لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

من الكلام إلى الجزء الآخر ، ونسبة مدلوله إلى مدلول الآخر ، كالظهورات الناشئة من حيث تقدم بعض الأجزاء وتأخّرها ، ومن حيث كون مدلولها أوسع أو أضيق ، فإنه قد استقر بناء العرف على اعتماد هذه الخصوصيات في مقام استكشاف المراد الجدي للمتكلّم. وبتعبير آخر : إن الظهور السياقي عن فهم عرفي ينشأ من العلاقات الحاكمة بين أجزاء الكلام الواحد ، وعلى هذا الأساس تكون بيانية الخاص للعام ، بهذا الظهور ، وليست بحكم العقل ، كما تقول مدرسة الميرزا (قدِّس سرّه).

أما الحاكم المتصل بالمحكوم ، فبيانيته بالظهور العرفي اللفظي ، وليس المراد بهذا الظهور هو ما تقدّم في القسم السابق ، وإنّما المراد أن يكون الدليل الحاكم مشتملاً بحكم نظره إلى الدليل المحكوم على ظهور ثان زائداً على ظهوره الأوّل المخالف مع مفاد الدليل المحكوم ، وهو الظهور في أن المتكلّم يجعل هذا الظهور هو المحدّد النهائي لمرامه من الدليل المحكوم.

أما في فرض الانفصال ، فتارة يكون بناء الشارع على أن له كلاماً واحداً وإن كان يذكره بشكل منقطع ، كالأستاذ المحاضر في موضوع واحد خلال أيام عديدة ، حينئذٍ يكون الخاص المنفصل والحاكم المنفصل بحكم المتصل في الكلام ، من حيث كشفه عن المدلول التصديقي ، وإن لم يكن متصلاً بلحاظ المدلول التصوري ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وهذا معناه أن الكلام في هذا الفرض كالكلام في فرض الاتصال.

وأخرى لم يثبت لنا أن الشارع كانت عادته قائمة على فصل المتصلات (بحيث يعتبر العرف الفصل الزماني كلا فصل ، بل كان حاله حال أهل العرف في محاوراتهم بنحو يقتضي استقرار ظهور الكلام على النحو الذي كان

٣٨١

مكتنفاً به من قرائن الحال والمقال) ، ٠ فهنا لا نقبل قرينية المخصص المنفصل ولا بيانيته ، بل يكون معارضاً للعام ومنافياً له ، ولا يكون الجمع بينهما عرفياً. وهذا الإنكار وإن كان صعباً لما ترسخ في أذهاننا من خلال الكتب الأصولية المختلفة ، أن المخصص المنفصل يكون قرينة ، إلّا أن التحقيق كما في بحث التعادل والتراجيح ، أننا ننكر هذه القرينية ، وإنما نحكم بتقديم مخصصات الشارع على عموماته ، باعتبار كونها كالمتصلات (١).

والنكتة في ذلك أن قرينية المخصص في فرض الاتصال كانت ناشئة من ظهور عرفي سياقي ، ومن المعلوم أنه مع فرض كون المخصص منفصلاً ، ينعدم ذلك السياق ، فلا يبقى ظهور يدلّ على تلك القرينية ؛ بخلاف الحاكم المنفصل ، فالظهور الدال على قرينيته لم يتكوّن من السياق حتى ينعدم بتعدّد الدليل وانفصاله ، بل كانت نكتته قائمة على أساس ظهور لفظي لنفس الحاكم ، وهو محفوظ معه ، سواء كان متصلاً بالمحكوم أو منفصلاً عنه. غاية الأمر أنه مع الاتصال يهدم أصل الظهور ، وعند الانفصال يهدم حجية الظهور.

__________________

(١) قال الأستاذ الشهيد (قدِّس سرّه) «والقرينية الناشئة من الإعداد النوعي يحتاج إثباتها إلى إحراز البناء العرفي على ذلك ، والطريق إلى إحراز ذلك غالباً ، هو أن نفرض الكلامين متصلين ، ونرى هل تبقى لكل منهما في حالة الاتصال اقتضاء الظهور التصديقي في مقابل الكلام الآخر أم لا؟ فإن رأينا ذلك عرفنا أن أحدهما ليس قرينة على الآخر ، لأن القرينة باتصالها تمنع عن ظهور الكلام الآخر ، وتعطّل اقتضاءه. وإن رأينا أن أحد الكلامين بطل ظهوره أساساً ، عرفنا أن الكلام الثاني قرينة عليه».

دروس في علم الأصول ، الحلقة الثالثة ، القسم الثاني ، ص ٣٣٤.

٣٨٢

وبهذا اتضح أن قرينية الحاكم تختلف عن قرينية المخصص اختلافاً جوهرياً ، وليس هو بحسب اللفظ ولسان الدليل فحسب. ويمكن تلخيص ذلك في نقطتين :

الأولى : أن قرينية المخصص ناشئة من ظهور عرفي سياقي ، وقرينية الحاكم من ظهور عرفي لفظي. وأن ملاك تقديم المخصص على العام نفس ملاك تقديم الحاكم على المحكوم ، أي أن القرينية فيهما معاً عرفية ، وليست إحداهما عقلية والأخرى عرفية.

الثانية : أن الحاكم إذا انفصل لا يسقط عن القرينية والبيانية ، بخلاف المخصص فإنه إذا كان منفصلاً حقيقة ، ولم يكن كالمتصل يسقط عن البيانية العرفية.

