لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

فإنّ الغرض علّة غائية لما اشتمل عليه من فعل أو ترك ، والالتفات إليه يحرّك الفاعل نحو الفعل أو الترك ، فإذا التفت المولى إلى غرضه الواقعي الذي يفوت بجعل الحكم الظاهري ولم يتحرّك نحو ترك هذا الجعل كان هذا يعني انفكاك المعلول عن علّته.

أمّا الثاني : فببيان أنّ الترخيص في مقابل الأحكام الواقعية تفويت للمصلحة على العبد وإضرار به ؛ لأدائه إلى فوات ملاكات الأحكام الواقعية الناشئة عن المصالح والمفاسد ، وهذا قبيح لا يصدر من المولى الحكيم ، نعم لا استحالة في صدوره من المولى غير الحكيم ، وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين غير المربوطين بالعقل العملي ، فإنّ اجتماع المثلين أو الضدّين أو انفكاك المعلول عن العلّة محال حتى لو كان المولى غير حكيم» (١).

ولا نجازف إذا قلنا : إنّ ما ذكره أستاذنا الشهيد في حقيقة الحكم الظاهري أولاً ، وطريقة الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ثانياً ، يعدّ من أروع وأدق ما ذكر في كلمات المحقّقين في هذا المجال إلى يومنا هذا.

والحاصل أنّ هذه البحوث وغيرها توقِفنا على نتيجة أساسية مهمّة وهي : أن الأصولي ما لم يقف على الجذور الأساسية لمسائل هذا العلم وقوفاً علمياً استدلالياً فإنّه لا يمكنه تنقيح تلك المسائل ، وهذا يفتح لنا باباً جديداً ينبغي للمجتهد أن يتوفّر عليه لكي يحقّ له إبداء الرأي فيها.

__________________

(١) مباحث الأصول ، مصدر سابق ، ج ٢ ص ٢٥.

٤١

ثانياً : الفلسفة

«وهي لم تصبح مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلّا في العصر الثالث تقريباً ، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على صعيد المدرسة الشيعية بدلاً عن علم الكلام وانتشار فلسفات كبيرة ومجدّدة كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفى (١٠٥٠) من الهجرة ، فإنّ ذلك أدّى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام ، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي ، ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعدّدة» (١).

منها : مسألة تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.

توضيح ذلك : إذا أمر الشارع بشيء كقوله «صلّ» فهِمنا من أمره أنّ المطلوب طبيعة الصلاة وإيجادها في الخارج سواءً امتثلت في الفرد الأعلى أم الأدنى ، فالمهمّ الامتثال والخروج عن عهدة التكليف. وإذا نهى عن شيء كقوله «لا تكذب» فهِمنا من نهيه المطلوب مجرّد الترك لطبيعة الكذب بشتى أفراده الضار منها والنافع ، وهكذا يفهم كلّ الناس من الأمر والنهي إذا أُطلقا من غير قرينة ، ولا ينبغي الإشكال والخلاف في هذه الحقيقة بعد ثبوتها بالحسّ والوجدان.

وقال الأصوليون : أجل لا خلاف في أنّ التكليف بظاهره متعلّق بالطبيعة ، ولكن هل المطلوب أوّلاً وبالذات وفي نفس الأمر والواقع هو الفرد الخارجي الذي تصدق عليه الطبيعة ، أمّا هي فغير مطلوبة لنفسها بل كوسيلة للتعبير عن

__________________

(١) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٩٢.

٤٢

المطلوب ، أو أنّ المطلوب أوّلاً وواقعاً هو نفس الطبيعة الشاملة لكلّ فرد ، وحيث أنّ الطبيعة لا توجد إلّا بوجود أفرادها ، اعتبر الفرد كوسيلة للامتثال وكفى؟» (١).

هناك مسالك متعدّدة للجواب عن أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع أو الأفراد ، ومن بينها مسلك يُرجع البحث عن هذه المسألة إلى مسألة الوجود أو أصالة الماهية فيقول : «يتعلّق الأوامر بالأفراد إذا كان الوجود هو الأصيل ، وأمّا إذا كانت الماهية هي الأصيلة فالأوامر تتعلّق بالطبائع» (٢).

ومنها : مسألة اجتماع الأمر والنهي.

«اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وهنا قد يتساءل : هل من عاقل ينكر ويجادل في أنّ الأمر غير النهي ، والوجوب غير التحريم ، وأنهما ضدّان لا يجتمعان في شيء واحد ، وإذن فلا معنى للنقاش في جواز اجتماعهما ما دام مستحيلاً في ذاته؟

الجواب أجل ، لا عاقل ولا قائل يقول : بأنّ الشيء الواحد يسوغ الحكم عليه بالوجوب والتحريم معاً. ولكن بعد الاعتراف بهذه الحقيقة حدث الخلاف في أنّ الفاعل المختار إذا تصرّف وفعل ما يجمع بين عنوان تعلّق به الأمر وآخر تعلّق به النهي كما لو صلّى في مكان الغصب فهل فعله هذا وإيجاده العنوانين بعملية واحدة يستدعي اتحاد متعلّق الأمر ومتعلّق النهي بحيث يكون المأمور به عين المنهيّ عنه ، والمنهيّ عنه نفس المأمور به في الواقع ، حتّى نلجأ إلى

__________________

(١) علم أصول الفقه في ثوبه الجديد ، مصدر سابق ، ص ٨٠.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٣ ، ص ٥٨.

٤٣

علاج مشكلة الحكمين المتعارضين ، أو أنّ الصلاة في الغصب لا تستدعي هذا الاتحاد. بل يبقى كلّ من متعلّق الأمر ومتعلّق النهي محتفظاً باستقلاله في نظر العقل سوى أنّ المكلّف قرن بينهما وجمع شملهما بعد أن كانا متباعدين ، وعندئذ تجري عملية التزاحم بين الجارين في مقام الامتثال لا في مقام الجعل والتشريع؟» (١).

إذا اتضح ذلك نقول : حاول بعض المحقّقين أن يبني مسألة جواز الاجتماع أو امتناعه على مسألة أصالة الوجود أو الماهية ، فقال : «بناءً على أصالة الوجود وتعلّق الأمر به لا يوجد إلّا وجود واحد في مورد الاجتماع فلا يمكن الاجتماع ، وبناءً على أصالة الماهية وتعلّق الأمر بالطبيعة يجوز الاجتماع لتعدّد الماهية» (٢).

وهكذا في غيرها من المسائل الأصولية نجد بصمات هذه المسألة الأساسية في الحكمة المتعالية في الأبحاث الأصولية. ولست الآن بصدد تقييم صحّة الاستلهام من البحوث الفلسفية لتوظيفها في المسائل الأصولية ؛ لأنّ ذلك يستدعي مجالاً آخر وذلك لأنّ هناك اتجاهاً ظهر في الآونة الأخيرة في المدرسة الأصولية في حوزة قم يرفض الاستفادة من القواعد العقلية عموماً والفلسفية خصوصاً في تحقيق المسائل المرتبطة بعلم الأصول والفقه ، وعلى رأس هذا الاتجاه العلّامة الطباطبائي كما نجد ذلك واضحاً في كتاباته المختلفة (٣).

__________________

(١) علم الأصول في ثوبه الجديد ، مصدر سابق ، ص ١٢٦.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٣ ، ص ٥٨.

(٣) حاشية الكفاية ، ص ١٠ ، رسالة الاعتباريات في رسائل سبعة ، ص ١٢٣ وما بعد.

٤٤

ثالثاً : عامل الزمن

«وأعني بذلك أنّ الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلّما اتسع وازداد تجدّدت مشاكل وكلّف علم الأصول بدراستها ، فعلم الأصول يمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل ، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.

ونحاول هنا الاستعانة ببعض المسائل الأصولية لتوضيح هذا العامل.

إنّ الفكر العلمي ما إن دخل العصر الثاني حتّى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور ، ولا يتيسّر الاطّلاع المباشر على صحّتها كما كان ميسوراً في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأوّل ، فبرزت أهمية الخبر الظنّي ومشاكل حجّيته. وفرضت هذه الأهمية واتساع الحاجة إلى الأخبار الظنّية ، على الفكر العلمي أن يتوسّع في بحث تلك المشاكل ، ويعوّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرعي يدلّ على حجّيتها وإن كانت ظنّية. وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أوّل من توسّع في بحث حجّية الخبر الظنّي وإثباتها.

ولمّا دخل العلم في العصر الثالث أدّى اتساع الفاصل الزمني إلى الشكّ حتّى في مدارك حجّية الخبر ودليلها ، الذي استند إليه الشيخ في مستهلّ العصر الثاني ، فإنّ الشيخ استدلّ على حجّية الخبر الظنّي بعمل أصحاب الأئمة به ، ومن الواضح أننا كلّما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً والاطلاع على أحوالهم أكثر صعوبة ، وهكذا بدأ الأصوليون في مستهل العصر الثالث يتساءلون : هل يمكننا أن نظفر بدليل شرعي على حجّية الخبر الظنّي أو لا؟ وعلى هذا الأساس وجد في مستهل العصر الثالث اتجاه

٤٥

جديد يدّعي انسداد باب العلم ؛ لأنّ الأخبار ليست قطعية ، وانسداد باب الحجّية لأنّه لا دليل على حجّية الأخبار الظنّية ، ويدعو إلى إقامة علم الأصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد كما يدعو إلى جعل الظن بالحكم الشرعي أي ظن أساساً للعمل دون فرق بين الظنّ الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصّاً على حجّية الخبر يميّزه عن سائر الظنون» (١).

