لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

في النار ، يكون السبب مصداقاً للمسبّب التوليدي ، فيصدق على الإلقاء في النار أنه إحراق ، وعلى الضرب أنه قتل وهكذا ، مع أن الضرب بالدقّة العقلية ليس قتلاً والإلقاء في النار ليس إحراقاً ، بل الإحراق هو نفس الاحتراق الخارجي ، غاية الأمر بما هو مضاف إلى الفاعل ، فإن الفرق بين الإحراق والاحتراق أمر اعتباري. وهذه قاعدة عامة عرفية طُبِّقت في المقام أيضاً ، لأن الحكم حيث إنه سبب للضرر على حدّ سببية الأسباب لمسبباتها التوليدية ؛ لذا ينطبق على الحكم نفس عنوان المسبّب. فمثلاً : الحكم بنفوذ المعاملة الغبنية ولزومها هو بحدّ ذاته حكم بنقصان مالية مال المغبون ، فيكون بنفسه ضرراً ، لأنه علّة للنقص ، فيكتسب من معلوله عنوانه. فعنوان الضرر المنطبق على معلوله يكون عنواناً ثانوياً للحكم. وكذلك الحال في وجوب الوضوء حيث إن هذا الوجوب وإن لم يوقع الإنسان في الضرر ، لكن بتوسط امتثاله بحسب قانون المولوية ينتهي إلى التكليف ، ومن ثم يكون مكتسباً عنوان مسببه. وحيث إنه ينطبق على الوضوء عنوان الضرر الناتج من وجوب الوضوء ، فيصدق على الوجوب أنه ضرر من هذه الناحية.

واعتراض جملة من الأعلام (بأن الضرر الناشئ من الوضوء منشؤه فعْل المكلف ، وأن الحكم الشرعي بوجوب الوضوء ليس إلّا مقدّمة من المقدمات الإعدادية له ، لا سبباً توليدياً ، مع أن هناك فرقاً بين المقدّمة الإعدادية والسبب التوليدي كما هو محقّق في محلّه) غير وارد ؛ لأن الظاهر أن الميرزا (قدس‌سره) ليس بصدد تطبيق قاعدة عقلية في المقام ، وإنما يدّعي قاعدة عرفية ؛ وتشخيص موضوع هذه القاعدة يكون بالنظر العرفي لا الدقي العقلي. وهذا أمر صحيح في نفسه ، لأن العرف يرى أن الحكم الشرعي هو المنشأ الحقيقي لهذا الضرر ،

١٨١

وإن كان يتخلّل بينه وبين الضرر الخارجي إرادة الفاعل ، إلا أنها لما كانت مقهورة للقوانين التي تصدر من الشريعة فكأنها لا إرادة. إذن فتطبيق هذه القاعدة على محلّ الكلام لا يحتاج إلى أن يكون المسبب توليدياً بالنظر الفلسفي ، بل يكفي أن يكون كذلك بحسب النظر العرفي.

النظرية الثانية : أن نتحفظ على كون النفي قد انصبّ على الضرر بما هو أثر ناتج عن الحكم ، وليس منصبّاً على نفس الحكم كما في النظرية الأولى. ولكن مع هذا نستفيد منه نفي هذه الحصة الخاصة من الضرر ، وهي الناشئة من الحكم الشرعي ، فيكون لا محالة نفياً لذلك الحكم الشرعي ، وكأن الشارع كان في مقام نفي حصة خاصة من الضرر ، لا نفي تمام حصصه ؛ غاية الأمر نلتزم بتقييد إطلاق المنفي وأنه ليس هو الضرر على الإطلاق ، بل حصة خاصة منه.

وهذا التقييد يتصوّر على نحوين :

الأوّل : تقييد مفهوم الضرر الذي ورد عليه النفي بسبب خاص ، لأن الضرر تارة ينشأ من ناحية الحكم الشرعي ، وأخرى من ناحية آفة سماوية ، وثالثة من ناحية تعدّي ظالم ونحو ذلك من الأمور ، فيحصَّص الضرر من ناحية أسبابه ، ويُدّعى أن النفي كان وارداً على الضرر المقيّد بسبب خاص وهو الحكم الشرعي.

الثاني : أن يبقى مفهوم الضرر على إطلاقه ، لكن يكون النفي بلحاظ العالم الذي تحت سلطان المشرّع بما هو كذلك ، لا نفيه بلحاظ العالم الذي لا يكون تحت سلطانه ، وبتعبير آخر : نفي الضرر بالقدر الذي يرتبط بالشارع ، أما الإضرار التكوينية وإن كانت موجودة إلّا أنها ليست داخلة في المساحة

١٨٢

المتعلقة بالسلطة التشريعية للمولى ، وإنما ترتبط به بما هو مكوّن. وعليه فالأضرار الناشئة من آفة سماوية ونحوها لا تكون داخلة في حيّز النفي.

ومن الواضح أن كلا هذين النحوين من التقييد يفيد نتيجة واحدة هي نفي الحكم الضرري.

النظرية الثالثة : ما ذكره المحقّق الخراساني (قدس‌سره) وحاصله : أن يكون النفي في «لا ضرر» مسوقاً من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

ولكي تتضح أبعاد هذه العملية في عالم الاستعمال ، وأنه كيف يصح نفي الحكم بلسان نفي الموضوع نقول : إن ذلك تارة يكون بنكتة لا تقبل نفي أصل الحكم برأسه بنفي الموضوع ، بل ينفى إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع ، وأخرى يكون التعبير بنحو يمكن أن يُنفى أصل الحكم من خلال نفي الموضوع.

