لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

الفصل السادس

مشكلات مثارة

على تطبيقات فقهية للقاعدة

٢٤١
٢٤٢

اعتراض العراقي على التطبيقات الفقهية للقاعدة

أثار المحقّق العراقي (قدس‌سره) اعتراضاً عامّاً بشأن تطبيقات هذه القاعدة من قبل الفقهاء في الأبواب الفقهية المختلفة ، مدّعياً أن هذه القاعدة لا تنطبق على مفاد فتاوى الأصحاب بالدقّة في الأحكام الضررية التي يستندون فيها إلى هذه القاعدة ، بل نجد أن النتيجة المستنبطة إما أوسع من مفاد القاعدة أو أضيق.

من هنا أنكر أن تكون «لا ضرر» قاعدة مستقلّة في نفسها يمكن استنباط الأحكام الشرعية منها ، وإنما هي إشارة إلى قواعد أخرى ثابتة في المرتبة السابقة في تلك الموارد أدركها الفقهاء بارتكازاتهم العقلائية أو المتشرعية ؛ ولهذا يكون استدلال الفقهاء ب «لا ضرر» في هذه الموارد من باب الاستيناس والتبرّك.

ثم استعرض جملة من الأحكام الضررية التي نفاها الفقهاء ، وأبرز عدم التطابق بين الفتوى ومفاد هذه القاعدة ؛ من تلك التطبيقات التي ذكرها هي :

المورد الأوّل : نفي الأحكام العبادية الضررية

ذكر المحقّق العراقي أن التدقيق في كلمات الفقهاء يقتضي أنهم لم يستندوا في نفي الأحكام العبادية الضررية كالوضوء الضرري إلى قاعدة «لا ضرر» ،

٢٤٣

لأن حدود فتاواهم لا تنسجم مع مفاد ومدلول هذه القاعدة.

توضيحه : أن عدم وجوب الوضوء الضرري يمكن أن يستند إلى أحد تفسيرين :

الأول : عدم الوجوب بملاك «لا ضرر».

الثاني : عدمه بملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وتقديم النهي على الأمر ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد لا محالة. ولكل من التفسيرين لوازم خاصة به ، كما سيتّضح. فإذا وجدنا أنهم التزموا بلوازم التفسير الأول ، نستكشف أنهم استندوا إلى القاعدة لنفي هذا الحكم. أما إذا رأينا أنهم التزموا بلوازم التفسير الثاني ، فهذا معناه عدم استنادهم إلى القاعدة في نفي تلك الأحكام.

وقد تصدّى المحقّق العراقي لإثبات أن المشهور من الفقهاء التزموا بلوازم التفسير الثاني ، وذلك من خلال النكات التالية :

النكتة الأولى : أنهم التزموا ببطلان الوضوء الضرري ولم يقتصروا على القول بنفي وجوبه ، وهذا لا ينسجم إلّا مع التفسير الثاني. أما إذا كان المستند لهم هو «لا ضرر» فمن الواضح أن القاعدة إنما تنفي الحكم الإلزامي أي الجعل والوجوب دون الملاك والمصلحة ، لأن الملاك ليس مجعولاً من قبل الشارع حتى ينفى من خلاله ، مضافاً إلى أن الملاك المجرّد عن الجعل الشرعي على طبقه لا لزوم فيه كي ينشأ من ناحيته ضرر على المكلّف. نعم ينشأ الضرر من ناحية الوجوب و «لا ضرر» تنفي ذلك. وإذا كان الملاك ثابتاً فلا وجه للحكم ببطلان الوضوء ، لأنه يكفي في صحة العبادة وجود الملاك والمصلحة ولا يشترط تحقّق الأمر ، وحيث إنهم أفتوا ببطلان الوضوء في المقام ،

٢٤٤

نستكشف أنهم استندوا إلى أن النهي عن العبادة يقتضي البطلان ، لا قاعدة «لا ضرر» ؛ وإلّا لما التزموا بالبطلان.

والجواب : أن «لا ضرر» وإن كان ينفي الوجوب فقط ولا ينفي مراتب الطلب الأخرى بما فيها الاستحباب فضلاً عن الملاك المجرّد عن الطلب ، إلا أن ثبوت الملاك يحتاج إلى دليل من الخارج ، لأن المفروض سقوط الأمر ب «لا ضرر» ، وقد تقدّم في مبحث الترتّب أن هناك مسلكين لإثبات الملاك :

المسلك الأول : للمحقّق العراقي حيث يثبت الملاك بعد سقوط الأمر ، بدعوى أن الدلالة الالتزامية لا تسقط تبعاً لسقوط الدلالة المطابقية. فخطاب «توضّأ» يدلّ بالمطابقة على وجوب الوضوء الضرري ، ويدلّ بالالتزام على وجود الملاك فيه. فإذا سقط مدلوله المطابقي ب «لا ضرر» فلا يسقط مدلوله الالتزامي بل يبقى على حاله ، فيثبت الملاك عن هذا الطريق.

