لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

فعْل الاثنين ، فكأنّ الأوضاع الأخرى لاحظ فيها الواضع الوضع الأول ، فأصبح ذاك هو الأصل وهذا الفرع ، كما يقال في الاستعمال المجازي أنه لوحظت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، فأصبح ذاك هو الأصل وهذا الفرع.

وهذه النكتة عبارة عن التجاوز ، لأن النسبة التي يدلّ عليها «ضارب» موضوعة لفعل الاثنين ، أي أنها تتجاوز عن حدّ فاعلها وتذهب إلى شخص آخر هو عمرو مثلاً الذي شارك الفاعل في الضاربية. وهذه النكتة موجودة بشكل أو بآخر في جميع موارد استعمال هيئة «فاعَل» حتى تلك التي لا تكون فعْل الاثنين ، إلّا أنها تمتد إلى شخص آخر ، فكأنه يشابه «ضارب وقاتل» من هذه الناحية ، ف «سافر» مثلاً بمعنى السفر الطويل الممتد كما يقول بعض علماء الصرف.

فإن قلت : لماذا لا يقال : إن هيئة «فاعَل» موضوعة لهذه النكتة المشتركة بين جميع الموارد؟

قلت : لا يمكن أن تكون كذلك ، لأن هذه النكتة ليست مشتركة إلا بنحو المفهوم الاسمي ، وهو مفهوم الامتداد والتجاوز والإطالة ، وإلا فمناشئ انتزاع هذه النكتة في كل مورد تتمثّل في نسبة مباينة ذاتاً مع النسبة التي تمثلها في المورد الآخر ، لأنها معانٍ حرفيّة ، وهي متباينة ذاتاً كما هو محقّق في محله.

والإنصاف أن هذه الدعوى قريبة ، فيكون ما يقوله المشهور متطابقاً مع الوجدان والارتكاز العرفي ، وهو أن الأصل في باب المفاعلة أن يكون من فعْل الاثنين ، وتمام الموارد التي استعملت فيها هذه الهيئة لوحظت فيها نكتة ولو بنحو المعنى الاسمي مقرّبة لها إلى فعْل الاثنين. لكن الكلام في توجيهه فنّياً

١٦١

بحيث نتخلّص من المحاذير التي ذكرها المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره).

لعل أحسن ما يمكن أن يقال في تصوير هذا المدّعى ثبوتاً بنحو ينطبق على وجداننا الإثباتي هو أن «ضارب» مثلاً تنحلّ إلى أمور ثلاثة :

الأول : المادّة الأصلية وهي «الضرب» المحفوظ في ضمن المجرّد وسائر المشتقّات الأخرى.

الثاني : الألف الزائدة على المادة المحفوظة في ضمن مشتقات باب المفاعلة ، كفاعل ويفاعل ومفاعلة ونحوها.

الثالث : هيئة الفعل المجرّد ، وهي موجودة أيضاً في «ضارب» لكن لا نجدها بل هي مندكّة.

هذه الأمور الثلاثة لها دوالّ ثلاثة ، أما المادّة فهي موضوعة بالوضع الشخصي الحدثي الخاص كالضرب. والألف المحفوظة في سائر المشتقات وبها قوام هيئة المزيد ، موضوعة لنسبة ناقصة محصّصة لمدلول المادة ؛ ذلك أن الضرب تارة يراد به الفعل الصادر من الفاعل أي خصوص حركته وضربه ، وأخرى يراد به تمام العملية ، والفعل وردّ الفعل ، أي ضربه وضرب الشخص الآخر بلحاظهما عملية واحدة ، وهو معنىً يمكن أن يستعمل فيه «الضرب». فالألف الزائدة تدلّ في «ضارب» على تحصيص المادة ، فإن «الضرب» معنىً قابل لأن يراد به خصوص الفعل الصادر من زيد ، ويراد به مجموع الفعلين بما هما عملية واحدة ، وزيادة الألف تدلّ على المعنى الثاني.

