لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

تقدّم اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يفسّر الجزء الأكبر منها تفسيراً استقرائياً مرتبطاً بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث» (١).

وممّا تقدّم اتّضح أنّ السيد الصدر لم يهدم ما بناه المنطق الأرسطي برمّته كما قد يُتوهّم ، وإنّما أضاف طريقاً آخر لتوالد المعرفة البشرية ، وهذا ما يصرّح به في مواضع متعدّدة.

قال في مباحث الأصول : «والصحيح في دفع منشأ التشكيك للأخباري أن يقال : إنّ العقل العملي ينقسم إلى قسمين ، عقل أوّل وعقل ثان ، كما قسّموا العقل النظري إلى قسمين ، بديهي أوّلي وبرهاني ثانوي ونحن أضفنا إليهما الإدراك بحساب الاحتمالات (٢).

وقال في الأسس المنطقية في تفسير نمو المعرفة : «إنّ المعارف القبلية الأوّلية كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكّل الأساس الأوّل للمعرفة قضايا أخرى وهكذا حتّى يتكامل البناء؟

وفي هذه النقطة يختلف المذهب العقلي مع المذهب الذاتي اختلافاً أساسياً. فالمذهب العقلي لا يعترف عادة إلّا بطريقة واحدة لنموّ المعرفة وهي

طريقة التوالد الموضوعي ، بينما يرى المذهب الذاتي أنّ في الفكر طريقتين لنمو المعرفة إحداهما التوالد الموضوعي ، والأخرى التوالد الذاتي ويعتقد المذهب الذاتي بأنّ الجزء الأكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي» (٣).

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٥٠٧.

(٢) مباحث الأصول ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ٥٤٦.

(٣) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ١٣٤.

٢١

وأمّا المعطيات الأساسية التي تحقّقت من خلال هذه الدراسة فهي

أ : على مستوى الأصول العقائدية

يقول السيّد الصدر : «إنّ هذه الدراسة تبرهن على حقيقة في غاية الأهمّية من الناحية العقائدية وهي الهدف الحقيقي الذي توخّينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة ، وهذه الحقيقة هي أنّ الأسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العلمية المستمدّة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية ، التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم من طريق ما يتّصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير ، فإنّ هذا الاستدلال كأي استدلال علمي آخر استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامّة التي حدّدناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه.

فالإنسان بين أمرين فهو إمّا أن يرفض الاستدلال العلمي ككلّ ، وإمّا أن يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.

وهكذا نبرهن على أنّ العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي ، ولا يمكن من وجهة النظر المنطقية للاستقراء الفصل بينهما» (١). ومن هنا نجد أن الأستاذ الشهيد حاول في مقدّمة كتابه «الفتاوى الواضحة» تأسيس أصول العقائد من خلال نظرية الاحتمال التي انتهى إليها ، فنراه يقول بصدد إثبات الصانع الحكيم المدبّر لهذا العالم : «وسنعرض فيما يلي

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٥٠٧.

٢٢

لنمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه ، يتمثّل في كلّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية وتنظيمها عقلياً ، واستنتاج أن للكون صانعاً حكيماً من خلال ذلك. والنمط الأوّل نطلق عليه اسم الدليل العلمي (الاستقرائي). والنمط الثاني نطلق عليه اسم الدليل الفلسفي» ، ومقصوده من الدليل العلمي هو «كلّ دليل يعتمد الحسّ والتجربة ويتّبع المنهج الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات» (١)

وأمّا فيما يرتبط بنبوّة الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيقول : «كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك نثبت نبوّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالدليل العلمي الاستقرائي ، وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية» (٢).

ب : على مستوى علم الأصول

وكذلك الحال عند ما نأتي إلى الأبحاث الأصولية ، نجد أنّ من السمات الواضحة في مدرسة الشهيد الصدر هو الاعتماد في كثير من أسسها على نظرية الاحتمال ، ومن الأمثلة البارزة على ذلك أنّه أقام صرح أكثر الأبحاث المرتبطة بالحجج والأمارات والأصول العملية على أساس حساب الاحتمالات ، كالسيرة

__________________

(١) الفتاوى الواضحة وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، الطبعة السادسة ، ص ١٧.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٦١.

٢٣

والظهور والتواتر والإجماع ونحوها.