أما القسم الثاني من كلامه (قدِّس سرّه) وهو أن يكون الحاكم ناظراً إلى عقد الوضع للمحكوم ، فإنه ذكر أنه لا تعارض بين الدليلين ، لأن مفاد المحكوم هو من قبيل القضية الشرطية. وقد ثبت في المنطق أن القضايا الشرطية لا تتكفّل إثبات أو نفي الشرط ، إذ لا نظر لها إلا إلى الملازمة بين ثبوت الجزاء وثبوت الشرط. والدليل الحاكم ناظر إلى الشرط في الدليل المحكوم إثباتاً ونفياً. فليس ما هو محط النفي في أحد الدليلين محط الإثبات في الدليل الآخر ، كي يتحقّق التعارض بينهما.

وهذا البيان واضح البطلان ، لأنه : وإن كان لا يلزم من صدق القضية الشرطية صدق طرفيها ، فيجتمع صدقها مع كذب جزأيها بالفعل ؛ لأن كذب الجزاء قد يستند إلى كذب الشرط (١) لا إلى كذب الملازمة. إلّا أن ذلك لا

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة الأنبياء (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢ ،

٣٨٣

يمكن تطبيقه في المقام ، لأن مقتضى الملازمة بين الشرط والجزاء ، هو فعلية الجزاء عند تحقّق الشرط. ومن ثم إذا كان الجزاء كاذباً مع فرض ثبوت الشرط ، فإنه يكون منافياً لصدق الملازمة في القضية الشرطية. وفي المقام الدليلُ الحاكم يكذّب الجزاء ، مع أن الشرط صادق بحسب الواقع ، لأننا نعلم حقيقةً بأن المعاملة بين الأب وابنه ربوية. إذن فصدق القضية الشرطية ، وإن كان لا ينافي كذب الجزاء في نفسه ، ينافي كذب الجزاء المنضمّ إليه ما يثبت تحقّق الشرط. ومجرّد أن دليل تكذيب الجزاء جاء بلسان نفي الموضوع (لا ربا) لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ، لأنه لا ينفي وجود الشرط خارجاً.

فإن قلت : إنّ المراد من الشرط المأخوذ في القضية الشرطية وهو الربا في المثال ، ما كان رباً بنظر الشارع واعتباره. فعند ما يقول الدليل الحاكم : «لا ربا» ، فقد ارتفع الشرط حقيقة وواقعاً ، فينتفي الجزاء أيضاً.

قلت : إنّ هذا مرجعه إلى أن الدليل الدال على عدم اعتبار الزيادة بين الوالد وولده رباً ، يكون وارداً على المحكوم لا حاكماً عليه ، لأنه يرفع موضوعه حقيقة لا تعبّداً. وهو خلف ؛ لأن الشرط هو ما كان ربا حقيقة. إذن فالتعارض بين مدلولي الدليلين مستحكم لا محالة.

وبما ذكرنا اتضح الفرق بين المقام وبين الترتب ، فإنه هناك كان الأمر

__________________

فإن الجزاء وهو فساد السماوات والأرض كاذب ؛ لقوله تعالى في سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) الملك : ٣ ، ٤. وكذب الجزاء إنّما هو لامتناع تحقّق الشرط وهو «تعدّد الآلهة». ومع ذلك فالملازمة بين الشرط والجزاء صادقة.

٣٨٤

بالأهم يُفني بامتثاله موضوع الأمر بالمهم حقيقة ، لأن موضوعه القدرة ، وبامتثال الأهم تعدم القدرة على المهم واقعاً. أما هنا فالدليل الحاكم لا يفني الشرط المعلّق عليه الجزاء في الدليل المحكوم حقيقة ، بل يفنيه عنواناً للاستطراق إلى تكذيب الجزاء. ومن الواضح أن تكذيب الجزاء المنضم إلى مفروغية وجود الشرط خارجاً لا يجتمع مع صدق القضية الشرطية.

أما القسم الثالث من كلامه ، وهو أن يكون الحاكم ناظراً إلى عقد الحمل للمحكوم ، فهو أيضاً غير تام :

أوّلاً : لأنه لو كان ملاك تقدّم الحاكم على المحكوم هو كونه رافعاً للشك في المراد الذي هو موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم ، فهذا المعنى ثابت في التخصيص أيضاً ، لأن كل مخصّص لا محالة أخذ عدمه في موضوع أصالة العموم في العام أيضاً ، فلو كان هذا ملاك الحكومة في هذا القسم ، لم يبق فرق بين هذا النحو من الحكومة والتخصيص.

ثانياً : كما يرتفع موضوع حجية إطلاق المحكوم وهو الشك في المراد ، في طول حجية إطلاق الحاكم تعبّداً ، كذلك يرتفع موضوع حجية إطلاق الحاكم تعبّداً ، إذا فرغ عن حجية إطلاق المحكوم ، لأن موضوع حجيته أيضاً هو الشك في المراد ، ولازم ذلك أن يكون كلّ منهما موجباً لإلغاء موضوع الآخر.

