لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

الحرمة من خلال تطبيق «لا ضرر» على ذلك الأمر العدمي.

ثم إن المحقّق الأصفهاني (قدِّس سره) ذكر كلاماً آخر في المقام حاصله : أن لسان القاعدة هو الحكومة على الأدلّة الأوّلية ، وهذا يستلزم وجود حكم وجودي أو عدمي في الرتبة السابقة ، لكي يرفع إطلاقه لحالة الضرر. ومن الواضح أن ذلك لا يتم إلّا إذا فرض وجود حالتين للحكم ، يكون في إحداهما ضرريّاً دون الآخر ، والقاعدة تنظر إليه وترفعه في حالة الضرر. ولا يمكن تطبيق ذلك في المقام ، لأن عدم ضمان الغاصب من أصله حكم ضرري ، وليس له حالتان ، في إحداهما يكون ضرريّاً دون الآخر ، فحاله حال الخمس والزكاة ، في أن الحكم بوجوبهما من أصله ضرري ، لذا لا يمكن نفي هذا الحكم بالقاعدة ، كما لم يمكن ذلك في الخمس والزكاة كما تقدّم.

والجواب عن ذلك ، مضافاً إلى ما تقدّم من أن القاعدة ناظرة إلى الشريعة ككل ويحكم عليها لا إلى كل فرد فرد من الأحكام مستقلا ، أن دائرة عدم الضمان تتحدّد بتحديد دائرة الضمان في الشريعة. فلو فرض أن الشارع قد حكم بالضمان في مورد الإتلاف العمدي ، فهذا معناه أن موضوع الحكم بعدم الضمان ما لم يكن كذلك ، كما لو تلف بلا عمد ، أو بتلف سماوي ، أو لم يتلف أصلاً. ومن الواضح أن هذا الحكم العدمي أصله ليس ضرريّاً ، بل إطلاقه لصورة الإتلاف غير العمدي هو الضرري ، فيرتفع بالقاعدة ، فيكون حاله كوجوب الوضوء ضرريّاً في إحدى الحالتين دون الأخرى. وبذلك يتضح أنه لا بأس بإثبات الضمان بالقاعدة في الموارد التي تكون على طبق الارتكاز العقلائي. وقد تحصّل ممّا تقدّم عموم القاعدة وشمولها للأحكام العدمية الضررية أيضاً.

٣٢١

التنبيه الثاني : تطبيق القاعدة فيمن أقدم على الضرر

الناظر في كلمات الفقهاء يجد نحو تهافت في بادئ الأمر في التطبيقات التي ذكروها للقاعدة ، حيث إنّهم من جهة قالوا : إنّ المعاملة الغبنية يرتفع لزومها بالقاعدة ، فيما لو فرض أن المغبون كان جاهلاً بالغبن ، أما لو كان عالماً به ومع هذا أقدم عليه ، فإنه لا يرتفع اللزوم ، ولكنهم من جهة أخرى ذهبوا إلى أن المكلف إذا وقع في الجنابة من دون اختيار ، وكان الغسل مضرّاً بحاله ، فيرتفع وجوب الغسل عنه وينتقل إلى التيمّم ، لكن لو أوقع نفسه في الجنابة اختياراً ، وفرض أن الغسل كان ضرريّاً بالنسبة إليه ، فهنا أيضاً قالوا بارتفاع وجوب الغسل عنه بمقتضى القاعدة ، وهذا معناه عدم وجوب الغسل مطلقاً إذا كان ضرريّاً.

من هنا قد يتراءى نحو تهافت بين هذين الموقفين ، حيث يقال : إن إقدام المكلّف على المعاملة الغبنية عالماً ، إذا كان مانعاً عن شمول القاعدة في المورد الأول ، وموجباً لعدم رفع اللزوم عن المعاملة ، فلما ذا لا يكون إقدام المكلّف على الجنابة مانعاً عن شمول القاعدة ، بحيث لا يرتفع وجوب الغسل حتى مع الضرر.

من هنا تصدّى المحقّق النائيني (١) (قدِّس سره) لبيان نكتة تنطبق على المورد

__________________

(١) منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢١٧.

٣٢٢

الأول وتأبى الانطباق على المورد الثاني حتى يكون ذلك ملاكاً للفرق بين الموردين. وعبائر التقريرات لا تخلو من تشويش واضطراب ، لذا يمكن أن يحتمل فيها احتمالات عديدة ، وفيما يلي نصوغ ذلك من خلال تقريبات ثلاثة :

التقريب الأوّل : وهو الذي ينسجم مع صدر العبارة ، ومفاده أن القاعدة إنّما تجري لنفي الحكم الضرري فيما إذا كان ذلك الحكم هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للوقوع في الضرر ، بحيث لا يتوسط شيء آخر بين الحكم وتحقّق الضرر خارجاً. فإنه في مثل ذلك تكون نسبة الحكم إلى الضرر ، نسبة الأسباب التوليدية إلى مسبباتها. لذا ينطبق على الحكم نفس عنوان المسبّب. فمثلاً الحكم بنفوذ المعاملة الغبنية ولزومها هو بحدّ ذاته حكم بنقصان مالية المغبون ، فيكون ضرراً عليه ، لأنه علّة للنقص ، فيكتسب من معلوله عنوانه ، فيكون الضرر المنطبق على المسبّب عنواناً ثانوياً للحكم ، بخلاف ما لو فرضنا أن الجزء الأخير من العلّة لم يكن هو حكم الشارع ، بل اختبار المكلّف ، وكان الحكم الشرعي مقدّمة إعدادية لهذا الجزء الأخير ، ففي مثل ذلك لا يصدق على الحكم أنه سبب توليدي ، لأنه توسط بينه وبين الضرر اختيار المكلف وإرادته ، حينئذ لا يكون مصداقاً لعنوان الضرر ، فلا يشمله النفي في القاعدة.

