لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

(بدعوى أنه لا يصدق في العرف على من سبّ شخصاً أو نظر إلى محارمه بوجه غير مشروع أنه أضرَّ به ، كما أنه لا يقال إنه نفعه لمجرّد أن يثني عليه ، ومن هنا خُصص مفهوم الضرر في بعض الكلمات بخصوص النقص في النفس والمال) غير تامّ ؛ لأن هذه الموارد ليست داخلة فيما نحن فيه.

فإنه يفرض تارة أننا ننقص مال شخص فنتلف بعض كتبه مثلاً ، فهذا ضرر بلا إشكال ؛ وأخرى لا نحفظ حرمة مالكيته لهذا المال ، فنطالع في كتابه بلا إذنه ، وهذا لا يصدق عليه أنه ضرر على المالك.

هذه النكتة يمكن تطبيقها على الكرامة والعرض أيضاً ، فإنه تارة تهتك كرامته وعِرضه من جرّاء عمل يؤدي إلى تنقيص شأن هذا الإنسان واعتباره بين الناس ويفقد كرامته في المجتمع ، فهذا ضرر بلا إشكال ، بل هو أعظم من الإضرار المالية في جملة من الموارد ؛ وأخرى يفرض أنه لا يرتب الأثر على هذه الكرامة والاعتبار ، فينظر إلى محارمه كما كان يفعل سمرة بالنسبة إلى الصحابي ، فلا يكون نقصاً.

فما توهِّم خلْط بين هتك كرامة أحد وبين عدم ترتيب الأثر عليها ، وما ذكر من الموارد كلها من قبيل الثاني لا الأول. إذن فالنقص الذي هو مقوّم مفهوم الضرر ، يعمّ النقص في العرض والكرامة أيضاً بالمعنى العام.

بقي هنا شيء وهو أن النقص في هذه العناوين قد يستبدل أحياناً بشيء آخر ، بحيث يصدق الضرر من دون نقص في تلك العناوين. مثلاً : لو أن عاملاً ذهب إلى شركة تجارية لأجل أن يعمل ، وفرضنا أن شخصاً كسمرة طلب من صاحب الشركة عدم تشغيله ، فهذا الفعل يوقع ضرراً كبيراً على العامل ، مع أنه لم يحصل نقص في النفس أو المال أو العرض. فهنا عُوِّض عن

١٤١

ذاك النقص بصدور عمل خارجي من قبل شخص يؤدي بالإنسان إلى إيقاعه في المكروه. ولعل هذا هو مقصود بعض اللغويين حيث ذكروا في معنى هذه المادة ، بأنه الفعل الذي يوقع في المكروه. بناءً على هذا يصدق الضرر على ما نحن فيه وإن لم يقع العامل في النقص من ناحية تلك العناوين.

ويمكن أن يقال : إن هذا بحسب الدقة أيضاً يرجع إلى النقص ، وليس من باب التعويض عن النقص بشيء آخر ، فهو نقص في حق هذا الشخص ، وذلك لارتكاز استحقاق كل إنسان لمرتبة من الاستقرار والطمأنينة والحرية في التصرف والانتقال ، وهذا حق ثابت للإنسان بحسب الارتكاز العقلائي إلّا من خرج بملاكات خاصّة كالمسجون بجريمته فهذه الأعمال تعتبر بحسب الحقيقة نقصاً في حقّه أيضاً ، أي سلباً لما هو حقّه ، فإنه لا فرق في ذلك بين أن يُسلب حقّ عينيّ متمثّل في مال خارجي ، أو يُسلب حق معنويّ متمثِّل في نحو من العيش والاستقرار ؛ فيقال بأن هذا الشخص اعتدى على حق العامل ، وإن لم ينقص من أمواله شيئاً.

وهذا النحو من الضرر مشمول للقاعدة أيضاً بقرينة المورد ، وهي قصة سمرة. فماذا فعَل سمرة بالنسبة إلى ذلك الصحابي ليصدق عنوان الضرر ، هل أنقص من ماله أو نفسه أو كرامته شيئاً؟ يقول جملة من الفقهاء : هذا ضرر عرضي باعتبار أنه كان يهتك عرضه. وقد بيّنا فيما سبق أن هذا خلط بين عدم ترتيب الأثر على كرامته وعرضه ، وبين انتهاكه ؛ وما يكون ضرراً هو الثاني دون الأوّل ، فلا يوجد هنا ضرر ينطبق عليه أحد العناوين الثلاثة بحسب الحقيقة. نعم إنَّ فعْل سمرة كان سبباً في وجود ضيق وشدّة على الصحابي ، لأن سمرة كان مصرّاً على الدخول إلى البيت بلا استئذان من الأنصاري ،

١٤٢

وهذا العمل كان يوقع صاحب البستان في مكروه وضيق ، وهو يرجع بحسب الارتكاز العقلائي إلى نقص في حقّه ، لأن من حقوق الإنسان أن يكون قادراً على حفظ كرامة عائلته وشؤونها بنحو كامل ، وسلب هذا الحق يعدّ نحواً من النقص ، فالضرر طبق في الرواية على مثل هذا المورد.