ممّا تقدّم اتضح عدم تمامية الضابط الذي ذكرته مدرسة الميرزا للحكومة ، فلا بد من استئناف البحث ، لأجل توضيح ضابط الحكومة أولاً ، ثم تطبيقه على محل الكلام ثانياً. فالحديث في أمرين :

٣٨٥

الأمر الأوّل : المختار في ضابط الحكومة

إن الحكومة تارة تكون على الدليل الآخر بلحاظ المرحلة اللغوية ، وأخرى بلحاظ المرحلة التشريعية والمولوية ، وذلك لأن المولى له حيثيتان (١) :

__________________

(١) لكي تتّضح معالم نظرية الأستاذ الشهيد (قدِّس سرّه) في الحكومة ، لا بدّ من الإشارة إلى أمور ثلاثة :

«الأوّل : تعريف الحكومة :

«الحكومة عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، بمعنى اشتماله على خصوصية تجعله ناظراً إلى مدلول الدليل الآخر ومحدّداً للمراد النهائي منه. من هنا نستطيع أن نعتبر الحكومة عبارة عن القرينية الشخصية لأحد الدليلين على الآخر. بخلاف القرينية في التخصيص ، فإنها نوعية عرفية ، وليست بأعداد شخصي من المتكلّم نفسه.

وبهذا يعرف أيضاً الفارق بين الحكومة والورود ، فإن موارد الورود تكون خارجة عن التعارض الحقيقي بين الدليلين ، في حين إن الحكومة (فيما إذا كان الدليل الحاكم يثبت خلاف ما يثبته المحكوم) يكون من حالات التعارض بين الدليلين مدلولاً ودلالة ، لأن نسبة الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، نسبة القرينة إلى ذي القرينة ، والقرينة تنافي ذا القرينة ، ومجرّد كون القرينة شخصية لا نوعية وبإعداد من المتكلّم نفسه ، لا بقانون عرفي عام ، لا يستوجب رفع التنافي بين الدليلين كما هو واضح.

وعلى هذا الأساس كان لا بد من إثبات عدم سريان التعارض في حالات الحكومة إلى دليل الحجية ، وكونها من التعارض غير المستقر ، من التسليم بكبرى عرفية تقول : بأن ظهور ما يعدّه المتكلّم لتفسير كلامه ، يكون هو المحدّد النهائي لمدلول مجموع كلامه. إذ من دون التسليم بهذه الكبرى كمصادرة عقلائية في باب المحاورات ، لا يكفي مجرّد فرض الحكومة ونظر أحد الدليلين للآخر مبرّراً لتقديمه عليه في الحجية. وهذه المصادرة التي افترضناها لنظرية الحكومة ، تكفي بنفسها لتخريج الحكومة ،

٣٨٦

__________________

وتقديم الدليل الحاكم على المحكوم ، سواء كان متصلاً به أو منفصلاً عنه ، فلا نحتاج في تقديم الحاكم المنفصل إلى مصادرة إضافية ، كما نحتاج إليها في التخصيص. فإن نكتة أن للمتكلم أن ينصب القرينة بنفسه لتحديد مرامه من خطابه ، نسبتها إلى القرينة المتصلة والمنفصلة على حدٍّ سواء ، وإن كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة من حيث تأثيرها على ظهور ذي القرينة وهدمها له ، في حين أن القرينة المنفصلة تهدم الحجية فحسب.

الثاني : أقسام الحكومة :

قد عرفت أن الدليل الحاكم يشتمل على خصوصية تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم ، وقرينة شخصية على تحديد المراد النهائي منه ، وهذه الخصوصية تكون بأساليب ثلاثة رئيسية :

١ لسان التفسير ، بأن يكون أحد الدليلين مفسِّراً للآخر ، سواء كان ذلك بأحد أدوات التفسير البارزة ، مثل «أو وأعني» أو بما يكون مستبطناً لذلك ، وهذه حكومة تفسيرية.

٢ لسان التنزيل ، بأن يكون أحد الدليلين منزِّلاً لشيء منزلة موضوع الدليل الآخر ، كما إذا قال : «الطواف بالبيت صلاة» فإنه يكون حينئذ ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم من خلال التنزيل ، إذ لولا نظره إليه وفرض ثبوت ما رتب من الحكم على ذلك الموضوع فيه ، لم يكن التنزيل معقولاً ، وهذه حكومة تنزيلية.

٣ مناسبات الحكم والموضوع المكتنفة بالدليل الحاكم والتي تجعله ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم ، من قبيل ما يقال في أدلّة نفي الضرر والحرج ، من ظهورهافي نفي إطلاقات الأحكام الأولية ، لا نفي الحكم الضرري والحرجي ابتداءً ، باعتبار أنه لم يكن من المترقّب في الشريعة جعل أحكام ضررية بطبيعتها ، وإنّما المترقب جعل أحكام قد تصبح ضررية أو حرجية في بعض الأحيان ، فتكون أدلّة نفي الضرر

٣٨٧

__________________

والحرج بهذه المناسبة ناظرة إلى تلك الإطلاقات وبحكم الاستثناء منها. ولنصطلح على هذا اللون من الحكومة بالحكومة المضمونية.

والجامع بين أقسام الحكومة كلّها ، أن الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم ، بمعنى أنه يشتمل على ظهور زائد ؛ يدل على أن المتكلم يريد تحديد مفاد الدليل المحكوم على ضوء الدليل الحاكم ، فيكون قرينة شخصية عليه.

وليعلم أن القرينة الشخصية كما تتحقّق في حالات الحكومة عن طريق نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، كذلك قد تتحقّق على أساس تعيين أحد الدليلين للقرينية بموجب قرار شخصي عام من المتكلِّم ، كما إذا عيّن الشارع المحكمات التي هي أمّ الكتاب للقرينية على المتشابهات وتحديد المراد النهائي منها ، فإنه في مثل ذلك يتقدّم ظهور الدليل الذي عيّن قرينة على ظهور الدليل الآخر بنفس ملاك تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، وإن لم يكن مشتملاً على خصوصية النظر إلى الدليل الآخر.