لا يقال : إنّه بناءً على هذا يلزم أن لا تجري القاعدة لنفي وجوب الوضوء الضرري ، لأنه تتوسط إرادة المكلّف واختياره بين الحكم ووقوع الضرر خارجاً ، فلا يكون وجوب الوضوء هو الجزء الأخير من العلّة التامّة لوقوع الضرر ، فلا يمكن رفعه بالقاعدة.

٣٢٣

لأنه يقال : إنّ هذه الإرادة لما كانت ناشئة عن ذلك الوجوب ، وبتعبير المحقّق النائيني هي مقهورة للوجوب ، فوجودها كالعدم ، من هنا يصح أن يقال : إنّ ذلك الوجوب مضرّ بالمكلّف فيرتفع بالقاعدة.

والحاصل أن «لا ضرر» إنّما تجري فيما إذا كان الحكم الشرعي هو الجزء الأخير للعلّة التامّة. أما إذا كانت إرادة المكلّف غير المقهورة هي الجزء الأخير ، وكان الحكم مقدّمة إعدادية لهذه الإرادة ، فلا يكون مشمولاً للقاعدة.

وتأسيساً على ذلك فإنه يقال : أما في المورد الأول فإنه يوجد عندنا حكم شرعي هو لزوم المعاملة الغبنية ، وهذا اللزوم لا يؤدي إلى الضرر ، إلّا إذا كان المكلّف جاهلاً بالغبن ، وذلك لأن المكلف في موارد الجهل لم يقدم على المعاملة بعنوان أنها غبنية ، بل أقدم عليها بتخيّل أنها ليست كذلك ، ولازم ذلك أن ما وقع لم يكن مراداً له حقيقة ، إذن فلم تتوسط إرادة جدّية من المغبون بين اللزوم ووقوع الضرر خارجاً ، فيكون الحكم الشرعي باللزوم هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر ، فيرتفع بالقاعدة ، بخلاف موارد علم المكلف بالغبن وإقدامه على ذلك ، فإن لزوم المعاملة ليس هو الجزء الأخير ، بل اختيار المكلّف وإرادته هي الجزء الأخير لوقوع الضرر ، فليس إرادة المكلف المعاملة الغبنية عالماً بها ، كإرادة المكلف للوضوء ؛ وذلك لأن الشارع حينما يحكم بلزوم المعاملة الغبنية في موارد العلم بها ، لا يجبر أحداً على إيقاعها خارجاً. إذن فقد توسط بين الحكم الشرعي ووقوع الضرر إرادة غير مقهورة ، فلا تجري القاعدة لنفي اللزوم.

وهذه النكتة لا تجري في المورد الثاني ، أي فيمن أجنب عمداً ، لأنه

٣٢٤

لم تتوسط إرادة غير مقهورة بين التكليف ووقوع الضرر خارجاً ، وذلك لأن هناك إرادتين ، إرادة الإجناب وهي من مبادئ التكليف لا أنها متوسطة بينه وبين الضرر الخارجي ، وإرادة الغسل وهي مغلوبة ومقهورة للحكم الشرعي ، لأنها إرادة الطاعة والامتثال ، فيكون حكمها كالعدم ، فيصدق على وجوب الغسل أنه الجزء الأخير من العلّة التامة لوقوع الضرر ، فتشمله القاعدة.

إلّا أن هذا التقريب فيه خلط بين الجعل والمجعول ، فإنه لو كان النظر إلى الجعل أو المجعول ، لما كان هناك فرق بين الموردين.

توضيحه : تارة يكون النظر في كلا الموردين إلى الجعل ، فهنا تتوسط إرادة غير مقهورة بين الجعل ووقوع الضرر خارجاً.

أما في المورد الأول ، فلأن هناك جعلاً بنحو القضية الحقيقية مفاده : أن كل من باع داره مثلاً مغبوناً ، فالبيع لازم عليه. وهذا الجعل في نفسه لا يترتّب عليه ضرر خارجاً ، إلّا إذا تحقّق موضوعه المقدّر الموجود ، أي المعاملة الغبنية ، ومن الواضح أن الإرادة التي تحقّق هذا الموضوع المقدّر الوجود ليست تحت القهر ، لأن المولى لا يجبر أحداً على أن يوجد المعاملة الغبنية ، أذن فقد توسطت إرادة غير مقهورة بين الجعل ووقوع الضرر خارجاً. وكذلك الحال في المورد الثاني ، فإن المولى جعل بنحو القضية الحقيقية ، أن من أجنب نفسه يجب عليه الغسل ، وهذا الجعل بما هو لا يكفي أيضاً في وقوع الضرر خارجاً ، ما لم يتحقق موضوعه المقدّر الوجود ، وهو أن يجنب المكلّف نفسه ، ومن الواضح أن هذا الإجناب ليس تحت القهر من ناحية تلك القضية الحقيقية. هذا إذا كان الملحوظ فيهما هو الجعل.

