لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

الصغرى أو الكبرى. فالأول من قبيل نقص المال خارجاً ، كما لو حكم الشارع بأن هذا المال ليس له ، فإن هذا يعدّ حكماً ضرريّاً بلحاظ العرف الذي يرى أن هذا المال له. أما بلحاظ العرف الذي لا يرى له ذلك فلا يكون حكمه ضرريّاً. والثاني كما لو سلخت ملكيته عن المال من أول الأمر ، بأن يشرع المشرع أن زيداً لا يرث من أبيه ، هذا أيضاً يكون حكماً ضرريّاً بلحاظ نظر ذلك العرف الذي يرى أن الابن يرث مال أبيه ، فيكون حديث «لا ضرر» شاملاً لكلا النوعين ، لأنه مصداق لمفهوم الخطاب في ذلك النظر الارتكازي الممضى من قبل الشارع.

تأسيساً على ما تقدّم ، فإن كثيراً من المشكلات التي أُثيرت في المقام يمكن حلّها ، لأن «لا ضرر» بناءً على ذلك تكون بحسب الحقيقة شاملة للأحكام التأسيسية والإمضائية ، فإن الأحكام التي تشرّع بلحاظ المصاديق الواقعية التكوينية ، كتشريع عدم وجوب الوضوء باعتبار أن وجوبه ضرر خارجي ، فعدم هذا الحكم مستفاد من القاعدة بلا حاجة في مقام استنباطه منها إلى قاعدة أخرى في المرتبة السابقة لا شرعية ولا عقلائية.

هذا بالنسبة إلى بعض الأحكام ، لكن هذه القاعدة تكون إمضائية بحسب الحقيقة لا تأسيسية بالنسبة إلى بعض آخر ، لأنها تكون في مقام نفي تلك الإضرار التي ثبت في الرتبة السابقة من خلال الارتكاز العقلائي أو التشريعات القانونية وشبههما نحو استحقاق فيها ، بحيث لو لم يشرع «لا ضرر» فيها لكان تضييعاً لتلك الحقوق ؛ لذا نجد الفقهاء يستدلّون بقاعدة «لا ضرر» في باب الضمان ، باعتبار أن عدم الضمان يكون ضرريّاً ، وضرريته إنما هي في طول ارتكاز عقلائي قائم على استحقاق التعويض ، بنحو لو حكم ببراءة ذمّة

٢٢١

المتلف لكان تضييعاً لهذا الحق.

من هنا يتضح منشأ المشكلات التي وجدت في تطبيقات القاعدة ، حيث حسب بعضٌ أن حال هذه القاعدة حال سائر القواعد التي يستنبط منها أحكام تأسيسية ، من دون حاجة إلى بذل أي عناية في الرتبة السابقة. والمحقّق العراقي (قدس‌سره) الذي أدرك بذهنه الوقّاد أن هذه القاعدة تحتاج إلى متمّم ، وليست حالها حال غيرها من القواعد ، ادّعى أن هذه القاعدة معرّف ومشير إلى قواعد أخرى ثابتة في المرتبة السابقة لذا لم يستدلّ بها الفقهاء أصلاً غير الشيخ الأعظم (قدس‌سره) ومن ثم ذهب إلى أن «لا ضرر» مجرّد جمع بين قواعد أخرى سابقة ، كما أشرنا في حديث مسعدة.

إلّا أن التحقيق أن «لا ضرر» لا تحتاج أحياناً إلى بذل عناية في المرتبة السابقة لجريانها ، كاستنباط عدم وجوب الوضوء الضرري ، وأخرى تحتاج إلى ذلك بالقدر الذي بيّناه ، فتكون «لا ضرر» حينئذٍ قاعدة إمضائية لذلك الارتكاز ، فيثبت الضمان بهذه القاعدة لا بقواعد أخرى.

على هذا الأساس نأتي إلى تطبيقات القاعدة في كلمات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فمثلاً يمكن أن يقال في تطبيق «لا ضرر» على قضائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة ، أنه لم يكن بلحاظ تلك الإضرار الخارجية التي تترتّب على عدم هذا الحق أحياناً ، من حيث إن الشريك يبيع حصته على شخص ثالث مشاكس قد يضر بالشريك الآخر ، ليس من هذا الباب حتى يقال إن هذا الضرر اتفاقي نادر ، وهو قد يحصل من سائر المعاملات الأخرى أيضاً. فلا يمكن الاعتناء بمثل ذلك ، بل الضرر الناشئ في المقام إنما هو من هدر حق الشفعة الذي يقوم على أساس ارتكاز عقلائي باستحقاق الشريك لهذا الحق ،

٢٢٢

بنحو لو لم يكن له ذلك ، كأنه نحو إضرارٍ به ، وهو ضرر حقيقي لأنه نقص لحق مركوز عقلائياً ، كما تشهد بذلك الشواهد التاريخية والقانونية ؛ فإن الشفعة كانت موجودة في العصر الجاهلي ، بل في القانون الروماني أيضاً.