وبعد التحصيص بذلك تأتي عليه هيئة المجرد المحفوظة لا بحدّها في ضمن المزيد ، فتدلّ على صدور هذه العملية وتحقّقها من قِبل الفاعل ، بعناية أن ذاك الضرب الآخر من تبعات الضرب الأوّل. فهيئة المجرد في «فاعَلَ» تدلّ

١٦٢

على انتساب مدلول المادّة بعد تحصصه بحرف الزيادة إلى الفاعل. فضارَبَ معناه أوجد هذه العملية بمجموعها من الفعل وردّ الفعل ، فيكون «عمرو» حينئذٍ مفعولاً لهذه العملية لا مفعولاً للضرب ، بمعنى أن هذه العملية التي صدرت من زيد شارك عمرو في جزء منها أيضاً. فعمرو مفعول لهذه العملية بتمامها لا أنه مفعول للجزء الأوّل منها وهو الضرب. فهنا تصوّرنا ثلاثة دوالّ وثلاثة مداليل ، بينما في «فاعَل» التي ليس لها مجرّد من قبيل «جاور» فعندنا دالّان ، فإن الشيء الذي نحصل عليه من زيادة الألف إلى المادّة هناك ، نحصّله هنا في المادة نفسها ابتداءً ، ف «جاور» موضوعة لمعنىً من هذا القبيل ، وهيئتها تعطي نفس معنى هيئة «فعَلَ».

ممّا حقّقناه تبيّن أن «فاعَل» مجمع لدوال ثلاثة : المادّة والألف والهيئة المجرّدة المحفوظة في ضمن «فاعَل». أمّا هيئة المجرّد فلا يختلف مدلولها في «فاعَل» عن مدلولها في «فعَل» ، ووظيفتها نسبة مدلول المادة إلى الفاعل ، غاية الأمر أن مدلول المادة في «فعَل» ينسب إلى الفاعل من دون تقييد ، أما في «فاعَل» فتحصص المادة بلحاظ «ألف» باب «فاعَل» فيكون المراد منها العملية بتمامها ، أي الفعل وردّ الفعل ، وبعد ذلك تأتي هيئة المجرد فتنسب هذه العملية إلى الفاعل. فالفرق بين «فعَلَ» و «فَاعَل» ليس في الهيئة الدالّة على النسبة ، بل في المادّة المنتسبة ، فإنها في الأولى لم تحصّص في المرتبة السابقة على انتسابها ، بخلافه في الثانية فإنها حُصّصت.

هذا هو التصوّر الثبوتي لمدّعي المشهور ، ويؤيّده قول المحقّقين من علماء العربية في جميع أجيالها ، مضافاً إلى مساعدة الارتكاز والوجدان من كون الأصل في باب «فاعَل» هو فعْل الاثنين مع شيء من الأصالة والتبعية.

١٦٣

وهذا الذي ذكرناه أحسن حالاً من الالتزام بأن «فاعَل» موضوعة لنسبتين طوليتين كما فهم المحقّق الأصفهاني من كلام المشهور ، فإنه يلزم منه دلالة الدالّ الواحد كما تقدّم على معنيين ، بخلافه على ما حققناه فإنه توجد دوالّ ثلاثة لها معانٍ ثلاثة ، فيكون إرادتها من باب تعدّد الدالّ والمدلول.

كما أن هذا خير من أن يقال : إن هيئة «فاعَل» موضوعة لنفس النسبة التي يفترض أنها مدلول هيئة «تفاعَل» لأنه يلزم منه عدم الفرق بين البابين ، وهو خلاف الوجدان. إذن فالفرق على ما بيّناه هو في سنخ تحصيص مدلول المادّة ، إذ أن مدلولها في «فاعَل وتفاعَل» حُصّص وأُريد به العملية بتمامها ، لكن المائز هو في سنخ ملاحظة هذه العملية ، فإنه في باب «فاعَلَ» لوحظت بنحو يكون ذات الفاعل واحداً وتابعاً له ، فتبدأ من هنا وتنتهي إلى هناك. ف «ضرْب» الثاني يكون من تبعات «ضرْب» الأوّل. أما في باب «تفاعَل» فقد لوحظت العملية ذات فاعلين ، ولوحظ الضرْبان جزئين في عرض واحد ، لا بنحو الأصالة والتبعية ، وهذا يفسّر ما يقوله المشهور من الأصالة والتبعية في الأول والعرضية في الثاني.