وأخرى يكون النظر فيهما إلى المجعول ، فإنه لا تتوسط أي إرادة

٣٢٥

غير مقهورة بين الحكم ووقوع الضرر خارجاً ، فإن المجعول في المورد الأول ، وهو اللزوم لا يصير فعلياً إلّا بعد صدور المعاملة الغبنية ، لأن فعلية المجعول فرع فعلية الموضوع وهي المعاملة ، ومع فعليتها يصبح اللزوم فعلياً. وفي مثل هذه المرتبة تكون إرادة المكلّف مقهورة لصحّة المعاملة ولزوم الوفاء بها. كذلك الحال في المورد الثاني ، فإنا إذا لاحظنا فعلية الوجوب المجعول ، فإنه يكون في المرتبة المتأخّرة عن الإجناب ، وفي هذه المرتبة لا يتوسط بينه وبين وقوع الضرر خارجاً إلا إرادة الغسل التي هي مقهورة لإيجاب الطهور على المجنب. والحاصل أن كلا الموردين من وادٍ واحد سواء لوحظ فيهما الجعل أو المجعول.

التقريب الثاني : وهو الذي ينسجم مع وسط عبارة التقريرات ؛ بيانه : أن النكتة التي توجب عدم شمول القاعدة للزوم في المورد الأوّل ، هو أنه مع العلم بالغبن لا يوجد ضرر أصلاً ، لأن الضرر إنما هو في فرض الجهل بالغبن.

والوجه فيه أن الضرر الذي على أساسه تطبّق القاعدة لنفي اللزوم في المعاملة الغبنية ، ليس الضرر المالي ، بل هو ضرر آخر وهو فوات الشرط.

توضيحه : أن المحقّق النائيني (قدس‌سره) كأنه يريد أن يقول : إن المغبون ، إما أن يشترط على الغابن التساوي في المالية أو لا ، فإن فرض الأوّل ولو بحسب الارتكاز العقلائي العام ، فإذا تخلّف الشرط كما في صورة المعاملة الغبنية ، فإنه يكون متضرّراً ، فيثبت له خيار تخلّف الشرط. وإن فرض الثاني فلا يوجد هناك ضرر أصلاً ، لأنه ليس له حق التساوي ، حتى يقال إنه مع عدمه فقد خسر حقّه. إذن صدق الضرر متوقف على اشتراط التساوي ، وحيث لا يشترط لا يصدق ذلك.

إذا عرفنا ذلك نأتي لتطبيق هذه الكبرى على المقام فنقول : إذا كان

٣٢٦

المتعاقد جاهلاً بالغبن ، فهذا معناه أنه قد اشترط التساوي بالارتكاز العقلائي العام ، لأن كل عاقل بحسب طبعه الأوّلي لا يرضى بالمعاملة الغبنية ، ومع وجود هذا الشرط الضمني ، فإنه لو لم يتحقّق التساوي في الواقع ، فقد وقع عليه الضرر ، فتجري القاعدة. أما إذا أقدم على إيقاع المعاملة عالماً بالغبن ، فظاهر حاله أنه أسقط هذا الشرط ، لأنه لو كان يهتم به لما أقدم على مثل هذه المعاملة ، ومع عدم اشتراط ذلك لم يتحقّق ضرر أصلاً ، لأنه لم يكن له حق في التساوي حتى يكون فقده ضرراً عليه. فلا مجال لجريان القاعدة لانتفاء الموضوع رأساً. لكن إذا جئنا إلى المورد الثاني فإن الجنابة ستؤدّي بالمكلف إلى إيجاب الطهور عليه ، والمفروض أن الضرر في الغسل تكويني ، سواء وقعت الجنابة مصادفة وبلا اختيار ، أو أجنب المكلّف نفسه عمداً. فضررية الغسل ثابتة على أي حال ، لأن العمدية في الإجناب لا ترفع ضرر الماء كما هو واضح.

فتحصّل أنه في المورد الأوّل مع العلم بالغبن لا موضوع للحق ، ليكون انتفاؤه ضرريّاً ، بخلافه في المورد الثاني فإن الضرر محفوظ على كل حال.

أقول : هذا الكلام كأنه مبني على ما أشرنا إليه ، من أن تطبيق القاعدة ليس بلحاظ الضرر المالي ، وإنما هو بلحاظ فقدان شرط التساوي في المقام ، وقد أشرنا في كلام سابق مع المحقّق العراقي إلى أن هذا البيان غير تام في نفسه ، لأن القاعدة ترفع اللزوم ، ورفع اللزوم لا يكون نفياً للضرر الذي هو عبارة عن عدم التساوي ، وإنما هو تدارك للضرر الواقع ، ما لم تضف إلى هذا البيان بعض العنايات التي تكلّمنا عنها فيما سبق ، والتي كان أفضلها هو أن مرجع التساوي إلى حق الخيار الثابت للمغبون بالارتكاز العقلائي الناتج من

٣٢٧

ناحية الشرط ، أو من ناحية شرط ضمني آخر ، فيكون عدم جعل هذا الحق ضرراً فتشمله القاعدة. فلو بنينا على هذا التقريب لأمكن أن يقال : إن الارتكاز العقلائي القاضي بحق الخيار للمغبون مختص بصورة الجهل بالغبن ، أما في صورة العلم بذلك ، فلا يوجد ارتكاز عقلائي يقتضي جعل الخيار للمغبون ، فلا يكون عدم جعل الخيار من قبل الشارع ضرراً عليه ، لأن ضررية اللزوم فرع أن يكون على خلاف الارتكاز. عند ذلك يمكن تصحيح ما ادّعاه الميرزا في هذا البيان.