ومنه يُعرف تطبيق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا ضرر» على مسألة منع فضل الماء وما أشبه ذلك في الثروات العامة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه للناس عموماً لإشباع حاجاتهم بها ، فيكون منع الزائد على الحاجة منه نحو إضرار بالآخرين في طول تلك العناية التي تقدّم الكلام عنها.

ومنه يتّضح أيضاً جملة من التطبيقات في كلمات الفقهاء (قدّست أسرارهم) حيث يستدلّون على بعض الخيارات بهذه القاعدة ، كخيار الغبن وخيار تبعّض الصفقة ، خصوصاً في تبعّض الصفقة حيث إنه لو فرض وجود ضرر في المعاملة الغبنية ، فلا يوجد ضرر في مسألة تبعّض الصفقة وتبعّض الثمن تبعاً لذلك.

كلّ هذه الإشكالات نشأت من عدم الالتفات إلى أن هذه التطبيقات وما يشبهها إنما هي في طول عناية ارتكازية سابقة ، فتكون القاعدة في مقام إمضاء تلك الحقوق.

الأمر الثاني : المختار في معالجة تخصيص الأكثر

من الإشكالات الأساسية التي أُثيرت حول هذه القاعدة ، لزوم تخصيص الأكثر المستهجن. وهذه المشكلة إنما تنجم لو أخذنا بالظهور الأوّلي للكلام وجمدنا على حاقّ الإطلاقات الثابتة بهذه الجملة ، من دون تحكيم عنصر مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية لفهم النص ،

٢٢٣

فإنه يمكن أن يقال : إن هذه القاعدة تنفي كثيراً من الأحكام الفقهية الثابتة كالقصاص والديات والضرائب المالية وبعض العبادات كالحج ونحوها ، فيلزم تخصيص هذه القاعدة في الموارد المذكورة التي هي أضعاف ما يبقى فيها ، ولما كان تخصيص العام في أكثر مدلوله غير جائز ، فيتوجّه الوهن إلى العام.

إلا أن الاقتصار على مثل هذا الإطلاق غير صحيح ، لأنه حينما يقال : «لا ضرر» من ناحية الشريعة ، فهذه الإضافة المستفادة من تلك القرينة اللبية والحالية التي تقدّم الكلام عنها ، تعطي نوعاً من التخصيص والتقييد لمفاد هذه الجملة بحسب مناسبات الحكم والموضوع. فإن المركوز في الأذهان العقلائية أن من المقوّمات الأصلية للشريعة اشتمالها على قواعد وأنظمة وتشريعات تحقّق العدالة الاجتماعية للناس. ولعل هذه هي المسئولية الأساسية التي أُلقيت على عاتق الشريعة الحقّة العادلة. ومن الواضح أن تحقيق ذلك لا يمكن إلّا من خلال مجموعة من التشريعات والقوانين الفردية والاجتماعية التي تحدّد للناس ما لهم من الحقوق وما عليهم من المسئوليات والالتزامات. ولا يمكن أن يقال إن مثل هذه التحديدات الصادرة من الشارع الأقدس ضررٌ على الناس ، لما فيه من المصالح الحقيقية في الدنيا والعقبى ، وإن لم تظهر لهم جميعاً بكامل تفاصيلها وآثارها ؛ والتاريخ والتجربة الإنسانية خير شاهد على ذلك. بل الضرر أن تخلو الشريعة التي تدّعي لنفسها ضمان سعادة الإنسان ، من تلك الأحكام التي تقتصّ من الجاني وتعاقب السارق وتشغل ذمّة من أتلف مال الغير وتأخذ الحقوق المالية كالزكاة والخمس من الأغنياء للفقراء ونحوها.

على هذا الأساس ، فالضرر الذي يكون مؤدّياً إلى تحقيق تلك المصالح الاجتماعية والفردية ، لا يكون منفياً بمثل هذه العبارة ، بل المنفيّ بها هو ذلك

٢٢٤

الضرر الذي يكون خارجاً عن حريم تلك المصالح المركوزة في الأذهان العقلائية. فمناسبات الحكم والموضوع الاجتماعية ، أو ما نصطلح عليه بالفهم الاجتماعي للنص ، تقتضي في المقام أن يكون المقصود من الضرر المنفيّ غير تلك الإضرار التي يراد منها التحفظ على تلك المصالح.

بناءً على ما ذكرنا فمثل الحدود والقصاص والديات ونحوها من الأحكام الضررية وإن كانت مؤدية إلى إضرار بالنسبة إلى الأفراد حقيقة ، لكننا بلحاظ إضافتها إلى الشريعة من جهة ، ونفي عنوان الضرر عن الشريعة من جهة أخرى ، نستكشف بمناسبات الحكم والموضوع القائمة على أساس ارتكاز أن الشريعة صلاحيتها بأن تكون في مقام التحفظ على المصالح النوعية أن هذا الضرر المنفيّ لا يمكن أن يكون شاملاً لهذه الأحكام الضررية.