أما الأول ، فكما لو كان للموضوع حكم ، سواء أكان تشريعياً من قبيل الأحكام الشرعية ، أو تكوينياً كالصفات الطبيعية ، وكان له خاصّية ، وأُريد بيان أن هذا الحكم ليس ثابتاً لتمام أفراد ذلك الموضوع ؛ فقد يبيّن ذلك بلسان نفي الموضوع ، فيقال مثلاً : لا ربا بين الوالد وولده ، ولا سرقة في عام المجاعة ، لأن إخراج بعض أفراد الموضوع تارة يُبيَّن بالصورة الساذجة فيقال : الربا بين الوالد وولده حلال والسرقة لا حدّ عليها في عام المجاعة ، وأخرى بلسان نفي الموضوع : «لا ربا بين الوالد وولده ، وليس شكك بشك».

والنكتة في هذا القسم أن المتكلّم يفترض في الرتبة السابقة أن هذا الحكم الذي أُريد نفيه عن بعض أفراد الموضوع ، كأنه لازم ذاتيّ لا ينفك عنه كلّما تحقّق ، وحيث إن هذا الحكم غير موجود في بعض الأفراد ، فيبيّن بلسان

١٨٣

أن الموضوع غير موجود ، لأن الشيء إذا انتفى لازمه كأنه انتفى هو بنفسه ، فيصح أن ينفى الحكم بلسان نفي الموضوع.

ولا فرق بين أن يكون النفي تركيبياً كقوله «إن شكك ليس بشك» لأنه نفي ثبوت عنوان الموضوع عن هذه الحصة ، أو نفياً بسيطاً كقوله : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» الذي ينفي وجود الذنب بداعي نفي أثره الذي صدر منه قبل التوبة. فالنفي التركيبي ينفي ثبوت الموضوع وبتبعه ينتفي الحكم أيضاً ، أما النفي البسيط فلا ينفي ثبوت الموضوع بل ينفي الأثر المترتّب عليه فقط. فهو يريد أن يسلب عنوان الذنب عن الغيبة مثلاً لا أن هذه الغيبة لم تصدر منه.

من هنا لا يمكن أن تستعمل هذه النكتة لنفي أصل الحكم رأساً بلسان نفي الموضوع ، وذلك كما في قوله : «لا رهبانية في الإسلام» لأنه في نفي الحكم عن بعض أفراد الموضوع فرض عدم التفكيك ما بين الحكم والموضوع. وإذا فرض قطع الصلة ما بين العنوان الكلي وبين الحكم رأساً ، فلا معنى لأن يستعمل هذه النكتة نفسها في مقام نفي أصل الحكم كبروياً.

أما الثاني ، فهو ما إذا كانت النكتة بنحو يمكن من خلالها نفي أصل الحكم بلسان نفي الموضوع ، وذلك كما في قوله : «لا رهبانية في الإسلام» وتفصيل هذه النكتة يمكن أن يكون على أنحاء ثلاثة :

أنحاء نفي الموضوع

النحو الأوّل : نفي الوجود التشريعي للموضوع

إن كل حكم حيث إنه متقوّم بأن يكون لموضوعه وجود في عالم التشريع ، فنفي الحكم بلسان نفي الموضوع معناه نفي وجوده التشريعي في

١٨٤

عالم الموضوعية للحكم. وحيث إن وجود الحكم اعتباري ، فكذلك وجود الموضوع ؛ لأنه مسانخ له في كيفية الوجود ، كالعقد مثلاً فإن له وجوداً في عالم جعل صحة العقد ولزومه على نحو وجود الموضوع في أفق التشريع. والشارع تارة يبيِّن نفي الحكم ابتداءً فيقول : لا حكم للعقد مثلاً ، وأُخرى يبيّنه بلسان أن الموضوع لم يثبت في لوح التشريع ، فيفيد نفي الحكم أيضاً من باب أن كل حكم إن لم يكن لموضوعه وجود اعتباريّ في عالم التشريع لا يكون له وجود لا محالة.

ولو أردنا أن نستخدم هذه النكتة في نفي حكم خاص كقولنا : «لا رهبانية في الإسلام» بلسان نفي الموضوع وهو الرهبانية في عالم التشريع ، لا بد أن نفرض في المرتبة السابقة نحو ارتكاز يقتضي أن مثل هذا الموضوع يناسب هذا الحكم في عالم التشريع. حينئذٍ إذا قلنا : إن هذا الموضوع لم يدخل في عالم التشريع ، يُفهم منه أن ذاك الحكم لم يجعل بحسب عالم التشريع أيضاً. وهذا يحتاج إلى أن يكون مثل هذا العنوان محكوماً بحكم في الشرائع السابقة أو في الشرائع العقلائية أو في الشريعة الإسلامية في موارد النسخ. على هذا يقال : «لا رهبانية في الإسلام» ويراد به نفي الحكم الذي كان يترقّب أن يثبت له بحسب الارتكاز الناشئ من الثبوت في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ونحو ذلك.