ومن المصاديق البارزة التي يؤثّر فيها عامل الزمن بشكل واضح بعض البحوث المرتبطة بمسألة حجّية الظواهر ، ومن هنا نجد أنّ الأستاذ الشهيد وجملة من المحقّقين تعرّضوا في بحوثهم الأصولية إلى مسألتين تعدّان من أركان بحث الظواهر وهما :

الأولى : الظهور الذاتي والموضوعي : وهو البحث في أنّ حجّية الظهور هل موضوعها هو الظهور الذاتي أو الظهور الموضوعي. والمقصود بالأوّل هو «الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص شخص» (٢).

وهذا الظهور قد يختلف من شخص إلى آخر عند أبناء لغة واحدة ؛ لأنّه «عبارة عمّا ينسبق إليه ذهن السامع ووعاء ذهنه ، ومن المعلوم أنّ ذهن السامع ليس وعاءً فارغاً بل هو وعاء مشحون بمختلف الخصوصيات السابقة ، والعوامل المؤثرة في المحاورات والتعايشات والتفكيرات ومقدار الاطّلاع على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أو ذاك وما إلى ذلك من أمور ، وهذه كلّها تختلف من شخص لآخر ، فالظهور الذاتي شأنه شأن الماء الذي يجري في أوعية مختلفة

__________________

(١) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٩٣.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩١.

٤٦

فيكتسب ألوانها ، إذن فالظهور الذاتي لكلّ كلام هو نتيجة اللغة زائداً المؤثرات الشخصية» (١).

وأمّا الظهور الموضوعي فهو «الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه أبناء العرف والمحاورة الذين تمّت عرفيتهم. بعبارة أخرى هي «الدلالة التصديقية النهائية التي تتعيّن للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد» (٢).

ومن الواضح أنّ هذين الظهورين قد يتطابقان وقد يختلفان «لأنّ الشخص قد يتأثّر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك ، فيحصل في ذهنه أنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللفظ.

ومن هنا يعلم أنّ الظهور الذاتي الشخصي نسبي ، مقام ثبوته عين مقام إثباته ، ولهذا قد يختلف من شخص إلى آخر ، وأمّا الظهور الموضوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة ، مقام ثبوته غير مقام إثباته ؛ لأنّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة ، وإن شئت عبّرت عنه بأنّه الظهور عند النوع من أبناء اللغة ، ومن هنا يعرف أنّه يعقل الشكّ فيه لكونه حقيقة موضوعية ثابتة قد لا يحرزها الإنسان وقد يشكّ فيها.

والظهوران قد يتطابقان كما عند الإنسان العرفي غير المتأثّر بظروفه الخاصة ، وقد يختلفان فيخطئ الظهورُ الذاتي الشخصي الظهورَ الموضوعي ،

__________________

(١) مباحث الأصول ، مصدر سابق ، ج ٢ ص ٢٤٧.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ص ٢٤٦.

٤٧

وذلك لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة ، أو لتأثره بشؤونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع أصالة الظهور هو الظهور الموضوعي لا الذاتي ؛ لأنّ حجّية الظهور بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلّم في متابعة قوانين لغته وعرفه ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاص للسامع القائم على أساس أنس شخصي وذاتي يختص به ولا يعلم به المتكلّم عادة ، وهذا واضح» (١).

وهذه المشكلة تزداد خطورة وتتفاقم تعقيداً ، عند ما تفصل الشخص الممارس لعملية الاجتهاد عن النصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة.

الثانية : أن الفاصل الزمني بين عصر صدور النصّ وعصر وصول النصّ أوجد لنا مشكلة أخرى وهي «أنّ الظهور الموضوعي الحجّة ، هل هو المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمن وصوله إلينا فيما إذا فرض اختلاف الزمانين ، كما في النصوص الشرعية بالنسبة إلينا ، فإنّ الأوضاع اللغوية بل وحتى الظهورات السياقية التركيبية قد تتغيّر وتتطوّر بمرور الزمان وإن كان ذلك بطيئاً جدّاً لأنّ اللغة وما يرتبط بها ظاهرة اجتماعية فتكون متأثّرة بطرائق الحياة الاجتماعية لا محالة» (٢).

ومن هنا فقد «يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفاً

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩١.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩٣.

٤٨

للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث» (١).

ومن الواضح أنّ موضوع الحجّية هو «الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له» (٢).«وذلك لأنّ أصالة الظهور ليست تعبّدية بل هي أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه ، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمان صدور النصّ لا التي تنشأ في المستقبل» (٣).

