لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

__________________

المتعارضين ، حيث إنّه ذكر في مسألة تصرّف الإنسان في ملكه مع تضرّر جاره ، أن عموم نفي الضرر معارض بعموم" الناس مسلّطون على أموالهم"» ثم أشكل على ذلك بحكومة دليل القاعدة على قاعدة السلطنة ، واستدلّ على ذلك بجريان سيرة الفقهاء في موارد مختلفة عليه «منها استدلالهم على ثبوت خيار الغبن وبعض الخيارات الأُخر بقاعدة نفي الضرر ، مع وجود عموم" الناس مسلّطون على أموالهم" الدالّ على لزوم العقد وعدم سلطنة المغبون على إخراج ملك الغابن بالخيار عن ملكه». (المكاسب ، ص ٣٧٣).

أما السيرة والبناء العقلائي ، فإن هذه القاعدة «قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعية ، ولم يزل بناء العقلاء عليها من قديم الزمان إلى عصرنا هذا ، ولا فرق فيها بين أرباب الملل الإلهية وغيرهم ، حتى إن من أنكرها بلفظه لا ينكرها في عمله ، وإن الذين ادّعوا إلغاءها بالمرّة في كتبهم ومدارسهم لم يوفقوا له في العمل ، وكلّهم يرون أن للإنسان التصرّف في ملكه بما يراه ، إلّا إذا منعه الشرع أو نهى عنه القوانين المعتبرة عندهم ، ولا يشكّ في هذا أحد منهم ، ومن أنكره فإنّما ينكره باللسان (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). بل يمكن أن يقال : إنها من القواعد الفطرية ، قبل أن تكون عقلائية ، فإن ما عند العقلاء من القوانين لها أصول وجذور في أعماق فطرياتهم ما لم ينحرف عنها بأمور قسرية. كما أن أحكام الشرع أيضاً تنطبق على الفطريات ، فيطابق التشريع التكوين». (القواعد الفقهية ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج ٤ ، ص ٢٩).

٣٦١

التنبيه الثالث : نسبة القاعدة إلى أدلّة الأحكام الأوّلية

إن نسبة «لا ضرر» إلى أدلّة الأحكام الأوّلية هي العموم من وجه ، ومقتضى ذلك هو التساقط ، لذا وقع الإشكال في كيفية تخريج العمل بالقاعدة وتقديمها على أدلّة تلك الأحكام. وقد ذكر الأعلام تقريبات متعدّدة لذلك :

التقريب الأوّل : أن دليل القاعدة قطعي السند باعتبار استفاضة نصوص «لا ضرر». فهنا إن كانت أدلّة الأحكام الأوّلية قطعية السند أيضاً ، فيتعارضان ويتساقطان ، لأنه لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر ، وإن لم تكن كذلك ، فتكون مشمولة لأدلّة حجّية خبر الواحد ، وقد ذكرنا هناك أن خبر الواحد إذا تعارض بنحو التباين أو العموم من وجه مع الكتاب الكريم أو السنّة القطعية من حيث السند ، يكون ساقطاً عن الحجّية ، فيخرج الدليل الظنّي الدالّ بإطلاقه على الحكم الضرري بمقدار مادة الاجتماع عن الشمول لأدلّة الحجّية ، ويبقى دليل القاعدة بلا معارض.

هذا البيان بالإضافة إلى أنه أخصّ من المدّعى ، لأنه لا يتمّ إلّا في موارد عدم قطعية سند الأحكام الأولية ، غير تام ؛ لأنه موقوف على :

فرض تواتر روايات القاعدة أو استفاضتها ، بحيث يوجب القطع

٣٦٢

العادي بذلك ، وقد تقدّم أن تحصيل مثل ذلك محلّ تأمّل بل منع.

استقطاب التعارض بين دليل القاعدة وأدلّة الأحكام الأوّلية ، بنحو لا يمكن الجمع الدلالي بينهما ، حتى ينتهي الأمر إلى التعارض السندي ، وهو غير تام لما سيظهر من خلال البحوث اللاحقة.

التقريب الثاني : أن دليل القاعدة إذا لوحظ مع كل واحد من أدلّة الأحكام الأوّلية ، فالنسبة وإن كانت هي العموم من وجه ، فلا موجب لتقديمه عليها ، لكن إذا لوحظ مع مجموع تلك الأدلّة وإطلاقاتها ، كانت أخصّ منها فيتقدّم عليها (١).

واعترض السيد الأستاذ كما في الدراسات قائلاً : إنّه لا موجب لفرض جميع الأدلّة بمنزلة دليل واحد ، وملاحظة النسبة بينها وبين دليل «لا ضرر» لأن الأخصية إنّما تلحظ بالنسبة إلى ما هو طرف المعارضة ، لا إلى ما ليس كذلك. والذي هو طرف المعارضة في المقام إنّما هو كل واحد واحد من تلك الأدلّة. ومن الواضح أن النسبة حينئذٍ هي العموم من وجه ، وليس طرف المعارضة هو المجموع حتى يقال إن النسبة هي الأخصية (٢).

والتحقيق أن تقديم أحد الدليلين المنفصلين المتعارضين على الآخر باعتبار الأخصية فيه مسلكان :

المسلك الأوّل : أن تقديم الخاص على العام ، إنما هو بملاك تقدّم الظهور الأقوى على الأضعف ، وأحد مظاهر هذه الأقوائية في الظهور هي الأخصية.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢) دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٥١٣.