إلّا أن الظاهر أن هذه النكتة غير كافية لوحدها لتصحيح هذا الاستعمال عرفاً ، لأنه لو كان تمام النكتة في تصحيح نفي الحكم بلسان نفي الموضوع هو أننا ننفي الوجود الاعتباري للموضوع في لوح التشريع لكي ينتفي الحكم ، لجرى مثله في الحكم التحريميّ أيضاً. فكما يصح أن نقول : «لا رهبانية في

١٨٥

الإسلام» لجاز أيضاً : «لا طلاق في الإسلام» ، ويراد منه رفع حرمة الطلاق ، أي الحرمة التي كانت ثابتة قبل الإسلام في المسيحية ، فيكون الطلاق جائزاً ، وواضح عدم صحة ذلك ، مع أن نسبة الموضوع إلى الحكم فيهما معاً على حدّ سواء.

إذن فمثل هذا الوجود التشريعي العنائي لا يكفي وحده ملاكاً لهذه النكتة ، إلّا بعنايات فائقة في بعض الموارد.

النحو الثاني : نفي الوجود الاستساغي للموضوع

وهو أن يقال : إنّ المنفيّ ليس هو الوجود الاعتباري للموضوع الذي يقوّم وجود الحكم في أفق الاعتبار ، بل المنفي هو الموضوع بوجوده الاستساغي ؛ لأن الموضوع الذي تحكم الشريعة بوجوبه أو جوازه على أقل تقدير له نحو من الوجود والتقرير في تلك الشريعة يختلف عن وجود تلك الأفعال التي لا تجيزها الشريعة.

وبتعبير آخر : إن الأشياء التي يستسيغها الإسلام لها نحو من الوجود تتميّز به عن تلك التي لا يستسيغها ولا يقبلها. فمثلاً يقال : الصلاة والصيام والحج ونحوها ثابتة في الشريعة ، ولكن السرقة والغيبة ليست كذلك. ومن الواضح أن هذا الوجود ليس ذاك الوجود الاعتباري الذي أبرز في النحو الأوّل ؛ لأن ذاك الوجود الاعتباريّ ثابت للحرام والمباح على حدّ سواء ، أي كما أن الصدقة لها وجود في لوح التشريع يتقوّم به الحكم ، فكذلك السرقة لها مثل ذلك الوجود ، بل هو نحو آخر من الوجود ، هو المعبّر عنه بالوجود الاستساغي.

ولعل النكتة في تقبّل العرف لهذا النحو من الوجود ، هو أن الإسلام يمكن

١٨٦

أن يفرض له ما بإزاء في الخارج وصورة تصديقية خارجية على طبقه ، لأن الشريعة عبارة عن أحكام تقتضي الجري على طبقها بحسب الواقع الخارجي. ولكن تارة يكون ما بإزائه قابلاً للدخول فيه وأخرى لا يكون كذلك. فمثلاً : حينما نتصور الإسلام كشريعة لا معنى لأن نقول إن الصلاة داخلة فيه ؛ لأن الشريعة لوح الأحكام ، وليست الصلاة حكماً بل هي فعْل ، فلا مجال لأن يقال : الصلاة في الإسلام ، بل لا بد من فرض عناية وهي الاستسلام الكامل أمام قوانين الإسلام ، عندها تكون الصلاة والصدقة ونحوهما داخلة فيه. وبمقدار دخول الشيء في الصورة الخارجية المطابقة للإسلام ، ينسب هذا الدخول بنحو من العناية إلى الإسلام نفسه أيضاً ، فكلما كان دخوله في تلك الصورة ألصق ، يكون نسبته إلى الإسلام أوضح.

من هنا نعرف أن هذا الوجود الاستساغي مقول بالتشكيك ؛ لأن وجود الواجب كصلاة الظهر في هذه الصورة ألصق من وجود الصدقة والقنوت وشرب الماء. فمراتب الاستساغة مختلفة باختلاف الواجب والمستحب والمباح. وباختلاف هذه المراتب تختلف نسبة الوجود الاستساغي إلى الإسلام. وهذه العناية هي التي تخلق في الارتكاز العرفي تصوّر هذا الوجود الاستساغي في المقام.

على هذا الأساس حينما نقول : «لا رهبانية في الإسلام» فمرادنا نفي هذا النحو من الوجود ، فيرتب عليه نفي الحكم الشرعي. ومقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي هو نفي تمام مراتب الاستساغة من الوجوب والاستحباب والكراهة.

ولهذا يصحّ أن ينفى بهذا اللسان بعض هذه المراتب مع التصريح ببقاء

١٨٧

الأخرى. فمثلاً : يمكن أن يكون النفي منصبّاً على المرتبة العليا من الوجود الاستساغي مع التصريح بأن ما عداها ثابت في الشريعة ؛ كما لو قيل : «لا تحمّل للضرر عن الغير في الإسلام» ، وكان المراد «لا يجب تحمّله عن الغير» ، فإنه لا ينافي ثبوت جواز التحمّل عنه.