وتأسيساً على ذلك تنشأ عندنا مشكلة أساسية ثانية وهي الطريق لإحراز أنّ الظهور الموضوعي الذي انتهينا إليه في عصر الوصول هو نفس الظهور الموضوعي المراد للمتكلّم في عصر الصدور.

إذن هنا إشكاليتان كان لعامل الزمن مدخلية في وجودهما ، خصوصاً الثانية.

الأولى : ما هو الطريق لإحراز أنّ هذا الظهور الذي تبادر إلى ذهن المستمع هو الظهور الموضوعي لا الذاتي.

الثانية : لو تغلّبنا على الإشكالية الأولى واستطعنا إحراز الظهور الموضوعي الذي هو موضوع حجّية الظهور ، توجد مشكلة أخرى وهي أن هذا الظهور الموضوعي الذي توصّلنا إليه في عصر السماع كيف نثبت أنّه هو الظهور الموضوعي الذي أراده المتكلّم في عصر الصدور ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ

__________________

(١) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ٢٧٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩٣.

٤٩

اللغة ظاهرة اجتماعية فتكون لا محالة محكومة بقانون التغيّر والتطوّر والتكامل.

وقد حاول الأستاذ الشهيد أن يتغلّب على الإشكالية الأولى بطريقين ، نكتفي بذكر أحدهما ، قال : إنّه يمكن إحراز الظهور الموضوعي من خلال الظهور الذاتي وذلك «بملاحظة ما ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعدّدين مختلفين في ظروفهم الشخصية ، بنحو يطمئن بحساب الاحتمالات أن انسباق ذلك المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم إنّما كان بنكتة مشتركة هي قوانين المحاورة العامة لا لقرائن شخصية ؛ لأنّ هذا خلف اختلافهم في الملابسات الشخصية». (١)

وأما الإشكالية الثانية : «فقد عالجها المحقّقون من علماء الأصول بأصل عبّروا عنه بأصالة عدم النقل ، وقد يسمّونه بالاستصحاب القهقرائي ؛ لأنّه يشبه الاستصحاب ولكن مع تقدّم المشكوك على المتيقّن زماناً.

إلّا أنّه من الواضح عدم إمكان استفادة حجّيته من دليل الاستصحاب ، وإنّما هو مفاد السيرة العقلائية ، وقد اصطلح عليه الأستاذ الشهيد بأصالة الثبات في الظهورات ؛ لأنّ هذا الأصل كما أشرنا إليه لا يقتصر فيه على الأوضاع اللغوية ، بل يشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضاً» (٢).

ولا ينبغي الإشكال في انعقاد السيرة على هذا الأصل ، ولها مظهران :

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩٣.

(٢) المصدر نفسه.

٥٠

أحدهما : السيرة العقلائية : ويمكن تحصيلها في مثل ترتيب العقلاء آثار الوقف والوصية ونحوهما على النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا طبق ما يفهمه المتولي في عصره ولو كان بعيداً عن عصر الوقف.

ثانيهما : السيرة المتشرعية : ويمكن تحصيلها من ملاحظة أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) الذين كانوا يعملون بالنصوص الأوّلية من القرآن والسنّة النبوية الشريفة على ما يستظهرون منه في عرفهم وزمانهم كما كان يصنع أسلافهم ، مع أنّه كان يفصلهم عنهم زمان يقارب ثلاثة قرون وقد كانت فترة مليئة بالحوادث والمتغيّرات.

ونكتة هذه السيرة بكلا مظهريها وملاكها بحسب الحقيقة ندرة وقوع النقل والتغيير وبطئه ، بحيث إنّ كلّ إنسان بحسب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة ؛ لأنّ عمر اللغة أطول من عمر كلّ فرد ، فأدّى ذلك إلى أن كلّ فرد يرى أن التغيّر حادث على خلاف الطبع والعادة ، وحينئذٍ إمّا أن يفترض أنّ الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجروا أصالة الظهور ، أو أنّهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرّة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات. فعلى الأوّل يكون بنفسه دليلاً على حجّية أصالة الثبات شرعاً. وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرّضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجّة ، فسكوت المعصوم (عليه‌السلام) وعدم تصدّيه لإلفاتهم دليل على إمضاء هذه الطريقة ، وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام». (١)

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٩٤.