يقول السيد الشهيد : «بعد أن تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعي نريد أن نتكلّم الآن عن وسائل إثبات صدور الدليل من الشارع ، وهي على نحوين : أحدهما وسائل الإثبات الوجداني ، والآخر وسائل الإثبات التعبّدي. والمقصود بالإثبات الوجداني اليقين ، ولما كانت وسائل الإثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال كالتواتر والإجماع ونحوهما ...» (١).

وتأسيساً على ذلك نحاول هنا ذكر بعض الأمثلة لبيان الفرق بين المنهج المعروف لتحقيق تلك المسائل والمنهج الذي أسّسه السيّد الصدر ، وهي : التواتر ، والإجماع ، والشهرة.

١ ـ التواتر

ينقسم الخبر إلى خبر علمي مفيد لليقين الحقيقي أو العرفي أو الاطمئنان ، وخبر غير علمي. والأوّل أوضح مصاديقه الخبر المتواتر. وقد عُرّف الخبر المتواتر أو القضية المتواترة في المنطق الأرسطي بأنّها «اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب نتيجة كثرتهم العددية» وعند ما ندقّق في هذا التعريف نجد أنّه ينحلّ إلى صغرى وكبرى. أمّا الصغرى فهي اجتماع عدد كبير على الإخبار بقضيّة معيّنة. وأمّا الكبرى فحكم العقل الأوّلى

__________________

(١) دروس في علم الأصول ، تأليف الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر طاب ثراه ،. الطبعة الثانية ، الحلقة الثالثة ، القسم الأول ، ص ١٩٤.

٢٤

بأن كلّ عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب. وبضمّ إحداهما إلى الأخرى يستنتج على طريقة القياس حقانيّة القضية المتواترة وصدقها ، والقضية الأولى وهي الصغرى خارجية ، والثانية عقلية أوّلية وليست مستمدّة من الخارج والتجربة.

ومن هنا جعل المنطق الأرسطي القضية المتواترة إحدى القضايا الستّ الأوّلية في كتاب البرهان ؛ لأنّ كبراها عقلية أوّلية ، وإلّا فنفس القضية المتواترة بحسب التحليل قضية مستنتجة بالاستدلال القياسي الاستنباطي بحسب المصطلح الحديث ، وهي ما تكون النتيجة دائماً مستبطنة في المقدّمات وليست أكبر منها ، في قبال الاستدلال الاستقرائي الذي تكون النتيجة المتحصّلة فيه أكبر من المقدّمات. وسنخ هذا ذكره المنطق الأرسطي أيضاً في القضايا التجريبية ، والتي جعلها أيضاً إحدى القضايا الست ؛ لأنّ الكبرى القائلة" إنّ الصدقة لا تكون دائمية" مضمرة فيها.

«وقد رفض الأستاذ الشهيد في منطق الاستقراء كلّ هذه الكلمات ، فلا توجد هناك كبريات عقلية أوّلية في باب التواتر والتجربة تقتضي بامتناع التواطؤ على الكذب ، أو امتناع غلبة الصدفة كقضايا أوّلية قبلية يؤمن بها العقل ، وإنّما هذه الكبريات بأنفسها قضايا تثبت بالاستقراء والمشاهدة أي أنّها قضايا غير أوّلية ، بحيث لو قطعنا النظر عن العلم الخارجي ، ومقدار تكرّر الصدفة أو التواطؤ على الكذب فيها ، لكنّا نحتمل عقلاً تكرّر الصدفة دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير. وإنّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة لعالم الخارج ، وليس حكم عقولنا في مثل هذه القضايا كحكمه باستحالة اجتماع النقيضين كما يدّعي المنطق الأرسطي إذن فهذه قضايا تجريبية

٢٥

بنفسها ، غاية الأمر أكبر من القضايا التجريبية الخاصة في كلّ مورد مورد ، فتكون محكومة للقوانين المنطقية التي تحكم على التجربة والاستقراء ، وهي قوانين حساب الاحتمال والتوالد الموضوعي أوّلاً ؛ ثمّ قوانين المنطق الذاتي والتوالد غير الموضوعي ثانياً» (١).

«وإذا دققنا النظر وجدنا أن الكبرى التي تعتمد عليها القضايا المتواترة مردّها إلى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضية التجريبية ، لأن كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصية دعته إلى إخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبرين يعني افتراض أن مصلحة المخبر الأول في الإخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الإخفاء ، والمصلحتان معاً اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه ، وهكذا على الرغم من اختلاف ظروفهم وأحوالهم ، فهذا يعني أيضاً تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضية التجريبية والقضية المتواترة إلى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما ، واعتقد بأن القضية المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها.