٣٦٣

بناءً على ذلك يكون ما ذكره السيّد الأستاذ تامّاً. وذلك لأننا بعد أن فرضنا أن ملاك تقديم الأخص إنّما هو لأقوائية ظهوره ، إذن لا بدّ أن يفرض أنه كذلك بالنسبة إلى ما وقع طرفاً للمعارضة معه. ودليل القاعدة وإن فرض كونه أخص من مجموع الأدلّة ، لكن ما هو طرف المعارضة ليس هو المجموع بما هو ، بل هذا الدليل أو ذاك. ومن الواضح أن أخصية دليل القاعدة من المجموع لا يوجب اقوائيته من كل واحد من الأدلّة في نفسه.

المسلك الثاني : أن التقديم بالأخصية إنّما هو من باب فرض المخصّص المنفصل كأنه متصل.

توضيحه : أن الفاصل الزمني بين كلامين للشارع ، يقتضي بحسب طبعه الأوّلي أن يستقر ظهور الكلام الأوّل على النحو الذي كان مكتنفاً به من قرائن الحال والمقال. فإذا جاء ما ينافي الأوّل في ظهوره كان معارضاً له. إلّا أن الشارع حيث إنه أقام قرينة عامّة على أن بناءه هو التدرّج في بيان أحكامه ، وأنه يعتمد القرائن المنفصلة في مقام التخصيص والتقييد ، فيكون حال الشارع من قبيل من له مجلس واحد مستمرّ منذ بداية البيانات التشريعية إلى نهايتها ، فتنزل هذه الفواصل الزمنية منزلة العدم. من هنا فلا بدّ أن نتعامل مع خطاباته المنفصلة معاملة الخطابات المتصلة. وبتعبير آخر : إذا ثبت من حال المتكلِّم أو مقاله أنه سنخ شخص على خلاف النظام العام للمحاورة ، يتدرج في مقام بيان تمام مراده ، يقطّع الكلام الواحد ويذكر العام في وقت والخاص في وقت آخر ، فإنّه حينئذٍ يكون الخاص المنفصل متصلاً في كلام هذا الشخص من حيث كشفه عن المدلول التصديقي ، وإن لم يكن متصلاً بلحاظ المدلول التصوّري.

٣٦٤

بناءً على هذا المسلك ، فإنّ دليل القاعدة وإن كان منفصلاً عن أدلّة الأحكام الأوّلية ، إلّا أنه يُفرض متّصلاً بها. وعلى هذا الأساس فدليل القاعدة وإن لم يقع طرفاً للمعارضة مع مجموع الأدلّة ، بل مع كل واحد واحد منها ، لكن لما كان الفاصل الزمني غير موجود على هذا الفرض ، فتكون القاعدة كأنّها متصلة مع تلك الأدلّة ، فتقدّم عليها لكونها أخصّ من المجموع ، كما لو قال الشارع في مجلس واحد : يجب الوضوء ويجب الغسل ، ويجب الصوم على كل مكلّف ، ولا يثبت وجوب ضرري. فنفي الضرر هنا بعدم ظهور تلك الأدلّة في العموم ، لكونه أخصّ من المجموع ، فيصلح عرفاً للقرينية عليها ، لكن لا حقيقة وواقعاً بل حكماً. وهذا هو المعبّر عنه في كلمات المحقّق النائيني (قدِّس سرّه) والذي أرسله كأصل مسلّم به ، من أنه كلما كان على فرض اتصاله قرينة هادمة للظهور ، كان في فرض الانفصال قرينة هادمةً للحجّية.

والإنصاف أن هذا التقريب بناءً على المسلك الثاني في غاية المتانة ، وإن لم يكن تامّاً على المسلك الأوّل المتداول في كلمات القوم.

التقريب الثالث : أن دليل القاعدة وإن كان يتعارض مع كل دليل من تلك الأدلّة بنحو العموم من وجه ، لكن لما كانت نسبته مع جميع الأدلّة نسبة واحدة فلو قدّم عليه كل واحد منها ، فلا يبقى له مورد أصلاً ، وللزم إلغاء القاعدة. ولو قدمنا بعضها دون بعض فهو ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن أن تتقدّم هذه على سائر الأدلّة ، لعدم لزوم أي محذور لبقاء حكمها في غير مورد الضرر (١).

__________________

(١) منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

٣٦٥

واعترض السيّد الأستاذ على هذا التقريب بأن «نسبة دليل نفي الضرر مع الأدلّة المثبتة للأحكام في مواردها ، بما أنها عموم من وجه ، فبناءً على ما هو المختار من أن الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه ، إذا كان العموم في أحدهما مستنداً إلى الوضع وفي الآخر إلى مقدّمات الحكمة ، يتقدّم ما يكون عمومه بالوضع على الآخر ، وإذا كان كلّ منهما بالإطلاق يتساقط الظهوران. فيرجع إلى عموم أو إطلاق غيرهما أو إلى أصل عملي. فلا بدّ من النظر إلى الدليل المعارض لدليل نفي الضرر ، فإن كان عمومه بالإطلاق فيسقط الظهوران ويرجع إلى الأصل العملي ، فتكون النتيجة نتيجة نفي الضرر من حيث نفي الحكم الإلزامي ، وأمّا إذا كان عموم الدليل وضعياً ، فيتقدّم على دليل نفي الضرر ، وعلى ذلك فلا بدّ من التفكيك بين الموارد من دون لزوم الترجيح بلامرجّح» (١).

