لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

واقعاً في نظر الشارع ، كما هو الحال في تمام أحكامه حتى الجهاد ، فإنه امتنان على العباد ، ولكن ليس أيضاً بملاك أي غرض وإن كان شاذاً ومنحرفاً عن العرف العام ، بل المناط في تشخيص كون الامتنان عرفياً هو النظر العقلائي العام. فمثلاً حينما يريد الأب أن يكلِّم ولده بلغة العطف والامتنان ، فإنه لا يظهر ذلك من خلال منعه من الوصول إلى جملة من أغراضه ، وإن كانت مصلحته الواقعية في ذلك ، وإنما يمنّ عليه بما هو امتنان بحسب النظر العرفي. إذن لا بأس بشمول إطلاق «لا ضرر» لهذا النحو من الإقدام وإن أدّى إلى فوات غرضه خارجاً.

وأمّا الثاني وهو ما إذا كان الغرض عقلائياً ، فهنا تارة يكون جريان القاعدة موجباً لامتناع وقوع الضرر خارجاً ، إما تكويناً أو تشريعاً. والأول من قبيل ما إذا أقدم المغبون العالم بالغبن على إيقاع معاملة غبنية مع إسقاط خياره ، لأنه شخّص أن مصلحته لا تتحقّق إلّا من خلال لزوم المعاملة ، ولو من باب أنه لو كانت المعاملة غير لازمة لما أقدم عليها الطرف الآخر ، مع فرض حاجته إليها. فلو جرت القاعدة لنفي اللزوم ، فهذا معناه وقوع المغبون في الضرر تكويناً ، لأنه يؤدّي إلى منعه من الوصول إلى غرضه العقلائي ، فيكون على خلاف الامتنان ، فلا تجري القاعدة في مثل ذلك. والثاني وهو الامتناع التشريعي ، كما لو فرض أنه كان له غرض عقلائي في إيقاع نفسه في الضرر كقطع يده مثلاً ، فلو خلّينا نحن وإطلاق القاعدة ، فإنه يمكن أن يستفاد منه الحرمة شرعاً ، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً. فلو قلنا بشمول «لا ضرر» للمقام فإنه يوجب امتناع تحصيله لغرضه شرعاً ، وهذا خلاف الامتنان ، فلا تجري القاعدة أيضاً.

٣٤١

وقد يفرض أن للمكلف غرضاً عقلائياً في الإقدام على الضرر ، ولكن لا يلزم من جريان القاعدة الامتناع التكويني أو التشريعي للضرر ، بل يؤدي إلى رفع الوجوب والإلزام الشرعي ، كما لو كان للمريض الذي يضرّه استعمال الماء ، غرض في أن يغتسل أو يتوضّأ بالماء ، فإن جريان «لا ضرر» لا يثبت به أكثر من نفي وجوب الغسل أو الوضوء فقط. ولازم ذلك أن شمول القاعدة لا يغلق على المكلف باب الوصول إلى غرضه باستعمال الماء ، في مثل ذلك لا مانع من جريان القاعدة ؛ لأن المريض وإن كان مقدماً على الضرر ، إلّا أن من الامتنان عليه أن يقول له المولى : لا ألزمك بالغسل بالماء ، لشفقته عليه ، فمثل هذا الخطاب يعدّ امتنانياً بحسب النظر العرفي.

وبما ذكر يندفع التهافت في كلمات الفقهاء ، حيث فرّقوا بين من أقدم على الجنابة ملتفتاً إلى ضررية الغسل ، فأفتوا بعدم وجوب الغسل ، لأن الإقدام على الجنابة ليس من مصاديق الإقدام على الضرر ، ولكنهم لم يقبلوا ذلك فيمن أقدم على المعاملة الغبنية عالماً بها.

وكذلك يندفع تهافت آخر بين مسألة الإقدام على الغبن والإقدام على الغسل أو الوضوء الضرري لغرض عقلائي ، حيث ذكروا أن القاعدة تجري في حقّه.

وقد أجاب النائيني (قدس‌سره) عن التهافت في المورد الثاني : أن إرادة المكلف للغسل لما كانت متأخرة عن الوجوب ، فهي في مرتبة الامتثال مقهورة للحكم الشرعي ، فيكون وجودها كالعدم ، بخلاف إرادة من أقدم على المعاملة الغبنية ، فإنه لم يحكم عليه بوجوب إيقاع هذه المعاملة ، فلا تكون إرادة مقهورة للحكم الشرعي. وقد بيّنا مراراً أنه متى ما كانت الإرادة تحت الوجوب ، فلا تنفع في مقام رفع القاعدة ، والإرادة في الغسل هي تحت

٣٤٢

الوجوب ، لأنها إرادة امتثال الواجب ، وأما الإرادة في المعاملة الغبنية ، فهي فوق الوجوب ، لأنها إرادة للبيع الغبني ، وهو ليس واجباً ، بل لو تحقق يكون موضوعاً لوجوب الوفاء.

وهذا الجواب لا محصل له ، ولعل صدر منه (قدس‌سره) لضيق الخناق ، وإلّا فمن الواضح أن الإرادة التي هي تحت الوجوب والقهر ، هي التي تكون بملاك الإلزام المولوي ، والمفروض في محل الكلام أن المكلف له إقدام مستقل على الغسل الضرري ، بقطع النظر عن التكليف المولوي. إذن لا معنى لأن يكون هذا الإقدام بلحاظ القهر والغلبة ، حتى يكون وجوده كالعدم من هذه الناحية. فهذه الإرادة لم يحرّكها المولى ، بل تحرّكت في نفسه استقلالاً لرغبة منه لتعلق غرضه بذلك ، فيبقى الإشكال على حاله ، وهو أي فرق بين إقدام المغبون على الغبن وإقدام الجنب على الغسل بالماء؟ فإذا كان الأول موجباً لعدم جريان القاعدة ، فليكن الأمر كذلك في الثاني أيضاً ، وإذا لم يكن إقدام المجنب على الغسل مع ضرريته مانعاً من جريانها ، فليكن الأمر كذلك في الأول.