وهذا من المطالب المهمّة في مقام الاستنباط ، لأن كثيراً من الفقهاء الذين فسَّروا الضرر بالنقص في المال والنفس والعرض ، نجدهم في كل مورد لا يرون نقصاً في أحد هذه العناوين لا يطبّقون القاعدة. وعلى هذا الأساس لا يطبقون هذه الكبرى على الموارد التي أشرنا إليها وما يشابهها ، مع أن الإضرار الواقعة فيها أشدّ بمراتب من الإضرار التي تقع بالمعنى التقليدي للضرر. فهذه التوسعة في مفهوم الضرر ، مضافاً إلى أن الارتكاز العرفي يساعد عليها ، توجد عليها قرينة من نفس الرواية ، حيث لا يتم التطبيق إلّا بلحاظ هذه التوسعة.

تقابل الضرر والنفع

بقي الكلام فيما ذكره المحقّق صاحب الكفاية ، من أن التقابل بين الضرر والمنفعة هو تقابل العدم والملكة (١). واستشكل عليه المحقق الأصفهاني بأن تعبيره في المقام يختلف عمّا ذهب إليه الآخرون من أنهما ضدّان ، ولم يقبلهما معاً (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول ، تأليف الأستاذ الأعظم المحقق الكبير الآخوند الشيخ محمد كاظم الخراساني (قدس‌سره) ، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم‌السلام) لإحياء التراث ، ص ٣٨١.

(٢) قال (قدس‌سره) : «ظاهر أهل اللغة أن تقابل الضرر والنفع تقابل التضاد ، وظاهر شيخنا الأستاذ (قدس‌سره) أن تقابلهما تقابل العدم والملكة ، ولا يخلو كلاهما عن محذور : اما الاول فواضح ، اذ لیس الضرر بالنقص فی النفس او المال

١٤٣

أما الأول ، فلأن الضرر وإن كان عدماً ، لكنه ليس عدم المنفعة ليكون تقابله معها تقابل العدم والملكة ، بل عدم بقاء مرتبة التمام على حالها ، فهو عدم في قبال مرتبة التمام لا في قبال الزيادة. إذن فالضرر لا يقابل الزيادة ، لأن المعدوم به ليس هو الزيادة بل مرتبة التمام. وكذلك ليس التقابل بينهما هو التضاد ، لأن المتضادين أمران ثبوتيان ، والضرر ليس وجودياً ، بل عدمي كما تقدّم. وما ذكره غير تام.

أما قوله : إن الضرر أمر عدمي ، فقد تبيّن ممّا سبق أن الضرر ليس هو عبارة عن مجرّد عدم التمامية في الجانب الخارجي فقط ، بل هو مفهوم ثبوتي منتزع من إضافة هذا العدم إلى الإنسان المتضرّر. فليس هو مجرد عدم التمامية حتى يقال إنه كيف صار ضدّاً للمنفعة ، بل ليست المنفعة أيضاً مجرد الزيادة ،

__________________

او العرض أمراً وجودياً ، ليكون مع النفع الذي هو أمر وجودي ، متقابلين بتقابل التضاد. وأما الثاني : فلأن النفع هو الزيادة العائدة إلى من له علاقة بما فيه الفائدة العائدة إليه ، وعدمها عدم ما من شأنه أن يكون له فائدة عائدة. إلا أن عدم النفع ليس بضرر ، والضرر هو النقص في الشيء وهو عدم ما من شأنه التمامية ، فهو عدم التمامية ، لا عدم الزيادة ، ليكون مقابلاً لها. بتقابل العدم والملكة ، وعدم الزيادة ليس بنقص حتى يرجع إلى الضرر.

نعم النقص والزيادة متقابلان بتقابل العدم والملكة بالعرض ، لأن الزيادة تستدعي بقاء المزيد على حدّه الوجودي ، فالنقص بمعنى عدم بقائه على صفة الثمامية يستلزم عدم الزيادة ، فيقابل الزيادة بالعرض». نهاية الدراية في شرح الكفاية ، تأليف آية الله العظمى المحقق الكبير الشيخ محمد حسين الأصفهاني ، تحقيق الشيخ أبي الحسن القائمي ، مؤسسة آل البيت (عليهم‌السلام) لإحياء التراث ، ج ٤ ، ص ٤٣٦.

١٤٤

وإنما هي مفهوم ينتزع عن الزيادة بلحاظ إضافتها إلى الإنسان المنتفع ، فكلاهما مفهوم ثبوتي ، فدعوى أنهما أمران ثبوتيان بينهما غاية الخلاف لا محذور فيها. وكذلك ما ذكره المحقّق الخراساني فلعل مقصوده ليس هو ما فهمه من أن الضرر عدم المنفعة ، بل عدم التمامية ، وإلّا يلزم أن يكون الشخص الذي لا تزيد أمواله متضرراً دائماً لأنه لم ينتفع مع وجود مقتضي المنفعة وقابليتها ، لوضوح أن مجرّد عدم المنفعة لا يكون ضرراً مع فرض قابلية الموضوع للانتفاع ، بل الظاهر أن المراد وجود ملاك تقابل العدم والملكة ، لا أنه من مصاديق هذا التقابل.

