لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

المقام الثاني : ما تقتضيه القاعدة في المقام ونسبتها إلى القواعد الأولية

لو فرضنا تمامية الإطلاق في قاعدة السلطنة لإثبات جواز تصرّف المالك في ماله ، وإن استلزم الإضرار بالآخرين ، وقطعنا النظر عمّا تقدّم في المقام الأوّل ، يقع الكلام في أن «لا ضرر» هل يمكن التمسك به لنفي هذه السلطنة باعتبارها ضررية أم لا؟ وقد اعترض على التمسك بالقاعدة لنفي هذه السلطنة بعدّة وجوه ، أهمّها وجهان :

الوجه الأوّل : أنه لا يمكن نفي هذا الحكم الضرري بالقاعدة ، لأنه خلاف الامتنان والإرفاق. فإن سلطنة المالك على حفر البالوعة في بيته وإن كان حكماً ضرريّاً للجار ، لكن نفي هذه السلطنة أيضاً خلاف الامتنان بالنسبة للمالك ، فلا يمكن نفيها بالقاعدة.

وفيه : أن هذا الكلام مبني على كبرى خاطئة أشرنا إليها فيما سبق ، حاصلها : أنه يشترط في جريان القاعدة أن لا يكون الحكم المستنبط منها على خلاف الإرفاق بأحد. نعم ، ما يشترط في جريانها هو أن يكون على طبق الامتنان بالنسبة إلى من يقع عليه الضرر ، فترفعه عنه. أما أن لا يلزم من جريانها خلاف الإرفاق بالنسبة إلى شخص آخر فهو غير تام.

أجل لو بلغ خلاف الامتنان بالنسبة إلى الآخر إلى درجة حقّق مصداقاً للضرر أيضاً ، فيدخل حينئذ في باب تعارض الضررين ، فلا تشملهما القاعدة معاً. أما إذا تعرّض أحدهما للضرر الحقيقي ولم يتعرض الآخر لذلك ، لكن كان الأحسن بحاله والأولى به أن لا ينفى هذا الضرر عن الأول ؛ ففي مثل ذلك لا توجد قرينة على تقييد القاعدة. لذا فرّقنا فيما سبق بين ما يلزم من

٤٠١

جريانها خلاف الإرفاق بالنسبة إلى من يقع عليه الضرر وبين غيره ، فالأوّل مانع من الجريان دون الثاني.

الوجه الثاني : دعوى المعارضة بين الضررين بتقريب : أن نفي جواز حفر البالوعة وتحريمه على المالك ضرري عليه ، لا أنه مجرد خلاف الامتنان. وضرريته إمّا بدعوى أن نفس حرمانه ومنعه من التصرّف في داره ضرر عليه ، وإما بفرض مئونة زائدة وهي أنه لو لم يحفر البالوعة لتجمّع الماء في بيته وصار سبباً للضرر. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن جواز الحفر يستلزم الإضرار بالجار كما هو المفروض ، فيقع التعارض بين الضررين.

وتحقيق الكلام في هذا الوجه يقتضي الحديث تارة في الصغرى ، وهو أنه هل يوجد تعارض بين الضررين أم لا؟ وأخرى في الكبرى ، أي بعد فرض التعارض بين الضررين ، هل يكون حكمه التساقط ، أو تقديم أحدهما على الآخر؟ فهنا بحثان :

البحث الأوّل : ذكروا في المقام أنه لا إشكال في وقوع التعارض بين الضررين ، لكن مع فرض تلك المئونة الزائدة التي أشرنا إليها ، وإلّا فمجرّد عدم السماح بالتصرّف في بيته وحرمانه من ذلك ، لا يحقّق الضرر على المالك ، غايته يلزم منه نقص الانتفاع ، ومن الواضح أن عدم المنفعة لا يعدّ ضرراً دائماً.

وهذا الذي ذكر صحيح ، إلّا أن تحقيقه متوقف على معرفة أن منع الشخص من التصرّف في ماله ، هل يعدّ ضرراً أم لا؟ ومعرفة ذلك مرتبط بملاحظة دائرة الارتكاز العقلائي في باب سلطنة المالك وحقّه في التصرف في أمواله. فإن فرض أن الارتكاز كان يقتضي سلطنته على هذه الحصة من التصرف الضرري بالنسبة إلى الجار أيضاً ، يكون منع المالك من مثل هذا

٤٠٢

التصرّف فرداً من الضرر العقلائي ، فلا نحتاج في إثبات ضرريته إلى فرض تلك المئونة الزائدة. أما إذا فرضنا أنه لم تثبت هذه السلطنة للمالك في الرتبة السابقة بحسب الارتكاز ، فلا يكون مجرّد حرمانه من التصرف ضرراً عليه ، ما لم تنضم تلك المؤنة الزائدة المشار إليها.