الثالث : أحكام الحكومة

وبعد أن اتضحت نظرية الحكومة وحقيقتها ، لا بدّ أن نشير إلى أهم أحكامها وهي كما يلي :

١ إن الدليل الحاكم كالتخصيص ؛ من حيث إنه يرفع الظهور إذا كان متصلاً بالكلام ، وأما إذا كان منفصلاً عنه فيرفع الحجية دون الظهور. وهذا واضح بعد أن عرفنا أن ملاك الحكومة إنما هو القرينية الشخصية. فإن القرينة كلما اتصلت بذي القرينة كانت صالحة لرفع الظهور وجعل مدلوله على وفق القرينة ، وإذا انفصلت عنه فتهدم حجيته ، بناءً على المصادرة العقلائية المتقدّمة ، بأن للمتكلّم أن يحدّد المراد النهائي لمدلول كلامه ، وأما ظهوره المنعقد فيبقى على حاله.

٢ إن موازين التمسّك بالمحكوم عند الشك في الحاكم المنفصل بأقسامه ، هي نفس

٣٨٨

__________________

موازين التمسك بالعام عند الشك في مخصصة المنفصل بأقسامه. فيجوز التمسك بالمحكوم في باب الحكومة عند ما يجوز التمسك بالعام في باب التخصيص ، ولا يجوز الأول حينما لا يجوز الثاني. كما أن ابتلاء الدليل الحاكم بالإجمال إذا كان متصلاً بالدليل المحكوم كابتلاء المخصص المتصل بذلك من حيث تأثيره على ما اتصل به وسريان الإجمال منه إليه. والسبب في كل ذلك هو ما تقدّم من أن تقديم الدليل الحاكم يكون بملاك القرينية.

٣ إن الدليل الحاكم يتقدّم ولو كانت دلالته من أضعف الظهورات على الدليل المحكوم ولو كانت دلالته من أقوى الظهورات ولا يطبّق عليهما قانون تقديم أقوى الظهورين ، لأن حجية الظهور في الدليل المحكوم مقيّدة (بحكم المصادرة المفترضة للحكومة) بأن لا يرد تفسير من المتكلم على الخلاف. فأي ظهور يدل على ورود ذلك التفسير مهما كان ضعيفاً ، يستحيل أن يكون مزاحماً في الحجية مع ظهور الدليل المحكوم ، فلا تصل النوبة إلى تقديم أقوى الظهورين. وهذا هو السبب في عدم ملاحظة النسبة أو درجة الظهور بين مفاد الدليل الحاكم ومفاد الدليل المحكوم في موارد الحكومة.

٤ بعد أن عرفت أن الحكومة إنما تكون بالنظر ، فلا بدّ في إثبات أي حكم بالدليل الحاكم رفعاً أو وضعاً من إحراز نظر ذلك الدليل الحاكم إليه.

فلو دل الدليل على أن الطواف بالبيت صلاة ، فالمقدار الذي يثبت من آثار الصلاة وأحكامها للطواف بهذا الدليل ، إنّما يكون بمقدار نظر هذا الدليل إلى أحكام الصلاة ، لأن نكتة الحكومة إذا كانت عبارة عن النظر والتفسير فلا محالة تتحدّد بحدوده. وكذلك الحال في حكومة أدلّة نفي الحرج والضرر على أدلة الأحكام الأولية ، فإنها تحكم على أدلة تلك الأحكام بمقدار إطلاق نظرها إليها لا أكثر ، وهذا واضح.

٣٨٩

حيثية أنه شارع ، ومقنن.

حيثية أنه مستعمل للألفاظ والهيئات في معانيها.

إذن فهنا نحوان من الحكومة :

النحو الأوّل : الحكومة بلحاظ المرحلة اللغوية.

توضيحها : إذا قال المولى «حرّم الله الربا» فهو بلحاظ كونه مستعملاً ، يكون كل لفظ عنده شاملاً لتمام الأفراد التي تندرج تحت ذلك المعنى والمفهوم اللغوي. ولكن قد يكون للمتكلّم نظر في تشخيص مصاديق الموضوع الذي يحكم عليه من حيث التوسعة والتضييق. فإن كان ذلك النظر أخبارياً صرفاً ، من قبيل أن يخبر اشتباهاً أن زيداً ليس بعالم ، أو أن المعاملة الفلانية ليست ربوية ، فهذا النظر ليس له أثر أصلاً ولا يجب أتباعه. أما إذا

__________________

٥ إن الحكومة تختص بالأدلة اللفظية ، ولا معنى لها في الأدلة العقلية واللبية ، لأن الحكومة على ما عرفت لا تكون تصرّفاً حقيقياً في الدليل المحكوم ثبوتاً ، وإنما هي خصوصية النظر في الدليل الحاكم إلى مفاد الدليل المحكوم ، والنظر من شؤون الدلالة اللفظية وخصائصها ، سواء كان نظراً تفسيرياً أو تنزيلياً أو بمناسبات الحكم والموضوع. فإن التفسير أسلوب من أساليب التعبير والتنزيل لا واقع له إلّا في عالم التعبير والاستعمال ، ومناسبات الحكم والموضوع تنشئ ظهوراً في الدليل اللفظي ، فيصبح ذلك الظهور حجّة وليست هي حجّة مستقلة ، ولذلك لا يصح إعمالها وتحكيمها في الفقه على الأدلّة اللبية كالإجماع ونحوه».