توضيحه : أليس يشترط في صدق المتقابلين في هذا التقابل قابلية الموضوع للآخر ، فليشترط هنا أيضاً في صدق الضرر قابلية الموضوع لأن يتحقق فيه منفعة. فالموضوع الذي تكون في زيادته منفعة يكون نقصانه ضرراً ، أما الموضوع الذي لا يتعقل فيه منفعة ، أي لا يصدق على زيادته منفعة ، لا يصدق على نقيصته ضرر أيضاً ، كالمباحات الأولية التي تكون نسبتها إلى هذا الإنسان وذاك على حدٍّ سواء ، لا يصدق على زيادتها أنها منفعة لهذا الشخص ، كما أن نقصانها لا يصدق عليه أنه ضرر.

إذن فالمراد إسراء نكتة العدم والملكة لا تطبيق عنوانهما ، بمعنى أنه أُخذ في كل من المنفعة والضرر قيد يقتضي تساوقهما في مقام الصدق ، وهذا القيد هو كونهما مضافين إلى حيثية راجعة إلى الإنسان. فإذا كان الأمر كذلك فيصدق على زيادتها المنفعة وعلى نقيصتها الضرر ، وإلّا فلا يصدقان معاً. فالتلازم بينهما في مقام الصدق صحيح ، وملاكه هذه النكتة المشتركة.

هذا تمام الكلام في البحث الأوّل.

١٤٥

البحث الثاني : بيان معنى الضرار

هذه الصيغة فيها احتمالات ثلاثة :

الأول : أن تكون مصدراً من باب المفاعلة ، المأخوذ من الثلاثي المجرّد.

الثاني : أن تكون مصدراً آخر للفعل الثلاثي المجرد أعني ضرّ ، من قبيل : كتب كتاباً وحسب حساباً ، فيفرض الضرار ككتاب.

الثالث : أن يكون فعلها رباعيا لا ثلاثياً مجرّداً ، إلّا أنه رباعي أصل لا مزيد ، ليدخل في باب المفاعلة كالمقاتلة ، من قبيل ما يُدّعى بالنسبة إلى بعض مصاديق هذه الصيغة ، كالمجاورة فإنها مصدر يجاور ، وهو مثلاً فعْل رباعي أصيل ، لا أنه ثلاثي مزيد ، ومن ثم قد لا تخضع في معناها لقانون باب المفاعلة.

فإذا أخذنا بالاحتمال الأوّل وهو : أن يكون «الضرار» قد جاء مصدراً من باب المفاعلة ، فيكون خاضعاً للقانون الكلي لهذا الباب ، وحينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى هذا القانون العام للوضع النوعي لباب المفاعلة ليعرف معناه كي يطبق على محلّ الكلام.

وفي المقام نظريتان ؛ إحداهما للمشهور ، والأخرى للمحقّق الأصفهاني.

نظرية المشهور في باب المفاعلة

ذهب المشهور إلى أن باب المفاعلة موضوع بالوضع النوعي لفعل الاثنين ،

١٤٦

بمعنى أنها تدلّ على نسبة يشارك فيها اثنان ، كالمقابلة والمضاربة والمنازعة ، حالها في ذلك حال باب التفاعل ، كالتضارب والتنازع والتقابل ، غاية الأمر أنهم فرّقوا بينهما أن الباب الأول يكون أحد الطرفين فيه أصيلاً والآخر تابعاً ، لذا يصح أن يجعل أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً ، مع أن الفعل بنحو المشاركة فيما بينهما ، فيقال مثلاً ضارب زيد عمراً ، بخلافه في الباب الثاني فهما في عرض واحد ليس بينهما طولية. من هنا لا يصحّ جعل أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً ، بل كلاهما في حكم الفاعل ، مثل تضارب زيد وخالد.

نظرية الأصفهاني في باب المفاعلة

وقد رفض المحقّق الأصفهاني هذه النظرية ، مدّعياً أن باب المفاعلة لا يشترط أن يكون بين اثنين. ويمكن تحليل كلامه إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : الاستدلال الاستقرائي اللغوي على عدم كون باب المفاعلة من فعْل الاثنين ، وذلك بالاستشهاد بموارد كثيرة من القرآن الكريم وغيره من موارد الاستعمال ، وشيء منها ليس من فعْل الاثنين ، من قبيل هاجَر ونافَق ، ففي هذه الموارد لا يوجد اثنان حتى يصلح أن يصدر منهما هذا الفعل (١).