إلّا أن هذا الكلام وإن استطاع أن يبيّن لنا وجه تقديم بعض أدلّة الأحكام الأوّلية على دليل القاعدة ، فلم يلزم محذور الترجيح بلا مرجّح ، إلّا أنه لم يرفع محذور لزوم اللغوية وسقوط القاعدة رأساً ، لأن القاعدة سقطت في بعض الموارد باعتبار تقدّم تلك الموارد عليها ، وتساقطت في بعضها الآخر باعتبار معارضتها معها.

إلّا أنه يمكن أن يوجّه هذا التقريب بنحو أكثر فنية ، وهو أن يقال : إن القاعدة لها مفادان :

نفي الحكم الضرري بنحو القضية المهملة التي هي في قوّة السالبة

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٥١٣.

٣٦٦

الجزئية ، وهذا القدر ثابت بنحو النصوصية من دليل القاعدة ، لقوّة ظهورها العرفي في ذلك ، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمات الحكمة.

أنه لا يوجد حكم ضرري على الإطلاق بنحو السالبة الكلية ، وهذا المدلول لا ينعقد إلّا ببركة تمامية مقدّمات الحكمة.

حينئذٍ نقول : إنّ دليل القاعدة بلحاظ مفاده الأوّل ، يعارض مجموع أدلّة الأحكام الأوّلية ، وذلك لأن مفاد القضية المهملة (الثابتة في الرتبة السابقة على مقدّمات الحكمة) ، أن بعض الأحكام لا تثبت في حالة الضرر ، فتكون منافية لمجموع تلك الأدلّة ، لأن كل حكم شرعي فهو ثابت في حالة الضرر بمقتضى الإطلاق ، فيقع التعارض بين السالبة الجزئية والموجبة الكلية ، فتقدّم القاعدة عليها ، لما ثبت في محلّه أنه متى ما تعارض إطلاق حكمي مع ظهور نصّي ، قدّم الثاني على الأوّل.

وحيث إنّ الإطلاقات الساقطة في أدلّة الأحكام الأوّلية غير متعيّنة ، فيقع التعارض بين نفس تلك الأدلّة ، للعلم الإجمالي بكذب بعضها ، وبعد التساقط لا يبقى مانع من الرجوع إلى إطلاق «لا ضرر» الذي هو المفاد الثاني للقاعدة.

ويمكن الاعتراض على هذا التقريب بهذه الصيغة باعتراضين :

الاعتراض الأوّل : أنه لا وجه لدعوى أن إطلاقات الأدلّة الأوّلية تتعارض فيما بينها وتتساقط ، بل هذه الإطلاقات كما تتعارض في أنفسها من ناحية ، فهي تعارض إطلاق دليل القاعدة من ناحية أُخرى ، لأنّ الجميع في عرض واحد. وتوضيحاً لذلك : لو فرضنا أن أدلّة الأحكام الأوّلية هي اثنان فقط ، كدليل وجوب الغسل ودليل وجوب الوضوء ، والمفروض أن القاعدة

٣٦٧

نفت حكماً ما بنحو القضية المهملة الذي هو المفاد الأوّل ، وبإطلاق القاعدة نطبّق النفي على أحد الحكمين بنحو العلم الإجمالي كما هو المفاد الثاني ، فهنا كما أن إطلاق دليل وجوب الغسل لحالة الضرر يعارض إطلاق دليل وجوب الوضوء لتلك الحالة ، كذلك يعارض مع إطلاق دليل القاعدة ، لأنّ المفروض أن المفاد الثاني هو ظهور إطلاقي وليس نصياً ، إذن فيكون الجميع في رتبة واحدة ، فتتعارض وتتساقط ، ولا موجب لنجاة إطلاق القاعدة عن المعارضة.

إلّا أن هذا الاعتراض يمكن الجواب عنه من خلال ما ذكرناه في بعض تنبيهات العلم الإجمالي ، وهو أنه كلّما كان هناك دليلان متعارضان ، وكان تقديم كلّ منهما على الآخر ترجيحاً بلا مرجّح ، واختص أحد الدليلين بنكتة هي أنه لو فرض جواز تقديمه بلا مرجّح على معارضه ، يبتلي بمحذور الترجيح بلا مرجّح من ناحية أُخرى ، بخلاف العكس تعيّن تقديم الدليل الذي لا يكون فيه محذور من ناحية أُخرى على الدليل الذي يكون فيه ذلك. فمثلاً لو كان عندنا دليلان متعارضان «ألف وباء» ودليلان آخران متعارضان «ألف وباء» أيضاً ، وكان يلزم من تقديم كل «ألف» على معارضه الترجيحُ بلا مرجّح ، وكذلك العكس أيضاً. لكن لو فرض أنه استحال لسبب من الأسباب تقديم كلا «الباءين» على كلا «الألفين» من غير ناحية الترجيح بلا مرجّح ، ولم يكن هناك مانع من تقديم كلا «الألفين» على «الباءين» سوى المحذور الأوّل ، في مثله يقدّم كلا «الألفين» على معارضهما ، ولا يتقدّم شيء من «الباءين» على معارضهما.

