ، ومع نفيه يصح أن يقال إن الشارع نفى وقوع مثل هذا الضرر في الخارج.

وأخرى يفرض أن الضرر يكون مترتّباً على الحكم الشرعي ، لكن لا ترتباً قهرياً كما في النحو الأول ، بل بتوسط إرادة المكلّف المتضرّر نفسه ، كما لو فرض أن الضرر لا يترتّب قهراً على مجرّد إيجاب الوضوء ، بل يحتاج إلى توسيط إرادة المكلف لكي يترتّب الضرر ، إلا أن هذه الإرادة لما كانت تحت القهر والغلبة كما يعبّر الميرزا النائيني بمقتضى الأمر الإلهي الذي يقتضي الامتثال والعبودية ، فكأنها غير موجودة ، فيصير العبد مجرّد آلة لتحقّق الضرر خارجاً. من هنا يمكن أن يقال : إن هذا الضرر ناشئ من وجوب الوضوء ، ونفيه لا يكون إلّا بنفي هذا الوجوب.

٢٩٥

وثالثة يفرض أن الحكم الشرعي لا يترتّب عليه الضرر ، لا قهراً ولا بتوسط إرادة المكلف ، وإنما بتوسط إرادة شخص آخر. كما في قصة سمرة ، فإنّه كان مستحقاً لبقاء نخلته في مكانها. ومن الواضح أن هذا الحق حكم شرعي لا يترتّب عليه ضرر أصلاً ، لا بالمباشرة ولا بتوسط الجري على طبقه ، لأن غاية ما يترتب عليه أن سمرة يجوز له الدخول مع التحفظ على شؤون الأنصاري وعدم هتك كرامته ، ولا يترتّب على ذلك ضرر. نعم أراد سمرة أن يستغلّ هذا الحق لتعمّد الإضرار بالأنصاري والتعدّي على حرماته.

إذن لم يكن الحكم الشرعي منشأً للضرر لا بالمباشرة ولا بالواسطة ، وإنّما إرادة سمرة هي التي أدّت إلى تحقّق هذا الضرر.

والحاصل أنه في الفرض الأوّل هناك ضرر مالي واقع على المغبون ، وفي الثاني ضرر صحّي واقع على المتوضي ، وفي الثالث ضرر عرضي واقع على الأنصاري. فلو كنّا نحن وفقرة «لا ضرر» وحدها بلا ضمّ فقرة «لا ضرار» إليها ، فهي تشمل هذه الفروض الثلاثة ، فترفع الضرر المالي بنفي لزوم البيع ، وترفع الضرر الصحي بنفي وجوب الوضوء ، وترفع الضرر العرضي بنفي جواز الدخول بلا استئذان وحرمة هتك عرض الأنصاري. وهذا التحريم كاف لكي يتصدّى الشارع لبيان نفي هذا الضرر بحسب الخارج. إذن فهذا النفي المنصبّ على الضرر الوارد على الأنصاري ، لا يستفاد منه أكثر من أن الشارع لا يجيز لسمرة أن يوقع الضرر على الأنصاري بهتك حرمته ، وإنّما حرّم عليه ذلك.

أما بلحاظ فقرة «لا ضرار» فنقول : إننا ذكرنا فيما سبق أن «الضرار» معناه تقصّد الضرر وتعمّده بلا حقّ ، فهو متقوّم بركنين :

٢٩٦

التقصّد والتعمّد إلى الضرر.

أن يكون ذلك بلا استحقاق ومشروعية.

على هذا الأساس فإذا نفى الشارع «الضرار» لا يمكن أن يكون المراد بلحاظ أنه حرّم على سمرة أن يضرّ الأنصاري ، لأن النفي منصبّ على ما كان ضرراً محرّماً في الرتبة السابقة على النفي ، وهذا معناه أن «لا ضرار» ناظر إلى شيء آخر غير مجرّد الحرمة ، وهو نفي الضرار الحرام بلحاظ ما في الشريعة ، بخلاف الفقرة الأولى فإن المنفي هو نفس الضرر بلحاظ ما في الشريعة ، لذا كان يكفي في مقام تصحيح هذا النفي أن يفرض أنه حرّم على سمرة أن يضرّ الأنصاري. أما في الفقرة الثانية فكأنه يقول : الضرر المحرّم الذي وقع عصياناً فهو منفي ، أي لا يقع خارجاً ، بمعنى أن الشخص العاصي لا يتمكّن من الإضرار. أذن فقد فرض أن هناك شخصاً بانياً على الإضرار بالغير ، وأن الحرمة الأولية المستفادة من «لا ضرر» لا تكفي لانتفاء الضرر خارجاً ؛ هنا تأتي الفقرة الثانية ، لتبين عدم تمكّن مثل هذا الشخص لإيقاع الضرر ، فهذه الفقرة بصدد بيان حكم آخر غير الحكم بالإباحة.