فهذه النكتة كافية في مقام بيان أن أكثر ما ذكر من هذه التخصيصات ليست هي في الحقيقة تخصيصاً للقاعدة ، وإنما هي خارجة تخصصاً. وما بقي من التخصيصات الأخرى ، فهي طبيعية يمكن أن تطرأ على أي قاعدة أخرى ، وليست هي بالقدر الذي تهدم ظهورها وتوجب وهنها في كونها قاعدة عامّة.

هذا هو الحل الصحيح لهذه المشكلة.

إلّا أن الشيخ الأعظم الذي أثار هذه المسألة ، أجاب عنها بنحو آخر ، حيث ذكر : أن الموارد التي خرجت عن هذه القاعدة وإن كانت كثيرة ، لكن لما كان خروجها بعنوان واحد جامع فلا يكون مستهجناً حتى لو كان الخارج أكثر من الباقي (١). نعم إذا كان الخروج من خلال عناوين متعدّدة

__________________

(١) فرائد الأصول ، ج ٢ ، ص ٥٣٧.

٢٢٥

كثيرة ، حينئذٍ يلزم منه خروج الأكثر المستهجن.

وما طرحه الشيخ (قدس‌سره) أصبح مورداً للنقض والإبرام ممن جاء بعده من الأعلام ، فذهب بعضهم إلى عدم الفرق في الاستهجان بين أن يكون الخارج بعنوان واحد أو عناوين متعدّدة ، وبعضهم كالميرزا إلى التفصيل بين القضايا الخارجية فلم يقبل دعوى الشيخ فيها (١) ، وقال بامتناع تخصيص الأكثر ولو بعنوان واحد والقضايا الحقيقية فإنه لا يمتنع ذلك.

إجابات المحقّقين عن شبهة تخصيص الأكثر

وكيفما كان الأمر فقد ذكر الأعلام أجوبة متعدّدة لحلّ هذه المشكلة :

الأوّل : جواب المحقّقَين الخراساني (٢) والأصفهاني (٣)

ذكر هذان العلمان أن المستفاد من قاعدة «لا ضرر» مانعيّة عنوان الضرر

__________________

(١) قال «قدس‌سره» «وأما التخصيص الوارد على القضايا الخارجية ، فحيث إن الأفراد لا جامع بينها فلا كبرى في البين حتى يرد التخصيص عليها ، فلا محالة يرجع إلى أداة العموم ، فلو خرج أفراد كثيرة من قوله «نهب ما في الدار» يصير التخصيص مستهجناً ، وحيث إن قاعدة «لا ضرر» من قبيل العمومات الواردة على الأفراد الخارجية فإن المنفي هو الضرر النائيني من الأحكام المجعولة في الخارج ، فكثرة الخارج أيضاً مستهجن ولو كان بعنوان واحده وبالجهلة في القضايا الخارجية لا فرق بين كثرة الإخراج وكثرة الخارج ، فما أفاده الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في المقام لا يرفع الإشكال». منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢١١.

(٢) كفاية الأصول ، ص ٣٨٢.

(٣) نهاية الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٥٢.

٢٢٦

عن شمول الحكم ، وهذا يستلزم فرض مقتضٍ لثبوت الحكم في الرتبة السابقة ليكون عنوان الضرر مانعاً عن ثبوته. والمقتضي للحكم هو العنوان الآخر الذي نريد أن نرفع الحكم عنه إذا صار ضرريّاً ، كالوضوء فإنه يقتضي الوجوب ، فإذا صار ضرريّاً يكون «لا ضرر» مانعاً من ثبوت الوجوب له. أما في المورد الذي يكون العنوان الذي نريد رفع الحكم عنه بنفسه ضرريّاً من قبيل الجهاد فإنه عنوان ضرري بنفسه ، لا أنه قد يتفق اقترانه بالضرر وقد لا يتفق في مثل ذلك لا يعقل تطبيق «لا ضرر» عليه ، لأن المفروض في «لا ضرر» أنه يتكفل مانعيّة الضرر عن ثبوت الحكم في مورد عنوان مقتضٍ للحكم. ومن الواضح أن عنوان الجهاد مثلاً لا يمكنه أن يكون مقتضياً للحكم ، لأنه ضرري ، وإلّا يلزم أن يكون الشيء مانعاً من ثبوت الحكم الذي يقتضيه ، وهو غير معقول.