فلو طبقنا هذه الكبرى على المقام نقول : عندنا دليلان هما وجوب الغسل ووجوب الوضوء ، وهما «الباءان» مثلاً ، وعندنا إطلاق القاعدة للغسل

٣٦٨

الضرري وإطلاقها للوضوء الضرري ، ولنفرض أنهما «الألفان» ، فتقديم كلا الألفين على كلا «الباءين» لا محذور منه سوى الترجيح بلا مرجح ، أمّا تقديم كلا «الباءين» على كلا «الألفين» فهو بالإضافة إلى محذور الترجيح بلا مرجح ، يستلزم إلغاء القاعدة رأساً ، وهذا مناف للقضية المهملة الثابتة بالنصّ. فيكون الجمع بين تقديم كلا «الباءين» غير معقول في نفسه.

ولا يمكن ترجيح «الباء» الاولى على «الألف» الأولى فقط ، دون «الباء» الثانية على «ألفها» كأن نقدّم إطلاق دليل الغسل على إطلاق القاعدة ، دون دليل وجوب الوضوء ، لأنه ترجيح بلا مرجح ، وهو غير محذور ترجيح أحد المتعارضين على الآخر بلا مرجح.

والحاصل أنه كلما كان ترجيح أحد المتعارضين واجداً لمحذور عقلي زائد على محذور المعارضة بينهما ، يكون هو المتعيّن للسقوط ، بخلاف الفاقد لذلك المحذور الزائد. فلو تمّت هذه الكبرى في محلّها ، أمكن تخريج هذا التقريب على أساسها.

الاعتراض الثاني : إذا صدر من الشارع خطابات وظهورات إطلاقية متعدّدة ، وعلمنا إجمالاً بكذب بعضها ، فهل يسقط الجميع بالتعارض ، أو يبقى بعضها على الحجية؟

فإن كان الأوّل ، فلازمه سقوط جميع إطلاقات أدلّة الأحكام الأوّلية لتعارضها فيما بينها ، فيبقى إطلاق القاعدة بلا مانع. وإن كان الثاني بتقريب : أن أصالة الإطلاق في كلّ دليل بعنوانه التفصيلي وإن كان لا يجري ، لأنه معارض بمثله في الدليل الآخر ، لكن لما كان نفي الحكم الضرري بمقتضى المفاد الأوّل لا يسقط كل إطلاقات أدلّة الأحكام الأوّلية ، بل يبقى بعضها غير

٣٦٩

المعيّن حجّة ، فيقع التعارض بين البعض الباقي وإطلاق القاعدة ويتساقطان.

إلّا أن تمامية ذلك موقوف على قبول أن أدلّة الحجّية تساعد على بقاء الحجّية لمثل هذا العنوان الإجمالي. وتحقيقه موكول إلى بحث التعادل والتراجيح.

التقريب الرابع : أننا حتى لو قبلنا أن القاعدة عند ما تتعارض مع أدلّة الأحكام الأوّلية الإلزامية بنحو العموم من وجه ، يسقط الجميع. لكنه يكفينا بعد التساقط أنه لا يبقى دليل على وجوب الوضوء أو وجوب القيام في الصلاة إذا كان ضرريّاً. فنرجع إلى الأصل الجاري في المقام وهو البراءة. فتكون النتيجة الحاصلة هي نتيجة تقدّم دليل «لا ضرر» على المعارض له أيضاً.

واعترض السيّد الأستاذ بأن هذا البيان وإن كان كافياً في مقام نفي وجوب الوضوء مثلاً ، باعتبار الرجوع إلى البراءة بعد سقوط إطلاق دليل وجوب الوضوء ، لكنه لا يكفي لإثبات وجوب آخر مترتّب على جريان القاعدة واقعاً ، كوجوب التيمّم ، على هذا لا يمكن أن نثبت بهذا الوجه جميع الثمرات المترتّبة على جريان القاعدة (١).

ولكن قد يقال : إنّ هذه الموارد التي أُشير إليها يتكوّن فيها بحسب الحقيقة علم إجمالي ، أمّا بوجوب الوضوء أو التيمّم ، لأن المفروض أن وجوب التيمّم معلّق على عدم وجوب الوضوء واقعاً ، وهنا لا يعلم المكلّف أن القاعدة جارية في حقّه أم لا؟

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ، ج ٢ ، ص ٥١٢.

٣٧٠

وعلى هذا لا يكون المورد من صغريات جريان البراءة ، لأن هذا العلم الإجمالي يكون منجزاً ، فيجب الاحتياط بالعمل بكلا الجانبين. لكن لما لم يكن وجوب الاحتياط ثابتاً بدليل من الأدلّة الشرعية ، وإنّما هو بحكم العقل ، فيمكن رفع هذا الوجوب بالقاعدة بلحاظ أحد طرفيه وهو الوضوء الضرري ، مع بقاء وجوب الاحتياط بلحاظ الطرف الآخر وهو التيمّم على حاله ، لحرمة المخالفة القطعية من دون لزوم ضرر منه.

اذن فنحن لا نحتاج في مقام تنجيز وجوب التيمّم أو الصلاة من جلوس إلى أكثر من قواعد العلم الإجمالي ، حيث نحصل من خلالها على نفس النتيجة المطلوبة من جريان القاعدة.