لكن مع هذا كلّه فإن هذا التقريب غير تام ، وذلك لأنه بالإضافة إلى الضرر الناشئ من ناحية الارتكاز العقلائي ، هناك ضرر مالي تكويناً ثابت على كل حال ، سواء كان المغبون عالماً بالغبن أم جاهلاً به ، فيقع الإشكال من ناحية هذا الضرر. وبتعبير آخر : إن المغبون أُصيب بنحوين من الضرر :

أحدهما : ضرر بلحاظ الارتكاز العقلائي الذي يقتضي حق الخيار له ،

فلو لم يجعل لكان ضرراً عليه ، وهذا النحو من الضرر مختص بصورة الجهل بالغبن ، لاختصاص الارتكاز بهذه الحالة.

ثانيهما : الضرر الناشئ من نقصان مال المغبون ، وهذا الضرر في نفسه كاف لتطبيق القاعدة ، ومن الواضح أن هذا النحو من الضرر لا يفرق بين صورة العلم والجهل بالغبن ، فيرجع الإشكال في أنه كيف لم يلتزم الفقهاء في المقام بتطبيق القاعدة في العلم بالغبن ، والتزموا ذلك في باب الجنابة عمداً.

التقريب الثالث : دعوى أن من شروط جريان القاعدة ، أن لا يكون المكلّف مقدماً على الضرر عالماً عامداً ، والمفروض في المقام أن المتعاقد أقدم على المعاملة ملتفتاً إلى أنها غبنية ، ولازمه أنه أقدم على الضرر ، فلا تشمله

٣٢٨

القاعدة.

والفرق بين النكتة التي أبرزت هنا وما ذكر في التقريب السابق ، أنه هناك كان الإقدام على المعاملة الغبنية مع العلم بها ، يستلزم نفي الضرر أصلاً ؛ لأن الضرر كان ينشأ من فوات الشرط لا من ناحية النقص المالي. أما هنا فليس المدّعى أن الضرر غير موجود ، بل الضرر الذي هو النقص المالي متحقق على كل حال. فموضوع القاعدة ثابت ، ولكنه لا ينطبق الحكم ، لأنه يشترط فيه أن لا يكون المشتري مثلاً قد أقدم على الضرر ، والمفروض مع العلم أنه أقدم على فرد من أفراد الضرر من خلال إيقاع هذه المعاملة. وبتعبير آخر : إن الضرر المنفي هناك من السالبة بانتفاء الموضوع ، وهنا من السالبة بانتفاء المحمول.

إلّا أن هذه النكتة لا تجري في المورد الثاني ، وهي الجنابة التي أقدم عليها المكلّف عالماً عامداً ؛ لأنه دوري.

بيانه : أن صدق الإقدام على الضرر فرع أن يكون هذا النحو من الجنابة ممّا يستتبع وجوب الغسل ، وإلّا لو فرض أنها لا تستتبع ذلك ، فلا يكون الإقدام عليها ضرريّاً ، وترتّب وجوب الغسل فرع أن تكون الجنابة ممّا أقدم عليها المكلّف عامداً ، وإلّا لو لم يكن كذلك لشملته القاعدة ، لأن المفروض أنه حكم ضرري.

والحاصل أن صدق الإقدام متوقف على كون حكم هذه الجنابة وجوب الغسل وعدم جريان «لا ضرر» الموقوف على صدق الإقدام ، فأصبح صدق الإقدام دوريا. فإذا استحال صدق الإقدام فلا مانع من شمول القاعدة ، إذ لا يتصوّر مانع عن ذلك إلّا دعوى صدق الإقدام. والمفروض أن صدقه ممتنع

٣٢٩

فتجري القاعدة بلا مانع. وهذا التقريب نقله المحقّق العراقي عن أستاذه صاحب الكفاية (قدس‌سرهما).

وتحقيق الحال في هذه المسألة يستلزم الحديث في مقامين :

المقام الأوّل : صدق الإقدام في مسألة الغبن.

تارة نبني على أن المجعول من قبل المتعاقدين هو مرحلة حدوث المعاملة فقط ، فيكون مدلول البيع مثلاً هو إحداث التمليك والتملّك ، وأن الحكم بالصحة من قبل الشارع إمضاء لهذا القدر ، ثم يقع الحكم بالصحة موضوعاً للحكم باللزوم من قبل الشارع ، من دون أن يكون اللزوم إثباتاً ونفياً مجعولاً من قبلهما ، كما أفاده المحقّق العراقي (قدس‌سره) ؛ فلا يتحقق الإقدام في المقام ، لأن الظهور السياقي في مثل هذه المعاملة أن الطرفين أقدما على إيجاد هذا الأثر الحدوثي ، وليس للمعاملة مضمون يقتضي بقاء هذا الأثر وهو الصحة حتى بعد الفسخ ، حتى يقال إنهما أقدما على اللزوم أيضاً. وهذا معناه أن ما أقدما عليه لا ضرر فيه ليكون مشمولاً للقاعدة ، لأن المفروض أن البيع الغبني صحيح غير لازم ، وما فيه الضرر أي اللزوم هو حكم شرعي مترتّب على المعاملة ، لم يقدما عليه ليكون منفياً ب «لا ضرر». بناءً على هذا التصوّر يكون حال هذه المسألة حال وجوب الغسل ولا يبقى فرق بين الموردين.