(مباحث الحجج والأصول العملية ، تعارض الأدلّة الشرعية ، تقريراً لأبحاث سيدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر طاب ثراه ، السيد محمود الهاشمي : ج ٧ ، ص ١٦٥).

٣٩٠

كان نظره إنشائياً في مقام تشخيص ما ينطبق عليه اللفظ سعة وضيقاً من قبيل الطريقة السكاكية ، فهذا النظر لا بد من أتباعه ، لأنه في الحقيقة تصرّف في المدلول الاستعمالي للكلام ، وعلى هذا يحق له أن يعتبر زيداً العالم ليس بعالم.

وهذا التصرّف في المدلول الاستعمالي ، تارة يفرض أنه يقدم عليه قرينة عامة ، كالارتكازات العرفية التي تكشف عن المدلول الاستعمالي للكلام ، لأن المتكلم فرد من العرف ، فمن باب أصالة عرفيته واتباعه للعرف في باب استعمال الألفاظ في معانيها ، يحمل كلامه على هذا النظر الإنشائي الخاص. وأخرى يفرض أنه ينصب قرينة خاصة على نظره الإنشائي ، كأن يصرّح بذلك ويقول : «لا ربا بين الوالد وولده» ، حينئذٍ يكون معنى قول الشارع (حَرَّمَ الرِّبا) أنه حرّم كل معاملة ينطبق عليها عنوان الربا بحسب نظره الإنشائي المنكشف بقرينة خاصة شخصية. وهذا كالدليل الحاكم ، فإنه يكون رافعاً لموضوع الدليل المحكوم حقيقة ، لأن موضوعه عبارة عمّا يكون ربا بالنظر الإنشائي للمستعمل ، فيرجع إلى قضية شرطية حاصلها :

إن كانت هذه المعاملة ربا بنظره الإنشائي فهي حرام. والدليل الحاكم يدل حقيقة على انتفاء الشرط ، لذا لا تعارض بين الدليلين. فإذا تمّ هذا الأمر يلتزم بانتفاء تمام الأحكام التي ترد في لسان الشارع للربا ، لأن المفروض أن الشارع لم يعتبر هذا الفرد داخلاً في حريم اللفظ من خلال ذلك التصرّف الإنشائي. فمتى ما استعمل الربا مثلاً وعلّق عليه أي حكم من الأحكام الشرعية ، فإنه لا يكون شاملاً لذلك الفرد الذي أخرجه الدليل الحاكم ، لأنه خارج عن المدلول الاستعمالي له.

إلّا أن هذا النحو من الحكومة وإن كان معقولاً في نفسه ، لكن هو مجرّد

٣٩١

فرض لا واقع له في لسان الشرع ، لأنه خلاف ظاهر حال المولى بما هو مولى ومشرّع ، وعلى هذا لا يمكن حمل الأدلّة الموسّعة أو المضيّقة للموضوع على هذا المعنى. من هنا إذا ورد في لسانه «لا ربا بين الوالد وولده» فلا يمكن حمله على المرحلة اللغوية ، أي بما هو مستعمل ومتصرّف في المداليل اللغوية والاستعمالية ، وإنما ظاهره النظر إلى المرحلة المولوية ، أي نفي الربا من حيث إنه حرام ، لأن هذا هو مقتضى ظهور الحال في المولوية والتشريع.

النحو الثاني : الحكومة بلحاظ المرحلة التشريعية.

وهو أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى مفاد الدليل المحكوم بلحاظ عالم التشريع ، أي عند ما يقول «لا ربا بين الوالد وولده» لا يريد أن يتكلّم عن نفسه بما هو مستعمل للألفاظ في معانيها ، وإنما هو بصدد بيان نظره بما هو مشرع ومقنّن. في مثل ذلك يكون الدليل المحكوم قد انعقد له إطلاق في نفسه ، يقتضي الشمول للمعاملة الواقعة بين الأب وابنه أيضاً ، لأنها مصداق للربا حتى بحسب النظر الإنشائي للشارع بما هو مستعمل. ثم يأتي الدليل الحاكم لنفي هذا الحكم. ولا فرق بين أن يكون بلسان الحكومة على عقد الوضع أو عقد الحمل ، لأن كل ذلك تفنّن في العبارة ، فيقع التعارض بين ظهورهما حقيقة.

ولكن مع هذا يقدّم الحاكم على المحكوم ، وذلك تطبيقاً لكبرى تقديم القرينة على ذي القرينة ، فإن ظهور القرينة دائماً يقدّم على ذيها ، سواء كانت متصلة أو منفصلة. نعم إذا كانت متصلة بذي القرينة فإنها تهدم أصل الظهور في ذيها ، وهذا له مصداقان ، المخصص والحاكم ، بخلاف ما إذا كانت منفصلة فليس له إلّا مصداق واحد وهو الحاكم.

٣٩٢

اما المخصّص فلا تبقى قرينيته في فرض الانفصال. لكن الحاكم المنفصل يهدم حجية ظهور المحكوم لا أصل ظهوره ، من باب أن مستند كبرى الحجية وهي السيرة العقلائية ، غير ثابتة على حجية ذي القرينة مع صدور القرينة من قبل المولى بعدها ولو كان منفصلاً.