التقريب الخامس : ما أشار إليه الشيخ الأنصاري وتبعه المحقّق الخراساني من أن وقوع القاعدة في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات (١) إلّا أن هذا القدر من البيان في غاية الإجمال والغموض ، إلّا أن يقصد منه أحد وجهين :

الأوّل : أن لسان الامتنان يأبى عن التخصيص والتقييد ، فيكون هذا بنفسه قرينة موجبة لقوّة الظهور العرفي في القاعدة ، فتقدّم على إطلاقات الأدلّة الأوّلية بملاك الأظهرية كما تقدّم.

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأصول ، ص ١٦٩.

٣٧١

الضرر منفياً من باب أنه لا مقتضي له أصلاً في نفسه ، فلا معنى للامتنان. إذن فالعرف يفهم من هذه القرينة أن القاعدة بصدد جعل المانعية للضرر ، ومن الواضح أن دليل المانعية له نظر إلى دليل الممنوع لأنها تستبطن بنفسها النظر إلى الممنوع ، فيتقيّد بعدم وجود المانع ، حينئذٍ تكون هذه نكتة فنية لاستظهار الحكومة من دليل القاعدة ، وهذا ما سنعرض له في التقريب اللاحق.

التقريب السادس : تقديم القاعدة على إطلاقات أدلّة الأحكام الأوّلية بالحكومة ، وهو مختار الشيخ الأعظم والميرزا النائيني ومدرسته كالسيد الأستاذ (١).

__________________

(١) قال الشيخ الأعظم في «رسالة نفي الضرر» : «إنّ دليل هذه القاعدة حاكم على عموم أدلّة إثبات الأحكام الشامل لصورة التضرّر بموافقتها ، وليس معها من قبيل المتعارضين ، فيلتمس الترجيح لأحدهما ، ثم يرجع إلى الأصول ، خلافاً لما يظهر من بعض من عدّهما من المتعارضين حيث إنه ذكر في مسألة تصرّف الإنسان في ملكه مع تضرّر جاره ، أن عموم نفي الضرر معارض بعموم الناس مسلّطون على أموالهم ، ونحو ذلك في مسألة جواز الترافع إلى حكّام الجور مع انحصار إنقاذ الحق في ذلك.

وفيه ما تقرّر في محلّه من أن الدليل الناظر بدلالته اللفظية إلى اختصاص دليل عام ببعض أفراده ، حاكم عليه ولا يلاحظ فيه النسبة الملحوظة بين المتعارضين ، نظير حكومة أدلّة الحرج على ما يثبت بعمومه التكليف في موارد الحرج ، وعليه جرت سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال في مقامات لا يخفى».

(رسالة في قاعدة نفي الضرر ، المطبوعة في آخر المكاسب ، ص ٢٧٣ وكذلك في فرائد الأصول ، ج ٢ ص ٥٣٥).

واعترض المحقّق صاحب الكفاية في حاشيته على الفرائد على هذا الكلام بقوله : «حكومتها يتوقف على أن يكون بصدد التعرّض لبيان حال أدلّة الأحكام المورثة

٣٧٢

__________________

للضرر بإطلاقها أو عمومها على ما أفاده (قدِّس سرّه) أو حال الأدلّة الدالّة على جواز الإضرار بالغير أو وجوب تحمّل الضرر عنه بالإطلاق أو العموم على ما ذكرنا ، وإلا بأن يكون لمجرّد بيان ما هو الواقع من نفي الضرر ، فلا حكومة لها ، بل حالها كسائر أدلّة الأحكام.

وأجاب المحقّق النائيني عن هذا الاعتراض بقوله : «لا فرق في الحكومة بين أن يكون لمجرّد بيان ما هو الواقع من نفي الضرر ، وأن يكون بصدد التعرّض لبيان حال الأحكام ، لأنه ليست الحكومة منحصرة في أن يكون الحاكم مفسّراً للمحكوم بلفظ «أي وأعني» بل إذا رفع أحد الدليلين ما أخذ موضوعاً مثلاً في الآخر ، فهذا أيضاً حاكم ، كما في مثل «لا شك لكثير الشك» الحاكم على قوله «إذا شككت فابن على الأكثر». فبناءً على أن يكون المراد من الحديث نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهذا الدليل إذا أخرج فرداً من موضوع أدلّة الأحكام فهو حاكم عليها». ثم قال (قدِّس سرّه) : «إن بيان وجه الحكومة مطلقاً في المقام ، وبيان ضابطها في كل مقام على طريق الإجمال ، يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي :

إن القرينة تارة تكون قرينة للمجاز ، وأخرى للتخصيص أو التقييد ، بناءً على ما هو الحق من أن العام المخصّص أو المطلق المقيّد ليس بمجاز. والفرق بينهما أن قرينة المجاز قرينة للمراد من اللفظ ، فإن «يرمي» في قولك «رأيت أسداً يرمي» قرينة على أن المراد من «الأسد» في هذا الكلام بالدلالة التصديقية هو الرجل الشجاع. وأما المخصّص أو المقيّد فليس قرينة للمراد من اللفظ ، بل قرينة لموضوع الحكم وإن عنوان العام أو المطلق ليس تمام الموضوع ، بل جزؤه.