٥١

فإن قلت : إنّ هذا الثبات النسبي للغة وظواهرها وإن كان يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن ، إلّا أنّه إيحاء خادع وغير مطابق للواقع ، فكيف يمكن الاعتماد عليه؟

قلت : «إنّ هذا الإيحاء وإن كان خادعاً ولكنّه على أي حال إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتبار أنّ التغيير حالة استثنائية نادرة تنفى بالأصل ، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور تثبت شرعية أصالة عدم النقل أو أصالة الثبات. ولا يعني الإمضاء المذكور تصويب الشارع للإيحاء المذكور وإنّما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

ومن هنا فلا تجري أصالة الثبات في اللغة فيما إذا علم بأصل التغيّر في الظهور أو الوضع وشك في تاريخه هل متقدّم أو متأخّر ، لعدم انعقاد البناء العقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة. والسرّ في ذلك أنّ البناءات العقلائية إنّما تقوم على أساس حيثيات كشف عامة نوعيّة ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفاً يستند العقلاء في تبرير ذلك إلى أنّ النقل حالة استثنائية في حياة اللغة بحسب نظرهم وأمّا حيث تثبت هذه الحالة الاستثنائية فلا تبقى حيثية كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدّمها» (١). هذه بعض الموارد الأساسية التي كان لعامل الزمن دور مهمّ في وجودها والوقوف عندها ، ومن الواضح أنّ مثل هذه الأبحاث لم تكن مورد ابتلاء المعاصرين للنصّ الشرعي أو القريبين منه.

٥٢

رابعاً : العامل النفسي

يعتقد الأستاذ الشهيد أنّ جملة من القواعد الأصولية التي استحدثت في العصر الثالث من عصور العلم ، التي يمكن عدّها من السمات البارزة في هذه المرحلة إنّما نشأت من عامل نفسي كان يعيشه الفقهاء ، ولو لا تلك الحالة لما انصبّ جهدهم لتأسيس هذه القواعد التي كان لها دور كبير وعميق في تأسيس وتنقيح كثير من المسائل التي بحث عنها في الفقه والأصول معاً.

والمثال البارز لهذه الحالة هو البحث في السيرة العقلائية وما استتبع ذلك من أبحاث مفصّلة حول نكاتها وموارد جريانها ، حيث إننا عند ما نراجع كلمات السابقين على عصر الشيخ الأنصاري لا نجد مثل هذا الاهتمام بالاستدلال بالسيرة كما نجده في كلمات الشيخ الأعظم ومن تأخر عنه ؛ فلهذا يقول السيد الشهيد : ولذا نرى الاستدلال بالسيرة في ألسنة المتأخّرين عن الشيخ الأعظم كثيراً وفي لسان الشيخ قليلاً فضلاً عمّا قبل الشيخ.

أما ما هي النكتة في ذلك ، ولماذا حصل هذا التحوّل في عملية الاستدلال بالسيرة؟

يقول السيّد الصدر : إنّ الذي يظهر من كلمات جملة من الأكابر والمحقّقين أنّ هناك محذوراً لا يمكن للفقيه أن يلتزم به ، وهذا المحذور يُجعل غالباً دليلاً برأسه لإبطال كلّ دعوى تؤدّي إلى ترتّب ذلك المحذور وهو ما يعبّر عنه في كلمات القوم بأنه «يلزم منه تأسيس فقه جديد» فمثلاً يقال بأنّ التمسّك بإطلاق" لا ضرر ولا ضرار" يلزم منه تأسيس فقه جديد ، وهكذا يشكل بهذا المحذور على جملة من المدّعيات بأنّها لو تمّت لأدّت إلى هذا التالي الباطل ، فيستكشف من بطلان التالي بطلان المقدّم.

__________________

(١) الحلقة الثالثة ، مصدر سابق ج ١ ، ص ٢٧٩.

٥٣

والذي يستظهر من جملة من الكلمات أنّ هذا المحذور ليس المقصود منه أنه يلزم منه خلاف مقتضى أدلّة قطعية أخرى واضحة الدلالة وإلّا لقيل : إنّ التمسّك بإطلاق دليل" لا ضرر" أو أنّ القول بالإباحة في المعاطاة أو أنّ التمسّك بإطلاق القرعة في أخبار القرعة معارض بالأدلّة الكذائية التي تدلّ على خلاف ذلك ، وهي أقوى دلالة وأوضح سنداً ، وليس المقصود أيضاً أن ذلك المحذور هو أنّه يلزم منه خلاف الإجماع ، وإلّا لو كان هذا هو المراد لقالوا : إنّه باطل لأنّه خلاف الإجماع ، كما نجدهم يقولون ذلك في إبطال بعض المدّعيات.