وبمناسبات الحكم والموضوع يتعيّن أن يكون هذا الحكم المنفي ب «لا ضرار» هو الذي كان يريد سمرة أن يستغلّه لأن يوقع الضرر على الأنصاري ، وليس ذلك إلّا حقّه في إبقاء نخلته في حائط الأنصاري. ولما وجد الشارع أنه لا يستطيع أن يردع سمرة عن هذا الإضرار مع التحفظ على حقّه في إبقاء نخلته ، لأن المفروض كما صُرّح في عدد من الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اتخذ جميع الإجراءات اللازمة لحفظ حق سمرة مع عدم الإضرار بالأنصاري ، لكنها لم تفلح. ولما كان هناك شبه ملازمة بين بقاء حق سمرة

٢٩٧

ووقوع الضرر على الأنصاري ولم يكن بالإمكان علاج هذا المشكل أي الدخول بلا استئذان بطريق آخر ، فلم يبق إلّا نفي سبب وقوع هذا الضرر ، وهو في المقام حق إبقاء الشجرة في حائط الأنصاري ، فنفى هذا السبب ب «لإضرار» وجاز للأنصاري أن يقلع نخلته ويرمِيَ بها إليه.

والحاصل أن الضرر نُفي في مرتبتين طوليتين. ففي المرتبة الأولى نُفي نفس الضرر بلحاظ ما في الشريعة. وحينما نطبق هذا النفي على قصة سمرة مع الأنصاري ، لا يستفاد منه أكثر من أن الشارع حرّم عليه أن يضرّ الأنصاري. أما في المرتبة الثانية فهو نفي للضرر في مرتبة العجز عن إجراء تلك المرتبة السابقة. وبتعبير آخر : هو نفي للضرر الحرام بلحاظ ما في الشريعة ، فهو علاج تشريعي جديد غير العلاج الأوّل.

وهذا باب تنفتح منه أبواب كثيرة في الفقه ، فمثلاً لو حاول الزوج أن يستغلّ بعض حقوقه المشروعة على زوجته كحق الطلاق ، للإضرار بها ومنعها عن حقوقها التي تملكها على زوجها كما فعل سمرة مع الأنصاري حين حاول أن يتحفّظ على حقّه ، وهو الدخول إلى نخلته ، ويعطّل حقّ الأنصاري في التحفظ على كرامته وعرضه ولم يكن بالإمكان إجبار الزوج على أداء حقوقها ، فهذا يعدّ إضراراً بها. ومن الواضح أنه لا يكفي في العلاج أن يحرّم الشارع الإضرار فقط ، بل لا بدّ من الانتقال إلى مرتبة أخرى ، وهي رفع سلطنة الزوج على إبقاء هذه العلقة التي يريد استغلالها للإضرار بزوجته ، فيؤدّي بالنتيجة إلى إعطاء الولاية للحاكم الشرعي على الطلاق ، على تفصيل موكول إلى محلّه.

وبهذا ننتهي إلى أن كل حكم شرعي عدا ما خرج بالدليل إذا صار

٢٩٨

مورداً للاستغلال بلا حق ، ولم يمكن منع ذلك الاستغلال ونفيه خارجاً إلّا بنفي الحكم الشرعي ، يرتفع ذلك الحكم استناداً إلى إطلاق لا ضرار» في المقام.

وبهذا اتضح أن نفي استحقاق سمرة لإبقاء نخلته في حائط الأنصاري لم يكن مستنداً إلى فقرة «لا ضرر» حتى يقال بأنه لا تفيد إلّا حرمة الدخول بلا استئذان كما تقدّم ، وإنما هو تطبيق لفقرة «لا ضرار».

وبهذا تمّ الكلام في فقرة «لا ضرار».

٢٩٩
٣٠٠