وقد اتضحت نكتة الفرق بين الإقدامين ممّا بيّناه ، فإنه في المورد الأوّل قد تعلّق غرض عقلائي للمغبون في النقص المالي ، فلو جرت القاعدة لنفي اللزوم ، لكان هذا بنفسه ضرراً على المغبون ، إذ يوجب امتناع وقوع المعاملة تكويناً ، وبتعبير آخر يؤدّي إلى منع وصول المغبون إلى غرضه ، وهو خلاف الامتنان المستفاد من القاعدة ، بخلافه في المورد الثاني فإن المكلف له غرض عقلائي في الاغتسال في الماء وإن كان ضرراً عليه ، إلا أن جريان القاعدة لا يوجب

٣٤٣

امتناع وقوع الضرر خارجاً لا تكويناً ولا تشريعاً ، لأن غاية ما تفيده رفع وجوب الغسل ، فلا يكون جريانها على خلاف الامتنان.

على هذا الأساس فليس الضابط في عدم جريان القاعدة هو النظر إلى الإقدام بما هو ، بل لا بد أن نقف عند ملاك مانعية الإقدام ، وأنه هل يتنافى مع مساق الامتنان في الحديث النبوي أم لا؟ فإن كان جريانها مفوّتاً لغرض عقلائي للمكلف كما في المورد الأول ، فلا مجال للشمول ، وإن لم يكن كذلك فلا محذور في الالتزام بإطلاق حديث «لا ضرر».

فتحصّل إلى هنا أن الغرض إذا كان في نفس الأمر الضرري ، فتارة يكون الغرض عقلائياً وأخرى لا يكون. فإن كان الثاني فلا مانع من شمول القاعدة. والأول إما أن يكون شمول «لا ضرر» موجباً لامتناع الضرر تكويناً أو تشريعاً ، فلا تجري القاعدة. أما إذا لم يؤد إلى ذلك ، بل غايته أنه يلزم منه نفي الوجوب من ناحية المولى ، فتجري القاعدة بلا مانع.

النحو الثاني : أن يكون الغرض متعلّقاً بمعلول الضرر ، فيقع التزاحم بين غرضه المتعلّق بالمعلول وبين الضرر ، بحيث ينتفي المعلول بنفي الحكم الضرري ، فهنا يجري فيه ما تقدّم في النحو الأول بلا فرق.

النحو الثالث : إذا تعلّق الغرض بعلّة الضرر ، والمكلّف مع التفاته إلى الضرر المعلول لهذا الغرض ، أقدم عليه ، ولكن ليس إقدامه على الضرر اختيارياً له ، بل لأنه لا يمكنه التفكيك ما بين العلّة والمعلول ، لأن المفروض أن الضرر مترتّب قهراً على ما هو مصبّ غرضه ، كمن يقدم على الإجناب عمداً مع علمه بوجوب الغسل الضرري عليه لمرضه مثلاً ، فإن غرض المكلف ليس هو الإقدام على الغسل ، بل هو مقدم على الإجناب الذي هو علّة قهرية لوجوب

٣٤٤

الغسل شرعاً. في مثل ذلك يكون جريان القاعدة مطابقاً للامتنان مطلقاً ، وذلك لأنه لا يلزم من جريانها نفي وقوع غرضه أو وصوله إليه ، بل شمول الحديث لنفي هذا الحكم الضرري يؤدّي إلى التفكيك ما بين العلّة والمعلول ، فيمنع من وقوع الضرر خارجاً. وهذا هو غاية الامتنان على المكلف ، حيث يمكنه التوصل إلى غرضه من دون أن يبتلي بمحذور الضرر الذي كان يترتّب على ذلك لولا القاعدة. ولا فرق هنا بين أن يكون غرضه عقلائياً أو سفهياً.

وبهذا ظهر الضابط العام في تطبيق القاعدة في موارد الإقدام على الضرر ، حيث تبيّن أن الإقدام مطلقاً ليس مانعاً من الشمول ، وإنما الإقدام الذي يكون على خلاف الامتنان المسوق له الحديث النبوي.

وممّا تقدّم يمكن الوقوف على سائر الفروع المشابهة للمقام ، كالفرع المعروف الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ، وهو ما إذا استعار أو استأجر شخص أداة من أحد وجعلها في بناء بيته ، أو استأجر أرضاً فزرعها ثم طالب صاحبها بردّها ، فهل يمكن نفي وجوب الردّ في المقام بإجراء «لا ضرر» بدعوى أن القاعدة تنفي الحكم الضرري ، ووجوب الرد مستلزم لخراب بيته أو تلف زرعه وهو ضرري عليه؟ بعد الفراغ والتسالم الفقهي على أن هذا الشخص لو كان غاصباً لوجب عليه الرد مهما كلّفه الأمر ، للإجماع القائم بين فقهاء الطائفة ، بل إجماع علماء المسلمين باستثناء ما ينسب إلى بعضهم. ولذا لا ينبغي إدخال الغاصب في محل النزاع. وسيتّضح من خلال البحوث اللاحقة أن الملاكات الفنية تقتضي إخراج الغاصب أيضاً. بل هناك صور أخرى في غير الغاصب يجب إخراجها عن محلّ الكلام أيضاً وهي كالآتي :

إذا فرضنا أن المستأجر اشترط على المؤجر ضمن العقد أن يبقى زرعه

٣٤٥

أو غرسه لو استمر به الأمد إلى ما بعد انتهاء مدّة الإجارة ، فإنه في مثل ذلك لا إشكال في استحقاق المستأجر إبقاء الزرع والغرس إلى مدّة ما بعد الانتهاء ، ولا يجب عليه الرد إلى المالك وإن طالب بذلك.