المسلك الثاني : للميرزا النائيني ، حيث تمسّك بإطلاق المادة في الرتبة السابقة على عروض الهيئة ، وتوضيحه موكول إلى محله.

وقد ذكرنا في محله عدم تمامية كلا المسلكين لإثبات الملاك. من هنا قلنا إذا سقط الأمر لا يبقى عندنا دليل على بقاء الملاك في أغلب الموارد. على هذا الأساس قد يقال : إن المشهور عند ما التزم ببطلان الوضوء في المقام ، فلعل منشأه عدم الدليل لبقاء الملاك بعد سقوط الأمر بالوضوء بسبب «لا ضرر» لا أنهم اعتمدوا التفسير الثاني في هذه المسألة ، وبتعبير آخر : إن اللازم أعم من المدّعى.

ثم إن الصحيح فقهيّا في هذا الفرع هو صحة الوضوء الضرري إذا لم يبلغ حدّ الحرمة.

٢٤٥

توضيحه : أن هناك خطابين للأمر بالوضوء ، أحدهما : وجوبيّ ، والآخر : استحبابيّ ، وسقوط الأمر الوجوبي للوضوء الضرري لا يستلزم سقوط الأمر الاستحبابي ؛ لما سيأتي أن «لا ضرر» إنما تنفي الإلزام الضرري لا الاستحباب الضرري. ومقتضى ذلك هو الالتزام ببقاء الملاك والمصلحة في الوضوء بمقدار ما يكشف عنه الخطاب الاستحبابي ، فيحكم حينئذ بصحة الوضوء بلحاظ هذا الأمر الاستحبابي.

وهذا طريق حسن في مقام تصحيح الوضوء الضرري ، والمشهور وإن لم يلتزموا بصحة الوضوء الضرري ، إلّا أن منشأه لا ينحصر في أنهم اعتمدوا التفسير الثاني المتقدّم دون الأول كما يقول المحقق العراقي ، بل لعلّهم غفلوا عن وجود خطابين في المقام ، وأنّ أحدهما لا يرفع ب «لا ضرر» أو إن بعضهم كان يبني على أن الخطابات الاستحبابية هي الأخرى ترفع ب «لا ضرر» كالخطابات الإلزامية ، كما هو مبنى بعض الفقهاء.

والحاصل أننا وإن لم نقبل فتوى المشهور ببطلان الوضوء الضرري ، لكن مع هذا لا نوافق التوجيه الذي ذكره العراقي لكلام المشهور.

النكتة الثانية : لو فرض أن وجوب الوضوء كان معلوماً للمكلف ، ولكن ضرريته مجهولة له ، فقد أفتى مشهور الفقهاء بصحة الوضوء ، مع أنه لو كان المستند هو «لا ضرر» لكان ينبغي الحكم بالبطلان ؛ وذلك لأن «لا ضرر» تنفي الحكم الضرري بحسب الواقع ، لا ما يعتقده المكلف أنه ضرر ، لأن عنوان الضرر موضوع لمعناه الواقعي من دون أن يؤخذ فيه قيد المعلومية للمكلف ، كسائر العناوين المأخوذة في الخطابات الشرعية. ولما كان وجوب الوضوء ضرريّاً في الواقع كما هو المفروض ، إذن ينبغي أن يكون منفياً

٢٤٦

بالقاعدة وإن لم يعلم المكلف أنه ضرر بالنسبة إليه.

هذا إذا كان مستند المشهور هو التفسير الأول. أما إذا كانوا يستندون إلى التفسير الثاني وهو إدخال المورد تحت كبرى اجتماع الأمر والنهي ، فإنه ذكرنا في محله أن النهي إذا لم يكن منجزاً ، صحّت العبادة حتى عند القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، لأنه يدخل في باب التزاحم لا التعارض ، لذا أفتى الفقهاء بأن الصلاة في الدار المغصوبة جهلاً أو نسياناً صحيحة ، لأن النهي عن الغصب غير منجز ، كذلك في المقام فإن حرمة الضرر بعنوان أنه ضرر غير منجز بملاك الجهل ، وحيث إنها غير منجزة ، فلا مانع من تأثير مقتضي الأمر ، والالتزام بصحة العبادة. إذن فصحة الوضوء في هذه الصورة لا يتمّ على مسلك «لا ضرر» وإنما ينطبق على مسلك تطبيق كبرى اجتماع الأمر والنهي.