وعلى هذا فمراد شيخنا الأنصاري (قدِّس سرّه) من أن الحكومة هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال دليل آخر ، ليس خصوص ما كان الحاكم من قبيل قرينة المراد من اللفظ ، بأن يفسّر بكلمة «أي أو أعني» وإلّا لاختصّ بالأدلّة

٣٧٣

__________________

اللفظية ، ولا يشمل حكومة بعض الأحكام العقلية على بعض. بل مراده الأعمّ من ذلك ، فمن أقسامها ما كان أحد الدليلين ينفي ما هو المفروض موضوعاً في الدليل الآخر أو يثبت موضوعاً مثل ما فرض موضوعاً في الدليل الآخر ، كما إذا قيل «أكرم العلماء» وورد دليل على أن زيداً مع كونه عالماً ليس بعالم ، أو يدلّ على أن زيداً مع كونه جاهلاً عالمٌ.

وبالجملة غرضه من هذا البيان الفرق بين التخصيص والحكومة ، فإن ضابط التخصيص أن لا يكون في اللفظ إشعار أصلاً بالحكم الثابت في العام ، فإنّ قوله : «لا تكرم زيداً» لا تعرّض له بحسب المدلول بالحكم الثابت في جميع أفراد العلماء الشامل لزيد ، فكونه بياناً للعام إنّما هو بحكم العقل بعد العلم بصدور الخاص والعام من العاقل الملتفت ، فإنّ العقل يحكم بأن الملتفت لا يحكم واقعاً بوجوب إكرام جميع الافراد مع حكمه في فرد منها بخلاف حكمه في سائر الأفراد ، وبعد نصوصية الخاص وأظهريته من العموم في شموله له ، يحكم بأن المتكلِّم لم يقصد من العموم هذا الفرد. وضابط الحكومة : أن يكون هذا الوجه من الجمع مدلولاً لفظياً ، ولا تختص الدلالة اللفظية بأن يكون مدلول الحاكم ، وهو أردت من المحكوم هذا. حتى يكون شارحاً بلفظ «أي وأعني» ونحوهما ، فيكون كقرينة المجاز ، بل تشمل ما كان كالمقيّد والمخصّص بياناً للمراد من الحكم الواقعي ، كأغلب الحكومات ، فإن مثل قوله «لا شك لكثير الشكّ» يبيّن بنفس مدلوله اللفظي موضوع قوله «إذا شككت فابن على الأكثر» ويضيّق دائرة الموضوع.

فالفرق بين التخصيص والحكومة هو ، أن بيانية الخاص للعام إنّما هي بحكم العقل ، وبيانيّة الحاكم للمحكوم إنّما هي بنفس مدلوله ، وفرق آخر بينهما وهو أن الحكومة تتوقّف على ورود المحكوم أولاً ثم ورود الحاكم ، وذلك لأنه مسوق لبيان حكمه ومتفرّع عليه ، بخلاف التخصيص الذي هو أحد أقسام التعارض.

٣٧٤

__________________

وبالجملة لو لم يرد حكم من الشارع لا عموماً ولا خصوصاً ، فلا مجال لورود قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا حرج في الدين» و «لا ضرر في الإسلام» وهذا بخلاف مثل «لا تكرم زيداً» فإنه غير متفرّع على ورود «أكرم العلماء».

ثمّ إنّ الحكومة على أقسام ، منها : ما يتعرّض لموضوع الحكم ، كما لو قيل : بأن «زيداً ليس بعالم» بعد قوله «أكرم العلماء». ومنها : ما يتعرّض لمتعلّق الحكم الثابت في المحكوم ، كما لو قيل : إنّ الإكرام ليس بالضيافة. ومنها : ما يتعرّض لنفس الحكم كما لو قيل : بأن وجوب الإكرام ليس في مورد زيد.

ثمّ إنّ الحكومة كما توجب التضييق فقد توجب التوسعة أيضاً ، كما إذا أدخل دليل الحاكم فرداً خارجياً في موضوع المحكوم أو متعلّقه أو في حكمه. ثم إنّ جهة تقديم الحاكم وعدم ملاحظة مرجّحات الدلالة والسند واضحة ، أمّا الدلالة فلأن المحكوم إنّما هو حكم على تقدير ، والحاكم هادم لذلك التقدير ، أي ثبوت وجوب إكرام كل عالم مثلاً موقوف على فرض وجود موضوعه خارجاً ، وعلى فرض التحقّق والصدق لمتعلّقه تصوراً ، وعلى بقاء أصل الحكم واستمراره مطلقاً. فإذا دلّ دليل على إبطال هذا الفرض وإخراج موضوع عن موضوع المحكوم مثلاً ، فلا تعارض بينهما لأن الحكم على تقدير ، ولا يعقل أن يحفظ تقديره ، وهذا هو المناط في صحّة الترتّب وتقديم الأمارات على الأصول كما أوضحناه في محلّه.

ثمّ إنّ أظهر أفراد الحكومة هو التعرّض لأصل الحكم ، لأنّ هدم الموضوع أو المتعلّق يرجع بالواسطة إلى التعرّض للحكم ، وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون المراد من «لا ضرر» ما اختاره شيخنا الأنصاري ، وأن يكون المراد منه ما اختاره المحقّق الخراساني ، أي سواء قيل : بأن الحكم الضرري غير مجعول ، أو قيل : بأن الموضوع الضرري له حكم له ، إذ كلاهما على أدلّة الأحكام ، غاية الفرق أن أدلّة «لا ضرر» على مختار الشيخ شارحة لأصل الحكم ، وعلى مختاره شارحة لموضوعات الأحكام».