وهذا التصوّر هو الذي يبيّن لنا لماذا يصح أن ننفي الرهبانية في الإسلام ولا يصحّ نفي حرمة الطلاق بقولنا : «لا طلاق في الإسلام» لأنه في قوله : «لا رهبانية في الإسلام» يريد نفي كل مراتب الوجود الاستساغي من الوجوب والاستحباب والجواز. ولازم ذلك أن يكون للرهبانية نحو من الوجود الذي عبّرنا عنه بالاستساغي ليمكن نفيه ، أما في «لا طلاق في الإسلام» فلا وجود مستساغ ولا ثبوت ؛ لأن المفروض حرمة الطلاق ، فكيف يعقل نفيها بهذا اللسان؟

النحو الثالث : نفي الوجود الخارجي للموضوع

وهو أن يبيّن نفي الحكم الشرعي بلسان نفي الموضوع خارجاً وتكويناً لا تشريعاً كما في الأول ، ولا وجوداً استساغياً كما في الثاني ، فينفى السبب وهو الحكم الشرعي بنفي مسببه ومعلوله الخارجي وهو وجود الموضوع. والنكتة في هذا التصور تختلف عن النكتة في الثاني مضموناً وأثراً. أما مضموناً فإن المنفيّ في الثاني هو الوجود الاستساغي ، وهنا هو الوجود الخارجي ، وأما أثراً فلأن نفي الوجود الخارجي للموضوع في هذا الوجه يكون مساوقاً لانتفاء تمام مراتب الاستساغة من الوجوب والاستحباب والإباحة ، بلا حاجة إلى التمسك بإطلاق النفي لنفي جميع المراتب كما في

١٨٨

الوجه السابق ، فإن انتفاء المسبب لا يكون إلّا بسدّ كل منافذ وجوده كما هو واضح.

هذا تمام الكلام في تحقيق كيفية نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وخلاصة ما ذكرناه أن النكتة التي تصحّح ذلك ، إما أن تكون مقتضية لنفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع كما هو ظاهر «لا ربا بين الوالد وولده» وهو المصطلح عليه بالحكومة ، وإما تصحح نفي أصل الحكم بلسان نفي الموضوع كقوله : «لا رهبانية في الإسلام». وبيّنا أن هذه النكتة الثانية فيها تصوّرات وأنحاء ثلاثة :

أن يكون المنفي هو الوجود التشريعي.

أن يكون هو الوجود الاستساغي.

أن يكون هو الوجود الخارجي.

ثم أشرنا إلى أن النكتة المبرزة في النحو الأوّل ليست كافية لوحدها بحسب النظر العرفي لأن تصحح هذا الاستعمال إلّا مع فرض عنايات فائقة ، عندها يمكن فرض مصداق لها. ولعل حديث الرفع ينسجم مع هذا التصوّر حيث يقال : إن المرفوع هو الموضوع لا الحكم ، لكن لا بوجوده الخارجي لأنه قد لا يكون له وجود خارجيّ كما في فقرة «ما لا يطيقون» فيتعيّن أن يكون المراد رفع الوجود التشريعي بعنايات فائقة تقدّمت في ذلك البحث.

إذا اتضحت هذه المقدّمة نأتي إلى محلّ الكلام ، لنرى أن ما ذكره صاحب الكفاية (قدس‌سره) من أن النفي في «لا ضرر» هو نفي للحكم بلسان نفي الموضوع ، كيف يمكن تطبيقه على ما استنتجناه في المقام ، فنقول :

١٨٩

مناقشة نظرية نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع

أما بالنسبة إلى النكتة التي كانت تصحّح نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع فنتساءل : هل يمكن تطبيقها على «لا ضرر» أم لا؟

والجواب : أن تطبيقها يحتاج إلى إعمال عناية لا بد منها ؛ حاصلها : أن المراد من الضرر المنفيّ هو الموضوع الضرريّ الذي أُريد نفي حكمه بلسان نفي الموضوع ، أما نفس الضرر بما هو نقص ناشئ من الموضوع فليس هو موضوعاً لحكم من الأحكام ، وإنّما هو نتيجة الحكم ، وعلى هذا الأساس فالمنتفي هو الوضوء الضرري مثلاً لا الضرر الحاصل من الوضوء. والنكتة التي تصحّح ذلك هي تطبيق الكبرى التي ذكرها الميرزا ، حيث يقال : كما أن الضرر يمكن أن يكون عنواناً ثانوياً للحكم كما تقدّم ، كذلك يمكن أن يكون منطبقاً على الموضوع الناشئ منه الضرر ، فحينئذٍ يطلق على الوضوء الضرر عرفاً ، فيقال : الوضوء ضرر بالنسبة إلى المريض ، مع أن الوضوء بما هو ليس ضرراً ، لأنه ليس نقصاً في النفس ، وإنّما يولّد النقص. ولكن من باب أن عناوين المسبّبات التوليدية تطلَق على أسبابها ، يمكن أن يستعمل الضرر في معناه لغةً ، ولكن يراد منه الوضوء الضرري.

إلا أن تطبيق هذه العناية في المقام غير ممكن. وتوضيحه : أننا ذكرنا في نكته نفي إطلاق الحكم : أن النفي تارة يكون بسيطاً كقوله : «التائب من ذنبه كمن لا ذنب له» فهو لا ينفي ثبوت الموضوع كالغيبة مثلاً ، بل ينفي الأثر المترتّب عليه وهو الذنب فيسلبه عن الغيبة ، وهذا معناه أن الذنب لم يصدر منه ، فالنفي منصبّ على أصل صدور الذنب منه بنحو ليس التامة ؛ وأخرى يكون تركيبياً كقوله : «شكك ليس بشك» فينفي ثبوت الموضوع وبتبعه

١٩٠

ينتفي الحكم أيضاً. على هذا الأساس نتساءل : هل هذا النفي في المقام هو نفي بسيط أم نفي تركيبي؟

والجواب : أنهما لا يمكن تطبيقهما في المقام.