إلا أن هذه النكتة أيضاً لا يمكن المساعدة عليها ، لأنه حتى لو كان مستندنا هو «لا ضرر» فإنه لا يمكن تطبيقه في محل الكلام ؛ وذلك لأن النفي في «لا ضرر» انصبّ على الضرر الخارجي بلحاظ منشأه الشرعي كما ذكرنا. وفي المقام لما كان المكلف يعلم بوجوب الوضوء ، ويعتقد عدم ضرريته بالنسبة إليه كما هو المفروض ، فسوف يتوضأ ويقع في الضرر الخارجي ، ولا يمكن للشارع أن ينفي هذا الضرر خارجاً ، لأن نفيه إن كان بنفي إطلاق وجوب الوضوء لحالة الضرر الواقعي غير الواصل ، فمن الواضح أن مثل هذا النفي لا يجدي في ردع المكلف خارجاً عن الوضوء والوقوع في الضرر ، لأن المفروض أنه جاهل بضرريته ، وهذا لازمه أنه سيقدم على الوضوء على كل حال. ومن هنا لا تبقى أي فائدة في رفع الحكم إلا إبطال عمله ولزوم الإتيان

٢٤٧

بالتيمّم ، وهذا ما لا يمكن إلفات نظر الجاهل إليه.

هذا مضافاً إلى أن ظاهر الحديث نفي الحكم الذي يساوق بحسب النتيجة ارتفاع الضرر عن المكلف خارجاً ، فيكون تسهيلاً عليه ومنّة. وهذا ما لا يمكن تحققه بالنسبة إلى الجاهل أيضاً ، وإن كان النفي بلسان نسخ أصل وجوب الوضوء على المكلف سواء كان معه ضرر أم لا ، فهذا وإن كان معقولاً في نفسه ، إلّا أن إيصال هذا النسخ إليه غير ممكن ، لأن هذا المكلف كغيره من

المكلّفين لا يحتمل أن وجوب الوضوء منسوخ في الشريعة ، بل هو ثابت بالضرورة لغير المتضرّر ، والمفروض أنه لا يعتقد ضررية الوضوء بالنسبة إليه ، فلا يرى نفسه مصداقاً للحكم المنسوخ.

وعليه فلعل الأصحاب الذين أفتوا بصحة الوضوء ، وإن كان مستندهم «لا ضرر» إلّا أنهم بارتكازهم العرفي فهموا هذه النكتة ، فلم يستفيدوا إطلاق النفي لحال الجهل بالضرر.

النكتة الثالثة : التي أبرزها المحقّق العراقي ، هي عكس النكتة الثانية ، حيث كان المكلف هناك يعلم بالوجوب ويجهل الضرر ، هنا يعلم بالضرر ، لكن لا يعلم بوجوب الوضوء عليه لدخول الوقت مثلاً :

أفتى الفقهاء في المقام بأن الوضوء غير صحيح ، من هنا لا بد أن نلاحظ هل هذه الفتوى تنسجم مع مسلك «لا ضرر» أو مع مسلك اجتماع الأمر والنهي؟ لأنه بناءً على أن المستند هو الأول يلزم أن يقال : إن «لا ضرر» إنما تنفي الحكم الذي يؤدي إلى الضرر ، وفي المقام حيث إنّ وجوب الوضوء مجهول وغير واصل إلى المكلّف ، فهو مؤمَّن عنه بالأصول المؤمنة ، ومن ثم لا يكون مثل هذا الوجوب مؤدّياً إلى الضرر ، فلا يكون مشمولاً للقاعدة. وعليه

٢٤٨

فلو توضأ وانكشف له بعد ذلك أن الوضوء كان واجباً ، فمقتضى ذلك صحّة وضوئه لأنه صدر من أهله ووقع في محله ، لأن المفروض أن الوجوب الواقعي غير الواصل كان ثابتاً ، ولم يكن مرفوعاً بلا ضرر.

أما إذا بنينا على مسلك اجتماع الأمر والنهي ، فإنه لا إشكال في أن الوضوء يكون باطلاً في المقام ، لأن الوجوب وإن لم يصل ، إلّا أن الحرمة واصلة لأنه عالم بالضرر ، كما هو المفروض ، ومع وصول الحرمة تكون منجزة ، ومعه يستحيل أن يقع الوضوء على وجه العبادة. إذن بناءً على هذا التفسير يكون الحكم بالبطلان في فرض الجهل بالوجوب كالبطلان في فرض العلم به بملاك واحد.

هذه النكتة غير تامّة ، لأنه حتى لو اخترنا المسلك الأول في المقام ، فإنه لا يمكن تصحيح الوضوء أيضاً.