ما إذا فرض أن عقد الإجارة أو العارية كان يقتضي عرفاً الشرط الضمني للإبقاء فإن ذلك كالشرط الصريح ، من قبيل أنه استأجر أرضاً ليزرعها بزرع من المعلوم أنه لا تنتهي مدّته إلى الأمد المقرّر في عقد الإجارة ، كما لو استأجر أرضاً لمدّة شهرين ، ولم تكن تلك المدّة كافية لاستيفاء المنفعة الزراعية ، بل تحتاج إلى زمن أطول ، فيمكن أن يقال : إنّ معلومية مدّة الاستيفاء توجب أن يكون هناك شرط ضمني من قبل المستأجر على المؤجر في إبقاء الزرع في المدة الزائدة على الإجارة ، مع تطبيق قاعدة الضمان واستحقاق أجرة المثل ونحو ذلك.

ما إذا فرض أن عقد الإجارة وقع على وجه مطلق ، من دون أن يعيّن المستأجر منفعة معيّنة في مقام الاستفادة من الأرض ، ولكن المدة التي حدّدت في العقد لم تكن كافية لبعض المنافع الزراعية فيها ، هنا قد يقال : إنّ نفس معلومية عدم إمكان استيفاء بعض منافع الأرض في المدّة المعيّنة يوجب ظهوراً سياقياً يمنع عن الإطلاق. فلو فرض أن المستأجر أراد أن ينتفع بالأرض بنحو يستلزم أن يكون استيفاء تلك المنفعة إلى مدّة أطول من أمد الإجارة ، يكون غاصباً ، لأنه استوفى منفعة غير مملوكة له بذلك العقد.

ما إذا فرض أن المؤجر صرّح بلزوم الردّ بعد انتهاء مدّة الإجارة أو العارية ، ولازمه أن المؤجر لا يأذن في منفعة يستوفيها المستأجر ما لم يكن ملحوقاً بإرجاع الأرض بعد انتهاء المدّة المعيّنة. فيرجع ذلك إلى تقييد المؤجر

٣٤٦

إطلاق إذنه بخصوص حصة خاصة من المنفعة الزراعية.

وفرق هذه الصورة عن سابقتها ، أنه هناك كان عقد الإجارة ابتداءً لا يشمل هذه المنفعة التي تطول مدّتها ، لأنها أطول من المدّة المقرّرة. أما هنا فحتّى لو فرض أنه صرّح بهذه المنفعة ، إلّا أنه صرّح أيضاً بلزوم الردّ بعد انتهاء المدّة. ومآله عرفاً إلى أن إذن المؤجر في زرع الحنطة مثلاً التي تطول مدّتها ، إذن في حصة خاصة من هذا الزرع ، وهو الملحوق بإرجاع الأرض بعد انتهاء المدّة ولو بالقلع. فلو لم يتحقّق الرد فلا إذن

من أوّل الأمر ، فيكون زرعه خارجاً عمّا هو مصبّ الإذن فينكشف أنه لم يكن من حقّه أن يزرع الحنطة ، فيلحق بالغاصب فيجب عليه الرد بلا إشكال.

ما إذا فرض أن المستأجر أقدم على الالتزام بردّ الأرض خالية بعد انتهاء مدّة الإجارة ، فلا إشكال في وجوب الرد في هذه الصورة ، حتى لو قلنا في أصل المسألة بأنه لا يجب عليه الردّ ، لأن المستأجر أقدم على إسقاط حقّه ، وما يقال : إن هذا إسقاط لما لا يجب ، ولا أثر لمثله ، غير تام.

وخير مثال ينطبق عليه محل النزاع ، ما لو استأجر أرضاً ليزرعها حنطة مثلاً في مدّة معيّنة كافية بحسب العادة لذلك. لكن عارضاً سماوياً أو آفة اتفاقية ، أوجبت تمديد المدّة التي تحتاج إليها الحنطة للبلوغ والحصاد ، فيدور الأمر في المدّة الزائدة ، بين إبقاء الأرض تحت يد المستأجر ، ولو بالضمان واستحقاق أجرة المثل ونحو ذلك ، أو قطع الزرع ورد الأرض لصاحبها. وقد ذكروا في مقام عدم جريان القاعدة ووجوب الردّ على المستأجر وجوهاً :

الوجه الأوّل : أن وجوب الرد في المقام لا تشمله القاعدة وإن كان ضرريّاً ، لأن المستأجر هو الذي أقدم بنفسه على هذا الضرر ، والمحقّق النائيني

٣٤٧

(قدس‌سره) وإن لم يقبل الإقدام على الضرر في مسألة الإجناب متعمّداً ، إلّا أنه قبل ذلك هنا ، وذكر في وجه التفرقة بين الموردين ما لا يمكن قبوله.