وقد ظهر ممّا ذكرناه ، أن معنى التقدّم بالحكومة ، ليس هو رفع الموضوع للدليل المحكوم ، كما هو مصطلح مدرسة الميرزا (قدِّس سرّه) ولذا اضطروا كما فعل السيد الأستاذ ، إلى تأويل الحاكم بلحاظ عقد الحمل ، بأنه يرفع موضوع دليل أصالة الإطلاق ، بل معنى الحكومة عندنا هي التقدّم بالمبينية والمفسّرية ، فإن المفسّر والمبيِّن مقدّم على المفسَّر والمبيَّن.

وظهر أيضاً أن نكتة تقديم الحاكم هي بنفسها نكتة تقديم المخصص ، غاية الأمر أن المفسّرية ، تارة تكون ذاتية للمفسّر ، لأنها معدَّة أعداداً شخصياً من قبل المتكلّم لتفسير المراد التصديقي الجدّي له ، من قبيل الحاكم بالنسبة إلى المحكوم ، لذا نجد أن قرينية الحاكم تبقى محفوظة حتى مع فرض الانفصال. وأخرى تكون موقوفة على اتصاله حقيقة أو حكماً ، لأنها مستفادة من الظهور السياقي لمجموع القرينة وذي القرينة ، كالخاص بالنسبة إلى العام.

الأمر الثاني : تطبيق كبرى الحكومة على قاعدة «لا ضرر»

المدّعى أن القاعدة حاكمة على الأدلّة الأوّلية بملاك المفسِّرية ، التي مرجعها بحسب الروح إلى النظر ، فان الناظر يعتبر عرفاً مفسّراً ومبيِّناً للمنظور إليه.

وتقريب هذا المدعى يحتاج إلى مزيد بيان ، وذلك لأنه قد يشكك في هذه الدعوى من خلال أنه لم يثبت أن النفي في الحديث تركيبي. وتوضيح ذلك :

٣٩٣

أن النفي على نحوين :

النفي البسيط ؛ من قبيل أن يقول المولى : «لا يصدر منّي حكم ضرري» فإن هذا البيان لا يتوقف على الفراغ عن ثبوت أحكام أولية للشارع في الرتبة السابقة ، وعليه فلا يمكن إثبات النظر إلى مداليل تلك الأحكام.

النفي التركيبي ، كما لو قال المولى : «الأحكام التي جعلتها أو أجعلها ليست ضررية» فإن ذلك يتوقّف على الفراغ من ثبوت أحكام في الرتبة السابقة ، وأن هذا النفي ناظر إليها.

ولكي يثبت أن القاعدة حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّلية ، لا بدّ من إثبات أنها ناظرة إليها ، ولا يمكن إثبات ذلك إلّا إذا استظهر أن النفي المدلول عليه في القاعدة ، إنما هو بنحو النفي التركيبي لا البسيط. والنفي التركيبي من قبيل قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) فبقرينة فقرة (فِي الدِّينِ) نستكشف وجود أحكام ثابتة في المرتبة السابقة ، ودليل نفي الحرج إنّما جاء ليرفع إطلاقاتها لحالة الحرج. وفي المقام إذا كانت قاعدة «لا ضرر» مذيلة بفقرة «في الإسلام» فلا إشكال في كون النفي فيها تركيبي أيضاً ، لكن تقدّم في الفصل الأوّل أن هذا الذيل لم يثبت.

من هنا قد يشكك في استفادة النفي التركيبي من القاعدة ، لأنّ مجرّد الضرر لا يستلزم النظر إلى الأحكام الأوّلية. إذن لا بدّ من بذل عناية لإثبات نظر القاعدة إلى تلك الأحكام ، وهذا يمكن بيانه بأحد تقريبات :

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٣٩٤

التقريب الأوّل : أن النفي في القاعدة وإن كان مردداً بين التركيبي والبسيط ، لكن ارتكازية أن المتكلّم له شريعة وأحكام ، يكون بنفسه قرينة لبيّة على أن المراد من النفي فيها هو التركيبي. فكأنه قال «لا ضرر من ناحية الشريعة» المفروغ عن وجودها.

التقريب الثاني : أن القرينة على ذلك هو ظهور الدليل في الامتنان على النحو الذي أشرنا إليه فيما سبق. ولا يتحقّق الامتنان على المكلفين ، إلّا بلحاظ جعل الضرر مانعاً عن التشريع ، وكون التشريع ثابتاً لولا الضرر وإلّا لو فرض عدم ثبوت التشريع من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فان مثل ذلك لا يكون فيه امتنان على الأمة.

إذن فظهور القاعدة في الامتنان مساوق لظهورها في مانعية الضرر عن التشريع ، والظهور في المانعية يساوق المفروغية عن وجود التشريع لولا المانع. وبتعبير آخر : الامتنانية تستبطن فرض وجود تشريع مفروغ عنه في الرتبة السابقة ، ويكون «لا ضرر» في مقام إنشاء مانع عام عن التشريع وهو الضرر ، فيكون حاله حال أدلّة الشرائط والموانع من قبيل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أو «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه» ونحو ذلك من أدلّة المانعية التي لها الحكومة والنظر إلى دليل الحكم الممنوع.

التقريب الثالث : أن يدّعى في المقام أن القاعدة لو لم تكن ناظرة إلى تلك الأحكام ، كان مفادها لغواً ، فبقرينة لزوم اللغوية نصرف النفي إلى التركيبي.