إلّا أن هذا التصور غير تام ، بناءً على ما هو الحق في المسألة ، تبعاً للمحقق النائيني (قدس‌سره) من أن اللزوم الذي هو عبارة عن بقاء الأثر حتى بعد الفسخ منشأ في المعاملة أيضاً ، فهو تحت نظر المتعاملين ، فيكون مجعولاً من قبلهما كما أن الحدوث مجعول منهما. لكن الأثر الحدوثي مدلول عليه بالمطابقة ، والأثر البقائي واللزومي مدلول عليه بالالتزام. حينئذ يقال : إنّ

٣٣٠

المغبون الذي أقدم على إيقاع المعاملة عالماً بالغبن ، لا خيار له في الفسخ ، لعدم وجود ما يبرز هذا الحق ، لا من ناحية القرينة الخاصة كاللفظ ، ولا العامة كالارتكاز العقلائي. وهذا معناه أنه قد وطّن نفسه على قبول ضررية هذه المعاملة الناشئة من اللزوم ، فلا مجال لجريان القاعدة. بخلاف الجاهل بالغبن ، فإنّه (بقرينة الارتكاز العقلائي العام ، وكون الأصل في كل عاقل ، ما لم يخرج بدليل ، أنه يتحفّظ على مالية أمواله) شرط لنفسه الخيار ولو ضمناً ، فلا يكون إقدامه على إيقاع المعاملة إقداماً على ضررية اللزوم أيضاً.

بناءً على هذا التصوّر يصحّ أن يقال : إن علم المغبون بالغبن يوجب ظهوره في أنه لم يشترط الخيار ، وهذا معناه أنه جعل اللزوم بالدلالة الالتزامية ، وعليه فلا ينبغي الشك في صدق الإقدام على الضرر في مسألة الغبن ، بنفس إقدامه على إيقاع المعاملة عالماً بالغبن ، فلا تجري القاعدة في حقّه.

المقام الثاني : صدق الإقدام على الضرر في مسألة الجنابة العمدية

والكلام هنا تارة يقع في الصغرى ، وهو هل الإقدام على الجنابة عامداً ، إقدام على الضرر أم لا؟ وأخرى في الكبرى ، وهو هل يكون مثل هذا الإقدام مانعاً عن جريان القاعدة ، بدعوى أن كل إقدام فهو مانع ، أم يكون بعض أنحاء الإقدام مانعاً دون بعض؟

أما البحث الأوّل ، فقد أشرنا في التقريب الثالث إلى أن الإقدام على الجنابة ليس إقداماً على الضرر ، باعتبار استلزامه للدور المحال. وتحقيق الحال في ذلك يستلزم الحديث في نقاط :

النقطة الأولى : أنه لو كان الإقدام في المقام دوريا ، لأمكن أن يقال : إن عدم الإقدام دوري أيضاً.

٣٣١

توضيحه : كما أن الإقدام على الجنابة ، لكي يكون إقداماً على الضرر ، متوقّف على ترتّب وجوب الغسل على هذه الجنابة ، وهو يتوقّف على عدم جريان «لا ضرر» المتوقّف على صدق الإقدام ، إذ لو لم يصدق ذلك لجرت القاعدة لا محالة ؛ كذلك يمكن أن يقال : إن صدق عدم الإقدام على الجنابة يتوقّف على عدم وجوب الغسل ، وعدم وجوب الغسل فرع جريان «لا ضرر» وجريانه متوقّف على عدم الإقدام على الضرر ، فيكون دوريا.

بتعبير آخر : عدم الإقدام على الضرر متوقّف على حكومة «لا ضرر» على إطلاقات الأدلّة الأوّلية ، وحكومة «لا ضرر» على تلك الإطلاقات يتوقّف على عدم صدق الإقدام ، لأنه أخذ في موضوع القاعدة عدم الإقدام.

والحاصل : كما أن الإقدام يكون دوريا ، كذلك عدم الإقدام ، لكن بنحو التعاكس ، فلو مشينا على مثل هذا النهج في التفكير ، لانتهينا إلى محذور آخر هو ارتفاع النقيضين ، وهذا معناه أن هناك خطأً أساسياً في هذا النحو من البيان.

النقطة الثانية : الكشف عن المغالطة التي تتكرّر في جملة من كلمات الأعلام في موضوع الدور.

بيانها : حينما يفرض كون «أ» متوقّفاً على «ب» وكون «ب» متوقّفاً على «أ» لا بدّ من معرفة ما هو المحال في الدور؟ فإنّ هناك من يتوهّم أن المستحيل عقلاً وجود «أ» و «ب» في الخارج ، لأنه يلزم وجود شيء قبل علّته وهو غير معقول. فإن «أ» علّة «ب» فلا بدّ أن يوجد قبله ، والمفروض أن «ب» علّة «أ» فلا بدّ أن يوجد قبله أيضاً. فهذا التصوّر يقوم على أساس استحالة تحقّق ووجود الدائرين في الخارج ، وإن كان أصل التوقّف ممكناً ولا

٣٣٢

محذورر فيه. إلّا أن هذا البيان غير صحيح كما نبّهنا عليه في تطبيقات أخرى لهذه المسألة ، فإن المحال حقيقة هو نفس التوقّف بقطع النظر عن وجود المتوقفين خارجاً وعدم ذلك. فإن توقّف «أ» على «ب» ثم توقف «ب» على «أ» مرجعه إلى توقف الشيء على نفسه ، وكون الشيء علّة لنفسه ومتأخّراً رتبة عن نفسه ، وهو ممتنع عقلاً ، لا وقوع الدائر خارجاً ، فلا يمكن والحال هذه أن يجعل بيان القوم برهاناً على عدم حصول الإقدام ، بل لا بدّ من الوقوف على الصورة التي تكون فيها مثل هذه التوقفات أمراً معقولاً ، ولا يلزم منه محذور الدور ، وليس ذلك إلّا بأن يكون أحد التوقفين باطلاً.