__________________

(١) قال في نهاية الدراية : «لا يخفى عليك أن الضرار وإن كان مصدراً لباب المفاعلة ، وهو كما في المتن ، الأصل فيه أن يكون فعل الاثنين ، كما هو المشهود ، إلا أنه لا أصل له ، كما شهد له الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنية وغيرها ، فإن فيها ما لا يصح ذلك ، وفيها ما لا يراد منه ذلك كقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فإن الغرض نسبة الخديعة منهم إلى الله وإلى المؤمنين ، لا منهما إليهم أيضاً ،

١٤٧

القسم الثاني : إقامة البرهان على عدم كون باب المفاعلة بين الاثنين ، وهو مبني على فهم المحقق الأصفهاني لكلام المشهور حيث قال : إن المشهور فرّقوا بين باب المفاعلة وباب التفاعل ، بأنه مع اشتراكهما في وجود نسبتين فيهما معاً ، إلا أنه في الأول إحداهما أصلية والأخرى تبعيّة ، وفي الثاني كلتاهما عرضية كما تقدّم. فاعترض على هذا البيان بقوله : كيف يتصوّر أن تكون الهيئة في باب المفاعلة أو باب التفاعل دالة على نسبتين ، سواء كانت طولية أو عرضية؟ فإن كلّ هيئة ولفظ إنما يوضع لمعنىً واحد لا لمعنيين ، فكما أن اللفظ الواحد لا يستعمل إلّا في معنىً واحد ، كذلك الهيئة الواحدة لا تُستعمل إلّا في نسبة واحدة.

ثم قال في توضيح هذه النسبة : توجد هنا بحسب الواقع الخارجي نسبتان : نسبة الضرب إلى زيد ونسبته إلى عمرو ، وهما نسبتان متغايرتان بحسب الخارج ، لكن يمكن ملاحظة مجموع هذين الضربين شيئاً واحداً يُضاف بنسبة واحدة إلى الاثنين ، بحيث يكون الاثنان طرفي هذه النسبة الواحدة ، لا أن كلّاً منهما يكون طرفاً لنسبة مغايرة للنسبة التي يكون الآخر طرفاً لها. إذن فباب التفاعل كتضارب زيد وعمرو موضوع لهذه النسبة الواحدة المتحصّلة

__________________

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) و (يُراؤُنَ) و (وَنادَيْناهُ) و (نافَقُوا) و (شَاقُّوا) و (مَسْجِداً ضِراراً) و (لا تُؤاخِذْنِي) إلى غير ذلك.

ومن الاستعمالات ، عاجَلَةُ العقوبة ، وبارزه بالحرب ، وباشر الحرب ، وساعده التوفيق ، وخالع المرأة ، وواراه في الأرض ، فإن جميع ذلك بين ما لا يراد منه ذلك». نهاية الدراية ، ج ٤ ، ص ٤٣٧.

١٤٨

من مجموع النسبتين.

أما في «ضارب زيد عمراً» فإن قلتم : إنها موضوعة لهذه النسبة الواحدة المتحصلة ، فهذا معناه عدم الفرق بين باب المفاعلة وباب التفاعل ، مع أنّه لا إشكال في وجود الفرق بينهما.

وإن قلتم : باب المفاعلة موضوع لكلتا النسبتين التفصيليتين اللتين انتزعنا منهما هذه النسبة الثالثة ، فإنه يلزم من ذلك أن تكون الهيئة الواحدة دالّة على نسبتين ، وهو غير صحيح.

وإن قلتم : إن هيئة «فاعَل» تدل على إحدى النسبتين التفصيليتين بعينها ، فهذا هو المقصود ، وبناءً عليه ليس باب المفاعلة هو فعْل الاثنين.

هذا بالنسبة إلى ما ذكره المشهور من أن هيئة فاعَلَ وتفاعَلَ تدل على فعْل الاثنين.

أما فيما يرتبط بقول المشهور من أن إحدى النسبتين أصلية والأخرى تبعية في باب المفاعلة ، وكلتاهما أصلية في باب التفاعل ، فيقول الأصفهاني : هل المراد من ذلك بحسب مقام الإثبات أو الثبوت؟

فإن أريد الأول فمعناه أن هيئة «ضارب زيد عمراً» تدلّ بالمطابقة على ضرب زيد عمراً ، وتدلّ بالالتزام على ضرب عمرو زيداً. فهاتان النسبتان بحسب مقام الإثبات والدلالة بينهما طولية ، وهو غير صحيح لأنه لا موجب لأن يدل «ضارب زيد عمراً» على أن عمراً أيضاً ضرب زيداً ، لأن دلالة اللفظ على شيء بالالتزام فرع الملازمة ما بين المدلولين ، وفي المقام لا ملازمة بينهما.

وإن أريد ذلك بحسب مقام الثبوت (بمعنى أن النسبتين وإن كانتا بحسب

١٤٩

مقام الإثبات في عرض واحد ، وكلتاهما مدلول مطابقي لهيئة فاعَلَ ، غاية الأمر إحداهما في طول الأخرى ثبوتاً) فهو غير تامّ أيضاً ؛ وذلك :

أوّلاً : أنه لا يتعقل الطولية بين النسبتين ، لأن اللفظ لا يدل على أكثر من تحقق الضربين ونسبتهما إلى فاعلهما ، وهما في عرض واحد كما هو المفروض.

ثانياً : أن الهيئة الواحدة لا تدلّ بالمطابقة على نسبتين (١).

القسم الثالث : بعد أن ناقش المحقّق الأصفهاني نظرية المشهور في المقام ، تصدّى لبيان مختاره في المسألة ، فقال : إن باب المفاعلة موضوع لنكتة التعدية.