إلا أن هذا الجواب غير تام ؛ لأنه يرد عليه : أن الجهاد مثلاً من العناوين التي توجد فيها حيثيتان ، حيثية تترتّب عليها مصالح مهمة اجتماعية ، وهذه هي حيثية المصلحة الواقعية فيه المقتضية لجعل حكم على أساسها كالوجوب ، وحيثية تكون منشأً للضرر المترتّب عليها مالياً أو بدنياً ونحوهما. وهذا معناه أن هذا العنوان مورد لحيثيتين متزاحمتين ، إحداهما : المصلحة ، والأخرى : الضرر ، والأولى تقتضي جعل الحكم والأخرى تمنع من ذلك. إذن فالحيثية المانعة غير الحيثية المقتضية ، وهكذا الحال في سائر العناوين التي من هذا القبيل. بناءً على هذا لا يلزم أن يكون الشيء مانعاً عن ثبوت الحكم الذي يقتضيه. نعم غاية الأمر أن الضرر يكون بنحوين ؛ تارة يكون وجوده مع المقتضي اتفاقياً نادراً كوجوب الوضوء ، وأخرى دائمياً لا ينفكّ عنه المقتضي كوجوب

٢٢٧

الجهاد ، واقتران المقتضي بالمانع دائماً معقول بحسب الخارج ، فيمكن للشارع أن يبيّن أن الحيثية الضررية ، سواء كانت ملازمة مع وجود المقتضي أم لا ، مانعة عن تأثير المقتضي. إذن لا استحالة عقلية في شمول «لا ضرر» لهذه الموارد أيضاً.

الثاني : جواب الميرزا النائيني

ذكر المحقّق النائيني (قدس‌سره) أن هذه القاعدة مخصِّصة للأحكام

الأولية بملاك النظر والحكومة (١) ، وهذا يستلزم فرض ثبوت تلك الأحكام في المرتبة السابقة ، كي يمكن نفيها بهذه القاعدة ، ولا يمكن أن يكون المنفيّ بها أصل الحكم الضرري ، وإلّا لزم الخلف ، وإنما ينحصر مفادها في نفي إطلاقات

__________________

(١) قال (قدس‌سره) : «والحق أن خروج أكثر هذه الموارد بالتخصّص ، وذلك لما أشرنا إليه ، وسيجيء إنشاء الله تعالى أن قاعدة «لا ضرر» ناظرة إلى الأحكام ومخصّصة لها بلسان الحكومة ، ولازم الحكومة أن يكون المحكوم بها حكماً لم يقتض بطبعه ضرراً ، لأنّه لو اقتضى جعله في طبعه ضرراً على العباد لموقع فيهما التعارض.

وبعبارة واضحة قاعدة نفي الضرر ترفع الحكم الذي نشأ منه الضرر بعد ما لم يكن ضرريّاً ، لا الحكم الذي بنفسه وفي طبع جعله يقتضي الضرر ، أي الضرر الطارئ ينفى بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا ضرر. فمثل وجوب الجهاد والحج والزكاة والخمس مما يقتضي نفس جعله في طبعه ضرراً ، لا يخصّص بالقاعدة. نعم لو اقتضى هذه الأحكام ضرراً زائداً على ما تقتضيه نفسها ، لكان قاعدة «لا ضرر» مخصصاً لها أيضاً ، مثلاً لو لم يكن في البلد هاشميّ أو فقير واستلزم نقل الخمس أو الزكاة إلى بلد آخر ضرراً ، فهذا يرتفع بلا ضرر ، دون أداء نفس الخمس والزكاة». منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢١١.

٢٢٨

الأحكام الضررية. على هذا فالوظيفة الأساسية للقاعدة تخصيص الحكم بغير حالة الضرر. أما الحكم الذي يكون بحسب طبعه ضرريّاً كوجوب الجهاد ونحوه فلا يمكن أن يرتفع بذلك.

والجواب أن قاعدة «لا ضرر» وإن كانت حاكمة ، إلّا أنها ناظرة إلى الشريعة ككل ، لا إلى كل حكم حكم ، وبناءً على هذا تقوم بوظيفتين ؛ إحداهما : تقييد إطلاقات الأحكام التي هي غير ضررية في نفسها ، والأخرى : نفي الأحكام الضررية عن الشريعة وبيان أنها ليست منها ، أما الشريعة فهي مفترضة وثابتة في المرتبة السابقة.

الثالث : الجواب الذي ذكره الميرزا أيضاً

ناقش الميرزا في ضررية بعض الموارد بإبراز نكات فيها ، بنحوٍ تكون خارجة تخصيصاً من القاعدة (١). فذكر في الزكاة والخمس مثلاً بأنه لا يوجد في تشريعهما ضرر لكون الفقير شريكاً مع صاحب المال ، كما لو جعل الشارع غير الولد شريكاً معه في الإرث ، فإنه لا يكون حكماً ضرريّاً. نعم لو لم يجعله شريكاً لكان أفضل. فمرجع ذلك إلى عدم النفع لا إلى حصول الضرر ، ومن ثم فهذا التشريع بمثابة جعل الفقير مثلاً شريكاً مع الغني من أوّل الأمر.

بتعبير آخر : لو فرضنا أن الشارع قد أقرّ بأن المال المغتنم والفائدة جميعاً لمالكه ، كان إيجاب دفع الخمس بعد ذلك تنقيصاً للمال وضرراً به. أما لو قلنا بأن الشارع من أول الأمر لم يملِّك صاحب المال إلّا أربعة أخماس ، فلا يكون

__________________

(١) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢١٢.

٢٢٩

دفع الباقي ضرراً عليه لأنه لم يملكه أصلاً.