وتوضيح ذلك : أننا لا نحتمل بقطع النظر عن بيان المولى أن الشارع يجعل أحكاماً أصلها ضرري ، وإنّما المحتمل في حقّه أن يشرّع أحكاماً قد توقع الإنسان في الضرر أحياناً ، لا أنه يخصّص الأحكام بحالة الضرر فقط.

٣٩٥

فالتصدّي لنفي الحكم الضرري ليس هو في قبال الحالة الأولى ، لأنها منفية بالبداهة ، وإنما هي في قبال الحالة الثانية وهي جعل تشريعات قد تؤدّي إلى الضرر ، وهذا يستلزم فرض أصل التشريع في المقام ، وأن القاعدة بصدد نفي إطلاقها لحالة الضرر.

إلّا أن هذا البيان غير تام ، لو لم يتمّ التقريبين السابقين ، أي لو لم يكن عندنا ارتكاز أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صاحب شريعة ، ولم يكن للدليل ظهور في مانعية الضرر عن التشريع ، فإن هذا البيان لا يكون كافياً لوحدة لإثبات ذلك المدّعى ؛ فإن الصور المحتملة في المقام هي :

أن يخصّص الشارع أحكامه بحالة الضرر.

أن تكون أحكامه مشتملة على حالات تؤدي إلى الضرر.

أن لا يشرّع أصلاً.

والصورة الأولى منفية بالبداهة العرفية ، فتبقى الصورتين الأخيرتين ، والمفروض أننا قطعنا النظر عن ارتكاز وجود الشريعة وظهور الدليل في المانعية الذي ينفى الصورة الثالثة ، إذن يكون الأمر مردّداً بين الثانية والثالثة ، حينئذ فالنفي كما يناسب أن يكون بلحاظ الصورة الثانية يتناسب مع الصورة الثالثة أيضاً. وهي أن لا يشرع شيئاً أصلاً وفلا معيّن للحمل على الصورة الثانية التي مرجعها إلى النفي التركيبي ، بل يلائم الثانية التي يكون النفي فيها بسيطاً. فلو قطعنا النظر عن التقريبين السابقين ، فمجرّد دلالة الاقتضاء ولغوية نفي الصورة الأولى لا يكفي لتعيّن الصورة الثانية.

والحاصل : أن القاعدة تتقدّم على الأحكام الأولية بملاك الحكومة. وبهذا تمّ الكلام في التنبيه الثالث من تنبيهات القاعدة.

٣٩٦

التنبيه الرابع : تعارض القاعدة مع قاعدة السلطنة

إذا تصرّف المالك في ملكه بنحو أدّى إلى وقوع الضرر على شخص آخر ، كأن يحفر بالوعة في داره ، فيتضرّر جاره بذلك ، فهل تقدّم سلطنة المالك أو تقدّم القاعدة؟ الكلام في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأوّل : ما تقتضيه القواعد الأولية بقطع النظر عن قاعدة «لا ضرر»

لو قطعنا النظر عن القاعدة ، فما يمكن أن يكون دليلاً لإثبات سلطنة المالك على مثل هذه التصرّفات المضرّة بالغير ، هو التمسّك بقاعدة «الناس مسلطون على أموالهم».

إلّا أن هذا الاستدلال غير تام :

أوّلاً : لما تقدّم فيما سبق أن قاعدة السلطنة ، ليس لها دليل لفظي معتبر ليمكن التمسّك بإطلاقه ، وإنما هي قاعدة متصيّدة من الموارد المختلفة ، مضافاً إلى الإجماع والسيرة ، فيلتزم بها بمقدار قابلية هذه الأدلّة لا أوسع من ذلك. حينئذٍ فمن المحتمل أن لا تكون السلطنة ثابتة للشخص في ماله ، حتى في تلك الحصة الملازمة للإضرار بالآخرين ، ومع الشك في ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق الدليل ، لأن مستنده لبي لا إطلاق له.

ثانياً : حتى لو سلّمنا أن مستند هذا الحديث كان دليلاً معتبراً ، له إطلاق

٣٩٧

في نفسه ، فإنه لا يمكن التمسّك بإطلاقه في المقام لإثبات جواز التصرّفات في موارد الإضرار بالآخرين ؛ وذلك لأننا :

إما أن نفهم من قاعدة السلطنة ، أنها في مقابل قانون الحجر المجعول على السفيه ونحوه ، فتكون بياناً لما هو الأصل الأولي في الإنسان من عدم الحجر عليه. فهذا معناه أن القاعدة لا تشرّع تلك التصرّفات المشروعة التي من حق الشخص أن يتولّاها في ماله ولا تعيّنها ، بل لا بد من استفادتها من أدلّة أخرى غير هذه القاعدة ، وعليه فكل ما شك في كون تصرف ما جائزاً تكليفاً أو وضعاً ، فلا يمكن الرجوع فيه إلى قاعدة السلطنة لإثبات جوازه.

وإما أن نفهم منها معنىً آخر ، وهو أنها في مقام إعطاء السلطنة له على ماله ، بمعنى تجويز التصرّفات التي يريدها. بناءً على هذا الفهم أيضاً لا يمكن الاستدلال بإطلاق الحديث في موارد الشك ، لأن المتفاهم منه عرفاً أن المشرع في مقام بيان أن هذا المال ليس له عصمة في قبال إرادة المالك ، بل هو مطلق العنان في التصرف بماله كيف يشاء ، بخلاف غير المالك فإنه حتى لو تعلق له حق في المال ، فإنه يبقى للمال عصمة في مقابله في الجملة.