وقد عرفت في المقام السابق ، أن الارتكاز العقلائي لا يساعد على ثبوت مثل هذه السلطنة للمالك ، إلّا إذا تضرر ضرراً غير مندك في جانب ضرر الجار. إذن فمجرّد حرمانه من التصرّف في داره ومنعه من حفر البالوعة لا يكون ضرريّاً بالنسبة إليه ، لأن الضرر فرع نقصان ما هو واجد له ، والمفروض عدم وجدانه لمثل هذه السلطنة بالنظر العقلائي ، ليكون سلبها منه ضرراً عليه. والحاصل أن التعارض بين الضررين لا يتصوّر إلّا حين تفرض تلك المئونة الزائدة.

البحث الثاني : بعد فرض تعارض الضررين ، فهل مقتضى القاعدة تساقطهما ، أم جريانها في أحد الفردين دون الآخر؟ ذهب الميرزا النائيني (قدس‌سره) إلى أن القاعدة تجري لنفي سلطنة المالك على حفر البالوعة فتحرّم عليه ذلك ، ولا تجري لنفي حرمة الحفر وإن كان ضرريّاً عليه أيضاً. وبرهن على ذلك ، بأن هذا الحكم وليد القاعدة فلا يمكن أن ينفى بها.

توضيح ذلك : أنه لكي تجري القاعدة لا بدّ من فرض حكم ثابت في الرتبة السابقة عليها ، وذلك الحكم الذي يراد نفيه ، يمكن أن يكون أحد أمرين ، إما سلطنة المالك ، أو حرمة التصرّف عليه ، ولا معنى لكون كلا الحكمين مجعولاً

٤٠٣

بالأدلّة الأوّلية (١). وإن كان (قدس سرّه) يرى أن المجعول هو سلطنة المالك على حفر البالوعة بمقتضى إطلاق قاعدة السلطنة ، وأما حرمة التصرّف فلم تكن مجعولة في دليل قبل القاعدة ، وإنما هي مستفادة ومستخرجة من تطبيق «لا ضرر» في مقام نفي تلك السلطنة. إذن فهذا الفرد المتولّد من تطبيق القاعدة لنفي سلطنة المالك ، لا يمكن أن يشكّل موضوعاً جديداً للنفي المجعول فيها ، حتى يحصل التعارض بين الفردين.

ثم اعترض (قدس سرّه) على نفسه ، بأنكم قبلتم في حجية خبر الواحد ، أن القضية الحقيقية يمكن أن تشمل نفسها أيضاً ، فصدّق العادل مثلاً ، يمكن تطبيقها على إخبار الشيخ الطوسي ، فيولّد موضوعاً جديداً لدليل الحجية ،

__________________

(١) قال الميرزا في قاعدة «لا ضرر» : «وبالجملة لا معنى لتعارض ضرر المالك وضرر الغير ، لأنه لا يمكن أن يصدر حكمان متضادان من الشرع ، فالحكم المجعول منه إما جواز تصرّف المالك في ملكه ، وإما عدم جوازه. فإذا كان جواز التصرّف كما هو مفاد «الناس مسلّطون على أموالهم» فلو كان ضرريّاً على الغير ، فهو مرفوع بقاعدة «لا ضرر» ولو استلزم رفع هذا الحكم الضرر على المالك ، فإن الضرر الناشئ عن رفع السلطنة من باب حكومة «لا ضرر» يستحيل أن يدخل في عموم «لا ضرر». وإذا كان الصادر منه عدم جواز تصرّف المالك ، فهذا الحكم حيث إنه ضرري على المالك فهو مرتفع ولو استلزم رفع عدم الجواز الضرر على الجار.

فضرر المالك بناءً على الأوّل وضرر الجار بناءً على الثاني لا يدخل في عموم «لا ضرر» لأن الضرر الناشئ عن حكومة «لا ضرر» على الأحكام الجوازية ، وهكذا الضرر الناشئ من حكومة «لا ضرر» على الأحكام التحريمية لا يعقل أن يدخل في عموم «لا ضرر».

(منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢٢٥).

٤٠٤

لأنه يثبت إخبار الشيخ المفيد ، وتطبيق الدليل على الشيخ المفيد ، يحقّق فرداً جديداً من موضوع دليل الحجّية ، لأنه يثبت إخبار محمد بن الحسن الوليد مثلاً ، وهكذا حتى ينتهي إلى الأوّل ، فلما ذا لا يفرض مثل هذا الأمر في المقام.

وأجاب عن ذلك ، بأن القضية الحقيقية وإن كان يعقل فيها ذلك ، إلّا أن هذا فيما إذا لم تكن مسوقة مساق النظر والحكومة ، وإلّا فلا يعقل ، كما هو الحال في قاعدة «لا ضرر». فإنها لو كان المستفاد منها مجرّد نفي للحكم الضرري من دون نظر إلى الأدلّة التي تكون بإطلاقها مقتضية لجعل الحكمالضرري ، فلا بأس أن يقال : إن القاعدة تنفي الحكم بسلطنة المالك وحرمة التصرّف عليه ؛ لأن كليهما ضرري. لكن المفروض أنها حاكمة ، ومعنى الحكومة هي النظر إلى تلك الأدلّة نظراً تقييدياً ؛ إذن إذا أردنا أن ننفي بالقاعدة سلطنة المالك على هذا التصرّف المستفاد من حديث السلطنة ، فلا بأس به ، لأنه لا محذور في أن يفترض أن «لا ضرر» ناظر إلى دليل السلطنة. أما إذا أردنا أن ننفي بالقاعدة حرمة تصرّف المالك ، فهذا مؤداه أن القاعدة ناظرة إلى الدليل الذي بإطلاقه أثبت هذه الحرمة ، وليس هو إلّا نفس قاعدة «لا ضرر». فنفي هذه الحرمة بالقاعدة يستدعي افتراض أن تكون القاعدة ناظرة إلى نفسها ، ومفترض وجودها قبل نفسها ، وهو غير معقول ، وتهافت في عالم اللحاظ والنظر. إذن فالقاعدة تجري لنفي الحكم الأوّل ، ولا يتعارض ذلك مع إجرائها لنفي الحكم الثاني (١).

__________________

(١) قال (قدِّس سرّه) في قاعدة «لا ضرر» : «وإن قلنا بشمول قوله «كل خبري صادق أو كاذب» مثلاً لنفس هذه القضية ، بتنقيح المناط أو بوجه ، كما في شمول" صدّق

٤٠٥

هذا الإشكال إنّما يكون له وجه فني بناءً على الفهم الميرزائي للحكومة والنظر ، لا على ما اخترناه في معنى الحكومة. فإننا تارة نقول : إنّ قوام الحكومة أن تكون ناظرة إلى أدلّة الأحكام الأولية نظراً تقييدياً ، ولازمه أن القاعدة لا ينفى بها إلّا ذلك الحكم الضرري الذي لولا القاعدة لكان عليه

__________________

العادل" للخبر المتولّد من شموله لموضوع وجداني ، حيث أنه على نحو القضية الحقيقية ، وذلك للفرق بين المثالين وبين المقام ، فإنه إذا تولّد من وجوب تصديق الشيخ أو الكليني موضوع آخر ، فيمكن أن يشمل هذا الموضوع المتولّد وجوب تصديق آخر من سنخ" صدّق العادل" الشامل لخبر الشيخ أو الكليني ، وأما في المقام فحيث قد عرفت أن قاعدة «لا ضرر» حاكمة على الأحكام الوجوبية والتحريمية ، فإذا نشأ ضرر من حكومة «لا ضرر» فلا يمكن أن يكون «لا ضرر» ناظراً إلى هذا الضرر ، لأن المحكوم لا بد وأن يكون مقدّماً في الرتبة على الحاكم ، حتى يكون الحاكم شارحاً وناظراً إليه ، والمفروض أن هذا الضرر الحادث متأخّر في الرتبة عن قاعدة «لا ضرر» فلا يمكن أن يكون محكوماً ب «لا ضرر». نعم لو قلنا بأن «لا ضرر» إخبار عن الواقع ، فيمكن تعارض الضررين ، وأما مع الالتزام بالحكومة فلا يعقل التعارض ، بحيث يدخل كل منهما تحت العموم.