بيانه : أن الفعل المضاف إلى فاعله ، يُفرض تارة أنه قابل لأن يضاف إلى شخص آخر ، وأخرى غير قابل لذلك. ومثال الأوّل : «قتل زيد عمراً» ، ومثال الثاني : «جلس» فإنه لا يمكن أن يتعدّى بنفسه بل يتعدّى بالحرف فيقال : «جلس إليه». وهيئة باب المفاعلة موضوعة لهذه التعدية التي تؤديها هيئة الفعل في القسم الأوّل ، ويؤدّيها الحرف في الثاني. وعلى هذا الأساس يكون خدعه وخادعه وضربه وضاربه بمعنى واحد ، وكذلك جلس إليه وجالسه. غاية الأمر أن التعدية في «ضربه» تكون من شؤون ذات النسبة ولازماً ذاتياً لها ، أما في «ضاربه» فالتعدية ملحوظة ومنظور إليها بالنظر الاستقلاليّ.

فإن قيل : لو سلّمنا أن هذه الهيئة تجعل الفعل اللازم متعدياً ، وتقوم بنفس الدور الذي يقوم به حرف التعدية ، فما هو الدور الذي يقوم به إذا كان

__________________

(١) المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٤٣٨.

١٥٠

الفعل متعدياً بنفسه؟

قال : إن الهيئة عندها لا تفيد إلّا التأكيد (١).

هذا محصل كلام المحقق الأصفهاني في المقام.

مناقشة نظرية الأصفهاني

وسنبدأ في التعليق على كلامه من القسم الثالث ، فنقول : إنه غير تام لوجوه :

الأول : نتساءل هل الفعل المتعدي بنفسه كقتل وضرب حينما يطرأ عليه هيئة «فاعَلَ» يؤدي نفس تلك التعدية الثابتة لذات الفعل المجرّد ، أو يؤدي تعدية أخرى تختلف في حقيقتها عن تلك؟

والجواب أن هناك فرقاً بينهما ، وعدم التمييز ما بين التعديتين ناشئ من أن المفعول المتعدّى إليه في جملة من الموارد واحد في المجرد والمزيد. ففي قولنا : «ضرب زيد عمراً وضاربه» يتخيل أن «ضاربه» قامت بنفس وظيفة «ضربه» من حيث تعدية الضرب ، غاية الأمر أن ذاك بمقتضى طبع المطلب وهذا بمقتضى عناية في مقام لحاظ الواضع ؛ مع أنه ليس كذلك ، فإن تعدية المعنى الحدثي في «ضرب زيد عمراً» غير تعدية المعنى الحدثي في «ضارب زيد عمراً» ، ويظهر هذا فيما إذا اختلف المفعولان ، فمثلاً : في «جذبت الثوب وجاذبت زيداً الثوب» أصبح المفعول «زيداً» بعد أن كان هو «الثوب» وهذا معناه أن الفعل المجرد حينما يدخل عليه باب المفاعلة يتقمّص معنىً

__________________

(١) المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٤٣٩.

١٥١

حدثياً آخر يكون مفعوله غير مفعول الفعل المجرد تارة وعينه أخرى.

أذن لا بد من الالتزام أن هناك معنىً يطعم به باب المفاعلة غير مسألة التعدية يختلف عن تعدية الفعل المجرد.

مناقشة نظرية المشهور في الفعل اللازم والمتعدّي

الثاني : أن القول بأن الفعل اللازم المتعدّي بالحرف إذا طرأ عليه هيئة «فاعَل» يقوم بنفس دور الحرف غير صحيح ، لأنه مبنيّ على اصطلاح مشهوريّ

لا أساس له ، وهو دعوى أن الفعل إما لازم أو متعدّ ، واللازم يتعدّى بالحرف ، فيجعل التعدي بالحرف قسيماً للتعدّي بنفسه.

بتعبير آخر : إن الفعل إما متعدّ بنفسه أو متعدّ بالحرف. فهذا يوحي أن الحرف يجعل الفعل متعدياً ، غايته بالواسطة ؛ مع أن التحقيق هو أن الحرف لا يجعل الفعل متعدياً بل يبقى الفعل لازماً ، والتعدية بواسطة الحرف تختلف أساساً عن التعدية للفعل بنفسه.

توضيح ذلك : أن هيئة الفعل موضوعة لنسبة تامة ، فإنه يفهم منها معنىً في قبال النسبة الناقصة ، وهذه النسبة التامّة تلحظ تارة بنحو القيام بالذات وأخرى بنحو الصدور من الذات. فعلى الأول يصير الفعل لازماً وعلى الثاني متعدّياً ، باعتبار أن النسبة الحلولية تلقي الحدث على الذات ، والنسبة الصدورية تصدر الحدث من الذات ، فلا بد أن يكون له محل قابل للنسبة وهو غير الطرف الفاعل لها.

ومعنى هذا أن النسبة الصدورية لها طرفان فاعلٌ وقابلٌ ، وفي اصطلاح النحاة فاعلٌ ومفعولٌ ، وهما طرفا النسبة التامة ، كطرفية المادّة نفسها فإنها نسبة

١٥٢

تحقق الضرب من هذا على هذا ، بخلافه في القسم الأول حيث إنها نسبة حلولية لا صدورية ، لذا ليس لها إلّا طرف واحد وهو الفاعل ، فيقال : «جلس». هذا هو امتياز المتعدي عن اللازم.