ومن هنا قد يقال : إنّ الذي يظهر بعد ملاحظة قرائن ذلك وسوابقه ولواحقه وموارد تطبيقاته أنّ المقصود لهؤلاء الفقهاء من هذه العبارة حينما تستعمل في موارد مخصوصة هو التعبير عن حقيقة ثابتة في الرتبة السابقة ، وتلك الحقيقة هي أنّ هناك جملة من المسلّمات والأُطر الفقهية التي تلقيت بالقبول من قبل الفقهاء الأوائل ، وأُخذت بطريق لا نعرفه دون أن يكون عليها دليل صناعي يبرهن عليها إلّا أنّها حقائق لنا القناعة بأنها أُخذت من يد الشارع الأقدس ، ولهذا تكون هذه المسلَّمات بالنسبة إلينا جزءاً ضرورياً في الفقه ولا بدّ من الالتزام بها ، وكلّ بناء استدلالي في الفقه لا بدّ من أن يتحفّظ على هذه المسلّمات وإلّا لما كان بناءً استدلالياً كاملاً وصحيحاً.

وتأسيساً على ذلك حصلت حالة وجدانية قبلية عند الفقهاء أوجبت التفكير في أن يقام صرح علم الأصول وإطاره الاستدلالي بنحو تحفظ فيه هذه المسلمات الفقهية ولا يتجاوز عنها ، وبتعبير آخر لا بدّ من أن تكون عملية الاستنباط سواء على مستوى العناصر المشتركة أو المختصّة مقيّدة بحدود هذه المسلّمات والأُطر ، ولا يمكن أن ندخل العملية الاستنباطية متجاوزين هذه

٥٤

الدائرة.

وهذه الفكرة كأنّها كانت مرتكزة في ذهن كثير ممّن يشتغل بالفقه سواء على مستوى المدرسة الشيعية أو السنّية ، لأننا نجد أنّ مثل هذا اللازم والتالي يحكّمونه في بعض الموارد ويبطلون به بعض المدّعيات ، ومن المحتمل قويّاً أن سدّ باب الاجتهاد عند المدرسة السنّية كان تعبيراً بحسب الحقيقة لعلاج هذه الناحية في الفقه السنّي ، فإنّ هؤلاء سدّوا باب الاجتهاد خارج المذاهب الأربعة المعروفة مع فتحه داخل هذه المذاهب ، وهذا يعني أن ما اتفقت عليه كلمة المذاهب الأربعة فهو من المسلّمات ، التي لا يمكن الخروج عنها بأي نحو من الأنحاء ولا مجال للاجتهاد فيها حتى لو فرض أنه وجد شخص يعتبر نفسه من العلماء المحقّقين كالغزالي ، فإنّه مع ذلك لا يسمح لنفسه أن يجتهد فيما تسالم عليه الأئمة الأربعة ، نعم يحقّ له الاجتهاد في داخل دائرة هذه المذاهب الأربعة ، فقد يخالف فلاناً ويوافق آخر ويسمّونه بالمجتهد في المذهب ، وأمّا المجتهد في الشرع فهم خصوص الأئمة الأربعة.

طبعاً أصل فكرة التحديد من المحتمل أن تكون ناشئة بداعي علاج هذه المسلّمات والأطر الفقهية لضمان أن لا يتجاوزها فقيه بعد ذلك ، ولكن تطبيق هذه الفكرة على خصوص هذه المذاهب الأربعة دون غيرها لعلّ كثيراً من القرائن والشواهد تثبت أنّه تطبيق ناشئ من عوامل سياسية ، وإلّا لا ميزة واقعية لهؤلاء الأربعة على قرنائهم في المدرسة السنّية فضلاً عن علماء المدرسة الشيعية.

إذا اتضحت هذه المقدّمة نقول : إنّ علماء الأصول عند ما واجهوا الفقه الموجود بأيديهم ، وكانت لديهم تلك القناعة الوجدانية والحالة النفسية وهي التحفّظ على أطر ومسلمات ذلك الفقه ، صاروا بصدد إيجاد قواعد أصولية

٥٥

يمكن أن تشكّل الغطاء الاستدلالي لتلك المسلّمات الفقهية. فنشأت عندنا قواعد حجية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم ، بل تعمّقوا أكثر من هذا في مقام المحافظة على المسلّمات الفقهية فعمّموا قاعدة انجبار السند بعمل الفقهاء لتشمل انجبار الدلالة بفهمهم ، وهذا ما نجده واضحاً في بعض كلمات الشيخ الأنصاري الذي يعدّ من أركان المدرسة الأصولية الحديثة في النجف ، حيث إنّه لا يعمل بإطلاق أخبار القرعة قائلاً : إنّنا نعمل بهذه الأخبار في كلّ مورد عمل به الأصحاب ، ولا نعمل بها في كلّ مورد لم يعملوا به.

فمثل هذه القواعد الأصولية التي أسسها العلماء في علم الأصول كانت تشكّل الغطاء الصناعي والعلمي الذي أُقيمت عليه تلك المسلّمات والأطر الفقهية ، إذ لا يوجد واحد من تلك المسلّمات إلّا ويوجد عليها إجماع منقول أو شهرة أو عمل للأصحاب ونحو ذلك من القواعد التي بُني عليها الفقه الموروث عندنا.