توضيحه : أننا إذا خصّصنا حكومة «لا ضرر» على دليل وجوب الوضوء بصورة العلم بالحكم ، وقلنا بأن جعل الحكم على المريض منوط بأن لا يكون منجّزاً عليه ، لأن إطلاقه لفرض المنجزية يلزم منه أن يكون مرفوعاً بلا ضرر ، فمعنى ذلك أن يتقيّد وجوب الوضوء على المريض بما إذا لم يكن منجزاً عليه ، لا بالعلم ولا بغيره ، ومثل هذا الجعل لا يقبل المنجزية ، وما لا يقبل المنجزية غير معقول كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ، ولو فرض أنه معقول وممكن ثبوتاً. إلا أنه غير عقلائي إثباتاً ، بمعنى أن العرف بعد أن يرفع اليد عن دليل وجوب الوضوء لا يرى أنه يقتصر على رفع اليد عن إطلاقه فقط ، ويتحفظ على الوجوب مقيّداً بعدم المنجزية ، لأن ذلك على خلاف الارتكاز العقلائي ، وعلى هذا فدليل نفي الوضوء للعالم به ، يدلّ على نفيه مطلقاً حتى عن الجاهل

٢٤٩

بوجوبه. نعم إذا كان رفع اليد عن إطلاق الوجود لورود مقيد ، أمراً عرفياً ومطابقاً مع الارتكاز العقلائي ، فلا محذور من الالتزام به.

ممّا تقدّم اتضح أن النكات التي أشار إليها المحقّق العراقي لإثبات أن المشهور لم يعتمدوا على «لا ضرر» في المقام غير تامّة. بل ظاهر كثير من كلماتهم أنهم استندوا على هذه القاعدة في مقام نفي وجوب العبادات الضررية.

وبهذا تمّ الكلام في المورد الأول.

المورد الثاني : إثبات الخيارات من خلال القاعدة

استند المشهور في إثبات جملة من الخيارات ، كخيار الغبن وتبعّض الصفقة ونحوهما إلى هذه القاعدة ، وهذا خير شاهد على أن استناد الفقهاء على هذه القاعدة من باب أنها دليل فقهي برأسه ، لا أنه لمجرّد الاستيناس والتبرّك.

إلّا أن المحقق العراقي لم يقبل ذلك في المقام ، ويمكن تقسيم كلامه إلى قسمين :

الأول : هل يمكن استفادة الخيار في هذه الموارد من هذه القاعدة أم لا؟

الثاني : على فرض إمكان ذلك ، لا بدّ من الوقوف على أن اللوازم والآثار التي التزم بها الفقهاء في هذه الموارد ، هل تنجسم مع مفاد القاعدة أم لا؟

القسم الأوّل : ذكر أن تطبيق القاعدة على هذه الموارد فرع تحقق الضرر ، والضرر المتصوّر إما ماليّ بدعوى : أن المغبون مثلاً حين باع سلعته بأقل ممّا هي عليه ، فقد تضرّر ماليّاً ، وإمّا باعتبار فوات الغرض ، لأن داعيه من المعاملة والمبادلة هي حفظ مالية ماله من خلال الثمن الذي يحصل عليه ،

٢٥٠

والمفروض عدم تحقّق ذلك ، فتنطبق القاعدة بلحاظ أحد هذين الضررين.

أما الضرر المالي فهو وإن كان ثابتاً في خيار الغبن وكأنه على هذا الأساس ارتضى المحقق العراقي إمكان استفادة هذا الخيار من القاعدة لو تمّت في نفسها إلّا أن تطبيق القاعدة على خيار تبعّض الصفقة لا وجه له ، لأنه لا ضرر مالياً فيه حتى ينفى ب «لا ضرر». فلو كان تطبيق القاعدة بلحاظ الضرر المالي ، فكيف يمكن تصوير ذلك في خيار تبعّض الصفقة ، مع أن المشهور يستدلّون بهذه القاعدة لإثباته؟

أما إذا كان الضرر هو تخلّف الغرض من المعاملة ، فهذا وإن كان مشتركاً بين الغبن وتبعّض الصفقة ، لكن لا يسمّى ضرراً في خيار تبعّض الصفقة ، لأن مجرّد فوات الغرض ليس ضرراً ، لأنه كثيراً ما تتخلّف الحيثيات الغرضية في باب المعاملة ولا يلتزم بالخيار بوجه من الوجوه.

القسم الثاني : أن الفقهاء التزموا في خيار الغبن ببعض اللوازم التي لا يمكن استفادتها من القاعدة لو كانت هي المستند لإثبات هذا الخيار.

اللازم الأول : التزامهم بأن خيار الغبن ثابت بنحو يقبل الإسقاط ، كما هو الشأن في الحق ، فلو فرض أن المستند هو قاعدة «لا ضرر» بدعوى أن لزوم المعاملة الغبنية ضرري على المغبون ، فلا بد من رفع هذا اللزوم. هنا يقول المحقق العراقي إن ارتفاع اللزوم بنحو يكون قابلاً للإسقاط يحتاج إلى مئونة زائدة لا يمكن استفادتها من القاعدة ، لأن غاية ما تفيده هو عدم اللزوم الأعم من كونه حقّا قابلاً للإسقاط كما هو الحال في خيار المجلس ، أو حكماً غير قابل للإسقاط كما في عقد الهبة قبل تلف العين ، فإنه ليس بلازم ، ولكن عدم اللزوم فيه حكمي ، لذا لا يقبل الإسقاط حتى لو أسقطه الواهب.