والصحيح أن الإقدام في المقام لا يمنع من جريان القاعدة ؛ وذلك :

أوّلاً : أن هذا المورد من الإقدام على علّة الضرر لا معلوله ولا نفسه ، فيكون من قبيل الإقدام على الجنابة مع التفاته إلى ضررية الغسل ، وقلنا هناك إنه لا بأس بجريان القاعدة لأنه غير مناف للامتنان بالنسبة إليه. وعلى هذا لو خلّينا نحن وهذا النحو من الإقدام ، لقلنا بجريان «لا ضرر» وعدم وجوب الردّ على المستأجر. نعم لو غصب الأرض ، فإنه لا مجال لجريان القاعدة وإن كان الضرر معلولاً لما تعلّق غرضه به ، ولا يجري في الغصب ما ذكرناه في النحو الثالث من أنحاء الإقدام ، من أنه إذا تعلّق الغرض بعلّة الضرر ، فلا مانع من جريان القاعدة ، لأنه مطابق للامتنان ؛ ذلك لأن الإقدام وإن كان على العلّة لا المعلول كما هو الفرض ، لكنه لما كانت العلّة محرّمة شرعاً ، فسوف يكون جريان القاعدة في طرف المعلول بمنزلة إعطاء الفرصة لارتكاب العلّة المحرّمة. ومن الواضح أن القاعدة منصرفة عن مثل هذا الإقدام ، لأنها صادرة من المشرّع الذي حرّم تلك العلّة.

ثانياً : أنه لا مجال لدعوى تحقّق الإقدام في المقام ، لأن المستأجر كان معتقداً كفاية المدّة المستأجرة لزرعه كما هو واضح.

الوجه الثاني : دعوى تعارض الضررين ، وذلك ببيان : أن إيجاب الردّ ضرري على المستأجر ، والحكم بجواز الإبقاء ضرري على المالك. وبتعبير آخر ثمة في المقام أمران ، أحدهما : منفعة الأرض ، والآخر : مالية الزرع. فإن قلنا بوجوب الردّ تحفّظاً على منفعة الأرض للمالك ، فيلزم منه ضياع مالية الزرع

٣٤٨

على المستأجر ، لأن الردّ مستلزم لقلع الزرع. وإن قلنا بعدم وجوب الردّ وجواز الإبقاء ، فمعناه أننا أجزنا للمستأجر بعد انتهاء المدّة المقرّرة أن يتلف مال الغير وهي منفعة الأرض ، وهو ضرر على المالك. إذن فعلى أحد التقديرين يكون مؤدّياً إلى إتلاف مال المستأجر ، وعلى التقدير الآخر يؤدّي إلى إتلاف مال المالك. فيكون من باب تعارض الضررين.

من هنا لا بدّ من تنقيح أصل هذه الدعوى في المقام ، ثم بيان ما هو التحقيق في المسألة.

الضرر تارة يلحظ من ناحية شخص العين باعتبار فوات نفس المملوك بما هي عين خارجية ، أو بما هي منفعة العين ويسمّى الضرر العيني. وأخرى يلحظ من ناحية مالية العين باعتبار قيمة المملوك ويسمّى الضرر المالي. فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل : الضرر العيني. ابتداءً لا بدّ من الالتفات إلى أن تجويز مال الغير يكون بأحد نحوين :

الأوّل : أن يفرض كون المال للغير وتحت سلطنته المطلقة ، غاية الأمر يحكم بجواز أخذه وإيراد النقص عليه ، بالرغم من كونه مال الغير ، من قبيل مال الكافر الحربي ، فإنه وإن كان مالكاً لأمواله ، وملكيته لا تختلف عن ملكية غيره ، إلّا أن دليل الغصب خُصّص في المقام فيجوز أخذ ماله تكليفاً ، وهذا الحكم وإن كان ضرريّاً على الكافر الحربي وهو ضرر بحسب النظر التشريعي أيضاً ، لأن مالكية الكافر الحربي لماله وضعاً واستحقاقه له ثابت ولا قصور فيه ، وإنما أجيز لنا أخذه منه تحقيراً له وهدراً لحرمة ماله ، فيكون إضراراً جائزاً لكونه كافراً.

٣٤٩

الثاني : أن يفرض أن جواز الإتلاف يرجع بحسب الحقيقة إلى ضيق دائرة ملكية المالك ، لوجود القصور في أصل مقتضي السلطنة ، أي أن المالكية من أوّل الأمر مختصة ببعض حيثيات التصرّف في المال ، من قبيل من يشتري عبداً جانياً تعلّق به حق الجنابة ، فأصبح ملكاً له ، فإن أخذ المجني عليه حقّه من الجاني لا يعدّ ضرراً على المشتري ، لأن ملكيته من أوّل الأمر لهذا العبد كانت بهذا النحو لا أكثر من ذلك.

بعد أن عرفنا الفرق بين هذين الفرضين نقول : إنّ مرجع وجوب الردّ أو جواز الإبقاء بحسب الحقيقة ، إنما هو تضييق لدائرة السلطنة ، بمعنى أن الارتكاز العقلائي يقتضي أن لكل إنسان سلطنة على ماله ، إلّا أنه في المقام لا يمكن فرض سلطنة مطلقة للمالك في منفعة أرضه واستردادها من المستأجر ، وسلطنة مطلقة للمستأجر على حفظ زرعه ولو من خلال إبقائه في أرض الغير. مثل هاتين السلطنتين لا يمكن جعلهما معاً في عرض واحد. من هنا لا بدّ من فرض ضيق في إحدى السلطنتين أو كلتيهما. إما أن نقول بثبوت حق مالك الأرض بنحو يستبطن سلطنة مطلقة على أرضه ومنافعها ولو تلك الحصة الملازمة لإتلاف مال الغير ، وهذا لازمه أنه لا سلطنة لصاحب الزرع على حفظ زرعه إذا طالب المالك بردّ الأرض ، فيكون من قبيل شراء العبد المشغول ذمّته بحق للمجني عليه ؛ حيث إنه زرع في أرض مستأجرة من الغير ، فمن أوّل الأمر ملك زرعاً في أرض مبتلاة يحق الإتلاف من قبل مالكها. في مثل ذلك لا يكون وجوب الردّ ضرريّاً ، لأن ضررية وجوب الرد كما بيّنا مراراً ليست تكوينية كقطع اليد مثلاً ، وإنّما هي من الإضرار الاعتبارية بلحاظ الارتكازات العقلائية والتشريعية الثابتة في الرتبة السابقة. فإذا لم يثبت

٣٥٠

مثل هذا الحق للمستأجر في المرتبة السابقة ، لا يكون وجوب الردّ ضرريّاً عليه ، بل يكون عدم وجوب الردّ من قبل الشارع ضرريّاً ، لأن العقلاء يرون أن المالك له السلطنة على استرجاع منفعة أرضه حتى هذه الحصّة الملازمة لتلف الزرع ، فسلب هذا الحق من المالك ضرر عليه.