النقطة الثالثة : من القواعد التي لا بدّ من الالتفات إليها أن العام دائماً يتعنون بنقيض العنوان الوارد في المخصص أو الحاكم. فمثلاً إذا قيل : «أكرم العالم» ثم قيل : «لا تكرم العالم الفاسق» فالثاني مخصّص للأوّل ؛ ومقتضى ذلك هو أن يؤخذ في موضوع الأوّل ، وهو وجوب الإكرام ، نقيض ما ورد في الثاني ، وهو أن لا يكون فاسقاً. وفي المقام يوجد عندنا دليل دلّ على وجوب الغسل ، وهو بحدّ ذاته لم يؤخذ في موضوعه أن لا يكون ضرريّاً ، فيشمل الغسل الضرري وغيره ، والضرري سواء كان من الإضرار المقدم عليها أم لا. غاية الأمر ورد حاكم عليه وهو دليل القاعدة. وحيث إنه أخذ في موضوعها عدم الإقدام بحسب الفرض ، فلا محالة يتقيّد موضوع دليل وجوب الغسل بنقيض العنوان الذي أخذ في دليل القاعدة ، وهو الإقدام على الضرر.

من هنا فإن العنوان الذي يؤخذ في دليل وجوب الغسل يكون تابعاً للعنوان المأخوذ في دليل القاعدة ، فإذا استطعنا أن نقف على ذلك العنوان ،

٣٣٣

نستطيع أن نشخّص نقيضه الذي أخذ في موضوع وجوب الغسل. فترتيب البحث من الناحية الفنية يستلزم تشخيص القيد المأخوذ في موضوع «لا ضرر» ، ومن خلاله سوف نقف على أنه هل يوجد إقدام في المسألة محل الكلام أم لا؟

النقطة الرابعة : في تحقيق القيد المأخوذ في موضوع القاعدة ، والمتصوّر بدواً احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون القيد المأخوذ هو عدم الإقدام الثابت بالفعل لولا القاعدة وبقطع النظر عنها ، وعلى هذا فالقاعدة تنفي كل ضرر يكون عدم الإقدام عليه ثابتاً قبل ورودها.

بتعبير آخر : إن المأخوذ في القاعدة هو عدم الإقدام بنحو القضية الشرطية ، وشرطها عدم القاعدة. فلو طبّقنا هذا التصوّر على محل الكلام ، لوجدنا أن عدم الإقدام غير موجود ، بل الموجود تحقّق الإقدام ، لأن المفروض أنه أقدم على الجنابة عامداً عالماً بترتّب وجوب الغسل عليه ، وأنه يتضرّر بهذا الغسل ، فيكون قد أقدم على الضرر. فالشرط المأخوذ في موضوع القاعدة لو كان هو عدم الإقدام على تقدير أن لا تكون القاعدة ، فهذه القضية الشرطية غير صادقة في المقام ، لأنه لا يصح أن يقال : لولا القاعدة لم يكن إقدام ، بل لولا القاعدة فالإقدام حاصل بالفعل ، فتكون الشرطية كاذبة ، ومعه يجب الغسل على المجنب متعمّداً ، بقطع النظر عمّا سنذكره بعد ذلك.

الثاني : أن يفرض أن المأخوذ في موضوع القاعدة هو عدم الإقدام الثابت بالفعل ، لا بنحو القضية الشرطية ، بل بنحو القضية التنجيزية ولو من ناحية نفس القاعدة. فإن عدم الإقدام ، تارة يكون ثابتاً في نفسه بالفعل ، سواء

٣٣٤

كانت هناك قاعدة أم لا ، وذلك من قبيل الجاهل بالغبن ، فإنه غير مقدم على الضرر على كل حال. فعدم الإقدام محقّق في حقّه سواء كانت القاعدة أم لم تكن.

وأخرى يفرض انّ تحقّق عدم الإقدام إنّما هو بلحاظ القاعدة من قبيل ما ذكر في التقريب الثالث ، من أن المكلف لم يقدم على الضرر ، لأن «لا ضرر» تنفي وجوب الغسل ، فإقدامه على الجنابة ليس إقداماً على الضرر ، فعدم الإقدام يثبت بلحاظ نفس القاعدة.

هنا يقال : إن كان المأخوذ في موضوع القاعدة هو عدم الإقدام الفعلي مطلقاً ، كالعدم الثابت للجاهل بالغبن ، فهذا أمر معقول. أما إذا كان المأخوذ في الموضوع عدم الإقدام الفعلي ولو بلحاظ القاعدة ، فهو غير معقول في نفسه ، لأن معناه توقف الشيء على نفسه ، وهذا هو الذي أشرنا إليه في النقطة الثانية أنه محال في نفسه من دون أن ننقل الكلام إلى مرحلة تحقّقه خارجاً وعدم ذلك. فإن إناطة فعلية المجعول في القاعدة بفعلية عدمٍ ناشئ منه أمر مستحيل في نفسه ، لأن لازمه أن يكون عدم الإقدام المتفرّع على «لا ضرر» موضوعاً له.

الثالث : أن يفرض أن المأخوذ هو عدم الإقدام ولو الناشئ من «لا ضرر» ولكن لا بنحو الفعلية الذي تقدم في الاحتمال الثاني ، بل بنحو القضية الشرطية التعليقية ، أي إذا صدقت قضية شرطية مقدمها فعلية مفاد القاعدة وتاليها عدم الإقدام ، تحقق موضوع «لا ضرر» ؛ وهذا لا يلزم منه الدور ، لأن فعلية القاعدة ليست متوقفة على فعلية عدم الإقدام الناشئ من ناحيتها ، بل فعليتها متوقف على صدق القضية الشرطية ، والمفروض أن صدق الشرطية لا

٣٣٥

يستلزم صدق طرفيها.