أما الأول فلأنه يلزم منه عدم إمكان تطبيق فقرة «لا ضرر» على المتعلّقات الضررية ، واختصاصها بخصوص الموضوعات الضررية. وتوضيحه من خلال بيان أمرين :

الأول : أننا ذكرنا لكي يصح نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع ، لا بد أن نفترض الحكم كأنه لازم ذاتي للموضوع ولا ينفك عنه كلّما تحقّق ، فإذا أُريد نفيه يمكن بيان ذلك بنفي الموضوع الملزوم له لزوماً لا ينفكّ عنه ، فيعبَّر بنفي الملزوم لإفهام نفي اللازم ، كقوله (عليه‌السلام) : «يا أشباه الرجال ولا رجال» حيث يفرض أن الوفاء والبطولة من لوازم الرجولة التي لا تنفكّ عنها ، فإذا انتفت الرجولة فقد انتفت لوازمها أيضاً.

الثاني : أن للحكم نحو ارتباط بمتعلّقه من جهة ، وبموضوعه من جهة أخرى ؛ فمثلاً : إذا وجب إكرام العادل ، فهذا الحكم وهو الوجوب ، له متعلّق وهو الإكرام ، وموضوع وهو العادل. فالوجوب بالنسبة إلى متعلّقه ليس مرتبطاً بوجود الإكرام خارجاً ، أي بمفاد «كان التامّة» للإكرام ، بل مرتبط بأن يكون إكرام زيد إكراماً للعادل بنحو مفاد «كان الناقصة». فلو سُئلنا متى يجب إكرام زيد ، نقول : إذا كان إكرامه مصداقاً لعنوان إكرام العادل. إذن فالوجوب يتوقّف على صدق عنوان متعلّقه بنحو مفاد كان الناقصة. أما بالنسبة إلى الموضوع وهو العادل ، فالوجوب يتوقّف بالإضافة إلى مفاد كان الناقصة على مفاد كان التامّة ، بمعنى أنه لا بد أن يوجد العادل خارجاً حتى

١٩١

يجب إكرامه ، لأن كل مجعول يتوقّف على فعلية تمام ما أُخذ مفروض الوجود في موضوعه في مقام جعله.

إذا اتضح ذلك نقول : إذا حملنا الضرر على الوضوء الضرري أو العقد الضرري ، وقلنا بأن النفي بسيط ، فهذا معناه نفي أصل وجود الوضوء الضرري والعقد الغبني أي مفاد ليس التامة.

وهذا واضح في باب الموضوعات. فالعقد الغبني الذي وقع موضوعاً للحكم بوجوب الوفاء ، يمكن أن ينفى بنحو النفي البسيط ، ويراد به نفي الحكم المترتّب على نفي وجوده ، فينتفي وجوب الوفاء بهذا العقد ، لأن وجوب الوفاء لما كان مترتّباً على العقد على حدّ ترتّب الحكم على موضوعه ، فهو مرتبط به بمفاد كان التامة لوجود موضوعه ، وما لم يوجد الموضوع خارجاً فلا معنى لوجوب الوفاء بالعقد ؛ وبعناية نكتة باب الحكومة ينفى الحكم بلسان أن موضوعه لم يتحقق في الخارج ادعاءً ، كما أنه في عدم تحقّق العقد خارجاً حقيقة لا يجب الوفاء بالعقد من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

فإذا جئنا إلى الوضوء الضرري الذي يكون متعلّقاً للوجوب لا موضوعاً له ، فالوجوب غير مرتبط بالوضوء بمفاد كان التامة ، لذا لو انتفى وجود الوضوء في الخارج حقيقة ، فإنه لا ينتفي الوجوب ، لأن الحكم بوجوب الوضوء لم يكن من تبعات وجود الوضوء خارجاً لكي يلزم من عدم الوضوء في الخارج حقيقة انتفاء الحكم بوجوب الوضوء ، كذلك نفي الوضوء الضرري ادعاءً لا يلزم منه انتفاء الحكم بوجوب الوضوء.

فتحصّل أن النفي إذا كان بسيطاً فإنه يمكن تطبيق «لا ضرر» على

١٩٢

الموضوعات الضررية دون المتعلّقات. وهذا ما لا يلتزم به المحقّق الخراساني.

أما لو كان النفي تركيباً ، فلا يأتي الإشكال السابق في المقام ، لأن الوجوب بالنسبة إلى متعلقه وموضوعه معاً يتوقف على مفاد كان الناقصة. فلو قلنا إن «لا ضرر» معناه نفي كون الوضوء الذي انطبق عليه عنوان الضرر وضوءاً ، وأن العقد الغبني ليس عقداً ، عند ذلك ينتفي وجوب الوضوء ووجوب الوفاء بالعقد ، إذ إن وجوب الوضوء الضرري يتوقف على أن يكون وضوءاً ، فإذا لم يكن كذلك لا يسري إليه الوجوب لا محالة.