ويرد عليه : أن الخمس والزكاة ملك للفقير في طول ملكية صاحب المال له ، أي بعد فرض ملكية صاحب المال ، يحكم الشارع بخروج جزء من ملكه ودخوله في ملك الفقير أو الإمام (عليه‌السلام). حينئذٍ لو قطعنا النظر عن ذاك الارتكاز الذي على أساسه تخرج هذه الأحكام عن كونها ضررية ، فلا إشكال في أن الضرر صادق في المقام.

وذكر في ضمان اليد بأنه ليس ضرراً ، لأن صاحب اليد أقدم على ذلك ،

والضرر المقدم عليه خارج عن هذه القاعدة تخصصاً كما سيأتي في تنبيهات القاعدة. هذا الكلام غير صحيح أيضاً ، لأنه يرد عليه :

أولاً : أن الضمان كثيراً ما يتحقق من دون إقدام من الضامن على الإتلاف ، كما لو لم يكن عمدياً ، أو في موارد الجهل بأن هذا المال ليس له ، في مثل ذلك لم يقدم الضامن على الضمان بوجه ، مع أنه لا إشكال في تحققه.

ثانياً : ذكر المحقّق العراقي (قدس‌سره) أنه يلزم الدور في المقام ، ببيان : أن الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان ، وثبوت الضمان فرع عدم جريان قاعدة «لا ضرر» ، وعدم الجريان فرع الإقدام على الضرر. وسيأتي التعليق على هذا الإشكال في تنبيهات القاعدة.

وذكر في مطلق الضمان والقصاص أنه من موارد تعارض الضررين ، فلا يكون مشمولاً للقاعدة.

توضيحه : أن الحكم بالضمان أو القصاص ضرري بالنسبة إلى الضامن والقاتل ، ولكن الحكم بعدم الضمان وعدم القصاص ضرري أيضاً بالنسبة إلى المضمون له وولي الدم ، فيتعارض الضرران ، والحديث لا يشمل موارد تعارض

٢٣٠

الضررين.

والجواب : أما في القصاص ، فلا بد أن يكون التعارض بلحاظ الجمع بين الضرر الخارجي والضرر العقلائي ، وذلك لأن القصاص ضرر بالنسبة إلى القاتل لأنه يقتل ، أما عدم القصاص فتصوير الضرر فيه لا بد أن يكون بلحاظ الضرر العقلائي ، لأنه بالنسبة إلى الميت لا يشكّل عدم القصاص ضرراً عليه ، وكذلك بالنسبة إلى ولي الدم. إذن فليس هناك ضرر إلّا في طول ارتكاز عقلائي مفاده أن لولي الدم حقَّ القصاص ، حينئذ لو لم يُجعل القصاص لكان ذلك تضييعاً لحق ولي الدم ، فيكون ضرراً عليه لا محالة بهذا اللحاظ.

وكذلك في باب الضمان ، فإن الضررين معاً بلحاظ ارتكاز عقلائي ، لا أنه ضرر خارجي حقيقي.

توضيحه : لو لم يجعل الضمان لكان ضرراً على المضمون له باعتبار ثبوت ارتكاز عقلائي بالتعويض في المرتبة السابقة ، فيصدق في طول هذا الارتكاز أن عدم الضمان ضرر عليه. أما أن الضمان ضرر على الضامن ، فلأنه يعني اشتغال ذمة الضامن ببذل هذا المال. ومن الواضح أن اشتغال ذمة الإنسان حتى في قبال من أتلف ماله ، ينافي تسلّط الإنسان على ذمته. وإن شئت قل : يعدّ نقصاً في براءة الذمة التي هي أمر اعتباري. وإنما يكون هذا النقص ضرراً بلحاظ ثبوت حقّ مرتكز لدى العقلاء ببراءة الذمة.

من هنا يتضح أن المقام ليس من تعارض الضررين ، لأن العقلاء إما أن يفترضوا الحق والسلطنة للضامن على ذمته ، فعند ذلك لا يحكمون بالضمان ، وإما أن يقولوا بثبوت الحق للمضمون له في البدل ، فلا يحكمون ببراءة ذمة المتلف. إذن لا يمكن الجمع بين ارتكازية الحكم بالضمان ، مع ارتكازية براءة

٢٣١

الذمة ، لأنهما متضادّان ، ومعه لا يعقل أن يكون باب الضمان من موارد تعارض الضررين.

الرابع : جواب الشيخ الأعظم (قدس‌سره) (١)

يستفاد من بعض كلمات الشيخ إجمالاً وفصّل بعد ذلك في الدراسات ـ (٢) أن الأحكام الخارجة بالتخصيص من قاعدة «لا ضرر» كانت معلومة لدى المخاطبين عند صدور هذا الكلام من النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قضيّة سمرة ، ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة.