وحاصل الكلام أنه لا بد في الضرر المنفي بأدلّة نفي الضرر من كونه ناشئاً عن الحكم الشرعي الضرري ، ليكون نفي الضرر نفياً لذلك الحكم المعنون بعنوان الضرر ، ومن المعلوم أن الضرر الذي يلحق المالك من ترك التصرف ليس لحكم شرعي يقتضي الضرر ، إلّا إذا كان الحكم هو حرمة التصرّف ، وأما مع فرض كون الحكم هو عموم السلطنة ، فالحكم الذي ينشأ منه الضرر ليس إلّا نفي الضرر بالنسبة إلى الجار. فضرر المالك في طول نفي الضرر بالنسبة إلى الجار ، فلا يعقل أن يكون مرفوعاً ب «لا ضرر». (منية الطالب ، ج ٢ ص ٢٢٥).

٤٠٦

إطلاق أو عموم دليل دال على ثبوته. وهذا هو معنى الحكومة والنظر عند الميرزا (قدس سرّه) لذا رتّب عليه فيما سبق ، أن القاعدة لا يمكن أن ننفي بها أصل حكم ضرري من رأس ، كوجوب الجهاد.

إذن لو فسّرنا النظر بهذا المعنى لكان لكلامه وجه ، وذلك بأن يقال : إنّ فرض نفي حرمة تصرّف المالك هو فرض أن تكون ناظرة نظراً تقييدياً إلى دليل الحرمة ، والمفروض أن دليلها ليس إلّا القاعدة ، فيكون لها نظر إلى نفسها. وهذا تهافت في عالم اللحاظ.

أمّا إذا فسّرنا النظر بالمعنى الذي قلناه ، وهو أن القاعدة ليست ناظرة نظراً تقييدياً إلى تلك الأدلة ، بل لها نظر توضيحي وتفسيري للشريعة الإسلامية الملحوظة ككل بما فيها من الأحكام ؛ فإن من أوصاف هذه الشريعة أنها لا يدخل على المؤمن ضرر من ناحيتها. وهذا النظر إلى الشريعة لا يختص بخصوص التخصيص والتقييد ، بل هو تعريف وبيان وصفي للشريعة.

من هنا قلنا : إن القاعدة يمكن أن ينفى بها حكم يكون من أساسه ضرريّاً ، فلو لم يكن هناك دليل على وجوب الجهاد ، وكان ضرريّاً لأمكن نفيه بالقاعدة ، وذلك بأن نقول : وجوب الجهاد ليس داخلاً في نطاق الشريعة ، لأنها موصوفة بعدم دخول الضرر على العبد من ناحيتها. فننفي أصل وجوب الجهاد بها.

بناءً على هذا التصوّر يندفع الإشكال ، فان نفي حرمة تصرّف المالك في حفر البالوعة لا يستدعي افتراض أن يكون للقاعدة نظر تقييدي وتخصيصي لإطلاق الدليل الذي اقتضى هذه الحرمة. وإنما معنى ذلك أن القاعدة حيث إنها وصفت الشريعة بأنها لا يأتي من قبلها ضرر ، وهذه الحرمة لو لوحظت

٤٠٧

بذاتها بقطع النظر عن أي دليل عليها ، فهي حرمة ضررية ، فيقال : بأنها لو كانت جزءاً من الشريعة لدخل على المؤمن ضرر من ناحيتها. إذن فهذه الحرمة ليست من الشريعة. فلا يحتاج في مثل هذا النظر إلى افتراض نفي دليل القاعدة في المرتبة السابقة على وجود هذا الدليل ، حتى يلزم التهافت في عالم اللحاظ. وعليه فالتعارض في المقام بين الفردين محكم.

والحاصل من كل ما ذكرناه ، أنه متى ما فرضت مئونة زائدة تستدعي كون ترك التصرّف من المالك مضرّاً بحاله ، تعارض «لا ضرر» بالنسبة إلى المالك «ولا ضرر» بالنسبة إلى غيره ، ويرجع إلى القواعد الأوّلية ، وهي تقتضي جواز التصرّف من قبل المالك على ما بيّناه في المقام الأوّل. ومتى ما كان التصرّف غير مضرّ ، فلا تجري في المقام لنفي سلطنة المالك على التصرّف من دون معارض. لأن المفروض أن ترك التصرّف لا يؤدي إلى الضرر من ناحية أخرى.