نعم لو انعكس الأمر بأن فرض أن الارتكاز العقلائي كان قائماً في الرتبة السابقة على ثبوت حق للمستأجر ، وأنه لا سلطنة لمالك الأرض على تلك الحصة من الانتفاع الملازمة لتلف مال شخص آخر ، عند ذلك تكون هذه الحصة خارجة عن سلطنة المالك بحسب النظر العقلائي ؛ في مثل ذلك لا يعتبر جواز الإبقاء ضرريّاً على المالك ، لأنه لم يؤخذ منه شيء ، لعدم وجود سلطنة وسيعة من أوّل الأمر لهذا النحو من التصرّف ، حتى يكون أخذه منه ضرراً عليه ، وإنما يعتبر وجوب الردّ ضرريّاً ، لأن لصاحب الزرع الحق في إبقاء زرعه في الأرض ، فلو منع منه لكان ضرراً عليه. فتحصّل أنه لا يمكن أن تكون كلتا السلطنتين المتضادتين ثابتين على عين واحدة ، ومن هنا فلا معنى لدعوى تعارض الضررين في المقام.

هذا فيما يرتبط بأصل المدّعى.

أما تحقيق ما هو الحق في المسألة ، وأن السلطنة المطلقة هل هي ثابتة للمالك أو المستأجر؟ فلا يبعد أن الأصل الأوّلي بحسب الارتكاز العقلائي ، هو ثبوت سلطنة المالك في أرضه ، إلّا فيما إذا فرض أن ملكيته كانت مندكّة في جانب ملكية الآخر ، بلحاظ بعض المناسبات العرفية ، كما في الخشبة المعارة التي وضعت في بناء ضخم ، فلو أصرّ مالكها على استرجاعها من المستعير ، لا يبعد أن يرى العرف أن مثل هذه الملكية مندكّة في قبال ملكية

٣٥١

الآخر. أما في غير تلك الموارد التي لا يجزم فيها بالاندكاك ، فالأصل بحسب الطبع العقلائي هو التحفّظ على سلطنة المالك.

المقام الثاني : في الضرر المالي ، فقد يقال : إنّه لا ضرر مالي ، لأنه متى ما كانت سلطنة المالك هي الثابتة في الرتبة السابقة ، ولم تندك في جانب ملكية المستأجر لزرعه ، فيكون المالك هو المخيّر بين أن يطالب المستأجر بقلع الزرع وعليه غرامة الضرر المالي الواقع على المستأجر ، أو يقبل ببقاء الزرع في أرضه ، ويأخذ أجرة المثل على ذلك. وليس منشأ هذا التخيير هو أن الإرفاق بحال المالك أولى من الإرفاق بحال المستأجر ونحو ذلك من التعليلات كما في الجواهر ، بل من باب أن الثابت في المرتبة السابقة بحسب الارتكاز العقلائي ، استقرار سلطنة المالك في المقام ، فيكون جواز الإبقاء حكماً ضرريّاً ، فينفى اختيار المستأجر ، ويتعيّن كون الخيار بيد المالك. أما لو فرض في مورد ثبوت حق المستأجر في الرتبة السابقة بحسب الارتكاز ، كما لو اندكّت ملكية المالك في جنب ملكية المستأجر ، فينعكس الأمر ويتخيّر المستأجر بين الردّ والإبقاء مع إعطاء الأجرة ، لأن إعطاء الخيار هنا بيد المالك ضرر على المستأجر ، وهذا هو المطابق لفتوى المشهور من علمائنا.

فإن قلت : إنه تقدّم في الأبحاث السابقة أن الغرامة والضمان ليست رفعاً للضرر وإنما هو تدارك له ، فكيف يثبت ذلك من خلال «لا ضرر»؟

قلنا : إنّ ما ذكرناه سابقاً من كون الضمان تداركاً للضرر لا رفعاً له ، إنما كان بلحاظ الضرر العيني ، لأنه تعويض عن العين ، أما بلحاظ الضرر المالي كما هو المفروض ، فالضمان يكون نفياً للضرر لا تداركاً له.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي (قدس‌سره) من أن القاعدة لا

٣٥٢

تجري لمنع ردّ العين إلى مالكها ، لأنه خلاف الإرفاق والامتنان على المالك ، وإن كان في صالح المستأجر.

إلّا أن هذا البيان قد تقدّم الإشكال فيه ، حيث قلنا : ليس مقتضى امتنانية القاعدة أن لا يلزم منها ضرر على شخص آخر ، بل يكفي أن يكون امتناناً وإرفاقاً في حق من يجري في حقّه ، نعم لا بدّ أن لا تجري في حق الآخر أيضاً ، وإلّا لزم تعارض الضررين.