من هنا كانت العملية في «تفاعَل» لائقة بفاعلين في عرض واحد ، أما في «فاعَل» فيكتفى بفاعل واحد لأن جزءها الثاني لوحظ بما هو تابع للجزء الأوّل. وهذا أيضاً أولى من أن يقال : إن «فاعَلَ» تنحلّ إلى دالّين لا أكثر ، أحدهما المادّة الموضوعة للحدث ، والآخر هيئة «فاعَلَ» وهي موضوعة للنسبة المجرّدة بقيد التشريك ، بالنحو الذي بيّناه في الاعتراض على المحقّق الأصفهاني.

وكذلك هذا الذي قلناه أولى ممّا ذكرناه سابقاً من أن هيئة «فاعَل» موضوعة للنسبة التي فيها نحو من الامتداد والتجاوز ، لأن التجاوز بمفهومه

١٦٤

الاسميّ لا يمكن أن يكون مدلولاً للمعنى الحرفيّ ، وكذلك مناشئ انتزاع هذا العنوان ، لأنّها نسب متعدّدة ومتباينة ذاتاً ، فلا يمكن فرض معنىً جامع ينطبق عليها.

والحاصل : أن التحقيق هو أن الأصل في باب «فاعَلَ» هو أن يكون فعْل الاثنين بالنحو الذي بيّناه.

تطبيق النظرية على «الضرار»

بعد ذلك نأتي إلى التطبيق على كلمة «الضرار» في الحديث النبوي الشريف ، فنقول : هل أُريد منه ما هو الأصل في باب المفاعلة ، أي فعْل الاثنين ، أم لا؟

لا ينبغي أن يكون هذا هو المراد من هذه الكلمة ، لأنه لم يفرض في مورد الرواية ضرر صادر من الأنصاري بالنسبة إلى سمرة كي يفرض أن العملية ذات جزئين وينسبان بمجموعهما إلى سمرة حتى يكون من باب فعْل الاثنين. نعم غاية ما يمكن أن يقرّب به هذا المطلب ، هو : أنّه لوحظ فيه زعم سمرة وادّعائه ، حيث إنه كان يرى أن له حقّا في أن يدخل إلى نخلته متى ما شاء ، ويرى أن ممانعة الأنصاري نحو ظلم له وضرر عليه ؛ لذا اعترض على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال : أستأذن للدخول على نخلتي؟ فكأنه كان يدّعي أن الأنصاري أوقع ضرراً عليه ، فيكون «الضرار» صادقاً بلحاظ دعوى سمرة لا بلحاظ الواقع ، وبعد ضمّ الدعوى إلى الواقع ينتج فعْل الاثنين.

إلّا أن هذا التقريب غير صحيح ، لأنه لو نفع فإنّما ينفع في توجيه كلمة «مضار» التي جاءت في بعض طرق الرواية ، فإنه يمكن أن يكون الإطلاق من

١٦٥

باب التلفيق بين الدعوى والواقع ، لكنّه لا يتمّ بلحاظ قانون «لا ضرر ولا ضرار» لأن تطبيق هذه الكبرى على مورد لا بدّ أن يكون بلحاظ نظر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا بلحاظ نظر سمرة. إذن فلا يحتمل أن يراد من «الضرار» فعْل الاثنين.

نعم في النصوص التي لم ترد فيها هذه الصغرى أي «إنك رجل مضارّ» وجاء ابتداءً «لا ضرر ولا ضرار» فربما أُريد من كلمة «الضرار» فعْل الاثنين ، ولم يكن سمرة مصداقاً لها ، وإنّما هو مصداق للفقرة الأولى دون الثانية. وهذا

ممكن من حيث التطبيق ولا محذور فيه ، إلّا أنه مع هذا لا يمكن المصير إليه ، لوجود قرينة تنفي هذا الاحتمال ، كما سيأتي إن شاء الله. وبعد غضّ النظر عمّا هو الأصل في باب المفاعلة ، يدور الأمر بين احتمالات ثلاثة :

الأول : أن يكون ألف «فاعَل» في المقام قد وُضع بوضع مخصوص لتخصيص مدلول المادة ، لا لكونها فعْل الاثنين ، بل لتخصيص مدلوله بنحو آخر بحيث يجعله مشابهاً لفعل الاثنين كالشدّة والتأكّد ، فيفهم من «الضرار» شدّة الضرر أو الضرر العمدي والمتقصّد ونحو ذلك من التحصيصات التي تجعله قريباً من فعْل الاثنين ، فإن التوسّع في مدلول المادة تارة يكون بضمّ عمل إلى عمل ، وأخرى بتوسيع دائرة العمل وتعميقه كمّاً أو كيفاً.