وبذلك يظهر أن نتيجة المقام الثاني تطابق مع انتهينا إليه في المقام الأوّل. أي أن إدخال عنصر القاعدة لا يغيّر من الموقف شيئاً. فالنتيجة هي التفصيل بين ما إذا كان ترك التصرّف ضرريّاً بالنسبة إلى المالك ، وما إذا لم يكن كذلك. فإذا لم يكن ضرريّاً لا يجوز ، وإذا كان ضرريّاً فالأصل جوازه.

هذا تمام الكلام في بيان الحكم التكليفي في المسألة.

أما الحكم الوضعي للمسألة ، أي ضمان خسارة الجار ، فهو لا يرتبط بالجواز ، لأنه حتى لو جاز للمالك حفر البالوعة بلحاظ الحكم التكليفي ، فإنه لا يرفع ضمان خسارة الجار بلحاظ الحكم الوضعي ، لأن الضمان موضوعه صدق عنوان الإتلاف ، والمفروض تحقّقه في المقام.

٤٠٨

لكن ذكر المحقّق العراقي (قدِّس سرّه) تفصيلاً في مسألة الضمان ؛ توضيحه : أن من حفر بالوعة في بيته تؤثر على بئر جيرانه ، فهو على أنحاء :

أن يفرض أنه يتلف مال الغير ، كأن ينضب ماء البئر مثلاً.

أن يتلف وصف من أوصافه الدخيلة في مالية المال كعذوبة الماء.

أن لا يتلف وصفاً حقيقياً للماء ، لكن يوجب نحواً من تنفّر الطباع من شربه.

ثم أشار إلى أن المالك يضمن في الأول والثاني ، لأنه أتلف مال الغير ذاتاً أو وصفاً. أما في الثالث ، فلا ضمان بل ولا حرمة أيضاً ، لأنه لم يتلف مال الغير ، وإنما أتلف وصفاً يؤدي إلى نقص في مالية مال الغير ، وهذا وإن كان يوجب قلّة الرغبة العقلائية فيه ، إلا أنه لم يدل دليل على حرمة ذلك ولا ثبوت الضمان فيه ؛ لذا لم يستشكل أحد في أنه لو قام شخص بتقليل مالية مال شخص آخر ، كما لو أنتج أو استورد بضاعة مماثلة للبضاعة المتوفّرة في السوق ، فصار سبباً لنزول القيمة السوقية لتلك البضاعة ، فإنه لا يكون حراماً ولا موجباً للضمان.

أقول : إنّ هذه المسألة لها عرض عريض في الفقه ، لذا يُتمسك بهذا النقض عادة لنفي ضمان المالية في موارد مشابهة للمقام. منها ما إذا غصب شخص كمية من العباءات الصيفية في الصيف ، ثم أرجعها لصاحبها في الشتاء ، فقد أفتى الفقهاء بأنه لا يضمن شيئاً ، لإرجاعه نفس المال ، لأن العباءة لم تنقص لا ذاتاً ولا وصفاً. غاية الأمر أن قيمتها الآن أدنى من قيمتها وقتئذ ، والمفروض عدم ضمان المالية.

وتفصيل الكلام في هذه المسألة موكول إلى بحث الضمان من الفقه ، أي

٤٠٩

بحث المقبوض بالعقد الفاسد من المكاسب ، وليس موضعه هنا ، ولكن أشير بنحو الاختصار إلى نكتة واحدة تعتبر كأساس لبحث الضمان ؛ وهو ضرورة التمييز بين نقصان المالية الناشئ من نزول القيمة الاستعمالية للشيء ، ونقصان المالية المتولّد من نزول القيمة التبادلية له ، فإن للمال قيمتين (١).

قيمة استعمالية : وهي القيمة التي تتحصل من منافع هذا المال وإشباعه لحوائج الإنسان الطبيعية ، بقطع النظر عن عرضه بالسوق ووجود مشترٍ له.