ولكن الصحيح أن اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وأن الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصبّ واحد ، فأخبار كلّ مخبر قرينة احتمالية ، ومن المحتمل بطلانها لإمكان وجود مصلحة تدعو المخبر إلى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتمالية على العلية بينهما ، ومن المحتمل بطلانها أي القرينة لإمكان افتراض وجود علّة

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٣٢٧ ، بتصرف.

٢٦

أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية ، غير أنها اقترنت بالحادثة الأولى صدفة ، فإذا تكرّر الخبر أو الاقتران تعدّدت القرائن الاحتمالية ، وازداد احتمال القضية المتواترة أو التجريبية ، وتناقص احتمال نقيضها حتى يصبح قريباً من الصفر جدّاً ، فيزول تلقائياً لضآلته الشديدة» (١).

وهنا قد يقال : إنّ تناقص احتمال النقيض لا يجعله صفراً ، وهذا ما صرّح به السيد الصدر ، فكيف يصل الإنسان إلى اليقين مع وجود احتمال النقيض ولو بنحو الكسر الضئيل؟

وقد أجاب السيد الصدر عن ذلك بأنّ هناك مصادرة يفترضها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية لا ترتبط بالواقع الموضوعي ، ولا تتحدّث عن حقيقة من حقائق العالم الخارجي ، وإنما ترتبط بالمعرفة البشرية نفسها ، ويمكن تلخيص المصادرة كما يلي :

«كلّما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة ، فإنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحوّل ضمن شروط معيّنة إلى يقين. فكأن المعرفة البشرية مصمَّمة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدّاً ، فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة ، وهذا يعني : تحوّل هذه القيمة إلى يقين ، وليس فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة نتيجة لتدخّل عوامل بالإمكان التغلّب عليها والتحرّر منها ، بل إنّ المصادرة تفترض أن فناء القيمة الصغيرة وتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين يفرضه التحرك الطبيعي

__________________

(١) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ١٩٩.

٢٧

للمعرفة البشرية ، نتيجة لتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد بحيث لا يمكن تفاديه والتحرّر منه ، كما لا يمكن التحرّر من أي درجة من الدرجات البديهية للتصديق المعطاة بصورة مباشرة ، إلّا في حالات الانحراف الفكري» (١).

ومنه يتضح وجه زوال ذلك الكسر الضئيل والانتقال إلى اليقين.

إلى هنا اتضح أنّ القضية المتواترة والتجريبية لا تستند إلى قضايا قبلية أولية كما يعتقد المنطق الأرسطي وإنّما هي قضايا غير أوّلية ، وقد برهن الأستاذ الشهيد على هذه الدعوى ببراهين عديدة نقتصر هنا على واحد منها هو :

«نجد أن حصول اليقين بالقضية المتواترة والتجريبية يرتبط بكل ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها ، فكلّما كانت كلّ قرينة احتمالية أقوى وأوضح كان حصول اليقين من تجمع القرائن الاحتمالية أسرع. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن مفردات التواتر إذا كانت إخباراتٍ يبعد في كلّ واحد منها احتمال الاستناد إلى مصلحة شخصية تدعو إلى الإخبار بصورة معينة ، إما لوثاقة المخبر أو لظروف خارجية ، حصل اليقين بسببها بصورة أسرع ، وكذلك الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ، وليس ذلك إلّا لأنّ اليقين في المتواترات والتجريبيات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية المتعدّدة في مصبّ واحد ، وليس مشتقاً من قضية عقلية أولية كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق» (٢).

وإلّا لو كانت هذه القضايا كما يدّعيه المنطق الأرسطي لما كان هناك أي

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٣٦٨.

(٢) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ص ٢٠١.

٢٨

تأثير لزيادة عدد المخبرين وقلّتهم أو وثاقتهم وعدم ذلك ، كما لا نجد ذلك في القضايا العقلية الأوّلية كقضية اجتماع النقيضين ممتنع فإنها لا تزداد رسوخاً كلما ازدادت الأمثلة والمصاديق لها.