٢٥١

والحاصل أن المستفاد من القاعدة هو نفي جامع اللزوم الأعم من الحقي والحكمي ، فكيف عرف الفقهاء أنه عدم حقي لا حكمي ، وهذا لا وجه له إلّا أنهم لم يستندوا إلى هذه القاعدة في مقام إثبات هذا الخيار ، وإلا لما أمكن توجيه ما التزموا به.

اللازم الثاني : انتقال خيار الغبن بالإرث ، فإن الفقهاء أفتوا بانتقال هذا الخيار بالإرث لو مات المغبون قبل الفسخ ، ومن المعلوم أن الذي ينتقل بالإرث هو الحق دون الحكم ، فلو كان المستند قاعدة «لا ضرر» لما أمكن استفادة هذا المعنى منها.

والحاصل أن هذين الأثرين اللذين التزم بهما المشهور لا ينسجمان مع

كون المستند لخيار الغبن هو «لا ضرر». من هنا لا بد أن يكون فتواهم بذلك مستنداً إلى دليل آخر غير هذه القاعدة.

والجواب عن القسم الأول من كلامه (قدس‌سره) : أننا يمكن أن نذكر تقريباً آخر يصحّح جريان القاعدة في موارد خيار الغبن والعيب وتبعّض الصفقة ونحوها من دون حاجة إلى افتراض ضرر مالي ، لئلا يقال : إن تبعض الصفقة لا يوجد فيه ضرر مالي ، وتخلّف الغرض والداعي ليس بضرر ، وحاصله : أن الضرر كما تقدّم على قسمين : تارة يكون نقصاً تكوينياً بلا حاجة إلى فرض عناية عقلائية ، وأخرى يكون نقصاً في طول عناية عقلائية في الرتبة السابقة.

وقد بيّنا أن القاعدة تشمل كلا هذين النوعين من الضرر. وعلى هذا الأساس نقول : إن خيار الغبن وتبعّض الصفقة وما يشابهما ، ليست خيارات شرعية مجعولة من قبل الشارع تعبداً كخيار المجلس مثلاً ، وإنما هي نحو حقوق

٢٥٢

كانت تعيشها المجتمعات العقلائية ولا زالت إلى يومنا هذا ، وهي ناشئة من ارتكازات عقلائية بقطع النظر عن الشريعة ؛ من هنا لو لم يعترف الشارع بمثل هذه الحقوق لكان ذلك ضرراً بلحاظ النظر العقلائي. وبهذا يتحقّق مصداق حقيقي آخر للضرر ، فتشمله القاعدة كما أوضحناه فيما سبق.

لا يقال : إن الاستدلال ب «لا ضرر» حينئذ يكون لغواً ، لأن المفروض أن خيار الغبن مثلاً قائم على أساس ارتكاز عقلائي ، فيثبت بالسيرة العقلائية من دون حاجة إلى دليل آخر.

لأنه يقال : إن الاستدلال بالسيرة إنّما يتمّ إذا كانت ممضاة من قبل الشارع. وقاعدة «لا ضرر» تثبت الإمضاء.

إذن فهذا التقريب تامّ في نفسه ، وينسجم مع الأصول التي نقّحناها في تفسير القاعدة.

أما القسم الثاني من كلامه فيرد عليه :

أولاً : أن دعوى عدم إمكان إثبات الجواز الحقي من القاعدة غير تام ، لما ذكرناه في التقريب المختار في بيان كيفية جريانها في المقام ، لأن المجعول عقلائياً هو الحق بعنوانه ، حينئذ يعتبر سلب هذا الحق ضرريّاً ، فتترتّب الآثار واللوازم المتقدّمة.

ثانياً : لو سلمنا أن تطبيق «لا ضرر» في المقام كان بلحاظ الضرر المالي كما ذكره المحقق العراقي ، لأمكن استفادة كلا اللازمين المتقدّمين أيضاً.

أما قابليته للإسقاط ، فلأنّ لزوم المعاملة الذي نريد أن نرفعه ب «لا ضرر» له حصّتان ، إحداهما : اللزوم في حالة عدم إسقاط المغبون لحقّه ، والأخرى : اللزوم في حالة رفعه اليد عن حقه الذي يلازم الإسقاط. إذن لا بد

٢٥٣

أن نرى أنّ ما يكون ضرريّاً ، هل هما الحصتان معاً أو إحداهما؟ لا إشكال أن الحصة الثانية ليست بضررية ، لأن رضا المشتري بلزوم المعاملة وقبوله لها ، كرضاه بالبيع من أوّل الأمر إذا كان عالماً بالغبن أو العيب ، فيكون من قبيل الضرر المقدم عليه غير مشمول للقاعدة. وأما الحصة الأولى فإنه يرفع اليد عن اللزوم لضرريته ، ويتحفّظ على اللزوم في غيرها ، فيتقيّد اللزوم المرفوع بغير حالة رفع المغبون يده عن حقه ، ونتيجته أن اللزوم يكون مقيّداً ومشروطاً بأن يسقط المغبون حقّه. وهذا معنى قابلية هذا الخيار للإسقاط.