الثاني : أن يكون ألف «ضارب» ليس زائداً بل جزءاً أصلياً من الكلمة ، فتكون موضوعة بتمامها لذاك المعنى المتقدّم في الاحتمال الأول ، مع فرق أنه هناك حصل بواسطة تعدّد الدال ، لكنه هنا نحصل عليه ابتداءً ؛ على هذا تكون كلمة «الضرار» موضوعة للضرر الشديد أو المتعمّد ، فهنا أيضاً يتردّد الأمر بين أن يكون قد طُعِّم بالشدّة والتأكّد ، أو بالتقصد والتعمّد.

١٦٦

الثالث : هو أن يكون «الضرار» مصدراً ثانياً ل «ضرّ» ، أي أن «الضرر والضرار» كليهما مصدر للفعل الثلاثي المجرّد ، كالكتْب والكتاب لكَتَبَ. هذا الاحتمال معقول في نفسه ؛ وبناءً عليه حينما يكون عندنا مصدران ، أحدهما أكثر حروفاً ، فلا بد أن يؤخذ فيه نحو من التعمّق والتأكّد والرسوخ. وهذا يلائم بحسب مناسبات الحكم والموضوع أن يراد بالضرار نحو من الرسوخ والتأكّد أو التعمّد والتقصّد ، فيرجع إلى الاحتمالات السابقة أيضاً.

وتنتهي هذه الاحتمالات الثلاثة إلى محصّل واحد ، ويكون الأمر دائراً في «الضرار» بين أن يراد به الضرر الشديد أو العمدي ، طبعاً بعد رفع اليد عن أن يكون المراد من «الضرار» في المقام المصدر غير المطعّم بأي معنىً زائد على كلمة «الضرر». كما قد يدّعى بأن «الضرار» بمعنى «الضرر» كما في المنجد وغيره من كتب اللغة ، فإنه يلزم أن يكون تأكيداً محضاً ، خصوصاً مع تكرار أداة النفي حيث لم يقل «لا ضرر وضرار» وهو خلاف الظاهر ، بل يكون لغواً.

وكذلك لا يمكن المصير إلى احتمال أن يكون المراد من «الضرار» الضرر الشديد ، لأن الظهور السياقي في «لا ضرار» الذي انعقد ببركة تأخير هذه الفقرة عن «لا ضرر» يقتضي أن يكون المنفيّ بها معطياً لمعنىً زائد ممّا استفيد من النفي في الفقرة الأولى ، وبهذا ينتفي أن يكون المراد هو الضرر الشديد ، لأنه بنفي أصل الضرر ينفى الشديد منه أيضاً.

إذن فمقتضى هذا الظهور السياقي أن يُراد من «الضرار» معنىً يفيد شيئاً إضافياً لم يكن يتكفّله نفي الضرر ، وهذا منحصر في دائرة المعاني العرفية المتعارفة لهذه الكلمة ، في تقصّد الضرر وتعمّده وإعمال العناية فيه.

١٦٧

وتحقيقه موكول إلى الأبحاث الآتية ، لكن نقول على وجه الإجمال : إن نفى الضرر عبارة عن نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، ونفي الضرار عبارة عن أن لا يستغل حكم شرعي لأن يوقع إنساناً في الضرر تمسّكاً بذلك الحكم. مثاله : لو فرض أنّ وجوب الوضوء صار ضرريّاً ، ف «لا ضرر» ترفع هذا الحكم الذي نشأ منه الضرر. لكن لو فرضنا أن حكماً شرعياً لم يكن منشأً للضرر ؛ من قبيل : «الناس مسلّطون على أموالهم» إلّا أن إنساناً حاول أن يستغلّ هذا الحكم ليضرّ به أخاه ، كما لو كان شريكاً مع شخص آخر في جوهرة ثمينة لا تقبل القسمة ، فيقول ذاك : فلنبعها ونتقاسم الثمن ، ويصرّ الآخر على عدم التقسيم مستنداً إلى قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم» فقانون السلطنة بنفسها ليست موجبة للضرر على حدّ وجوب الوضوء على المريض ، وإنما هي إرادة هذا الطرف لاستغلال هذا الحكم الشرعي بنحو يؤدّي إلى ضرر الآخر ؛ من هنا استدلّ الفقهاء عموماً على القسمة الإجبارية بقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» مع أنه لا دليل على هذه القسمة لولا الإجماع وهذه القاعدة.