ويترتّب على هذا الفارق المنهجي بين التفسيرين للقضية المتواترة وغيرها ، أنّه على المنهج الموروث في المنطق الأرسطي يستحيل الانفكاك عقلاً بين القضية المتواترة وصدقها ، فالملازمة بينهما عقلية كالملازمة الموجودة بين الزوجية والأربعة ، وهذا بخلافه في المنهج الاستقرائي فإنّه لا ملازمة عقلية بين القضية المتواترة وصدقها ، ومن ثم فيمكن عقلاً الانفكاك بينهما وإن لم يقع ذلك خارجاً كما يقوله هذا الاتجاه ، وذلك لأن «كلّ خبر خبر في القضية المتواترة يحتمل نشوؤه من مناشئ محفوظة حتى مع كذب القضية ، فلا ملازمة عقلية كما بُرهن على ذلك في كتاب الأسس المنطقية ، وإنّما الاستكشاف مبني على أسس الدليل الاستقرائي المبتني على أساس حساب الاحتمالات» (١).

قال السيد الصدر : «والصحيح أنه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية المتواترة ، وهذا لا ينفي أننا نعلم بالقضية القائلة" كلّ قضية ثبت تواترها فهي ثابتة" لأن العلم بأن المحمول لا ينفك عن الموضوع غير العلم بأنه لا يمكن أن ينفك عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الأول على أساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضآلته لا لقيام برهان على امتناع محتملة عقلاً» (٢).

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٣٠٩.

(٢) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ٢١٢.

٢٩

٢ الإجماع

قُسم الإجماع في كلمات الأصوليين إلى أقسام :

منها المحصّل والمنقول. ومنها البسيط والمركّب.

ومقصودهم من التقسيم الأوّل :

أالإجماع المحصّل : هو الذي يحصّل الفقيه العلم به عن طريق الحسّ والتتبّع ، لا عن طريق النقل والسماع.

ب الإجماع المنقول : وهو نقل الإجماع المحصّل مروياً إلى الآخرين بلسان فقيه أو أكثر ، فإذا نقله إلى الآخرين الذين لم يحصّلوه كان الإجماع منقولاً بالنسبة إليهم بخبر الواحد» (١).

ويقسم الإجماع إلى بسيط ومركب :

أالإجماع البسيط : هو الاتفاق على رأي معيّن في المسألة.

ب الإجماع المركّب : هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتاً بالإجماع المركّب» (٢).

والحديث هنا إنّما هو عن الإجماع المحصّل البسيط.

فنقول : اختلفت كلمات الأصوليين حول حجّية مثل هذا الإجماع على مسالك متعدّدة.

المسلك الأوّل : هو المنسوب إلى بعض الأقدمين من أصحابنا ؛ ومن جملتهم

__________________

(١) علم أصول الفقه في ثوبه الجديد ، محمد جواد مغنية ، انتشارات ذو الفقار ، إيران ، قم ، الطبعة الثانية ، ص ٢٢٧.

(٢) الحلقة الثالثة، مصدر سابق ، ج ١ ص ٢١٩

٣٠

الشيخ الطوسي ، ويبتني على أساس قاعدة اللطف ، ومؤدّى هذا المسلك هو حكم العقل بلزوم تدخّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ.

المسلك الثاني : هو قيام دليل شرعي على حجّية الاجتماع ولزوم التعبّد بمفاده كما قام على حجّية خبر الثقة والتعبّد بمفاده. وبناءً على هذا المسلك فحجّية الإجماع من باب الأمارات المنطقية التي قد تخالف الواقع.

المسلك الثالث : هو الذي يقوم على أساس إخبار المعصوم وشهادته بأن الإجماع لا يخالف الواقع ، كما في الحديث المدّعى «لا تجتمع أمّتي على خطأ» ونحوه. وبناءً على هذا الوجه فالإجماع كاشف عن الحكم الواقعي.

المسلك الرابع : هو إثبات حجّية الإجماع بلحاظ مدركات العقل النظري. وبيانه : «أن الأصوليين قسّموا الملازمة كما نلاحظ في الكفاية وغيرها إلى ثلاثة أقسام ، ثم بحثوا عن تحقّق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي ، وهي الملازمة العقلية والعادية والاتفاقية ومثّلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه ، وللثانية بين اتفاق المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم ، وللثالثة بين الخبر المستفيض وصدقه» (١).

هذه هي أهم المسالك الموجودة في حجّية الإجماع ، إلّا أن السيد الشهيد رفض جميع هذه الوجوه والاستدلالات وآمن بحجية الإجماع في موارد الحجّية على أساس آخر ، وتقوم تلك الفكرة في تفسير كشف الإجماع على أساس حساب الاحتمالات ، وذلك من خلال «أنّ الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة ، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد

__________________

(١) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ص ٢١١.