وأما قابليته للانتقال بالإرث ؛ فلأن الإرث موضوعه عنوان المال لقوله (عليه‌السلام) : «من ترك مالاً فلورثته» فإذا فرضنا أن عدم اللزوم والخيار الذي كان ثابتاً للمغبون ، بنحو لا يقبل الإسقاط ، فمن الواضح أن هذا الخيار لا ينتزع منه عنوان المال بالنظر العقلائي ، ليكون مشمولاً لدليل الإرث. أما إذا فرض أنه كان قابلاً للإسقاط لما تقدّم ، اعتُبر مالاً بحسب الارتكاز العرفي ولذا يبذل بإزائه المال لإزالته ، فيكون مشمولاً لدليل الإرث ؛ ومن ثم يكون انتقاله إلى الوارث بإطلاق أدلّة الإرث ، لا بالدليل الأول كي يقال إن القاعدة لا تفيد ذلك.

هذا تمام الكلام فيما أفاده المحقّق العراقي في المقام.

كيفية تطبيق القاعدة على خيار الغبن

يعتبر تطبيق القاعدة على خيار الغبن من أهم التطبيقات التي ذكرها المحقّقون بما فيهم المحقّق العراقي ؛ لذا سنقف على هذا البحث بنحو أكثر تفصيلاً.

ذكرت في كلمات الأعلام عدّة تقريبات لهذا التطبيق :

٢٥٤

التقريب الأول : أن المعاملة الغبنية تولّد ضرراً ماليّاً بالنسبة إلى المغبون ،

فتجري القاعدة لرفع ذلك الضرر من خلال نفي اللزوم وإثبات الخيار.

وهذا الوجه هو محطّ أنظار المحقّقين في المقام. وقد أشكل عليه بعدّة إشكالات :

الإشكال الأول : أن يقال لماذا نقتصر في مقام تطبيق القاعدة على نفي خصوص الحكم باللزوم ، ولا يتوسع لنفي أصل الحكم بالصحة ، وذلك لأن الضرر المالي ناشئ من صحّة المعاملة أيضاً لا لزومها فقط ، بل المنشأ الأول لحصول النقص في مال المغبون هو الحكم بالصحة ، أما لزوم المعاملة وجوازها فهو فرع صحتها. ومع نفيها وإثبات بطلانها بالقاعدة لا تنتهي النوبة إلى ما يتفرّع عليها ؛ وبذلك يرتفع موضوع الخيار في المقام (١).

وقد أُجيب عن هذا الإشكال في كلمات الأعلام بعدّة وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) وحاصله : أن المتحقّق هو فرد واحد من الضرر ، وهو النقص المالي الحاصل حين العقد والمستمر بعد ذلك. وهذا الفرد حدوثه يستند إلى الحكم بالصحة ، وبقاؤه إلى ما بعد فسخ المغبون إلى الحكم باللزوم ، لأنه لو لم تكن المعاملة لازمة لما بقي هذا النقص المالي. وعلى هذا الأساس فلو خلّينا نحن والقاعدة لنفينا هذا الفرد الواحد بحدوثه وبقائه ، وبذلك ينفى الحكم بالصحة فضلاً عن اللزوم كما قيل

__________________

(١) حاشية كتاب المكاسب ، للمحقق البارع الفقيه الكبير الحاج الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني (قدّس سره) ، منشورات مجمع الذخائر الإسلامية قم ، إيران ، ج ٢ ، ص ٥٣ ، وكذلك : ج ٤ ، ص ٢٤٣ ، تحقيق الشيخ عباس محمد آل سباع القطيفي.

٢٥٥

في الإشكال. لكن الضرر بوجوده الحدوثي ثابت بالإجماع (١) ، فيكون خارجاً تخصيصاً عن دائرة النفي ، فنتمسك بالقاعدة لنفي الضرر بوجوده البقائي ، ومن المعلوم أن هذا الوجود يستند إلى الحكم باللزوم ، فينحصر مفاد القاعدة في نفي اللزوم فحسب.