ولهذا المعنى تطبيق في نفس كلمات الأئمة (عليهم‌السلام) فعن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أن البعير بريء ، فبلغ ثمنه ثمانية دنانير ، قال : فقال : «لصاحب الدرهمين خُمس ما بلغ ، فإن قال أريد الرأس والجلد ، فليس له ذلك ، هذا

١٦٨

الضرار وقد أُعطي حقّه إذا أعطي الخمس» (١). وهذا معناه أن لذاك الحق في أن يجبره على أخذ دينارين في مقابل سهمه. ولعل قوله «هذا الضرار» إشارة إلى شخص هذا الحديث الشريف ، فإنه على أي حال إشارة إلى كبرى مركوزة ومعروفة. ومن أمثلته أيضاً الموافِقة لفتاوى الفقهاء مسألة الزوجية ، وذلك فيما إذا قال الزوج : لا أطلق ولا أنفق على زوجتي ، فالزوجية بحدّ نفسها ليست مؤدّية إلى الضرر كالوضوء الضرري ، وإنما نشأ الضرر من عناد هذا الزوج ، فإنه أراد من خلال هذا الحكم الشرعي إيقاع الضرر على زوجته ، هنا أفتى جملة من الفقهاء بجواز إرجاع أمرها إلى الحاكم الشرعي ومباشرته للطلاق مع عدم إمكان إجبار الزوج على ذلك ، استناداً إلى هذه القاعدة.

وسوف يأتي تطبيقات هذا المطلب وإشكالاتها ودفع الشبهات عنها في البحوث اللاحقة إن شاء الله تعالى.

وبهذا تمّ الكلام في الفصل الثالث.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٤٩ ، الباب ٢٢ من أبواب بيع الحيوان الحديث ١.

١٦٩
١٧٠

الفصل الرابع

مفاد الهيئة التركيبية

لجملة «لا ضرر»

١٧١
١٧٢

والبحث فيه يقع على مستويين :

المستوي الأوّل : تصنيف المذاهب الفقهيّة في تفسير هذه الجملة المباركة.

المستوي الثاني : الوجوه المتصوّرة بحسب إمكانات اللغة العربية لتفسير هذه الجملة.

المستوي الأوّل : المذاهب الفقهيّة

المستخلص من الأقوال الموجودة في المقام مذاهب ثلاثة ، تعدّ الاتجاهات الفقهية الرئيسية في تفسير هذه الجملة.

الاتجاه الأوّل : نظرية الشيخ الأعظم

اختار الشيخ الأعظم (قدس‌سره) ومن تأخّر عنه كالمحقق الخراساني (قدس‌سره) أن هذه الجملة تنفي الحكم الضرري ، بمعنى أنه لم يجعل الشارع حكماً ضرريّاً. لكن هناك خلاف في هذا الاتجاه بين الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني ، في حدود هذا المعنى ، فإن الظاهر من عبارة الشيخ (١) أن «لا ضرر» تنفي الحكم الضرري ، سواء كان الضرر ناشئاً من نفس جعل الحكم ابتداءً ، كما هو الحال في جعل الحكم بصحة المعاملة الغبنيّة ، لأن جعل

__________________

(١) فرائد الأصول «الرسائل» ، ج ٢ ، ص ٥٣٤.

١٧٣

مثل هذا الحكم ضرر على المغبون ، أو كان الضرر ناشئاً من الحكم بلحاظ ما يستدعيه من الحركة على طبقه ، من قبيل وجوب الوضوء بالنسبة إلى المريض الذي يكون الوضوء ضرراً عليه ، فإن هذا الوجوب لم ينشأ منه الضرر بذاته ؛ وبتعبير آخر : أن يكون الضرر ناشئاً من متعلّقه ، وكذلك لو كان الضرر من مقدّماته.

والحاصل أن هذه الفقرة تنفي الحكم الضرري سواء كان ناشئاً بلا واسطة أو بتوسط الحركة على طبقه ، سواء كان نفس متعلّق الحكم أو مقدّماته المنتهية إليه.