ثمّ إن المحقّق العراقي بعد أن منع جريان القاعدة ، قال : لا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأوّلية ، وهي هنا سلطنة المالك على ماله بمقتضى القاعدة المشهورة في ألسن الفقهاء «الناس مسلّطون على أموالهم». ولما كانت هذه القاعدة جارية بلحاظ كل من المالك والمستأجر لما يمتلكه فيقع التعارض بين السلطنتين ، إلّا أنه يقدم حق المالك في أرضه على حق المستأجر في إبقاء زرعه ، لامتنانية هذه القاعدة أيضاً ، فلا تشمل ما يكون مؤدّياً إلى التصرّف في مال الغير وإتلافه ؛ لأن كل إنسان مسلّط على التصرّف في ماله بالنحو الذي لا يؤدّي إلى إتلاف مال الغير. ومن الواضح أن سلطنة الزارع بإبقاء الزرع في الأرض ، تصرّف يؤدّي إلى إتلاف مال الغير وهي منفعة الأرض ، بخلاف سلطنة المالك في أرضه بإخراج الزرع منه ، فلا تؤدّي إلى إتلاف مال الغير وهو صاحب الزرع ، لأن هذا التصرّف ليس هو السبب في تلف مال الغير ، وإنما هو مسبّب عن تصرّف الغير في ماله.

لعلّ وضوح عدم صحّة ما ذكره للتفرقة بين الموردين ، إذ لم يرد في لسان الدليل أنه يشترط في السلطنة أن لا يكون متعلّقها علّة للتصرّف في مال الغير ، حتى يفرّق بين ما يكون علّة أو معلولاً. وإنما مناط هذا القيد هو

٣٥٣

الامتنان والإرفاق ، ولا فرق فيه بين أن يكون التصرّف علّة لإتلاف مال الغير أو معلولاً ، حاول أن يقرّب مدّعاه في المقام من خلال أمور ثلاثة يمكن استفادتها من مجموع كلامه (قدس‌سره) وإن كانت العبارة قاصرة عن أداء ذلك :

الأمر الأوّل : دعوى أن تخليص المالك أرضه وإخلاءه من الزرع مترتّب على إشغال الأرض بالزرع من قبل الزارع ، لأن التخليص فرع الأشغال ، فحالهما حال الدفاع والهجوم ، فكما أن الدفاع مترتّب طولاً على الهجوم ، كذلك التخليص فرع الأشغال فيكون في مرتبة متأخّرة عنه.

الأمر الثاني : بناءً على ما تقدّم في الأمر الأوّل ، فإن سلطنة صاحب الأرض على التخليص هي الأخرى متأخّرة بالتبع عن سلطنة صاحب الزرع على الأشغال ، لأن الطولية بين مصبي السلطنتين تؤدي إلى الطولية بين السلطنتين أيضاً ، وهذه الطولية بينهما تكون بلحاظ طرفي الإثبات والنفي معاً ، كما هو الحال في كل متأخّر ومتقدّم رتبه في نظره (قدس‌سره) حيث يرى أن أي متأخّر بحسب الرتبة يكون عدمه أيضاً في تلك الرتبة ، من قبيل أن وجود المعلول متأخّر رتبة عن وجود علّته ، كذلك عدم المعلول متأخّر رتبة عن وجود العلّة ، لأن عدم كل شيء في رتبة ذلك الشيء ، ضرورة اتحاد النقيضين في الرتبة.

الأمر الثالث : أن قاعدة السلطنة لما كانت إرفاقية فهي مقيدة ، وهذا القيد يمكن أن يتصوّر بإحدى صيغتين :

أن تكون سلطنة المالك على ماله مقيّدة بأن لا يلزم منها أي تصرّف في مال الغير ، سواء كان ذلك الغير ممّن له السلطنة على ماله أم لا؟

٣٥٤

أن تكون السلطنة مقيّدة بعدم لزوم التصرّف في مال الغير ، لكن ذلك الغير الذي له سلطنة على ماله لا مطلقاً.

ومن الواضح أن دائرة القيد في النحو الثاني أضيق من النحو الأوّل ، ومن ثم إذا دار الأمر بين هاتين الصيغتين لتقييد قاعدة السلطنة ، فلا محالة تتعيّن الصيغة الثانية ، تحفّظاً على إطلاق القاعدة مهما أمكن. نعم لو لم يمكن المصير إلى ذلك ، تصل النوبة إلى الصيغة الأولى للتقييد.

إذا اتضحت هذه الأمور نقول : توجد عندنا في المقام سلطنتان :

الأولى : سلطنة صاحب الأرض على تخليص أرضه ، وهذه السلطنة وإن أمكن أن تكون مقيّدة بأحد نحوين كما تقدّم في الأمر الثالث ، إلّا أنه لا بدّ أن يكون القيد بنحو الصيغة الثانية لما ذكرناه. فينتج ذلك أن سلطنة صاحب الأرض على تخليص أرضه ، مقيّدة بأن لا يكون مستلزماً لتفويت سلطنة صاحب الزرع على إبقاء زرعه. وهذا معناه أن سلطنة صاحب الزرع لو وجدت تكون مانعة عن سلطنة صاحب الأرض ، فيكون عدمها مؤثّراً في فعلية سلطنته ، وهذا أمر معقول لأننا ذكرنا في الأمر الثاني أن السلطنة على الأشغال أسبق رتبة من السلطنة على التخليص ، فالأسبق رتبة يمكن أن يكون مانعاً عن وجود المتأخّر رتبة ، وأن يكون عدمه دخيلاً في وجود المتأخّر. إذن الصيغة الثانية للتقييد معقولة في هذا الفرض ، ونتيجتها كون عدم السلطنة المتقدّمة رتبة تؤثّر في فعلية السلطنة المتأخّرة رتبة.