٣١

يحتمل فيه الإصابة والخطأ معاً ، وبقدر احتمال الإصابة يشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الاحتمالية لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة تتحوّل بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف» (١).

فهنا وإن كان احتمال الخطأ في فتوى كلّ فقيه وارداً «إلّا أنّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعين ، وإجراء حسابات الاحتمال فيها عن طريق ضرب احتمالات الخطأ بعضها بالبعض ، نصل إلى مرتبة القطع والاطمئنان على أقل تقدير بعدم خطئها جميعاً وهو حجّة على كلّ حال».

ومنه يتضح «أن روح الكاشفية وملاكها في كلّ من التواتر والإجماع وإن كان واحداً إلّا أن هناك نقاط ضعف عديدة في الإجماع توجب بطء حصول اليقين منه ، بل وعدم حصوله في كثير من الأحيان غير موجودة في التواتر» (٢).

وبالالتفات إلى ما تقدّم «يتبيّن ما معنى ما استقر عليه رأي المتأخّرين من الأصوليين بحسب ارتكازهم من أنّ الإجماع بالملازمة الاتفاقية يكشف عن قول المعصوم ، فإنّ هذا مدركه الفني ما ذكرناه من أنّ كاشفية الإجماع إنّما هي بنكتة حساب الاحتمالات ، وهو يتأثر بعوامل وضوابط عامة وخاصة متعدّدة ، ولهذا تختلف الإجماعات من حيث الكشف المذكور حسب اختلاف مواردها وخصائصها. كما أنه باكتشاف ضوابط الكشف الرئيسية يُقضى على الفوضى الفقهية في الاستدلال بالإجماع ، إذ قلّما يمكن تحديد وتفسير مواقف بعض

__________________

(١) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ٢١٢.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٢

الفقهاء في مجموع المسائل الفقهية حيث قد يناقش الإجماع في مسألة وقد لا يناقش في أخرى» (١).

وممّا تقدّم في بحث الإجماع يتّضح الكلام في حجية الشهرة ، وأنها أيضاً قائمة على أساس حساب الاحتمالات وتراكمها حتى يحصل اليقين أو الاطمئنان بالحكم على أساسها ، إلّا أنّ جريان حساب الاحتمالات فيها أضعف من جريانه في باب الإجماع ، لسببين :

الأوّل : قصور كمية الأقوال والفتاوى لأنّ المفروض عدم اتفاق كلّ العلماء.

الثاني : معارضتها بفتاوى غير المشهور لو كانت مخالفة ، فتكون مزاحمة مع حساب الاحتمالات في فتاوى المشهور. ولهذا يكون الغالب عدم إنتاج حساب الاحتمالات في باب الشهرة فلا تكون حجّة غالباً» (٢).

هذه هي بعض الآثار التي تركتها نظرية حساب الاحتمالات على المستوي الأصولي ، ونكتفي بهذا القدر آملين أن نوفق لاستيعاب تلك المعطيات في دراسة أدق وأوسع وأشمل.

والحاصل أنّ النتيجة المهمّة التي تؤخذ من هذه السمة البارزة في ملامح هذه المدرسة هي أنّ للمنهج دوراً فاعلاً وأساسياً في بناء المعارف العقائدية والبحوث الأصولية والفقهية ، بمعنى أن الذين يحاولون أن يكتبوا ويحققوا في هذه الأبعاد المختلفة ، عليهم أن يبيّنوا المنهج الذي يتّبعونه في تنقيح تلك المسائل ، وذلك لأن

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٣١١.

(٢) المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٣٢١.

٣٣

المناهج المتّبعة مختلفة ومتعددة ، فهناك المنهج العقلي بقسميه القياسي والاستقرائي ، والمنهج النقلي ، والمنهج الكشفي ، وغيرها ، ومن الواضح أن تطبيق أي منهج من هذه المناهج في عملية الاستنباط له آثار ومعطيات تختلف فيما لو طُبق منهج آخر.

وممّا يؤسف له أننا لا نجد ذلك واضحاً في كثير من الكتابات المعاصرة ، التي حاولت الانفتاح على مثل هذه الأبحاث ، خصوصاً العقائدية منها وأعطت وجهات نظر فيها ، بل على العكس من ذلك نجد خلطاً واضحاً في المناهج المتبعة ، ممّا يجعل التعامل مع مثل هذه الكتابات أمراً ليس سهلاً.