أما صاحب الكفاية ومن تبعه ، فإنهم يضيّقون هذا المعنى ويقولون (١) : إن مفاد القاعدة ليس هو نفي كل حكم ينشأ منه الضرر حتى يشمل ما إذا كانت مقدّمات الوضوء ضررية أيضاً ، بل مفادها نفي الحكم للموضوع الضرري ، أي أن مثل هذا الموضوع لم يجعل له حكم. فإذا لم يكن الوضوء بنفسه ضرريّاً ، لكن كانت مقدّماته ضررية ، فلا يمكن رفع وجوب الوضوء بدعوى أنه حكم ينشأ منه الضرر. فهذا بحسب الحقيقة تضييق لما أفاده الشيخ (قدس‌سره) وقد رتّب الآخوند على هذا ثمرات سوف نعرض لها في تنبيهات القاعدة.

الاتجاه الثاني نظرية الفاضل التوني (٢) وجملة من المتأخّرين

وهو أن يكون مفادها وجوب تدارك الضرر ، لأن الضرر قد يقع غير مستند إلى الشارع ، بل يكون مستنداً إلى عمل المكلف بحسب الخارج ، كما لو أتلف مال شخص آخر ظلماً وعدواناً ، فهذا الإتلاف ضرر على المالك بلا

__________________

(١) كفاية الأصول ، ص ٣٨٢.

(٢) الوافية ، ص ٧٩ ، في شروط التمسك بأصالة البراءة ، نقلاً عن كفاية الأصول ، ص ٣٨١.

١٧٤

إشكال ، ولم ينشأ من الحكم الشرعي حتى يقال بأنه مرفوع. فهنا نثبت بالقاعدة وجوب تدارك هذا الضرر ، بمعنى أن المتلف يجب عليه تداركه وهذا مرجعه إلى الضمان.

وهذا الاتجاه فيه مسلكان :

الأول : عبارة عن جعل وجوب التدارك على من أضرّ بالغير.

الثاني : يثبت الجامع بين الأمرين ، أي بين أن لا يكون هناك حكم ضرري أو يكون لكنه متدارك ، حينئذ يكون الثابت بها معنىً ملائماً تارة مع وجوب التدارك كما في باب الإتلاف ، وأخرى مع نفي أصل الوجوب كما في الوجوب الضرري.

الاتجاه الثالث : نظرية النراقي

وهو ما ذهب إليه جماعة من المحقّقين المتقدّمين كالنراقي والمتأخّرين كشيخ الشريعة (قدس‌سرهما) ، وحاصله : استفادة حرمة الضرر منها. وربما يتراءى هذا أيضاً من بعض شرّاح الحديث لعلماء السنّة كابن الأثير وغيره.

وهذا الاتجاه أيضاً فيه مسلكان :

الأول : استفادة الحرمة التكليفية فقط.

الثاني : استفادة النهي تكليفاً ووضعاً. فالنهي التكليفي يقتضي حرمة الضرر ، والوضعي بطلان المعاملة الضررية.

١٧٥

المستوي الثاني : الوجوه المتصوّرة في استخراج

المعاني المناسبة لأحد هذه الاتجاهات الثلاثة

قبل بيان تلك الوجوه لا بدّ من الإشارة إلى مقدّمة حاصلها : أن جميع هذه المذاهب الفقهية متّفقة على أن هذه الجملة لا ينبغي أن تفهم كما تفهم أي جملة مماثلة في الظروف العادية فهماً عرفيّاً ؛ فإنه لو قيل في ظروف طبيعية بعيدة عن مجال التشريع بدل «لا ضرر» : «لا رجل في الدار» يفهم منها نفي وجود الرجل في الدار حقيقة وخارجاً. إلا أنه من الواضح أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يكن في مقام الإخبار عن عدم وجود الضرر خارجاً بالنحو الذي يفهم من هذه العبارة في ظروف طبيعية. فإن وضوح عدم مطابقة هذا المطلب للواقع وبداهة وقوع الضرر خارجاً ، هاتان الخصوصيتان ، لا تشكِّلان فقط قرينة عقلية على رفع اليد عن مثل هذا الظهور ، بل بالإضافة إلى ذلك هما كالقرينة المتصلة على أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ليس في مقام الإخبار عن ذلك ، خصوصاً مع ظهور حاله أنه في مقام التشريع ، وأنه يتكلّم بهذه الجملة بما هو مصدر للأحكام. ولعل هذا هو مراد الشيخ (قدس‌سره) حينما

١٧٦

قال : «بعد تعذّر الحقيقة» (١) أي لا ينبغي لنا أن نفهم هذه العبارة كما نفهم ما يماثلها من العبارات التي لم تنعقد فيها قرينة خاصة ، لا من ناحية المتكلّم ولا من ناحية موضوع الحكم.