وتعليقنا على هذا الوجه أن هناك ضررين ؛ أحدهما ينشأ من الحكم بالصحة وهو الوجود الحدوثي للضرر ، والآخر ينشأ من الحكم باللزوم وهو الوجود البقائي للضرر. فإن قلنا إن الحكم بالصحة والحكم باللزوم كليهما بحسب الحقيقة حكم واحد ، وإن اللزوم معناه الصحة إلى ما بعد الفسخ ، وعدم اللزوم معناه عدم الصحة إلى ما بعد الفسخ ، وتحقّق هذا الحكم الواحد حدوثاً لا إشكال فيه ، لأن الصحة مفروغ عنها في المقام ، لكن لا نعلم هل هي باقية إلى ما بعد الفسخ أم لا؟ فهو شك في بقاء الحكم الضرري لا في أصل حدوثه. فهنا تارة نستفيد من نفي الطبيعة في «لا ضرر» أن مصبّ النفي هو الحدوث بعنوانه ببعض المناسبات العرفية ، وأخرى نقول : إن عنوان الحدوث لم يؤخذ في مفاد الدليل ، لذا يكون مصبّ النفي ذاتاً هو الفرد بقطع النظر عن خصوصيته الحدوثية والبقائية. فإن فرضنا الاحتمال الأول ، فلا يبقى بعد العلم بأن بعض الأفراد حدثت في دليل النفي نظر إلى نفي البقاء أيضاً ، لأن مصبّ النفي هو الحدوث ، فيكون من قبيل ما لو علمنا أن زيداً قد وجد في يوم الجمعة صباحاً ، ولكن نشك في استمرار بقائه إلى العصر ، فلا يمكن أن نجعل قوله «لا رجل في الدار» بعد تخصيصه بحدوث وجود زيد ،

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥٦

دليلاً على أنه لم يبق إلى العصر ، كذلك في المقام ، فإن «لا ضرر» لما كان مصبُّ النفي فيه هو حدوث كل فرد من أفراد الضرر ، فإذا علمنا بأن فرداً منه قد وجد يقيناً بالإجماع ، فلا مجال لنفيه بقاءً بعد ذلك ؛ لعدم نظر الدليل إليه. أما إذا قبلنا الاحتمال الثاني وقلنا إن النفي مصبّه هو الجامع انعقد للدليل بلحاظ البقاء إطلاق أفرادي وإطلاق أحوالي. أما الأول فهو ينفي جميع أفراد الضرر ، وأما الثاني فهو ينفي الضرر بحدوثه وبقائه. وهنا غاية ما علمنا من الإجماع أن حالة الوجود الحدوثي للضرر قد خرج عن إطلاق النفي ، فنلتزم بالتقييد ، ويبقى الوجود البقائي تحت دائرة النفي ، فيكون المستفاد من القاعدة نفي البقاء.

والحاصل : إذا قلنا إن الحكم بالصحة واللزوم واحد ، فإنْ بنينا على أن مصبّ النفي هو الحدوث ، فلا يمكن التمسّك ب «لا ضرر» لنفي بقاء الحكم بعد حدوثه. وإذا قلنا إن مصبّه هو الجامع فلا يمكن التمسّك به. إنما الكلام في قضية هل يوجد للقاعدة إطلاق أحوالي يرجع إليه بعد تخصيص إطلاقه الأفرادي أم لا؟

أما إذا افترضنا تعدّد الحكم بالصحة واللزوم وأنهما مجعولان بجعلين مستقلّين ، إذن فلكل منهما حدوث في نفسه ، وكلاهما ينبغي نفيه في المقام لأنهما ضرريان ، إلّا أن أحدهما وهو الحكم بالصحة قد ثبت بالإجماع فخرج تخصيصاً من «لا ضرر» ، وأما الحكم باللزوم فلم يثبت خروجه بالإجماع ، لذا يتمسّك بإطلاق القاعدة في مقام نفيه ، ويكون في الحقيقة نفياً للحدوث ، لأن المفروض أن الحكم باللزوم مستقل ، ويشك في حدوثه ، فيُتمسك ب «لا ضرر» لنفيه.

٢٥٧

هذا ما ينبغي أن يقال في مقام التعليق على هذا الجواب ، وسوف يتضح الجواب الصحيح عن هذا الإشكال فيما بعد.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقّق العراقي (قدس‌سره) وحاصله : أن الحكم بالصحة وإن كان ضرريّاً ، لكن رفعه مخالف للامتنان بالنسبة إلى المتضرّر ، لأن الأوفق بحاله هو أن يرفع اللزوم دون الصحة ، لأنه إنْ رفع الصحة واللزوم معاً وحكم ببطلان المعاملة رأساً ، فهذا إلزام للمغبون أن يستردّ سلعته وليس له خيار آخر ، بخلاف ما لو فرض أنه رفع اللزوم دون الصحة ، ففيه إعطاء فرصة زائدة له ، فلذا يكون أوفق بالامتنان. وحيث إن القاعدة لا تجري في مورد يكون مخالفاً للامتنان ، إذن لا يمكن التمسّك بها لنفي الصحة ، وإنما يقتصر على نفي اللزوم فحسب.

هذا الكلام تارة نتكلّم فيه من حيث الكبرى ، وأخرى من حيث الصغرى.