الثانية : وهي سلطنة صاحب الزرع على الأشغال ، فلا يعقل فيها الصيغة الثانية من التقييد ، وهو أن لا يلزم من الأشغال تفويت سلطنة صاحب الأرض على التخليص ، بحيث يفرض أن سلطنة صاحب الأرض مانعة عن سلطنة

٣٥٥

صاحب الزرع على الأشغال لو وجدت ، وأن عدمها مؤثر ، فإن هذا غير معقول في نفسه ، لما بيّناه في الأمر الثاني من أن السلطنة على التخليص في طول السلطنة على الأشغال نفياً وإثباتاً. ومن الواضح استحالة أن يكون المتأخّر رتبة مانعاً عن فعلية المتقدّم رتبة ، بنحو يكون عدمه مؤثّراً في فعلية المتقدّم. إذن فالسلطنة على الأشغال لا يمكن أن تتقيّد بعدم السلطنة على التخليص. من هنا تتعيّن الصيغة الأولى من التقييد ، وهو أن تكون سلطنة صاحب الزرع على إبقاء زرعه مقيّدة بأن لا يلزم منها تصرّف متلف في مال الغير ، بقطع النظر عن أن يكون لذلك الغير سلطنة على ماله أم لا.

وبذلك يتضح أن سنخ التقيد مختلف في هاتين السلطنتين وليسا هما على نحو واحد. ولما كان القيد المأخوذ في سلطنة الأشغال ثابتاً تكويناً ووجداناً ، لأن إبقاء الزرع في الأرض يلزم منه التصرّف في مال الغير أي منفعة الأرض ، سواء كان الغير مسلّطاً على ماله أم لا ، فسوف تنتفي سلطنة الأشغال جزماً ، وبانتفائها يتحقق موضوع سلطنة صاحب الأرض وتكون فعلية ، لأنها كانت مقيّدة بعدم سلطنة صاحب الزرع على إبقاء زرعه ، والمفروض عدم فعلية تلك السلطنة لعدم ارتفاع مانعها.

هذا تمام مرام المحقّق العراقي (قدس‌سره) في المقام.

ويرد على هذا الوجه وإن كان بظاهره فنيّاً :

أولاً : أن الأمر الأوّل من الأمور الثلاثة التي ذكرها غير تام ، لأن التخليص ليس متأخّراً عن الأشغال رتبةً ، كتأخّر الدفاع عن الهجوم ، بل مرجعهما إلى شيء واحد ، نسبته إلى المستأجر إشغال وإلى صاحب الأرض تخليص ؛ وذلك لأن منفعة الأرض التي يستغلّها صاحب الزرع لزرعه ، إن

٣٥٦

استطاع مالك الأرض أن يسترجعها فهو تخليص ، وإن لم يستطع ذلك فهو إشغال. وبتعبير آخر : إن هناك منفعة واحدة ، إما أن يستوفيها الزارع أو المالك ، ومن الواضح أن استيفاء أحدهما لها ليس في طول استيفاء الآخر ، بل في عرض واحد.

ثانياً : لو سلّمنا الطولية بين الأشغال والتخليص ، فلا نقبل الأمر الثاني وهو الطولية بين السلطنتين ، فإنه لا موجب لذلك إلّا تخيّل أن كلا من السلطنتين لما كانا عارضين للوجود العنواني لموضوعهما ، وأن المعنون وهو التخليص في طول الأشغال خارجاً كما هو المفروض ، فهذه الطولية تسري إلى عرضيهما أيضاً ، فتكون سلطنة التخليص في طول سلطنة الأشغال.

إلّا أن هذا الكلام غير صحيح ؛ وذلك :

لأن السلطنتين هنا عَرَضان للوجود العنواني أي الذهني للإشغال والتخليص ، لا للوجودين الخارجيين ، ولو فرض ترتبٌ فإنما هو بين واقع الأشغال والتخليص خارجاً لا ذهناً.

مضافاً إلى أننا ذكرنا مراراً أن الطولية بين المعروضين لا يلزم منها الطولية بين العارضين بوجه من الوجوه.

ثالثاً : فلو سلّمنا أن هذه السلطنة في طول تلك السلطنة ، فلا نسلّم أن عدمها في طول تلك السلطنة أيضاً ، إلّا بناءً على كبرى وحدة النقيضين في الرتبة ، وأن ما مع المتقدّم متقدّم ، وقد ذكرنا مراراً عدم تمامية ذلك.

رابعاً : عدم تمامية ما ذكر في الأمر الثالث ، من أن السلطنة يمكن تقييدها بأحد نحوين ، فنقيدها بالنحو الثاني لأنه أخصّ ، ومع عدم إمكانه فبالنحو الأوّل. إنما الصحيح أن نرى ما هو ملاك التقييد في المقام؟ وقد ذكرنا أن

٣٥٧

مناط ذلك هو الإرفاق والامتنان ، وهو يقتضي أن يقيد كلّ منهما بأن لا يستلزم التصرّف المتلف في مال الآخر ، لأنه لو استلزم لكان على خلاف الإرفاق بالنسبة إليه ، وبعد ذلك لا يفرق بين أن يكون قد جعل للآخر سلطنة في الرتبة السابقة أم لا. وهذا معناه أن نكتة الإرفاقية التي هي ملاك الإرفاق ، تقتضي دائماً تعيّن الصيغة الأولى. وعليه فلا يبقى فرق ما بين هاتين السلطنتين من هذه الناحية. نعم ما ذكر في الصيغة الثانية من التقييد ، وهو عدم المزاحمة مع سلطنة الغير ، ليس هو من باب الإرفاق وإنما هو تقييد عقلي بملاك استحالة اجتماع سلطنتين متنافيتين.