وعلى هذا الأساس لو احتملنا ضيقاً في دائرة سلطنة المالك من باب عصمة المال في مقابله ، فمثل هذا الاحتمال يكون منفياً بإطلاق القاعدة. لكن إذا احتملنا ضيقاً في دائرة لا بلحاظ المال ، بل باعتبار كونه مؤدياً إلى الإضرار بالغير ، وبلحاظ انطباق هذا العنوان الثانوي لم يكن مسلّطاً على هذه الحصة من التصرّف ، فإنه لا يمكن نفيه بهذه القاعدة ؛ لأن غاية ما تقتضيها بناءً على هذا التصوّر ، أنه لا مانع من ناحية عصمة المال واحترامه ، من أن يتصرّف فيه بأي تصرّف كان وضعياً أو تكليفياً. ولكن الشك في المقام ليس هو من ناحية

٣٩٨

جواز التصرّف الناشئ من عصمة المال ، بل منشأه احترام مال الغير ، ومن هنا لا يمكن نفيه بهذه القاعدة.

ثالثاً : ما ذكره المحقّق العراقي (قدِّس سرّه) وحاصله : أننا حتى لو قبلنا إطلاق القاعدة لإثبات سلطنة المالك على التصرّف في ملكه ، وإن كان مؤدياً إلى الإضرار بالآخرين ؛ إلّا أنها معارضة بإطلاق القاعدة لسلطنة الجار على حفظ ماله ووقايته من الإضرار به من قبل الغير.

فيكون إطلاق القاعدة سلطنة صاحب البيت على حفر البالوعة ولو أدّى إلى تخريب جدار جاره مثلاً ، وكذلك مقتضى القاعدة هو سلطنة الجار على حفظ جداره من الفساد ، ولا يعقل جعل السلطنة لهما معاً ، لأن كلّاً منهما يلازم منع الآخر ، فيقع التعارض في نفس دليل السلطنة.

إلّا أن ما أفاده (قدِّس سرّه) غير تام ، لأننا إذا قبلنا أن القاعدة لها إطلاق يشمل سلطنة صاحب البيت لأن يتصرّف فيه بجميع أنحاء التصرّف حتّى ما يكون مضرّاً بالغير ، فإنه لا يعارض بإطلاق الدليل بلحاظ سلطنة الجار على حفظ جداره ، لأن المحافظة على الجدار ليست من شؤون السلطنة المجعولة على المال في القاعدة ، لأنها ناظرة إلى تلك التصرّفات التي تمثّل ناحية القهر والغلبة على المال ، وليس المراد منها جعل الولاية على كل تصرّف له مساس وإضافة إلى المال ، لأن تعدية السلطنة ب «على» يوجب قصر دائرتها بحسب المتفاهم العرفي على التصرّفات التكوينية أو الإنشائية الاعتبارية كالبيع والصلح والإجارة والهدم ونحوها.

أما حفظ المال الذي يكون مصداقه في المقام هو الذهاب إلى الجار والإمساك بيده ومنعه من التصرّف في ملكه بحفر البالوعة ونحوها ، فإنه ليس

٣٩٩

مصداقاً للتصرّف في المال ليكون مشمولاً للقاعدة ، وعليه فلا مجال لإيقاع التعارض بين السلطنتين.

وكيفما كان فالقاعدة لا إطلاق لها في نفسها ، ومن ثم لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية المرخّصة كأصالة البراءة لإثبات الجواز التكليفي ، بعد عدم شمول القاعدة للمقام.

لكن الصحيح أن النوبة لا تصل إلى الأصول المرخّصة ، بل لا بد من الوقوف على مستند قاعدة السلطنة وهي السيرة العقلائية الممضاة شرعاً لمعرفة هل تشمل مثل هذه التصرفات المؤدية للإضرار بالغير أم لا؟

ولا يبعد التفصيل عند العقلاء بين ما إذا كان المالك يتضرّر من ترك التصرّف في ماله تضرّراً معتدّاً به ، وما إذا لم يتضرّر بذلك. فإن كان الثاني فلا يجوز له التصرّف ؛ لأن الارتكاز العقلائي يقتضي ضيق دائرة سلطنة المالك وعدم شمولها لتلك الحصة التي لا يتضرّر المالك بتركها ، لكن يتضرّر الغير بفعلها تضرّراً عقلائياً لا يتسامح في مثله عادة.

أما الأوّل فالأصل في ذلك دخولها تحت دائرة السلطنة ، كما لو فرض أنه لو لم يحفر البالوعة لانهدم بيته ، فله هذه السلطنة على التصرّف. نعم إذا كان ضرر المالك من عدم التصرّف مندكاً عرفاً في مقابل ضرر الجار ، من قبيل ما تقدّم في الأرض المستأجرة للزراعة لو أرادها صاحبها بعد انقضاء مدّة الإجارة. ولو شك في الوصول إلى تلك المرتبة من الاندكاك وعدمه ، فالأصل هو البراءة وجواز التصرّف ، ما لم يقطع بوصوله إلى تلك المرتبة. ولعل هذا هو المطابق لفتوى الفقهاء أيضاً. والمظنون أن الفقهاء (قدست أسرارهم) تأثّروا بارتكازاتهم العرفية أكثر ممّا تأثروا بالصناعة الاستدلالية.

٤٠٠