إذن لا بد من إعمال عناية في المقام ، وبحسب تفاوت إعمال هذه العناية تتفاوت أنظار الفقهاء (قدّست أسرارهم) في هذه المذاهب المتقدّمة.

الوجوه المتصوّرة لتخريج اتجاه حرمة الضرر

الوجوه التي يمكن على أساسها إخراج الاتجاه الثالث أربعة :

الوجه الأوّل : أن «لا» في قوله «لا ضرر» مستعملة في نفس المعنى الذي استعملت فيه «لا» التي تدخل على الفعل المضارع وهي «لا» الناهية ، فيكون النهي مدلولاً مطابقياً استعمالياً لكلمة «لا». وهذا معناه أن الجملة تكون إنشائية محضة على حدّ إنشائية صيغة النهي في مثل قولنا : «لا تضرّ» فتكون الحرمة منشأة بهذه الصيغة على وجه الحقيقة.

الوجه الثاني : أن «لا» استعملت في النفي الإخباري بلحاظ المدلول التصوّري والتصديقي معاً ، والمقصود جدّاً الحكاية عن هذه النسبة والإخبار عنها ، فتكون الجملة إخبارية صرفة في قبال الوجه الأول.

وفي هذا الوجه لا بدّ لأصحاب هذا الاتجاه من إعمال عناية في خبر «لا»

__________________

(١) قال : «فاعلم أن المعنى بعد تعذّر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر.» فرائد الأصول «الرسائل» ، ج ٢ ، ص ٥٣٤ ، وقال في رسالته المعقودة لهذه المقاعدة «إن نفي الضرر ليس محمولاً على حقيقته ، لوجود الحقيقة في الخارج بديهة ، فلا بد من حمله على محامل». المكاسب ، ص ٣٧٢.

١٧٧

بحيث يستفاد منه الحرمة ، كأن يكون الخبر المقدّر «جائز» فيكون المنفي بحسب الحقيقة ثبوت جواز الضرر ، وهذا بنفسه إخبار عن حرمته ؛ أو يقدّر الخبر «موجود» أي لا ضرر موجود ، لكن لا يراد منه الوجود الخارجي العيني ، بل يقصد الوجود في الإسلام من قبيل «لا رهبانية في الإسلام» وهو المعبَّر عنه بالوجود الاستساغي ، كما سيأتي بيانه.

الوجه الثالث : أن يفرض أن الجملة بلحاظ مدلولها الاستعمالي والتصوّري قد استعملت في النفي الخبري ، إلّا أنه لم يقصد منها الإخبار عن هذه النسبة ، بل أُريد الكشف عمّا هو ملزوم هذه النسبة وسببها على نحو الكناية ، أي إبراز اللازم وإرادة الملزوم بتوسط المدلول الاستعمالي ، كما في بحث الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث من قبيل «يعيد ، يغتسل ، يصلّي» ونحوها ، وقد قلنا هناك إن هذه الجمل مستعملة في النسبة الخبرية ، لكنه لم يقصد المتكلّم بإظهارها الإخبار عن وقوع هذه النسبة خارجاً ، بل أراد الكشف عن ملزوم هذه النسبة أي سببها وهو تكليف المولى ؛ حيث إن المفروض أن تكليف المولى هو باعتبار قاهريته بالنسبة إلى العبد المنقاد ، فهو كالسبب التام والعلّة التامة.

فالكشف عن الإرادة بلسان الجملة الخبرية عمّا هو معلول الإرادة ، وهو كشف كنائي صحيح بحسب النظر العرفي ، من قبيل الإخبار عن كرم زيد بقولنا : «زيد كثير الرماد». وكما يصحّ هذا في الجملة الخبرية المثبتة كذلك يصحّ في الجملة الخبرية الناهية كما في المقام.