وفي الختام لا بدّ أن يعلم أن ما ذكر في هذا الوجه كان قائماً على فرض أن تكون قاعدة السلطنة ثابتة بدليل لفظي ، ليمكن التمسّك بإطلاقه ، وليس الأمر كذلك ، وإنما ثبتت هذه القاعدة بدليل لبّي من إجماع أو سيرة ، وبعض الروايات الخاصة التي يمكن أن يتصيّد منها هذا المعنى ولا إطلاق لها. وعلى هذا

الأساس فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن منها (١).

__________________

(١) استدل لإثبات هذه القاعدة بالروايات والإجماع والسيرة العقلائية.

أما الروايات فبعضها صرّحت بهذه القاعدة كالرواية المعروفة والمشهورة في ألسن الفقهاء ، المرسلة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال : «الناس مسلّطون على أموالهم» بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢ (الطبعة الحديثة). وهذه الرواية وإن كانت مرسلة ، إلّا أنها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً. قال المحقّق السيّد الطباطبائي في الرياض في المسألة الثانية من كتاب إحياء الموات : «فإنّ حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لربّ الأموال ، وهو أيضاً معمول به بين الفريقين» رياض المسائل في بيان الأحكام

٣٥٨

__________________

بالدلائل ، آية الله المحقّق السيّد علي الطباطبائي ، مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر ، الطبعة الحجرية ، ج ٢ ، ص ٣٢٠.

وبعضها يمكن أن يتصيّد منها هذا المعنى ، من قبيل :

ما رواه سماعة قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : «هو ماله يصنع ما شاء به إلى أن يأتيه الموت».

ورواية أخرى عن سماعة عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، وزاد : إن لصاحب المال أن يفعل بماله ما شاء ما دام حيّاً ، إن شاء وهبه ، وإن شاء تصدّق به ، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت». وسائل الشيعة ، الفقيه المحدّث الحرّ العاملي ، ج ١٩ ص ٢٩٦ ، الحديث الأوّل والثاني من الباب ١٧ من كتاب الوصايا.

ومن الواضح أن ذكر الهبة والصدقة ونحوهما من باب ذكر المثال ، وإلّا فقد صرّحت الروايتين بأن له أن يصنع بماله ما يشاء ، وليست السلطنة على المال غير هذا.

أمّا الإجماع ، فهو ظاهر جملة من كلمات القوم حيث أرسلوها إرسال المسلّمات :

قال الشيخ في الخلاف : «ليس لأصحابنا نصّ في جواز إقراض الجواري. ولا أعرف لهم فيه فتيا. والذي يقتضيه الأُصول أنه على الإباحة» إلى أن يقول : «دليلنا : أن الأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، وأيضاً روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال : «الناس مسلّطون على أموالهم». (كتاب الخلاف ، للطوسي ، ج ٣ ص ١٧٦ ، باب البيوع ، المسألة ٢٩٠).

وقال المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح قول العلّامة (قدِّس سرّه) : «ويجبر على البيع لا التسعير على رأي» ما نصّه «هذا أصحّ ، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، إلّا أن يجحف في طلب الثمن أو يمتنع من تعيينه». (جامع المقاصد في شرح القواعد ، المحقّق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي ، المتوفى سنة ٩٤٠ ه‍ ، ج ٤ ص ٤٢ ، بحث الاحتكار ، تحقيق : مؤسسة آل البيت لإحياء التراث).

٣٥٩

__________________

وقال المحقّق العاملي في مفتاح الكرامة ، في ذيل العبارة السابقة : «إجماعاً وأخباراً متواترة كما في السرائر ، وبلا خلاف كما في المبسوط ، وعندنا كما في التذكرة. للأصل وعموم السلطنة» (مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ، للمحقّق المتتبّع السيّد محمد جواد الحسيني العاملي (قدِّس سرّه) ، ج ٤ ، ص ١٠٩ ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام).

واستدلّ بها صاحب الجواهر في مواضع متعدّدة ، وأرسلها إرسال المسلمات ، في أبواب كثيرة كالبيع والرهن والصلح والشركة والمزارعة والمساقاة والوديعة والعارية وكتاب السبق والغصب والأطعمة والأشربة وإحياء الموات وغيرها.

قال في كتاب «إحياء الموات» من الجواهر في مسألة ما إذا تصرّف الإنسان في داره بما يوجب تضرر الجار تضرّراً فاحشاً ، بعد الحكم بمنعه استناداً إلى حديث نفي الضرر والضرار المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم ، ما نصّه : «وقد يناقش بأن حديث الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدالّ على ثبوت السلطنة على الإطلاق لربّ المال ، وهو أيضاً معمول به بين الفريقين ، والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه ، والترجيح للثاني بعمل الأصحاب». (جواهر الكلام ، الشيخ محمد حسن النجفي ، ج ٣٨ ، ص ٥٠ ، دار الكتب الإسلامية ، مرتضى آخوندي).

وهذا الكلام واضح في أن هذا الحديث المرسل بلغ من القوّة بعمل الأصحاب ، بحيث يقدّم على حديث «لا ضرر» المستفيض من طرق الفريقين ، بل ادّعي تواتره كما تقدّم.

واستدلّ بها الشيخ الأنصاري في مواضع أيضاً ، وأرسلها إرسال المسلّمات. قال في رسالة قاعدة «لا ضرر» المطبوعة في ملحقات المكاسب : «وينبغي التنبيه على أمور ؛ الأوّل : أن دليل هذه القاعدة حاكم على عموم أدلّة إثبات الأحكام الشامل لصورة التضرّر بموافقتها» ، إلى أن يقول : «خلافاً لما يظهر من بعض من عدّهما من

٣٦٠