الخصوصية الثانية

تجذير المسائل

من المقولات الأساسية في فكر السيد الصدر ، خصوصاً على مستوى تحقيقاته في علم الأصول هو القيام بالبحث عن الجذور الأساسية التي انحدرت منها مسائل هذا العلم. وهذا ما يؤكّده في كتاباته المختلفة ، حيث إنه يعتقد أن هناك مصادر متعددة كانت تلهم الفكر الأصولي ، وتمدّه بالجديد من النظريات. فمن تلك المصادر

أوّلاً : علم الكلام

«فقد لعب دوراً مهمّاً في تموين الفكر الأصولي وإمداده ، خاصة في العصر

٣٤

الأوّل والثاني ، لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين ، حين بدأ علم الأصول يشق طريقه إلى الظهور فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه» (١).

ويمكن ذكر أمثلة لهذا الاستلهام والتي كان لها دور كبير ومؤثر في تحقيق المسائل الأصولية المختلفة ، منها :

قاعدة الحسن والقبح العقليين.

قاعدة أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية.

قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهكذا غيرها من القواعد الكلامية التي استفيد منها في تنقيح وتحقيق البحوث الأصولية.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض تلك القواعد التي كانت لها آثار واسعة وعميقة على الفكر الأصولي مثل : قاعدة قبح العقاب بلا بيان

فإن «المعروف بين محقّقي العصر الثالث عدم الخلاف في حكم العقل بالبراءة ، وجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك أنهم يدّعون البداهة في حكم العقل بقبح العقاب من المولى للعبد على تكليف غير مبيّن. وهذه القاعدة التي فُرضت أصلاً موضوعياً مع قاعدة أخرى تضايفها وهي" حسن العقاب مع البيان" هما الركنان الأساسيان اللذان قام عليهما الفكر الأصولي الحديث ، الذي وضع أسسه الوحيد البهبهاني في مباحث الأدلّة العقلية ، وهي القطع والظنّ والشك. فإنّهم بعد أن فرضوا أنّ العقل يحكم بقبح العقاب من قبل المولى بلا

__________________

(١) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٩٢.

٣٥

بيان ، وأنّ العقل يحكم بكون البيان هو المصحح لحسن العقاب ، استنتجوا من ذلك أنّ الحجّية والمنجّزية هي من الشؤون الذاتية للقطع ، ثمّ تكلّموا فيما إذا كان من الذاتيات بمعنى لوازم الوجود كالحرارة بالنسبة إلى النار ، أو لوازم الماهية كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، وكون عدم المنجزية من ذاتيات اللابيان وعدم القطع؟ ومن هنا التزموا بأنّ الظنّ حيث إنّه ليس بياناً لملائمته مع احتمال الخلاف يستحيل أن يكون حجّة بذاته. نعم يمكن أن يكون حجّة بجعل جاعل ، وإلّا لو كان حجّة بنفسه يلزم تخصيص قاعدة" قبح العقاب بلا بيان" وهو غير معقول ؛ لأنّه تخصيص في القانون العقلي. ومن جهة أخرى فإن حصول غير الذاتي بلا سبب غير ممكن أيضاً لأنّ المنجزية ليست ذاتية لغير العلم ، وتفرّع على ذلك في تفكيرهم الأصولي أنّ الأمارات مع أنها ليست إلّا ظنوناً كخبر الثقة والظواهر ونحوهما ، كيف يمكن أن تكون منجزة للواقع مع أن اللابيان ثابت وإلّا يلزم التخصيص في القانون العقلي أو ثبوت غير الذاتي بلا سبب ، وكلاهما محال؟ ومن هنا التزموا بأن الأمارات والمنجزات الشرعية قد جُعلت فيها البيانية ، فنشأت مباني جعل الطريقية والكاشفية بعرضها العريض ، والذي وصل أوج تحقيقه على يد الميرزا النائيني وغيره من المحققين ، كلّ ذلك لأجل أن يقولوا بأن منجزية الأمارة تكون من باب رفع موضوع القانون العقلي تخصصاً لا تخصيصاً ، لأنّ المولى جعل الأمارة كاشفاً تامّاً تعبّداً ، فلم يبق محذور في منجزية الواقع بها ، لأننا خرجنا من دائرة قبح العقاب بلا بيان ودخلنا في دائرة حسن العقاب مع البيان أي في دائرة حجية القطع ؛ لأنّ المفروض أن الأمارة قطع بالتعبد الشرعي.