الوجه الرابع : أن يفرض أن الجملة بحسب مدلولها الاستعمالي التصوّري قد استعملت في النفي الإنشائي.

١٧٨

توضيحه : قلنا في الوجه الثالث : إن انتفاء الحرام بحسب الخارج هو من آثار الحرمة ، حيث إن الحرمة من قبل المولى سبب للامتثال خارجاً ، فيكون انتفاء الحرام وعدم وجوده من آثارها. وبهذا الاعتبار يمكن أن يُقال إن عدم الحرام خارجاً تسبيبي للشارع ، أي إنه يتسبّب إلى عدم الحرام خارجاً. فمجعوله الأوّلي تشريعاً هو الحرمة ، ومجعوله بالتسبيب والتوسيط هو عدمها خارجاً ؛ وكما أن الشارع يمكنه أن يأتي بالجملة الدالّة على الأثر وهو انتفاء الحرام إخباراً وكناية واستطراقاً للكشف عن الحرمة ، كذلك يمكنه أن يأتي بالجملة الدالة على الأثر إنشاءً ، أي يُنشئ الأثر في المقام كناية عن إنشاء ذي الأثر وهو الحرمة.

على هذا الأساس تكون الجملة إنشائية ، إلّا أنه لم ينشأ بها الحرمة حقيقة كما هو الحال في الوجه الأوّل ، بل أنشئ بها الحرمة على وجه الكناية ، لأنه إنشاء للازمها لا لنفسها ، من قبيل أن تنشئ لغيرك جواز التصرّف في مال ، وتريد بذلك تمليكه ، فهو إنشاءٌ للأثر عنواناً ، لكن المراد حقيقة وجداً هو إنشاء ذي الأثر لا إنشاء نفس الأثر وهو التصرّف ؛ فهو إنشاء للملكية بنحو الكناية لأنه استطراق إلى إنشائها بتوسط إنشاء أثرها. فالاستطراق الكنائي كما يكون بالإخبار يكون بالإنشاء أيضاً.

وهذا الوجه يتّفق مع الثالث في الكناية ، لكن المكنّى في الثالث هو الإخبار وفي الرابع هو الإنشاء ، ويختلفان عن الأولين لأنهما لم يكونا على وجه الكناية بل على وجه الحقيقة ، إما بإنشاء الحرمة حقيقة أو بالأخبار عنها كذلك.

وهناك وجوه أُخر يمكن استفادة حرمة الضرر منها أيضاً ، لكن لا بنحو الانحصار بل بنحو تكون ملائمة مع ما يدّعيه أصحاب الاتجاه الأوّل ، وسيأتي الحديث عنها.

١٧٩

الوجوه المتصوّرة لتخريج نفي الحكم الضرري

قد يتراءى بادئ الأمر أنه يصعب تطبيق هذا الاتجاه على هذه الفقرة ، باعتبار أن النفي انصبّ على كلمة «الضرر» الذي معناه هو النقص في النفس والمال والعرض ، فكيف يراد نفي الحكم المؤدّي إلى الضرر ، مع أنه انصبّ على نفس الضرر.

وفي مقام توجيه تطبيق هذه الفقرة على الاتجاه الأوّل وجدت نظريات ثلاث :

النظرية الأولى : أن النفي انصبّ على نفس الحكم المؤدّي إلى الضرر ؛ وذلك لأحد وجوه :

الأول : أن يكون على أساس المجاز في الحذف ، بأن يُراد من الضرر المنفي هو لا حكم ينشأ منه الضرر ، نظير قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) أي أهلها.

الثاني : أن يكون على أساس المجاز في الكلمة ، بمعنى أن كلمة «الضرر» استعملت في الحكم مجازاً ، من باب استعمال اللفظ الموضوع للمسبب في سببه.

الثالث : ما حقّقه الميرزا النائيني (قدس‌سره) من أن «الضرر» أُريد منه نفس الحكم حقيقة لا مجازاً ؛ وذلك من باب أن السبب هنا مصداق للمسبّب ، بمعنى أن الحكم مصداق للضرر ، تطبيقاً لقاعدةٍ كلّية مفادها (٢) : أن الأسباب التي تكون مسبباتها توليدية عنها من قبيل الإحراق بالنسبة إلى الإلقاء

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

(٢) منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

١٨٠