ولكن نتساءل : هل يمكن استفادة النفي التركيبي من فقرة «لا ضرر» أم لا؟

والجواب : أنه لا يمكن ذلك ، لأن إرادة النفي التركيبي من هذه الفقرة ليس عرفياً بوجه. والنكتة فيه أن «لا» في الحديث انصبّ على عنوان الضرر فقط ، ومفاد النفي التركيبي هو نفي شيء عن شيء ، لا نفي شيء في نفسه ، وفي «لا ضرر» لم يلحظ شيئان لينفى أحدهما عن الآخر ، بل لوحظ شيء واحد مصبّاً للنفي وهو عنوان «الضرر». فمثلاً : ليس المنفي هو عنوان الضرر عن الوضوء الضرري. إذن فهذه الفقرة لا يمكن حملها على النفي التركيبي ، بل لا بدّ من حملها على النفي البسيط.

ولكن قد يقال : ما الفرق بين «لا ضرر» و «لا ربا بين الولد ووالده» حيث

قلتم : «إن الأول لا يمكن حمله على النفي التركيبي ، بخلافه في الثاني» ، ونحن نجد أن مصبّ النفي فيه أيضاً عنوان بسيط ، لأن أداة النفي داخلة على الربا ابتداءً ، ولم يذكر شيء آخر لينفى عنه الربا. وعلى هذا إذا قلنا : «إن النفي في" لا ربا" تركيبي» ، أي إن المعاملة الواقعة بين الأب والابن ليست ربا ، فلا بد من القول في «لا ضرر» أيضاً.

١٩٣

والجواب : أن «لا ربا» وإن كان مصبُّ النفي فيه هو عنوان الربا ، إلّا أن الربا له نحوان من الثبوت ؛ ثبوت بمفاد كان التامة وهو وجوده في الخارج ، وثبوت بنحو كان الناقصة وهو ثبوته لمعاملة من المعاملات. فلو جمدنا على حاقّ اللفظ لقلنا : إن ظاهر نفي الربا هو نفي الثبوت الأول ، أي وجوده بين الوالد وولده ، فيكون النفي بسيطاً. لكن هنا قرينة تدلّ على أن النفي بلحاظ كان الناقصة ، والدالّ عليها هو الارتكاز ، حيث يفهم من خلال مناسبات الحكم والموضوع أن الشارع لا يريد بقوله «لا ربا بين الوالد وولده» عدم صدق الزيادة على هذا النحو من المعاملة ، بل يريد بيان أن هذه المعاملة بحسب الحقيقة لا زيادة فيها ، من باب أن كيس الوالد والولد وأموالهما واحد. وهذه القرينة تجعل النفي تركيبياً ، أي أن الزيادة الواقعة بينهما ليست زيادة حقيقية. ومن ثم نحمل المورد الذي لا يوجد فيه مثل هذا الارتكاز ، نحمله على النفي البسيط ، كما في قوله : «التائب من ذنبه كمن لا ذنب له» فإن الارتكاز فيه على العكس ، لأن العرف يفهم أن الشارع يريد أن يبيّن أن التائب من الذنب كأنّه لم يصدر منه ذنب ، لا أن ذنبه ليس بذنب ؛ ولهذا يكون النفي بسيطاً لا محالة ، لا تركيبياً.

أما في «لا ضرر» فإن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لو فُرض أنه قال من أول الأمر «لا وضوء ضرري» لكان يجري فيه ما قلناه في «لا ربا بين الوالد وولده» من دون فرق بينهما أصلاً ، لكن مصبّ النفي في المدلول الاستعمالي واللفظي لحديثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو الضرر. وإنّما قلنا إنه أُريد به الوضوء لأنه وقع مصداقاً لهذا العنوان. فلا بد أن يكون المراد سنخ نفي بحيث يمكن أن يضاف إلى عنوان نفي الضرر أيضاً ، لا سنخ نفي غير مرتبط

١٩٤

بالضرر. وحينئذٍ إذا كان النفي بسيطاً ، أي نفي أصل وجود الوضوء الضرري ، فهذا نفي لعنوان الضرر أيضاً ، لأن نفي المصداق نفي للكلّي المنطبق ، والمفروض أن عنوان الضرر انطبق على الوضوء ، وأُريد الوضوء منه ، أما لو أريد النفي التركيبي بأن كان مصبّ النفي هو مفاد كان الناقصة ، بمعنى أن الوضوء الضرري ليس وضوءاً ، فهذا معناه عدم إسناد النفي إلى الضرر بل إلى الوضوء كما هو واضح. إذن فما هو مصبّ النفي في مرحلة المدلول الاستعمالي لم ينف بوجه ، وما نفي شيء آخر. ومن المعلوم أن نفي الحكم من خلال هذا الاستعمال لا يكون عرفياً.

وبذلك يتبرهن أن نكتة باب الحكومة ، وهي النكتة الأولى ، لا يمكن تطبيقها على جملة «لا ضرر» لا بنحو النفي البسيط ، لعدم إمكان سريانه في باب المتعلّقات ، ولا بنحو النفي التركيبي ، لأنه لا ينفي عنوان الضرر.

هذا تمام الكلام في النكتة الأولى.

مناقشة نظرية نفي أصل الحكم بلسان نفي الموضوع

أما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بالنحو الثاني الذي ينفى به أصل الحكم لا إطلاقه ، فقد تقدّم أن له أنحاء ثلاثة ، لا بدّ من ملاحظة كل واحد منها :

الأول : نفي الوجود الاعتباري للضرر بلحاظ لوح التشريع.