وتفرع على هذه الأصول والمباني ما ذكر في محلّه ، من تخيّل أنّ الفرق بين

٣٦

الأمارات والأصول العملية إنّما هو في اللسان ومقام الإثبات ، وكذلك مباني الحكومة وغيرها من النتائج التي نجدها في القسم الثاني من علم الأصول. كلّ هذه النظريات منبعها وأصلها الموضوعي قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلّا أن هذا المنهج في مقام تحقيق واستكشاف حال البيان واللابيان لم يرتضه الأستاذ الشهيد من أساسه وذلك «لأن روح هاتين القاعدتين يرجع إلى شيء آخر وهو ما فرضه المشهور مفروغاً عنه وتكلّموا هنا في التنجيز وعدمه ، وكأنّهم تصوّروا أن هناك بابين لا علاقة لأحدهما بالآخر.

الأوّل : مولوية المولى وحق الطاعة له ، فهذا أمر واقعي لا نزاع فيه وهي حقيقة غير مشككة ومحدّدة لا تقبل الزيادة والنقصان.

الثاني : باب الحجّية والمنجزية ، وهذا مرتبط بالبيان والقطع وعدمهما ، ورتّبوا على ذلك هاتين القاعدتين ، ووقَعوا فيما وقَعوا فيه.

إلّا أن هذا المنهج غير صحيح ويجب أن يتغيّر من أساسه ؛ لأنّ روح البحث في القاعدتين يرجع إلى تلك المولوية التي فرضوها أمراً ثابتاً ، بل لا بدّ من القول : إنّ هذه المولوية هي أمر قابل للتشكيك والزيادة والنقصان في حدودها ، لأن المنجزية وعدمها وقبح العقاب وعدمه إنّما يدوران مدار حق الطاعة للمولى.

إذن ففي الرتبة السابقة على حجّية القطع إمّا أن نفرض أننا نتكلّم في القطع بأحكام المولى ، وإما أن نفرض أننا نتكلّم بأحكام إنسان ليس بمولى ، ونريد بالقطع تثبيت مولويته وحقّه. ومن الواضح أنّ مجرّد القطع بصدور تكليف من مثل هذا الإنسان لا يجعله مولى ، ولا يحقّق حقّ الطاعة له على شخص آخر ، وإنّما الكلام على الفرض الأوّل ، فحينئذٍ لا بدّ من ملاحظة تلك المولوية الثابتة في الدرجة السابقة المعترف بها قبل الدخول في بحث حجية القطع سعةً وضيقاً ؛

٣٧

لأنّ جوهر المولوية ودائرتها سعة وضيقاً يدور مدار حق الطاعة.

وهنا لا بد من أن يعلم أنّ البحث في أصل المولوية وهل هي ثابتة أم لا ، هو من وظائف علم الكلام ، وإنّما البحث الأصولي ينحصر في بيان سعة دائرة حق المولوية وضيقها بعد الفراغ عن ثبوتها لله سبحانه وتعالى ، ومن هنا يتضح أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترتبط صحّةً وفساداً بسعة تلك الدائرة وضيقها. فإذا قيل بأنّ دائرة حق الطاعة وسيعة فلا أساس لقاعدة البراءة العقلية ، وإلّا فلا مناص من الالتزام بها ، ولكن لا بمعنى قبح العقاب بلا بيان ، بل بمعنى قبح العقاب بلا مولوية ، فالبيان نبدّله بالمولوية ، فمثلاً لو فرضنا أنّ حقّ الطاعة للمولى لا يقتضي إلّا إطاعة تكاليفه القطعية والظنّية ، وأمّا تكاليفه المشكوكة والموهومة فليس من حقه أن نطيعه فيها ، فيقبح على المولى المعاقبة فيهما لا من باب أنه بلا بيان بل من باب أنه عقاب بلا وجود حق الطاعة له. وعليه فقاعدة" قبح العقاب بلا بيان" ليست صياغة فنية للفكرة ، بل يكون البحث في القاعدة قبل الانتهاء من تحديد حدود مولوية المولى لغواً في نفسه وخلاف الترتيب المنطقي فيها.

وحينئذٍ لا بدّ من أن يقع الكلام في أنّ المولى هل له حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة فقط ، أو يشمل ذلك حتى التكاليف المحتملة أيضاً ، هذان كلاهما معقول في نفسه ، إذ يمكن أن يفرض أن المولى له حق الطاعة في خصوص تكاليفه المعلومة ، ويمكن أن يفرض أيضاً في مطلق تكاليفه ما لم يقطع بالعدم ، ويمكن أن تفرض مرتبة متوسطة بين هذا العموم وذاك الخصوص. هذا كلّه معقول في المقام وهو تابع لتشخيص حدود المولوية وحق طاعته على العباد.