قيمة تبادلية : وهي التي يعبّر عنها في العرف بالسعر والثمن السوقي ، يعني قوّة تبادل هذا المال مع مال آخر. والقيمة التبادلية لا محالة تؤثّر فيها القيمة الاستعمالية ، لأن الشيء الذي ليس له قيمة استعمالية لا ينفع أصلاً ،

__________________

(١) قال الأستاذ الشهيد في كتاب «اقتصادنا» تحت عنوان «كيف وضع ماركس القاعدة الأساسية لاقتصاده؟» «يبدأ ماركس في استدلاله على جوهر القيمة ، بالتفرقة بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية. فالسرير والملعقة ورغيف الخبز مجموعة من السلع ، تتضمن كل واحدة منها قيمة استعمالية معيّنة ، بسبب المنفعة التي تؤديها السلعة. وتختلف قيمتها الاستعمالية تبعاً لاختلافها في نوعية المنفعة التي يجنيها الإنسان منها. ولكل واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر ، فان السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع ، كما يمكن أن ينام عليه ، وهذا ما يحدّد قيمته الاستعمالية ، كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه ، وهذا يعبَّر عنه بالقيمة التبادلية.

فالثوب والسرير بينما كانا متناقضين في منافعهما وقيمتهما الاستعمالية ، نجد أنهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة ، أي أن كلّاً منهما يمكن استبداله بالآخر في السوق ، لأن سريراً خشيباً واحداً يساوي ثوباً حريرياً من نوع معين».

(اقتصادنا ، محمد باقر الصدر ، ج ١ ، ص ١٩٠ ، دار التعارف للمطبوعات بيروت ، لبنان ، الطبعة السادسة عشرة سنة ١٤٠٢ ه‍).

٤١٠

لذا لا قيمة تبادلية له أيضاً. لكن يدخل في تكوين القيمة التبادلية عنصر آخر وهو كمية العرض والطلب ، فكلما ازداد عرض بضاعة انخفضت قيمتها التبادلية ، وإذا قلّت ازدادت وهذه الزيادة والنقيصة مؤثرة في القيمة التبادلية لا الاستعمالية.

بناءً على ذلك فالقيمة الاستعمالية لشيء هي في الواقع ناشئة من الأوصاف الواقعية القائمة بالشيء ، لأنها عبارة عن قابليته للانتفاع به ، وهي حيثية كسائر الحيثيات القائمة به ، وهذه الحيثية تستند إلى أمور خارجية ونفسية ، فإنها كما تستند إلى سواد العباءة ونعومتها ، تستند إلى الحاجة إلى العباءة وكون الجو حارّاً. فان هذه الأُمور جميعاً تساهم في تحديد القيمة الاستعمالية للمال. كذلك ماء البئر في المقام ، فإنه كما يستند في إشباع حاجة إلى صفائه وعذوبته ، كذلك يستند إلى انشراح طبع الإنسان له ، وإلا لو كان بنحو ينفر الطبع منه ، فإنه لا يحقق الغرض المطلوب. وهذا معناه أن القيمة الاستعمالية التي هي في الحقيقة خصوصية قائمة بالمال تضعف بإيجاد ما يؤدّي إلى تنفّر الطباع فيه. فيكون نظير ما إذا أحدث شخص حركات غريبة في بيت شخص آخر ، بحيث أوهم أنه مسكون للجن ، فاشمأزت الطباع منه ، دون أن يؤثر في البيت شيئاً ، هنا تنزل القيمة الاستعمالية للبيت ، وتقليلها كتقليل أي حيثية من الحيثيات الواقعية القائمة بالبيت ، لذا يوجب الضمان لا محالة.

أما لو فرض أن القيمة الاستعمالية كانت ثابتة ، وإنما قلّت القيمة التبادلية السوقية للشيء ، من باب زيادة العرض بحسب الخارج ، فلا يعدّ هذا ضرراً ونقصاً فيما هو تحت يد المالك ، وإنما النقص أمر تقديري تعليقي ، بمعنى أنه لو

٤١١

بدّله بمال آخر في وقت سابق لحصل على قيمة آخر ممّا هو الآن. مثل هذا النقص لا يعدّ ضرراً بالفعل ، من هنا لا ينبغي أن يقاس به ما هو محل الكلام.

وبهذا تمّ الكلام في التنبيه الرابع. وبانتهائه ينتهي البحث في قاعدة «لا ضرر ولا ضرار».