من هنا يعرف أنه لا فرق بين هذا الوجه وسابقه من حيث النتيجة ، وإن كان هذا ممكناً دون ذاك فإنه ممتنع لأنه دوري. نعم دائرة القيد المأخوذ في موضوع القاعدة هنا أوسع وأعمّ ممّا ذكر في الاحتمال الأول ، لأنه يشمل كلا قسمي عدم الإقدام ، سواء كان بالفعل أو بنحو القضية التعليقية. وحيث إنه قد تقدّم في النقطة الثالثة أن العام يتعنون دائماً بنقيض العنوان الوارد في المخصص أو الحاكم ، إذن دليل وجوب الغسل المخصص بالقاعدة ، لا بدّ أن يتقيّد موضوعه بنقيض العنوان المأخوذ في «لا ضرر». فإذا كان القيد المأخوذ في موضوع القاعدة أخصّ كما هو الحال في الاحتمال الأول ، كان نقيضه الأعمّ قيداً في موضوع وجوب الغسل ، لأن نقيض الأخص هو الأعمّ ، لذا قلنا هناك إنه يجب الغسل على المكلف لصدق الإقدام ، لكن إذا قطع النظر عن «لا ضرر».

أما إذا كان القيد المأخوذ في موضوع القاعدة هو الأعمّ كما هو في الاحتمال الثالث ، كان نقيضه الأخصّ قيداً في موضوع وجوب الغسل ، لأن نقيض الأعمّ هو الأخصّ ، ومن هنا تجري القاعدة لأنه يصدق عدم الإقدام في طول جريانها بنحو القضية الشرطية ، فلا يجب الغسل.

فتحصّل إلى هنا أنه على الاحتمال الأوّل يكون موضوع وجوب الغسل هو المحكم في المقام ، وعلى الاحتمال الثالث يكون موضوع القاعدة هو المتحقّق.

لكن قد يقال : إننا وإن سلّمنا عدم لزوم محذور الدور بلحاظ دليل القاعدة ، إلّا أنه يمكن تقريب الدور بلحاظ موضوع وجوب الغسل ، وذلك

٣٣٦

لأنه أخذ في موضوعه الإقدام ، وهذا معناه توقّف وجوب الغسل على الإقدام ، والمفروض أن صدق الإقدام وفعليته إنما يكون في طول فعلية وجوب الغسل ، وهذا دور كما تقدّم في الاحتمال الثاني.

فإنّه يقال : إنه تارة نبني على الاحتمال الثالث ، فالجواب أن كل ضرر ينشأ من ثبوت الحكم الإلزامي ولو أقدم عليه المكلّف يكون مرفوعاً بالقاعدة ، لأن المفروض أن موضوعها هو عدم الإقدام ولو بلحاظ جريان القاعدة ، فلا محالة تكون القاعدة منفية لإقدام ينشأ من الحكم الذي ينفيه ، فيكون موضوع الأحكام الإلزامية الإقدام على الضرر الناشئ من غير تلك الأحكام ، إذن فلا دور.

وأخرى نبني على الاحتمال الأوّل ، فالجواب أن دليل وجوب الغسل أخذ في موضوعه الإقدام ، بنحو التصوّر الثالث ، فيكون موضوعه محقّقاً ، ولا يلزم محذور الدور ، لأن الموضوع هو صدق الإقدام لو وجب الغسل.

بتعبير آخر : يكون مقدم الشرطية وجوب الغسل وتاليها الإقدام. أما دليل القاعدة فقد أخذ في موضوعها عدم الإقدام بنحو التصوّر الأوّل ، فلا يكون موضوعها محقّقاً ، لأن المفروض هو عدم الإقدام لولا القاعدة ، وهنا الإقدام محقّق بقطع النظر عن القاعدة كما تقدّم.

والحاصل أن الكيفية التي أخذ فيها القيد في دليل وجوب الغسل مغاير لكيفية أخذ القيد في دليل «لا ضرر» فإنه في دليل القاعدة أخذ عدم الإقدام لولا مجعوله ، وأخذ الإقدام في دليل وجوب الغسل على تقدير مجعوله. وبهذا يرتفع المحذور الثبوتي ويكون كلا التصوّرين معقولاً في المقام.

ولكن قد يستشكل بلحاظ مقام الإثبات ويقال : إنه لماذا فُرّق بين دليل

٣٣٧

«لا ضرر» ودليل وجوب الغسل بلحاظ كيفية أخذ الإقدام وعدمه ، لأنه إمّا أن يستظهر من الدليلين أن كلا القيدين أخذا في مقام الثبوت بنحو التصوّر الأوّل ، أو الثالث.

والجواب : أن التفرقة والتفكيك بين الموردين إنما نشأ بسبب أن تحديد موضوع وجوب الغسل كان بحكم العقل ، وتحديد موضوع القاعدة كان بالاستظهار العرفي ، وقد يختلف أحدهما عن الآخر في النتائج المترتبة عليهما.