فإذا تعدّى اللازم بالحرف ، فماذا يصنع؟ لو كان الحرف يجعل عمراً الذي جلس عنده طرفاً للنسبة التامة التي هي مدلول هيئة «جلس» على حد طرفية عمرو في قولنا «ضرب زيد عمراً» للنسبة التامة التي هي مدلول هيئة «ضرب» ، لكان الحرف يجعل الفعل متعدياً ، لكن الحرف لا يقوم بهذا الدور ولا يصنع ذلك ، لأن الحروف موضوعة للنسبة الناقصة وتدلّ بنفسها عليها ، وهذه النسبة الناقصة مرجعها إلى التقييد والتحصيص ، والقيد هو مدخول الحرف المجرور ب «إلى» ، والمقيّد المادّة وهي الجلوس الذي هو المدلول الاسمي. ف «إلى» في «جلست إليه» توجِد بحسب الحقيقة نسبة ناقصة وارتباطاً تقييدياً بين المعنى الاسميّ لمادة «جلس» وبين عمرو الذي جلس إليه ، ولا توجد ربطاً بين عمرو وبين مدلول هيئة «جلس» ؛ لأن مدلول الحرف نسبة ناقصة تقييدية ، والتقييد عبارة عن توحيد القيد مع المقيّد. فقولنا : «جلست إليه» مرجعه إلى «الجلوس إليه حقّقته» أي حقّقت هذه الحصة الخاصة من الجلوس. أما مدلول الهيئة وهو النسبة ، فتبقى غير لازمة غير متعدية ، ولا يخرجه الحرف من اللزوم إلى التعدّي من هذه الناحية. فهذا وإن أُطلق عليه أنه متعدّ لكن بوجه آخر ، وليس هو التعدّي بذاك المعنى الموجود في الفعل المتعدّي بنفسه ، وإن أفاد فائدته.

وبهذا التحقيق تحلّ عدّة أمور :

منها : أن ما يذكره مشهور النحاة أن الفعل يتعدّى تارة بنفسه وأخرى

١٥٣

بالحرف غير تام ، إلا إذا أُريد من هذه العبارة معناها العرفي ، أي أن النتيجة المتحصّلة من التعدّي تكون تارة من نفس الفعل وأخرى بواسطة الحرف ولا مشاحة فيه ، أما إذا أردنا أن نتعرّف على التخريج الفني لذلك ، فحقيقة التعدّي الذي يحصل للفعل بما هو فعْل ، غير التعدّي الذي يحصل له بتوسط الحرف.

ومنها : أن ما أُفيد من قِبل المحقِّق الأصفهاني (قدس‌سره) من أن باب المفاعلة هو لتعدية الأفعال اللازمة فهو بحكم حرف التعدية غير صحيح ، لأن التعدّي في الأول معناه أن «عمرو» في «جالست عمراً» طرف لنفس النسبة التامة ، وأما «عمرو» في «جلست إلى عمرو» فليس كذلك ، بل هو تحصيص وتقييد كما تقدّم. فهذا التشبيه حصل من الخلط بين هذين النحوين من التعدّي ، ومن ثم لا يمكن أن يقال : «جالس» يعطي معنى «جلس إليه» بل الحاصل أن المادة إذا تقمّصت ثوب باب المفاعلة ، وخرجت عن باب الفعل المجرّد إلى المزيد ، اكتسبت نسبة تامّة يصلح أن يكون لها طرفان بعد أن كانت نسبتها وهيئتها في المجرد حلولية لا يصلح أن يكون لها طرفان ، عندها نفتش عن هذه النسبة ما هي؟

ومنها : أنه ظهر بطلان الكلام الذي يُقال في مقام إثبات أن التعدية واللزوم ليسا من شؤون المعنى ، وإنما هما أمران اصطلاحيّان من قِبل أهل اللغة ، وأنه لا بد من الالتزام بذلك على أساس تعبدية اللغة. ويستدل على هذا في كلمات جملة من المحقّقين ، بأن الفعل الواحد يمكن أن يفرض متعدّياً ولازماً ، من قبيل : أضرَّه وأضرّ به ، ودخل الغرفة ودخل إلى الغرفة ، فيستكشف من هذا أنه ليس ناشئاً من خصوصيّات المعنى ، وإلّا فالنسبة الواحدة لا يختلف

١٥٤

حالها من حيث إنها متعدّية أم لا.