حتى انتهى الأمر إلى العصر الثالث وجاء دور الشيخ الأنصاري ومن تبعه من المحقّقين فأشكلوا على هذه القواعد واحدةً بعد الأخرى ، فناقشوا في حجّية الإجماع المنقول والشهرة ؛ وتأمّلوا في قاعدة انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ، ولعل الأستاذ السيد الخوئي كان من أوائل من بنى على هذا في فقهه ، وهكذا تهدّمت كلّ هذه القواعد الأصولية التي كانت تؤمّن الغطاء العلمي لتلك المسلّمات الفقهية ، ولكن هؤلاء الذين هدموا هذه القواعد في علم الأصول كالشيخ ومن تبعه لم يهدموها في الفقه ، بل بقي علم الفقه محافظاً عليها وإن كانت لا دليل على حجّيتها في الأصول ، والسبب في ذلك يرجع إلى تلك

٥٦

الحالة النفسية التي كانت تمنع الفقيه عن أن يسقط تلك المسلّمات وإن سقط دليلها العلمي في الأبحاث الأصولية. فلم يكن المانع عن رفض تلك المسلّمات الفقهية هو وجود دليل علمي عليها ، بل كان المانع هي تلك الحالة الوجدانية والقناعة النفسية بالمحافظة على تلك الأطر الموروثة في الفقه المتعارف. ومن هنا نجد أنّ المحقّقين المتأخّرين عن الشيخ الأنصاري بدأوا محاولة جديدة لتأسيس قواعد أصولية تعوّض عمّا هدموه ؛ لأنّه لا يمكن الالتزام بتلك المسلّمات من دون وجود دليل عليها ، وهنا خطر على بال المحقّقين المتأخّرين أنّ السيرة العقلائية يمكن أن تكون تعويضاً مناسباً عمّا هُدم بمعول الصناعة العلمية من تلك القواعد ، ولذلك نرى أنّ السيرة العقلائية كان لها دور كبير وواسع في كتب المتأخّرين وخصوصاً السيّد الخوئي ، وأصبحت السيرة هي الدليل على إثبات كثير من تلك المسلّمات ، وهذا ما يفسّر لنا رواج السيرة العقلائية في كتب المتأخّرين بخلافه في كلمات السابقين حيث لم تلق هذا الرواج ، وهذا يرجع إلى معالجة تلك الحالة النفسية التي أُشير إليها.

والحاصل أنّ تلك الحالة النفسية هي التي كانت تمنع الفقيه عن هدم تلك المسلّمات ، ولكن الذوق الاستدلالي للفقيه كان يمنعه أن يقول : إنّ تلك الحالة هي الدليل فحاول أن يؤسّس أدلّة علمية لإثبات تلك المدّعيات» (١).

ومن هنا احتل بحث السيرة العقلائية موقعاً مهمّاً وأصبح أحد الدعائم الأساسية ، التي يتشكّل منها ملامح العصر الثالث من عصور علم الأصول ، بل بلغ أوجه على يد الشهيد الصدر.

__________________

(١) ما قرّرناه عن الأستاذ الشهيد في مجلس الدرس.

٥٧

يقول السيد الحائري في مقدّمة تقريرات بحث السيد الأستاذ : «ما جاء في البحث الرائع لسيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة ، فقد تكرّر لدى أصحابنا المتأخّرين التمسّك بالسيرة لإثبات حكم ما ، ولكن لم يسبق أحد أستاذنا فيما أعلم في بحثه للسيرة وإبراز أسسها والقوانين التي تتحكّم فيها ، والنكات التي ينبني الاستدلال بها على أساسها ، بأسلوب بديع ومنهج رفيع وبيان متين» (١).

ويقول السيد الهاشمي وهو تلميذ آخر من تلامذته المبرزين : «والواقع أن الاستدلال بالسيرة لم يقتصر على خصوص المسائل الأصولية وفي باب الأمارات ، بل شاع ذلك في الفقه أيضاً ، خصوصاً في مثل أبواب المعاملات التي يكون للعقلاء تقنين فيها. بل الملحوظ اتساع دائرة الاستدلال بها كلّما تقلّصت الأدلّة التي كان يعوّل عليها سابقاً لإثبات المسلّمات والمرتكزات الفقهية من أمثال الإجماع المنقول والشهرة وإعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ونحو ذلك ، فإنّه قد عوّض بالسيرة عن مثل هذه الأدلّة في كثير من المسائل التي يتحرّج الفقيه الخروج عن فتاوى القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهية المشهورة» (٢).