وفيه : إن كان المقصود من هذا البيان هو أن هذه الأحكام الضررية خارجة بمخصص متّصل ، فلا يوجب كثرتها وهناً في عموم القاعدة وكلّيتها ، إذن لا بد من الوقوف على هذا المخصص ، لنرى هل بمقدوره أن يقوم بهذا الدور أم لا؟

والجواب أن المخصص المتّصل تارة يكون بنحو يشكّل ظهوراً حالياً يمكن أن يعتمد عليه المتكلّم كقرينة متصلة صارفة لأصل الظهور في الخطاب إلى معنىً آخر بنحو لا يشمل تلك الموارد من هذا العنوان ، وأخرى لا يكون كذلك ، ومعه لا يخرج المقام عن الاستهجان ، لأنه كيف يمكن أن يبيّن خطاباً عاما ويريد منه معنىً خاصّاً من دون أن ينصب قرينة عليه؟

تطبيقاً لذلك نقول : إن هذه القرينة الخارجية وهي معلومية الأحكام

__________________

(١) قال في الرسائل : «خصوصاً إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب» ج ٢ ، ص ٥٣٧.

(٢) دراسات في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٥١١.

٢٣٢

الضررية لدى المخاطبين بقاعدة «لا ضرر» إن كانت تشكّل ظهوراً حالياً اعتمد عليها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لصرف ظهور القاعدة في العموم إلى معنىً آخر لا يشمل تلك الموارد ، فلا بأس بذلك. إلا أن هذا الظهور الحالي غير موجود بالنسبة إلى هذه الجملة ، فإن ظاهر حال الدليل في المقام هو إلباسه ثوب القاعدة العامة ، ومعه لا يفيد معلومية الأحكام الضررية لدى المخاطب في استهجان المخاطبة بعموم من قبيل «لا ضرر».

وإن كان المقصود هو أن المخصص منفصل ، كما لو فُرض أن هذه الأحكام الضررية بحسب طبعها خارجة بعنوان واحد ، كأن يدّعى أن هناك علماً ضرورياً لدى المخاطبين بخروجها ، بحيث ينتزع منها عنوان واحد هو الحكم الضرري ، فهذا غير صحيح أيضاً ؛ إذ بقطع النظر عن مسألة «هل يكون خروج الأكثر بعنوان واحد مقبولاً أم مستهجناً؟» لا يوجد في المقام علم ضروري منعقد على هذا العنوان الواحد ، بل المتحقّق هو العلم بالعناوين التفصيلية حسب تلك الأبواب الفقهية المتنوعة. أما انتزاع هذا العنوان العنائي الواحد من هذه المصاديق المختلفة ، فلم يكن من المتشرعة بحسب ارتكازاتهم الأولية ، وإنما كان من المحققين بعد ذلك.

الأمر الثالث : معالجة كيفية انطباق القاعدة على قصة سمرة

يتضمّن هذا الحديث حكمين من النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

حكمه للأنصاري على سمرة.

أمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقلع النخلة ورميها إليه.

أما الحكم الأول فيقال فيه عادة : إن سلطنة سمرة على الدخول إلى نخلته

٢٣٣

بلا استئذان ، كان يؤدي إلى نوع من الضيق وهتك حرمة الأنصاري ؛ ولذا طبّق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قاعدة «لا ضرر» لنفي سلطنة سمرة على الدخول بلا استئذان ، لأن المفروض أنها أصبحت مؤدّية إلى الضرر.

وعلّق المحقّق العراقي (قدس‌سره) على هذا البيان بأن نفي سلطنة سمرة بالقاعدة خلاف الامتنان بالنسبة إليه ، وإن كان امتناناً للأنصاري. وحيث إن المستفاد من القاعدة الامتنان على الأمة ، إذن لا مجال لتطبيقها على مورد يكون خلاف الامتنان كما في المقام. من هنا افترض تصويراً آخر لبيان دليل إسقاط حق سمرة قائلاً : إنه في الحقيقة توجد في المورد سلطنتان ؛ إحداهما : لسمرة وهو حقّه في الدخول بلا استئذان ، والأخرى حق الأنصاري في حفظ عياله وحمايتهم. فوقع تزاحم بين هاتين السلطنتين ، لأن إعمال سمرة لحقّه يؤدّي إلى تضييع حق الأنصاري وبالعكس.

وعلى هذا الأساس ، فالمقام من موارد تزاحم السلطنتين ، والقاعدة فيها بقطع النظر عن حديث «لا ضرر» هو الحكم بسقوط سلطنة الأضعف. ومن المعلوم أن حق الأنصاري في حماية أهله من التعرّض لهتك حرمتهم أقوى من حق سمرة في الدخول بلا استئذان ، فيقدَّم ، كما حكم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بذلك.

والحاصل أن هذا الحكم الصادر منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لصالح الأنصاري متوقّف على أمرين ؛ الأوّل : فرض المزاحمة بين السلطنتين ، وهذا ما يثبت ب «لا ضرر» ، الثاني : تقدّم حق الأنصاري على حق سمرة ، ولا دخل ل «لا ضرر» في ذلك ، وإنما يثبت من خلال تطبيق قوانين باب التزاحم.