وبناءً على هذا التحليل يتّضح أنّ المشهور من المحقّقين ، الذين بنوا على

٣٨

قاعدة قبح العقاب بلا بيان غفلوا عن أن روح هذه الدعوى مرجعها إلى تحديد مولوية المولى وحق طاعته بحدود التكاليف المعلومة فقط ، وأمّا غيرها فلا حقّ له فيها على عبيده ، وحينئذٍ كيف يمكن إدراج تكليف في دائرة حق الطاعة بمجرّد جعل الطريقية له من قبل الشارع؟ فإنّ جعل الطريقية والكاشفية لا يزيد على أنّه تفنّن في مقام التعبير عن واقع ذلك المطلب الذي بيّناه.

هذا على مسلك المشهور من الأصوليين. وأمّا بناءً على المسلك الذي اختاره أستاذنا الشهيد فإنّه كان يعتقد أنّ العقل العملي كما يدرك أصل حق الطاعة للمولى الحقيقي ، كذلك يدرك حدود هذا الحق ، ويرى أنّ دائرته أوسع من التكاليف المقطوعة بل يشمل المظنونة والمشكوكة ، والمحتملة احتمالاً بنحو لا يرضى بفواتها لو كانت ثابتة في الواقع ، وهكذا يتضح أنّ الحجية والمنجزية من الشؤون الذاتية لمولوية المولى وحق طاعته ، فلو قلنا : إنّ العقل العملي يدرك تلك الدائرة الوسيعة من حق المولى لتشمل المحتملات أيضاً لكانت حجية الاحتمال عقلاً ذاتية على حدّ ذاتية الحجّية للقطع مع بعض الفوارق التي ذكرت في محلّها. وبذلك يتبيّن عدم صحّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنحو الذي تصوّره المشهور ، وبانهدامها تسقط كلّ تلك الآثار والأفكار التي ترتّبت على هذا الأصل الموضوعي المزعوم ، كما هو محقّق في مظانّه» (١).

وبهذا نصل إلى أنّ الرجوع إلى الجذور الأساسية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان أوصل الأستاذ الشهيد إلى نتيجة مخالفة تماماً لما انتهى إليه أساطين الفقه في العصر الثالث من عصور العلم ، ولم يكن الوصول إلى تلك النتيجة ميسوراً لولا

٣٩

الانفتاح على المباني الأساسية التي استمدّت منها تلك القاعدة.

وهكذا عند ما ننتهي إلى مسألة أخرى من مسائل علم الكلام وهي قاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية ، الذي هو مسلك العدلية في هذا المجال ، حيث إنّ البناء على هذا المسلك يؤدّي بنا إلى مشكلات ليست بالقليلة ، وخصوصاً على مستوى الأبحاث المعروفة في علم الأصول ببحث" الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي" التي أخذت قسطاً وافراً من أبحاث العلماء في المدرسة الأصولية الحديثة ، وتعدّدت النظريات والتحقيقات التي أوردها محققو هذا الفن عن الإشكالات والمحاذير ، التي تلزم القول بجعل الأحكام الظاهرية في مورد شك في الحكم الواقعي.

بيانه : أنّ الحكم الظاهري إذا خالف الحكم الواقعي ، فحيث إن الحكم الواقعي محفوظ بمبادئه في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك التي مؤداها : أنّ أحكام الشريعة تكليفية كانت أو وضعية تشمل في الغالب العالم بالحكم والجاهل على السواء ولا تختص بالعالم ، يلزم من جعل الحكم الظاهري محاذير متعدّدة.

توضيحه : «أنّ الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي تارة ينشأ من ناحية العقل النظري ، وأخرى ينشأ من ناحية العقل العملي.

أمّا الأوّل فبأحد بيانين :

أ : لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين ، فلو كان الحكم الظاهري مطابقاً للحكم الواقعي لزم اجتماع المثلين ، ولو كان مغايراً له لزم اجتماع الضدّين لتضاد الأحكام من حيث المبادئ.

ب : لزوم نقض الغرض وهو محال لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته ،

__________________

(١) ما قرّرناه عن الأستاذ الشهيد في مجلس الدرس.

٤٠