ولم يذكر لنا الأستاذ الشهيد بعض تلك المسلّمات والمرتكزات الفقهية التي ورثها المتأخّرون عن المتقدّمين ، ولكن لعلّ واحدة من أهم تلك المسلّمات هو تجريد النصوص الواردة عن الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، والعلاقات التي

__________________

(١) مباحث الأصول ، مصدر سابق ، ج ١ ص ٥٩.

(٢) بحوث في علم الأصول ، مصدر سابق ، ج ٤ ، ص ٢٣٣.

٥٨

كانت تحكم الناس في ذلك الزمان ، وفهمها بمعزل عن تلك الشرائط التي صدر النصّ فيها.

ولعل هذا التجريد للنصّ وعزله عن العوامل التي قد تكون دخيلة في فهمه يمكن أن يعدّ من أهمّ المسلّمات والأطر الفقهية التي لم يقع فيها كلام عند أحد من علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين ، بل كان هناك اتفاق قطعي من جميع فقهاء الطائفة على اختلاف مشاربهم ومبانيهم الأصولية والفقهية ، على أن الأصل في هذه النصوص عدم مدخلية تلك الشرائط الزمانية والمكانية التي صدر النصّ فيها.

والشاهد على هذه المقولة أننا لا نجد فقيهاً حاول أن يفهم النصوص الواردة عن الرسول الأعظم والأئمّة الأطهار من خلال الأوضاع الاجتماعية والشرائط الاقتصادية ، ولهذا لا يدخل أي فقيه في حسابه أثر الزمان والمكان في فهم النصّ الشرعي.

ومن هنا نجدهم يوقعون المعارضة بين نصّ صدر في القرن الأوّل مع نصّ آخر صدر في القرن الثالث ، ويقطعون النظر عن التطوّر الهائل الذي حصل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، والعلاقات التي كانت تربط بعضهم ببعض ، إضافة إلى التطوّر الفكري العظيم الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي من خلال دخول منظومات فكرية وفلسفية واجتماعية متعدّدة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم مدخلية تلك الظروف والعوامل في فهم النصّ وإلّا لو كان للزمان والمكان أيّ أثر في فهم النصوص الشرعية لكان بالإمكان أن يقال : إنّه لا تعارض بين هذه النصوص لاختلاف شرائطها الاجتماعية والفكرية ، وكان ينبغي بدل أن نوقع التعارض بينها أن نرجع إلى الظروف الزمانية والمكانية التي

٥٩

صدر النصّ فيها. وحينئذٍ لو ثبتت وحدة الظروف والشرائط لوقع التعارض وإلّا فلا.

والواقع أنّ تجريد النصوص عن الزمان والمكان الذي صدرت فيه ، وعدم إدخال الخصائص التي تحكم عصر الصدور وعزل النصّ عن العوامل التي قد تكون دخيلة فيه ، والقول بالتعميم يعدّ من أهمّ المسلّمات والمرتكزات الفقهية التي بقيت تحكم علم الأصول والفقه إلى يومنا هذا مع كلّ التغييرات والتطوّرات الأساسية التي مرّ بها هذان العلمان والمراحل المتعدّدة والأشواط الطويلة التي قطعها حتى انتهى إلى ما هو عليه في زماننا الحاضر.

ولا أجازف إذا قلت : إنه مع الاعتقاد الكامل بالإنجازات العلمية الضخمة التي أنجزها أستاذنا الشهيد على مستوى علم الأصول بنحو يمكن عدّ مدرسته الأصولية عصراً رابعاً من عصور العلم إلّا أنّها وإن وفِّقت في تغيير جملة من الأركان الأساسية لعلم الأصول المتعارف كما تقدّم في بحث قبح العقاب بلا بيان ولكن مع ذلك بقيت محكومة بنفس الأطر والمسلّمات الفقهية الموروثة عن علمائنا السابقين ، ولم تستطع تجاوز أو تطوير تلك الأسس ، وهذا ما نجده واضحاً في الأبحاث الفقهية الاستدلالية التي أدلى بها شهيدنا الصدر. مع أنه كما هو واضح من الدراسات الفكرية العميقة التي قدّمها في هذا المجال وخصوصاً في كتاب" اقتصادنا" كان ملتفتاً جيّداً إلى هذه الحيثية التي أشرنا إليها ، ويمكن مراجعة ذلك في بحثه القيّم عن" عملية الاجتهاد والذاتية" ولكن مع هذا كلّه لم يفعل شيئاً يتناسب مع ذلك البحث في بحوثه الاكاديمية في الأصول والفقه ولعلّ السبب يرجع إلى تلك الحالة النفسية التي أشار إليها هو ، لأنّ هذه الحالة توجد عند الفقيه قناعات وجدانية لا يمكنه تجاوزها ، فلهذا

٦٠