فهذا الكلام غير صحيح من دون حاجة لأن نلتزم في مقام إبطاله إلى أن هناك معنيين مختلفين ، تارة بلحاظ هذا المعنى وأخرى بلحاظ ذاك المعنى ، بل ينحلّ بنفس ما بيّناه ، لأن «أضرّ» فيها نسبة تامّة متعدية بحسب طبيعتها ، إلّا أننا نذكر مفعولها تارة ولا نذكره أخرى ، بل نجعله قيداً لمدلول المادة في المرتبة السابقة ، وهو معنى تعدية الحرف. فحينما نقول : «أضرّ بزيد» فليس معناه أن هذه النسبة خرجت عن كونها نسبة لازمة إلى كونها متعدية ، ليقال إنّ تعدّي النسبة ولزومها أمر اعتباري تعبّدي ، بل هي متعدّية في كلتا الحالتين ، غاية الأمر أنا في إحداهما ذكرناها مع كلا الطرفين ، وفي الثانية استغنينا عن ذكر طرفها بجعله قيداً لمدلول المادة. إذن معنى أضرّه غير معنى أضرّ به ، فإن الضمير في الأوّل هو المفعول وطرف النسبة المتعدى إليه حقيقة ، بينما الضمير في أضرّ به قيد للمادة الصادرة من الفاعل ، وهذه صورة ذهنية أخرى ، وإن كانت من حيث النتيجة مغنية عن ذكر المفعول مرّة أخرى.

الثالث : لو تنزّلنا عن الاعتراض الثاني وقبلنا أن التعدّي في «جلس إليه وجالسه» بنحوٍ واحد ، حينئذ نقول : إننا نجد أن التعدية بالحرف تحصل من خلال نسب متباينة مختلفة ، فمثلاً : «جلس» يتعدّى إلى شخص آخر بنسبةٍ مدلول عليها بحرف «إلى» فنقول «جلس إليه» فيُعوَّض عنه ب «جالسة» ، وأخرى نقول : «سار معه» فيتعدّى بنسبةٍ مدلول عليها بحرف «مع» ويعوَّض عنه «سايره» ، وثالثة تكون النسبة المعوّض عنها «له» مثل «كشف له» فيعوَّض عنه «كاشفة» ، وهكذا غيرها. ففي كل واحد منها يُنتزع عنوان التعدية ، و «فاعَلَ» تأتي في تلك النسب فتعوّض عنها.

١٥٥

حينئذٍ نتساءل : هل الوضع النوعي ل «فاعَلَ» هو موضوع لعنوان التعدية بنحو يكون عنواناً انتزاعياً مشتركاً بين تمام هذه الموارد؟ فهذا غير صحيح ؛ لأنه مفهوم اسميّ وليس معنىً حرفياً ، ويستحيل أن يكون هذا العنوان بمفهومه الاسمي مدلولاً للهيئة ، بعد الاتفاق على أن الهيئة ملحقة بالحروف. وإن قيل إنه موضوع لواقع منشأ انتزاع عنوان التعدية ، فالجواب أن المنشأ هو نسب متباينة ذاتاً لأن مداليل «إلى ، مع ، اللام» لا يوجد جامع حقيقي فيما بينها ، على ما هو مبرهن عليه في كلمات المحقّق الأصفهاني وغيره من المحقّقين.

إذن فلا محيص عن أن يتصوّر المحقّق الأصفهاني نسبة أخرى شخصية غير هذه النسب تكون محفوظة في تمام موارد التعدّيات الحرفية التي تقوم مقامها هيئة باب المفاعلة ، من هنا نتساءل ما هي تلك النسبة؟

الرابع : لو تنزلنا عن الاعتراض الأول الذي كان بلحاظ الفعل المتعدّي بنفسه ، والتزمنا بأن التعدّي في «قتل وقاتل» بنحوٍ واحد ، على عناية مخصوصة في الثاني كما تقدّم ، نسأل المحقّق الأصفهاني عن هذا التعدّي : هل يراد منه

المعنى الاسمي للتعدّي أو منشأ انتزاعه؟ إن أُريد الأوّل فهو معنىً اسمي ولا يمكن أن يكون معنىً حرفياً ، وإن أُريد الثاني فمنشأ انتزاع التعدي في «ضرب» إنما هو ذات النسبة ، لأن التعدي هنا ذاتيّ كما اعترف به. إذن فلو كان هذا بنفسه مدلول كلمة «ضارب» لكان مدلول كلمتي «ضرب وضارب» شيئاً واحداً.

وكأنّ الأصفهاني التفت إلى هذا ، فقال في مقام توضيح مرامه : إننا مرّة نفرض أن شخصاً ضرب آخر من دون التفات فيقال : «ضربه» وأخرى

١٥٦

يضربه ملتفتاً إلى أن هذا الضرب يقع عليه فيؤذيه فيقال له : «ضاربه» ، وهذا بحسب الحقيقة معنىً آخر للتعدّي غير ما كنّا نتكلّم عنه وهو التعدّي المصطلح. وليس هذا التعدّي ذاتياً لمدلول المجرّد المتعدّي ولا ما يتكفّل له الحرف في «جلس إليه» ، وكأن «ضارب» موضوع للضرب العمدي أي للنسبة الصادرة عن عمد والتفات بأنها سوف تقع على شخص آخر ؛ لذا ذكر أنك إذا خدعت شخصاً وأنت غير ملتفت يقال «خدعته» أما إذا تعمّدت خديعته يقال : «خادعته».