والتحقيق أنه لا بد من معرفة هل المقام من موارد تزاحم السلطنتين ، کی

٢٣٤

تطبق قواعد باب التزاحم أم لا؟

لتوضيح الجواب توجد في المقام صورتان :

الأولى : أن يكون حق سمرة إنما هو في إبقاء نخلته في موضعها التي هي فيه ، فيكون الدخول إلى منزل الأنصاري ليس بعنوانه مركزاً للحق والسلطنة ، بل هو مقدّمة لاستيفاء حقّه في حفظ نخلته.

الثانية : أن يفرض أن لسمرة حقّا في الدخول بعنوانه ، زائداً على حقّه في حفظ نخلته ، كما لو كان قد اشترط على الأنصاري في ضمن عقدٍ أن يدخل إلى نخلته متى شاء ، بحيث يكون الدخول بعنوانه مورداً لحقّه وسلطنته المستقلة.

وقبل بيان حكم هاتين الصورتين ، لا بد أن يعلم أن المقصود من الاستئذان الذي وقع الكلام عنه ، ليس هو توقّف دخول سمرة على إذن الأنصاري ، بحيث له أن لا يأذن بالدخول ، بل المراد هو مجرّد الإخبار والتنبيه إذا أراد الدخول عليهم ؛ حينئذ نقول :

إنه في الصورة الأولى لا تزاحم بين السلطنتين كي تطبّق قواعد باب التزاحم ، بخلافه في الثانية ، وذلك لأن متعلق الحق في الأولى هو حفظ النخلة الدخول بما هو. ومن الواضح أن هذا الحق لا يستلزم الدخول في كل آن ، بل يكفي منه ما يحقّق حفظ ذلك الحق. أما في الثانية فإن متعلّق الحق هو الدخول بعنوانه ، فيكون شاملاً لتمام أفراد عمود الزمان ؛ فلو أراد سمرة الدخول في أي وقت شاء ، ومنعَه الأنصاري لكان مفوّتاً لحقه.

ببيان آخر : نحن لا نريد أن نفرّق بين الصورتين بلحاظ دعوى أن الدخول عنوان جامع بين فردين هما الدخول الاستئذاني وغير الاستئذاني. (ففي الصورة الأولى متعلق الحق هو حفظ العذق ، وهو يتوقّف على جامع الدخول

٢٣٥

الأعم من الاستئذاني وغيره. فإذا منع الأنصاري سمرة من الدخول بلا استئذان فقد منعه من بعض أفراد المقدمة ، ولا محذور فيه ؛ لأن المفروض عدم تعلّق حقّه بتمام أفراد المقدّمة ، وإنما مصبّ حقه على ذي المقدّمة ، بخلاف الثانية فإنه ليس له أن يمنع سمرة من أي فرد من أفراد المقدّمة ، لأن المفروض تعلّق الحق بالدخول بعنوانه ، فيشمل تمام أفراد عمود الزمان) ؛ حتى يقال : إنه يمكن أن نفرض أن الحق في الصورة الثانية ثابت بالدخول بعنوان صرف الوجود ، وعلى هذا فلو منع الأنصاري بعض أفراد الدخول ، فإنه لم يمنعه من صرف الوجود ، لأنه قابل للانطباق من خلال فرد آخر.

وإنما نريد بيان هذه النكتة وهي أن الدخول في الصورة الأولى يقع مقدّمة لاستيفاء الحق ، وفي الثانية يقع بنفسه موضوعاً للحق. وعلى أساس هذا الفرق لا يكون منع سمرة من الدخول بلا استئذان في الصورة الأولى تضييعاً لحقّه في حفظ نخلته ، لأن هذا المنع لا يسدّ على سمرة باب استيفاء حقّه ؛ لأنه قادر على استيفاء هذا الحق من خلال الدخول مع الاستئذان.

وعليه فلا يقع تزاحم بين السلطنتين لتطبق قواعد باب التزاحم ، وإنما يكون المورد من تطبيقات «لا ضرر» بلحاظ إثبات أصل حق الأنصاري وحرمة الدخول إلى بيته بلا استئذان بالنحو الذي أوضحناه فيما سبق. وهذا بخلاف ما لو جعل لسمرة حقاً مستقلا في الدخول ، حينئذٍ يكون منع الأنصاري له تضييعاً لهذا الحق. فيقع التزاحم بين حقه في الدخول ولو من غير إذن الأنصاري وحقه في حفظ حرمة عياله ، فيكون من موارد باب التزاحم ، ويقدّم حق الأنصاري لأنه أقوى وأهم.

إلّا أن الكلام ، هل يمكن استفادة مثل هذه السلطنة (المستقلة للدخول

٢٣٦

بعنوانه) من الحديث أم لا؟ والجواب كما هو واضح : أنه لا يمكن استفادة ذلك.