أما الكبرى فهي مسألة أن لا يلزم من جريان القاعدة خلاف الامتنان. هذه الشرطية لها تقريبان :

أحدهما : ما ذكره المشهور ، وهو ما إذا كان هناك حكم ضرري على شخص ، إلّا أن رفعه عنه يكون مخالفاً للامتنان على شخص آخر ، كما تقدّم في البيان الذي ذكره المحقّق العراقي في قصة سمرة مع الأنصاري ، حيث إن منْع سمرة من الدخول بلا استئذان ، وإن كان فيه امتنان على الأنصاري ، إلّا أنه خلاف الامتنان على سمرة. هذا المعنى من المخالفة للامتنان ليس مانعاً من جريان القاعدة عندنا ، لأننا لا نشترط في التمسّك بها أن لا يكون مخالفاً للامتنان بالنسبة إلى شخص آخر. نعم إذا بلغت المخالفة بحيث تكون ضرراً

٢٥٨

بالنسبة إلى الآخر أيضاً ، دخل في باب تعارض الضررين ، وهي مسألة أخرى سيأتي الحديث عنها.

ثانيهما : أن يكون نفي الحكم الضرري موافقاً للامتنان بالنسبة إلى نفس الشخص الذي رفع عنه الضرر. وبتعبير آخر لا بدّ أن يكون حال الشخص بعد جريان القاعدة أحسن من حاله قبل جريانها.

وعلى أساس هذا التقريب للشرطية يمكن بيان هذا الوجه بأن رفع الصحة واللزوم إن كان هو الأوفق بحال المتضرّر ، فتجري القاعدة بلا إشكال. أما إذا كان رفع أحدهما هو الأولى بحاله ، فسيكون جريان القاعدة لرفعهما مخالفاً للامتنان.

وتطبيقاً لهذا الميزان نقول : إن اقتصرنا على رفع اللزوم فقط دون الصحة ، فلازمه أن يعطى المتضرر فرصة أكبر للتفكير واختيار ما هو الأوفق والأحسن بحاله من الفسخ والإمضاء ، بخلاف ما لو فرضنا أن دائرة النفي اتسعت لتشمل أصل الصحة أيضاً ، فلازمه أننا ضيّقنا عليه مساحة الاختيار ، فليس له إلّا أن يفسخ ويأخذ سلعته.

ومن الواضح أن هذا تضييق في تلك الفرصة التي أُعطيت له في الحالة السابقة ، وبذلك يكون خلاف الامتنان بالنسبة إليه ، لأن حاله قبل أن توسّع دائرة النفي أحسن من حاله بعد ذلك. من هنا لا يمكن أن يقال إن هذه التوسعة مجعولة لصالح المتضرّر ، وعليه فلا يمكن إثباتها بإطلاق القاعدة.

هذا حاصل ما يمكن أن يقال في تنقيح هذا الوجه.

والتحقيق أن يقال :

إن أُريد من هذا الشرط أن يكون امتناناً شأنياً بالنسبة لمن يجري في حقّه ، فهو متحقّق في المقام ،

٢٥٩

لأن نفي الحكم بالصحة في النتيجة هو نفي للضرر فيكون موافقاً للامتنان ، وإن استلزم شيئاً آخر مخالفاً له ، وهو تضييق دائرة الفرصة على المكلف.

وإن أُريد منه ما يكون مخالفاً للامتنان الفعلي مع الأخذ بعين الاعتبار تمام الخصوصيات والظروف المحيطة بالمكلف. فمثل هذا لا يمكن أن ينضبط بضابط عام ، لأنه قد يكون نفي الصحة هو الموافق للامتنان وقد يكون العكس ، من قبيل ما لو فرضنا أن المغبون لملاحظات خارجية لا يمكنه أن يُعمل الخيار ويفسخ المعاملة ليصل إلى حقّه ، بخلاف ما إذا حكم ببطلان المعاملة من أول الأمر. وهذا معناه أن الظروف والخصوصيات تختلف من شخص إلى آخر ، اللهمّ إلّا أن يراد من الامتنان الفعلي النوعي الغالبي لا الشخصي ، فيكون الامتنان منسجماً مع رفع اللزوم دون الصحة.

الوجه الثالث : ما هو المختار في المقام. وتوضيحه : أن المعاملة الغبنية وإن كانت بمجرّد الحكم بصحتها توجب نقصاً في المالية لا محالة. إلا أن هذا النقص لا يصدق عليه عنوان الضرر ، إلّا إذا كانت المعاملة لازمة. أما إذا فرض أنها ليست كذلك ، بأن كان المغبون قادراً على إزالة هذا النقص ولو عن طريق إعمال حق الخيار الثابت له. فمثل هذا النقص لا يصدق عليه أنه ضرر من أوّل الأمر ، لما ذكرنا سابقاً من أن الضرر ليس هو عبارة عن مجرد النقص ، بل فيه حيثية ذاتية.

بتعبير آخر : الضرر عبارة عن النقص الذي يوجب نحواً من الضيق وشدّة الحال على الإنسان ، وهو الذي أسميناه بالجانب الذاتي والنفسي للضرر. وفي المقام وإن كان عنوان النقص صادقاً ، لكن عنوان الضرر لا يصدق على هذا

٢٦٠