٣٧٥

وخلاصة ما أُفيد بالجمع بين كلمات هؤلاء الأعلام :

أن ضابط الفرق بين التخصيص والحكومة ، هو أنه إذا صدر من المولى خطابان متنافيان ، بحيث يلزم رفع اليد عن ظهور أحدهما ، فإنّه تارة لا يكون لأحدهما نظر إلى الآخر ، هنا يحكم العقل بأن المولى لم يرد ما هو الظاهر منهما معاً ، فيقدّم ما هو الأقوى ظهوراً على الآخر ، وبما أن الخاص هو الأظهر ، فيتحفّظ على ظهوره ويرفع اليد عن ظهور العام. وهذا معناه أن بيانية الخاص ليس بظهور لفظي في كونه مفسِّراً ومبيِّناً للعام ، وإنّما ذلك بلحاظ حكم العقل بلابدية أن ينزّل أحد البيانين على الآخر ، لاستحالة صدور المتضادين من الشارع.

وأخرى يكون لأحدهما نظرٌ إلى الآخر ، بحيث لو لم يكن الآخر مجعولاً أصلاً ، كان جعل هذا لغواً ، فهو حاكم على الدليل الآخر. وبتعبير آخر : يكون الدليل الحاكم بظهوره اللفظي مبيّناً وشارحاً للدليل المحكوم ، من دون أن نتقيّد ونقتصر على خصوص الكلمات الإفرادية ، بل أيّ ظهور لفظي للدليل الحاكم يكون مقيّداً للنظر ، فإنّه يحقّق الحكومة.

__________________

منية الطالب : ج ٢ ص ٢١٣ ص ٢١٥.

وقد ارتضى السيّد الخوئي (قدِّس سرّه) هذه النظرية بكاملها في الدراسات ، إلّا في نقطة واحدة حيث قال : «وبذلك ظهر أن الميزان في الحكومة ، كون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر ومتأخّراً عنه رتبة ، سواء في ذلك تأخّره عنه زماناً وعدمه ، ولا وجه لما أفاده المحقّق النائيني (قدِّس سرّه) من اعتبار التأخّر زماناً في الدليل الحاكم كما هو ظاهره.

(دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ص ٥١٦).

٣٧٦

ثمّ إنّ النظر إلى الدليل الآخر ، قد يكون مدلولاً مطابقياً للدليل الحاكم ، كما في قوله (عليه‌السلام) حينما سأله عن قوله «الفقيه لا يعيد الصلاة» قال : «إنّما ذلك في الثلاث والأربع» (١). وهذا القسم نادر جدّاً في الروايات. وقد يكون مدلولاً التزامياً له ، فهنا تارة يفرض أنه ناظر إلى عقد الوضع لذلك الحكم ، وأخرى لعقد الحمل له.

والأوّل وهو الناظر إلى عقد الوضع ، تارة يكون مضيّقاً كما في قوله : «لا ربا بين الوالد وولده» (٢) فإنّه يضيق موضوع قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(٣). وأخرى يكون موسّعاً كقوله : «الطواف في البيت صلاة» (٤) فإنه يكون موسِّعاً لقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» (٥).

والثاني وهو الناظر إلى عقد الحمل ، فإنّه يكون النظر ابتداءً إلى الحكم ، من قبيل قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(٦) فإنّه ابتداءً ناظرٌ إلى مرحلة الجعل وعالم الحكم لا عالم الموضوعات الكلية التي أنصبت عليها تلك الأحكام. والحاكم يتقدّم على المحكوم سواء كان نظره إلى عقد الوضع أو الحمل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ١٨٨ ، أبواب الخلل في الصلاة ، الباب الأوّل ، الحديث ٥.

(٢) المصدر السابق ، ج ١٨ ، ص ١٣٥ ، أبواب الربا ، الباب السابع ، الحديث ١.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٥ ، ص ٨٧ نقلاً عن : دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٥١٥.

(٥) وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٦٨ ، أبواب الوضوء ، الباب الثاني ، الحديث ٣.

(٦) المائدة : ٦.

٣٧٧

أمّا الأوّل فالوجه في تقدّمه عليه ظاهر ، لعدم وجود المعارضة بين الحاكم والمحكوم ، لأن كل دليل مثبت للحكم على تقدير وجود موضوعه ، لا يكون ناظراً إلى تحقّق موضوعه خارجاً. فإذا فرض دليل كان مدلوله نفي موضوع الآخر ، لم يكن بينهما تناف وتعارض أبداً. وإن شئت قلت : إنّ الحكم في الدليل الأوّل مجعول على نحو القضية الشرطية من دون تعرّض لتحقّق الشرط وعدمه. والثابت بالدليل الثاني انتفاء الشرط ، فينتفي الحكم بانتفاء شرطه ، فلا تنافي بينهما ، بل مقتضى الجمع اختصاص الدليل الأوّل بغير موارد الثاني. فمثلاً : لا يكون دليل حرمة الربا ناظراً إلى مورد تحقّق الربا وعدم تحقّقه ، لأن القضية الشرطية لا تتعرّض لبيان تحقّق شرطها وعدم تحقّقه ، لذا تكون صادقة حتّى مع كذب طرفيها ، ومن ثم لو ورد : «لا ربا بين الوالد وولده» فهو ينفي ما لا يثبته الأوّل ، فيتقدّم عليه لا محالة.