أما الحكم الثاني ، وهو تطبيق القاعدة بالنسبة إلى أمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقلع النخلة ورميها إليه ، حيث قد يقال : «كيف يمكن تطبيق القاعدة على مثل هذا الإجراء ، حتى لو فرضنا أن عدم استئذان سمرة للدخول كان ضرريّاً ، فإنه ترتفع سلطنته على الدخول ، أما أصل حقّه في بقاء نخلته فلا وجه أن يرتفع بهذه القاعدة». فقد ذكروا في الجواب عن ذلك عدّة وجوه :

الأول : ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في رسالة «لا ضرر» حيث اعترف بالإشكال ، وقال : إن تطبيق القاعدة على المورد لا يخلو عن إشكال ؛ لأن القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك (١). ولكن ذكر أنه لا يخلّ بكون هذه الجملة قاعدة فقهية عامّة يمكن الرجوع إليها ، إذ لعل هناك عناية في التطبيق مجهولة لنا.

هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه ، لأن التطبيق لو فُرض وروده في دليل منفصل غير الدليل المتكفّل لأصل القاعدة ، لأمكن أن يقال : إن الدليل الأول انعقد له ظهور في معنىً عام فقهيّ يصلح أن يكون قاعدة في نفسه. لكن في الدليل الثاني طُبّقت القاعدة على مورد بعناية غير مفهومة لنا. فمثل هذا الغموض في التطبيق حيث إنه كان في دليل منفصل ، فإنه لا يضرّ بانعقاد

__________________

(١) قال الشیخ فی رسالته : «وفی هذه القضیة اشکال من حیث حکم النبی (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقلع العذق ، مع ان القواعد لاتقتضیه ، ونفی الضرر لایوجب ذلک». آخر المکاسب ؛ ص ٣٧٢.

٢٣٧

الظهور في الدليل الأوّل ؛ فتمسك به في المقام.

إما إذا فرض أن تطبيق القاعدة على المورد كان بدليل متّصل ، وحيث إن المفروض أن التطبيق غير مفهوم عرفاً ، بحيث لا يرى أن التطبيق ملائم مع المعنى المستفاد من الجملة ، فيكون هذا بمثابة قرينة متصلة توجب المنع من انعقاد الظهور في ذلك المعنى.

بتعبير آخر : عدم دخول المورد في العموم يكشف عن عدم إرادة ذلك المعنى الظاهر ، أو لا أقل الشك فيه ، وهذا مرجعه إلى إجمال الدليل.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني (١) (قدس‌سره) وحاصله : أننا وإن كنّا نقبل تطبيق القاعدة على الحكم الأول ، إلا أنه لا نقبل ذلك بلحاظ الحكم الثاني ، وإنما هو حكم ولائي صدر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بلحاظ ولايته في الأمور

العامة كإمام للمسلمين ، بقلع النخلة تأديباً لسمرة وقطعاً لمادة الفساد والإضرار.

هذا الجواب أيضاً لا يمكن الموافقة عليه ، لأن الظاهر من الرواية هو تطبيق القاعدة على الحكم الثاني لا الأول ؛ لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد أن أمر سمرة بالاستئذان من الأنصاري للدخول ولم يقبل ذلك منه ، ثم أراد أن يشتري منه النخلة فلم يقبل أيضاً ، قال للأنصاري «اذهب فاقلعها وارم بها

__________________

(١) قال (قدس‌سره) : «إن قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لا ضرر» ليس علة لقلع العذق بل علّة لوجوب استيذان سمرة ، وإنّما أمر الأنصاري بقلع عذقه ، لأنه بإصرار سمرة على إيقاع الضرر على الأنصاري ، قد أسقط احترام ماله ، فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقلع عذقه من باب الولاية العامة حسماً للفساد». منية الطالب ، ج ٢ ، ص ٢٠٩.

٢٣٨

إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار» إذن هو تطبيق واضح للقاعدة على الحكم الثاني.

الثالث : وهو المختار في المقام وحاصله : أن هذا الحديث الصادر عن النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ينحلّ إلى جزئين ؛ أحدهما «لا ضرر» والآخر «لا ضرار» والشبهة إنما تنشأ بناءً على توهّم أن تطبيق القاعدة على الحكم الثاني كان بلحاظ الجزء الأول ، ولكن الصحيح أن التطبيق إنما هو بلحاظ الجزء الثاني ، حيث إن بقاء النخلة في دار الأنصاري أصبح وسيلة للإضرار به ، ولم يكن بالإمكان دفع ذلك مع التحفظ على أصل النخلة ، كما سوف يأتي توضيحه مفصّلاً في فقه هذه الفقرة ، فجاز قلع النخلة تطبيقاً ل «لا ضرار».

والذي يؤيّد هذا التفسير ما ورد في بعض طرق القاعدة أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لسمرة : «إنك رجل مضارّ» أو «ما أراك يا سمرة إلّا مضاراً» كما تقدّم في الفصل الأول.

وهكذا يتّضح عدم تمامية شيء من الاعتراضات المثارة بشأن كلية هذه القاعدة وعمومها.

٢٣٩
٢٤٠