توضيحه : أمّا بالنسبة إلى دليل وجوب الغسل ، فمقتضاه هو الوجوب مطلقاً ، سواء كان ضرريّاً أم لم يكن ، وسواء كان الضرر مقدماً عليه أم لم يكن ، وسواء كان الإقدام ينشأ من ناحية وجوب الغسل أم هو ثابت قبل ذلك ، فمقتضى الإطلاق هو ثبوت الوجوب في تمام هذه الموارد. ونحن نريد أن نرفع اليد عن هذا الظهور الإطلاقي من خلال المقيد المنفصل الذي هو دليل «لا ضرر» بالنحو الذي تقدّم في النقطة الثالثة ، من أن العام يتعنون بنقيض عنوان المخصّص أو الحاكم. ومن المعلوم أنه لا بدّ من تشخيص ذلك العنوان ليمكن أخذ نقيضه في العام ، ومن الواضح أن ذلك يرتبط بالدقة العقلية لا الاستظهار العرفي من دليل العام. وعلى هذا الأساس تختلف دائرة هذا القيد المأخوذ في دليل وجوب الغسل سعة وضيقاً تبعاً للقيد المأخوذ في موضوع القاعدة ؛ لأن إطلاق دليل وجوب الغسل لا يرفع اليد عنه إلّا بمقدار جريان القاعدة. فمثلاً لو كان العنوان المأخوذ في المخصّص هو عدم الإقدام لولا الضرر ، كما هو في الاحتمال الأوّل ، فهذا معناه أن الذي يبقى تحت العام نقيض ذلك وهو الإقدام لولا القاعدة ، وهذا مساوق لقولنا : «لو وجب الغسل لتحقّق الإقدام» كما أشرنا.

٣٣٨

أما بالنسبة إلى دليل القاعدة ، فليس أخذ قيد عدم الإقدام في موضوعها هو من باب ورود المخصّص المنفصل لنحسب حسابه بالدقّة العقلية ، وإنما هو من باب الاستظهار العرفي بحسب قرينة الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع. ولذا لا بدّ من ملاحظة هذه القرينة المتصلة مع القاعدة ، لنقف على حدودها سعةً وضيقاً. وما ينبغي أن يقال بلحاظ هذه القرينة هو أنها تقتضي عدم شمول القاعدة لموارد الإقدام على الضرر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله فيما بعد. حينئذٍ لا بدّ أن يرى مقدار اقتضاء هذه القرينية في تكييف ظهور القاعدة ، وأنه هل هو بنحو التصوّر الأوّل أو الثالث؟

النقطة الخامسة : البحث في أن المستظهر من حديث «لا ضرر» هل القيد المأخوذ في موضوع القاعدة ، هو الاحتمال الأوّل ، أي عدم الإقدام لولا الضرر ، أم بنحو الاحتمال الثالث ، أي لو جرى «لا ضرر» لما كان هناك إقدام؟ والسبب في ذلك أن هذا القيد لم يؤخذ لفظاً في الحديث ، وإنما مدركه تلك القرينة المتصلة على أن الحديث مسوق مساق الامتنان على الأمّة. وهذا لا يقتضي الشمول لأكثر من الاحتمال الأوّل ، لأن ظاهر الحديث أن المولى في مقام التفضّل على من يستحقّ الامتنان في نفسه بقطع النظر عن القاعدة ، أي أنها ناظرة إلى موارد امتنانية نفي الضرر حتى تجري. أما إذا بنينا على الاحتمال الثالث ، فهذا معناه أن القاعدة تنفي الضرر في مورد يصدق عدم الإقدام في طول جريانها ، فيلزم أن تكون مورد الامتنان لنفسها ، وهو خلاف الظاهر.

فتحصّل إلى هنا أن الإقدام على الضرر ثابت في باب الإجناب العمدي ، من دون لزوم محذور الدور ، فيكون موضوع وجوب الغسل هو المحقّق ، وعليه

٣٣٩

فلا مجال لجريان القاعدة لنفي وجوب الغسل الضرري ، كما هو في مسألة الغبن.

هذا تمام الكلام في الصغرى.

أما البحث الكبروي : وهو أن مثل هذا الإقدام الذي ثبت في البحث السابق ، هل يمنع عن جريان القاعدة ، بدعوى أن كل إقدام فهو مانع ، أم بعض أنحاء الإقدام يكون مانعاً ، وليس منه الإقدام في مسألة الغسل؟

في الابتداء لا بدّ أن يعلم أن عنوان عدم الإقدام لم يؤخذ في حديث «لا ضرر» حتى يقع البحث في مفاده سعةً وضيقاً ، وإنما مدرك مانعية الإقدام قائمة على أساس أن جريان القاعدة في موارد الإقدام ليس فيه امتنان ، مع ظهور الخطاب النبوي في أنه مسوق مساق الامتنان. فهذا الظهور السياقي يوجب

تضييق دائرة الخطاب. والملاك في عدم مطابقة الامتنان للإقدام ، هو إذا لزم من الجريان منع المكلّف من الوصول إلى غرضه ، لأنه لا يكون عندئذ نفي الضرر منّة عليه ولو بحسب النظر العرفي.

إذا اتضحت نكتة مانعية الإقدام نقول : إن للإقدام ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يتعلّق الإقدام بنفس الأمر الضرري ، كما لو فرض أن المكلف له غرض في إيجاد نفس الضرر. فهنا تارة يكون الغرض سفهياً غير عقلائي ، وأخرى يكون عقلائياً. فإن كان الأوّل ، ففي مثل ذلك لا بأس بجريان القاعدة ، وإن أدّى إلى منع هذا الإنسان من الوصول إلى غرضه ، لأنه لا ينافي الامتنان المأخوذ في القاعدة ؛ وذلك لأن الامتنان على السفيه ليس بلحاظ ما يشخّصه من الأغراض ، وإنما هو بلحاظ النظر العرفي العام. وإن شئت قلت : إن مناط امتنانية الخطاب وإن لم يكن بلحاظ ما فيه المصلحة

٣٤٠