هنا يقول الميرزا (قدِّس سرّه) : إنّ هذه هي نكتة الجمع بين الأمر بالمهم والأمر بالأهمّ في باب الترتّب مع تضادهما ، لكون امتثال الأمر بالأهم يفني موضوع الأمر بالمهم ، لأن الأمر بالمهم متوقّف على تحقّق موضوعه وهو القدرة ، وبامتثال الأمر بالأهم يخرج المكلّف عن كونه قادراً. وبتعبير آخر : إن الأمر بالمهم معلّق على شيء ، والأمر بالأهم يفني المعلق عليه.

أما إذا كان النظر إلى عقد الحمل ، فالوجه في تقدّمه عليه ، هو الوجه في تقدّم كل دليل على الأصول اللفظية والعملية.

توضيحه : أن ثبوت الأحكام في موارد كونها حرجية مثلاً ، إنما هو بالإطلاق أو العموم ، وكلّ منهما أخذ في موضوعه الشك في المراد ، فإذا ثبت بالدليل أن الحكم الحرجي غير مجعول في الشريعة ، فيكون رافعاً للشك في

٣٧٨

المراد ويوجب العلم به ولو تعبّداً ، فيكون المراد غير هذه الحصّة الحرجية ، فيرتفع بذلك موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم (١).

والحاصل أن نظرية مدرسة الميرزا في باب الحكومة يمكن تلخيصها في :

أن الفرق بين التخصيص والحكومة هو أن القرينية في الأوّل عقلية ، وفي الثاني عرفية.

أن الدليل الحاكم إذا كان ناظراً إلى عقد الوضع في الدليل المحكوم ، فإنه لا تنافي بينهما أصلاً.

وإذا كان الحاكم ناظراً إلى عقد الحمل ، فإنه يكون رافعاً لموضوع أصالة الإطلاق في المحكوم.

إلّا أن هذا البيان لا يمكن المساعدة عليه ، أمّا :

بلحاظ القسم الأوّل وهو أن القرينية في التخصيص عقلية ، وفي الحكومة عرفية ، فغير تام ، لأن القرينية فيهما معاً عرفية ، غاية الأمر أن قرينية

__________________

(١) وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم ، وفي تقدّم كل قرينة على ظهور ذي القرينة ، ولو كان ذو القرينة أقوى ظهوراً من قرينته ، كما في قضية «رأيت أسداً يرمي» فإن ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس وإن كان وضعياً ، إلّا أنه يرفع اليد عنه بظهور «يرمي» في رمي النبل ، ولو كان بالإطلاق ، لكون ما أتى به قرينة مبيّنة للمراد.

وممّا ذكرنا يظهر أنه لو ورد دليل ظاهر في كونه وارداً لبيان الحكم الواقعي ، ثم ورد دليل آخر على أن الحكم الأوّل كان لأجل التقية قُدّم الثاني عليه ، ولا يعامل معهما معاملة المتعارضين». دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٥١٧.

٣٧٩

المخصّص بظهور عرفي سياقي ، وقرينية الحاكم بظهور عرفي لفظي (١).

توضيح ذلك : تارة نتكلّم في فرض اتصال المخصّص والحاكم ، وأخرى في فرض الانفصال. أما بلحاظ المخصص المتصل بالعام ، كما لو ورد : «أكرم كل عالم ولا تكرم النحويين» مثلاً فإن قرينية الخاص وبيانيته لما هو المراد من ذي القرينة ، ناشئة من ظهور عرفي ، بمعنى أن العرف إذا التفت إلى هذا الخطاب ، بقطع النظر عن إعمال أي حكم عقلي ، يعلم أن المراد من العام غير النحويين ، بحيث لو كان مراد المتكلِّم من العام هو العموم ومن الخاص معنى آخر غير ما هو ظاهره ، لم يكن بياناً عرفياً.

والملاك في هذه القرينية هي الظهور السياقي ، أي نسبة موقع كل جزء

__________________

(١) قال الأستاذ الشهيد في الحلقة الثالثة : «تتلخّص النظرية العامة للجمع العرفي في : أن كل ظهور للكلام حجة ما لم يعدّ المتكلِّم ظهوراً آخر لتفسيره وكشف المراد النهائي له. فإنه في هذه الحالة يكون المعوّل عقلائياً على الظهور المعدّ للتفسير وكشف المراد النهائي للمتكلّم (أي الدلالة التصديقية الثانية) بالقرينة ، ولا يشمل دليل الحجّية في هذه الحالة الظهور الآخر.

وهذا الإعداد تارة يكون شخصياً وتقوم عليه قرينة خاصة ، وأخرى يكون نوعياً ؛ بمعنى أن العرف أعدّ هذا النوع من التعبير للكشف عن المراد من ذلك النوع من التعبير وتحديد المراد منه. والظاهر من حال المتكلّم الجري على وفق الإعدادات النوعية العرفية. فمن الأول قرينية الدليل الحاكم على المحكوم ، ومن الثاني قرينية الخاص على العام».

(دروس في علم الأصول ، الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر «طاب ثراه» الحلقة الثالثة ، القسم الثاني ، ص ٣٣٣).

٣٨٠