قلنا : إنّ هذا النحو غير منسجم مع الارتكاز العرفي ؛ فالإشكال على تطبيقه في المقام يكون كبروياً راجعاً إلى بطلان أصل هذا التصوّر وعدم القبول به. لكن لو سلّمنا ذلك وبنينا عليه كما هو ظاهر كلام المحقّق

١٩٥

الأصفهاني (قدس‌سره) فلا بد أن نستأنف تحقيقاً مفاده هل هذه النكتة يمكن تطبيقها في المقام أم لا؟

الجواب : أن الموضوع الذي نريد نفيه بلحاظ وجوده التشريعي ، إما أن نُعمل فيه العناية التي تقدّم الكلام عنها ، تطبيقاً للكبرى التي نقّحها الميرزا النائيني ، فيكون المراد من «لا ضرر» لا وضوء ضرري مثلاً بلحاظ وجوده الاعتباري والتشريعي ، وإما أن لا نُعمل تلك العناية. فإن كان الثاني فمعناه أن المنفي حكم الضرر الحقيقي ، وهذا لا يصحّ نفي وجوده الاعتباري ، لما تقدّم أن هذا النحو من التصوّر على فرض قبوله ، إنما يمكن أن يُنفى به حكم بلسان نفي الموضوع ، فيما إذا فرض أن الموضوع كان يترقب بحسب ارتكاز عام ثبوته له. وما نحن فيه لا يمكن أن يترقب ثبوت حكم الجواز لعنوان الضرر في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ، حتى ينفى هذا الحكم بلسان نفي الوجود الاعتباري والتشريعي للضرر ، بل الثابت بحسب الارتكاز في الشرائع السابقة هو أيضاً عدم جواز الضرر وحرمته. ومن الواضح أن نفي الحرمة خلاف المقصود.

أما لو أعملنا تلك العناية ، فتطبيق هذا النحو من التصور في المقام يكون في محله ، سواء في باب المتعلّقات كالوضوء الضرري أو الموضوعات كالعقد الغبني ، لأنه كما أن الموضوع له وجود اعتباريّ في عالم جعل حكمه فكذلك المتعلّق. لكن لكي يصحّ تطبيق تلك الكبرى لا بدّ أن يكون الحكم المنفيّ على صلة وعلاقة سببية بالموضوع ، بحسب الارتكاز ، وهذا متحقّق في المقام ، فإن الوضوء الضرريّ له علاقة بالوجوب لأنه ناش من جعل الوجوب على عنوان

١٩٦

الوضوء ، كما أن العقد الغبني له علاقة باللزوم لقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فهذه العلاقة بين الحكم الذي يراد نفيه بلسان نفي الموضوع اعتباراً ، هي التي تصحح انطباق عنوان الضرر عرفاً على العقد الغبني والوضوء الضرري ، وإن انطباق ذلك عليهما كأنه نحو وجودٍ للضرر في لوح التشريع ، وإن لم يكن التشريع حكماً لعنوان الضرر بل لمعنونه.

الثاني : أن يكون المنفيّ هو الموضوع بلحاظ وجوده الاستساغي بالنحو الذي شرحناه فيما سبق. وهنا أيضاً تارة نعمل العناية المتقدّمة ، فيكون المراد من الضرر الوضوء الضرري والعقد الغبني ، وأخرى لا نعملها.

فعلى الأول يكون المنفيّ هو الوجود الاستساغي للوضوء الضرري والعقد الغبني ، وهو تطبيق صحيح ، سواء بالنسبة إلى المتعلّقات أو الموضوعات ، ويكون معنى نفي الوجود الاستساغي فيهما عدم تشريع الوضوء الضرري تكليفاً ، وعدم تشريع العقد الغبني وضعاً ، فإن استساغة كل شيء بحسبه. فكما أن الوضوء الضرري لو كان مشرعاً تكليفاً يكون له نحو من الوجود الاستساغي ، كذلك العقد الغبني لو كان مشرعاً وضعاً له نحو من الوجود الاستساغي أيضاً. إذن بتوسعة دائرة الاستساغة للوجود التكليفي والوضعي معاً ، يمكن أن نعمّم هذا المطلب في المتعلّقات والموضوعات على حدّ سواء.

وعلى الثاني فالمنفيّ هو الضرر بما هو ضرر ، لكن بوجوده الاستساغيّ في الشريعة ، وهذا ينتج تحريم الضرر والإضرار وعدم جواز إيقاعهما خارجاً ،

__________________

(١) المائدة : ١.

١٩٧

بالنحو الذي تقدّم في الوجه الثاني من الوجوه التي خرّجنا عليها الاتجاه الفقهي الثالث وهو حرمة الضرر.

لكن هل يمكن أن نستنتج بناءً على هذا التخريج الاتجاه الفقهي الأوّل أيضاً ، وهو نفي الحكم المؤدّي إلى الضرر أم لا؟

الصحيح إمكان ذلك ، لأن المنفيّ بناءً على هذا الوجه هو الوجود الاستساغي للضرر بما هو ، وهذا الوجود يمكن أن يفرض بنحوين من الثبوت في الشريعة ، فتارة يكون له وجود فيها من باب أن الشريعة ترخّص فيه أو تأمر به ، وأخرى يكون له وجود فيها من باب أنها تشرّع قانوناً يؤدّي إلى الضرر. وقد قلنا فيما سبق أن الوجود الاستساغي عبارة أخرى عن الوجود في الصورة الخارجية المطابقة للقانون. فكل ما هو موجود في هذه الصورة يضاف إلى نفس القانون بالعرض ، وفي المقام كما يوجد في الصورة الضرر حينما يرخّص القانون فيه ، كذلك يوجد فيها الضرر حينما يشرع المشرّع قانوناً يؤدّي إلى الضرر. فمقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي هو نفي كلا المطلبين. وبتعبير آخر : فإن الضرر تارة ينشأ من ناحية إباحة القانون ، وأخرى من ناحية أن القانون بنفسه يوقع الإنسان في الضرر ، فكلاهما وجود استساغي للضرر منفيّ بمقتضى الإطلاق.