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

٤١٢

الفهارس التفصیلیه

٤١٣
٤١٤

فهرس الآیات

سورة البقرة (٢)

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٩)........................................ ١٤٧

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢٠٥).................... ٧٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٢٠٧).............................. ٧٨

(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢٧٥)................ ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٧٦ ، ٣٧٧

سورة آل عمران (٣)

(نافَقُوا) (١٦٧)...................................................... ١٤٨

سورة النساء (٤)

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١٠٠)...................................... ١٤٨

(يُراؤُنَ) (١٤٢)...................................................... ١٤٨

سورة المائدة (٥)

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١)................................................... ١٩٧

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (٦)................................ ٣٧٧

سورة الانفال (٨)

(شَاقُّوا) (١٣)....................................................... ١٤٨

سورة التوبة (٩)

(مَسْجِداً ضِراراً) (١٠٧).............................................. ١٤٨

٤١٥

سورة یوسف (١٢)

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٨٢).................................................. ١٨٠

سورة الکهف (١٨)

(لا تُؤاخِذْنِي) (٧٣)................................................... ١٤٨

سورة مریم (١٩)

(وَنادَيْناهُ) (٥٢)...................................................... ١٤٨

سورة الانبیاء (٢١)

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢٢)................................ ٣٨٣

سورة الحج (٢٢)

(ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٧٨)............................... ٣٩٤

سورة الحدید (٥٧)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (٢٥)......... ٦٣

سورة الطلاق (٦٥)

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (٧)............................. ٣١٤

سورة الملک (٦٧)

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ... حَسِيرٌ) (٣).......................... ٣٨٤

٤١٦

فهرس الاحادیث والروایات

«إذا أرفت الأُرف وحدَّت الحدود فلا شفعة».................. ٨١ ، ١٢٢ ، ١٢٧

«إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله»........................ ٦٥

«إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله»...................... ٦٤

«اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار»... ٧٩، ١٠٠ ، ٢١٧ ، ٢٣٧

«إن لصاحب المال أن يفعل بماله ما شاء ما دام حيّاً»........................ ٣٥٩

«أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه ، وأنه يزيد ولا ينقص»........................ ٩٤

«التائب من الذنب کمن لاذنب له»....................... ١٨٣ ، ١٨٩ ، ١٩٢

«الشفعة بیین الشرکاء»..................................... ٨١ ، ١١٧ ، ١٢٥

«الطواف بالبیت صلاة»......................................... ٣٧٨ ، ٣٨٩

«الفقیه لایعید الصلاة».................................................. ٣٧٧

«کل شیء هو لک حلال حتی تعلن انه حرام بعینه»......... ١٨٢ ، ١٨٣ ، ١٨٧

«لا ربا بین الوالد والولد»......................................... ١٩٢ ، ٣٩٢

«لا رهبانیة فی الاسلام».................. ١٧٦ ، ١٨٣ ، ١٨٥ ، ١٧٦ ، ١٨٧

«لا صلاة الا بطهور»................................................... ٣٧٠

«لا ضرر ولا ضرار» ٨٩ ، ٨٦ ، ٧٩ ، ٧٢ ، ٥٣ ـ ٩٤ ، ١٠٠ ـ ١١٠ ، ١١٣ ، ١١٥ ، ١١٧ ، ١١٨ ، ١٠٥ ، ١٢٥ ، ١٢٠ ـ ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٦٦ ، ١٦٨ ، ٢١٧ ، ٤٠٢ ، ١٢٩

«لصاحب الدرهمین خمس ما بلغ»......................................... ١٦٨

٤١٧

«ما اراک یا سمرة الا مضارّاً ، اذهب فاقلعها واضرب بها»............... ٧٩ ، ٢٣٧

«ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»......................... ٣٠٦

«من ترک مالاً فلورثته»........................................... ٢٦٣ ، ٢٥٣

«الناس مسلطون علی اموالهم»...... ٣٥٢ ، ٣٤٧ ، ١٦٨ ، ٣٩٥ ، ٣٨٩ ، ٣٦٥

«هو ماله یصنع ما شاء به الی ان یاتیه الموت».............................. ٣٥٢

«یا اشباه الرجال ولا رجال»....................................... ١٩٩ ، ١٨٨

«یا ایها الناس ما جاءکم عنّی یوافق کتاب الله فانا قلته»........................ ٦٤