والحاصل : إذا كان النفي منصبّاً على الضرر بما هو ، ولم نعمل العناية المتقدّمة من الميرزا ، وكان المنفيّ هو الوجود الاستساغي له ، أمكننا أن نخرّج الاتجاهين الثالث والأوّل معاً.

الثالث : أن يكون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بلحاظ وجوده الخارجي ، بعناية أن عدم وجود شيء في الخارج إنما هو من تبعات عدم

١٩٨

وجوبه شرعاً ، كما ستتضح نكتته بعد ذلك.

وهنا أيضاً كما في الصورتين السابقتين ، تارة نعمل العناية المتقدّمة وأخرى لا نعملها.

فإن فرض أننا لم نعمل تلك العناية ، فالمنفي لساناً هو عنوان الضرر بلحاظ وجوده الخارجي ؛ وحينئذ إن كان النفي كنائياً وكان المراد جدّاً ليس هو إفادة نفي الضرر ، بل إفادة ملزوم ذلك وهو الحرمة من قبيل قولنا : «لا خروج بعد الغروب» ، و «لا جدال في الحج» ونحو ذلك ، حيث يكون المقصود الكناية والاستطراق من المدلول الاستعمالي إلى ملزوم ذلك المدلول وهو الحرمة ، فهذا بعينه ينطبق على أحد الوجهين وهما الثالث والرابع من الوجوه الأربعة التي خرّجنا على أساسها الاتجاه الفقهي الثالث ، فإن النفي هنا إن كان إنشائياً كنائياً فهو الوجه الثالث ، وإن كان أخبارياً كنائياً فهو الوجه الرابع. أما إذا فرض أنه لم يكن كنائياً بل حقيقياً ، بمعنى أن المولى يريد حقيقة إفادة نفي الضرر ، فلكي يكون هذا النفي صحيحاً لا بد من تقييد الضرر بنحو من الأنحاء ، كأن نقول : الضرر الناشئ من الشريعة ، أو الضرر بلحاظ النظر التشريعي ونحوهما.

وهذه هي النظرية الثانية من النظريات الثلاث التي خرّجنا على أساسها الاتجاه الفقهي الأوّل. وعلى كلا التقديرين لا يكون نفي الحكم في المقام بلسان نفي الموضوع.

أما إذا أعملنا العناية المتقدّمة ، وقلنا إن «لا ضرر» بمعنى لا وضوء ضرري ولكن بلحاظ وجوده الخارجي ، فهنا من الممكن أن يقال : إن هذا النفي وإن كان للموضوع ، ولكن يراد به نفي الوجوب ، وذلك بعناية أن الوضوء

١٩٩

الضرري حيث إنه لا داعي لأحد في تكلّف الإتيان به لولا الأمر الشرعي ، إذن يكفي في مقام نفي وجوده خارجاً أن ينتفي وجوبه شرعاً. فكأنّ عدم وجوب الوضوء كالعلّة التامّة لعدم وجوده خارجاً. هذا بالنسبة إلى متعلّق الحكم. وكذلك أيضاً موضوع الحكم كالعقد الغبني.

ثم إنه ربما يدعى التلفيق بين بعض الأقسام وبعضها الآخر وذلك بأحد وجهين :

الأول : أن يفرض أن النفي للضرر بلحاظ جميع أنحاء وجوده المتقدّمة ، لا خصوص وجوده الخارجي أو التشريعي أو الاستساغي ، وذلك تمسّكاً بالإطلاق في المقام.

إلّا أن هذا التلفيق غير صحيح ، لأنه وإن كان معقولاً ثبوتاً ، لكنه ممّا لا يفي به الدليل إثباتاً ، لأن توهم وفاء الدليل بذلك مبنيّ على تمامية الإطلاق في المقام ، إلّا أن الإطلاق لا يقتضي ذلك لأن نحوين من هذه الأنحاء الثلاثة للوجود ليست حقيقية وإنما هي عنائية. ومن الواضح لكي يقتضي الإطلاق إسراء المفهوم إلى المصاديق العنائية ، لا بد من افتراض قيام قرينة لإثبات تلك العناية المصححة لذلك والصارفة لظاهر اللفظ عن إرادة مصداقه الحقيقي ، وما لم تقم قرينة على ذلك لا يمكن شمول الإطلاق لها. وبتعبير آخر : إن لم يثبت قيام قرينة على إعمال تلك العناية ، فلا بد من حمل اللفظ على مصداقه الحقيقي وهو النحو الثالث ، وإن ثبت ما يدلّ عليها انصرف الكلام إلى ملاحظة ما تدل عليه تلك القرينة من الوجود لا محالة ، ومعه لا مجال للمصداق الحقيقي. إذن فمجرّد تمامية مقدّمات الحكمة في المقام لا تفي لإثبات شمول الإطلاق لتمام أنحاء الوجود المتقدّمة.

٢٠٠