٤١٨

فهرست الاعلام

ابن الاثیر ، ١٧٥

ابن ادریس الحلی ، ٧

ابن ابی الحدید ، ٧٨

ابن ابی عقیل ، ٧

ابن ابی یعفور ، ٦٤

ابن بکیر (عبدالله) ، ٧٧ ، ١١٢

ابن جنید ، ٧

ابن قولویه ، ٨٤ ، ٨٥

ابن ماجه ، ٨٠

الاردبیلی(عبدالغنی) ، ٧٠

الاسترابادی (محمد امین) ، ١١

اسحاق بن یحیی بن الولید ، ٨٠

المحقق الاصفهانی ، ١٤٣ ، ١٤٤

١٤٦، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥٠

١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦٤

١٩٤ ، ٢٢٦ ، ٢٤٩ ، ٢٥٥ ،

٣٢١

الاعرجی (السید محسن) ، ٨

الانصاری (الشیخ الاعظم ، مرتضی) ، ٨، ٥٢ ، ٥٦ ، ٥٧ ،

٧٧ ، ٩٥ ، ١٤٢ ، ١٦٥ ، ١٧٠ ،

٢٣٠، ٢٣٤، ٢٥٨ ، ٢٦٦ ،

٢٩٦ ، ٣٧١ ،٣٧٥

احمد بن ابی عبدالله ، ٨٢

احمد بن حنبل ، ٨٠ ، ١٢١

انس بن سیرین ، ٧٨

بحر العلوم (السید مهدی) ، ٨

بحر العلوم (عزالدین) ، ٣١٦

البرقی (احمد بن محمد بن خالد) ، ٧٩ ، ٨٥ ، ٨٦ ،١٠٠ ، ١١١

التستری (اسدالله) ، ٨

التونی (الفاضل) ، ٧٣

الحائری (السید کاظم) ، ٩، ١٠ ،

٥٨ ، ٦٢

٤١٩

الحذاء ، ٧٩ ، ٨٨ ،

٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٣ ، ١٠٩

الحلبی ، ٣١٦

المحقق الحلی ، ٧

الحلی (الشیخ حسین) ، ٣١٦

الحلی (العلامة) ، ٧ ، ٨١ ، ٨٣ ،

٩٣ ، ٩٥ ، ٣٥٩

الخراسانی (المحقق ، الآخوند ، صاحب الکفایة) ، ١٤٣ ، ١٤٥ ،

١٧٣ ، ١٨٣ ، ١٩٣ ، ٢٠٢،

٢٢٦ ، ٣٧١ ، ٣٧٥

الخوئی (السید الاستاذ ، ابو القاسم) ، ١٠ ، ١٢ ، ١٣ ، ٢١ ،

٢٢ ، ٢٤ ، ٢٧، ٣٠ ، ٣٢ ، ٣٤ ،

٥٦ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٦٢ ، ٦٦ ، ٦٩ ،

٧٠، ٧١ ، ٧٣ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٨٥ ،

٣٠٣ ، ٣١٠ ، ٣٦٣ ، ٣٦٦ ،

٣٦٧ ، ٣٨١ ، ٣٩٣

الخونساری ، ١٠٩

زرارة ، ٧٧ ، ٧٩ ، ٨٣ ، ٨٨ ،

١٠٠ ، ١١١ ، ٢٧٧

السعدآبادی ، ٧٩ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦

سماعة ، ٣٥٩

سمرة بن جندب ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٧٩ ،

٩٩ ، ١٠٤ ، ١١٠ ، ١٢٩ ، ١٣٢ ،

١٤١ ، ١٦٦ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ،

٢٣٢ ـ ٢٣٩ ، ٢٢٨ ، ٢٥٨ ،

٢٦٦ ، ٢٩٦ ، ٢٩٨ ، ٣١٦ ،

٣٢٠

شریف العلماء (محمد شریف بن حسن علی) ، ٨

الشهید الاول ، ٧

شیخ الشریعة الاصفهانی ، ٨٢ ،

٩٩ ، ١١٦ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٠ ،

١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٥ ، ١٢٨ ،

١٢٩ ، ١٣٢ ، ١٧١ ، ٣٠٤

صاحب المعالم ، ١١

الصدرر (الاستاذ السید الشهید ، محمد باقر) ، ٧ ، ٩ ، ١٠، ١١ ، ١٢

، ١٣، ١٦ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١، ٢٣

٤٢٠