إلّا أن ما ذكره لا يمكن المساعدة عليه ، فإن الفهم والارتكاز العرفي لا يساعدان على أخذ نكتة العمدية والقصدية في مدلول «فاعَل» في تمام الدائرة التي قال عنها المشهور إنها من فعْل الاثنين ، لأننا نرى أن تلك المصاديق التي تكون من باب المفاعلة عموماً لا يؤخذ فيها القصد والاختيار. فمثلاً : نجد «قابل» يصح أن يقال فيها بلا مئونة «قابلته في الطريق مصادفة أو بلا التفات». إذن فالقصدية والعمدية وإن فُهمت من «خادعت أو ضاربت» فهو بنكتة أخرى لا أن القصد أُخذ دخيلاً في المدلول ، بل النسبة في هذا الباب تنسجم مع القصد ومع عدمه.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالقسم الثالث من كلامه (قدس‌سره).

أما القسم الثاني : فقد فهم المحقّق الأصفهاني من كلام المشهور أنهم يقولون : إن «فاعَل وتفاعَلَ» كل منهما موضوع لنسبتين ؛ غاية الأمر أنهما في «فاعَل» إحداهما في طول الأخرى ، أما في «تفاعَل» فالنسبتان في عرض واحد. واعترض عليهم بأنه لا يصحّ القول بأن الهيئة موضوعة لنسبتين ، بل «تفاعَل» موضوع لنسبة واحدة متحصّلة من مجموع النسبتين على النحو

١٥٧

الذي تقدّم بيانه.

ثم تساءل : هل باب «تفاعَل» هو موضوع لنفس النسبة المتحصلة من النسبتين؟ فهذا معناه عدم الفرق بين «ضارب وتضارب» ، أو هو موضوع للنسبتين التفصيليتين بما هما كذلك؟ إذن يلزم وضع الهيئة لنسبتين ، وهو باطل ، أو موضوع لإحدى النسبتين فقط ، وهذا هو المقصود ومعناه أنه فعْل الواحد لا الاثنين.

الفرق بين فاعَلَ وتفاعَلَ على مذاق المشهور

إلّا أن الظاهر أن المشهور لم يكن مرادهم من التفرقة بين «فاعَل وتفاعَل» أن يدّعوا أنّ هاتين الهيئتين موضوعتان لنسبتين : بنحو الطولية في الأولى ، وفي عرض واحد في الثانية ، بل هما وضعا لنسبة واحدة. ففي «تفاعَل» نفرض أنه موضوع لهذه النسبة الثالثة المتحصّلة بالنحو الذي شرحه المحقّق الأصفهاني ، وفي «فاعَلَ» موضوع لإحدى النسبتين التفصيليتين لا النسبة المتحصّلة ولا لمجموع النسبتين. ولكن فرقهما أي «فاعَل» عن «فعَلَ» أنّ «ضرب زيد عمراً» موضوع لإحدى النسبتين بلا قيد ، أما «ضارب زيد عمراً» فإنّه موضوع لنفس تلك النسبة التفصيلية ، لكن مقيّداً بأن يكون بنحو المشاركة. فالتشريك طُعّم في مدلول هيئة «فاعَل» بينما لم يطعَّم في مدلول هيئة «فَعَلَ» ؛ لذا يقولون : إن «عمراً» هو مفعول للمشاركة بالفتح لا بمعنى أنه مضروب.

إذا تصوّرنا هذا لا يأتي إشكال المحقّق الأصفهاني ، لأننا لم نلتزم بكون هيئة «فاعَلَ» موضوعة لنسبتين ، بل لنسبة تفصيلية واحدة ، وهذه النسبة

١٥٨

مغايرة ومباينة ذاتاً مع النسبة الموضوع لها هيئة «تضارب» ، لأن هذه الهيئة موضوعة لنسبة واحدة من النسبتين ، أما هيئة «فاعَل» فموضوعة لإحدى النسبتين. فالتباين بين الهيئتين محفوظ أيضاً.

مناقشة النقوض التي أوردها الأصفهاني على مقالة المشهور

أما القسم الأول فقد ذكر (قدس‌سره) أربعة عشر مورداً من القرآن والحديث ، ممّا لا يكون «فاعَلَ» فعْل الاثنين. وهذه النقوض التي ذكرها في الغالب غير واردة على المشهور ، لأن جملة منها وإن جاءت على هيئة «فاعَل» ولكنها إما ليس لها ثلاثي بمعناه ، أو لعدم استعمال ثلاثيّة في معنىً أصلاً ، أو لاستعماله في معنىً آخر لا يناسب معناه في باب المفاعلة.

والمشهور القائلون بأن هيئة باب المفاعلة موضوعة لفعل الاثنين ، مقصودهم تشخيص المعنى الموضوع له بالوضع النوعي. أما إذا لم تكن تلك المصاديق مشتقة من المجرّد الذي يلائم فرض وقوعه بين الاثنين ، عندها تكون موضوعة بالوضع الشخصي كسافر. وحيث إن المشهور بنوا على الأوضاع النوعية في الهيئات ، فمرادهم من الأصل في باب المفاعلة هو فعْل الاثنين ، هو تشخيص المعنى الموضوع له بالوضع النوعي ، لا تشخيص المعاني الموضوع لها بالوضع الشخصي. على هذا تخرج بعض النقوض عن محلّ الكلام. فمثلاً «بارز ، ونادى ، ونافق» ونحوها كلّها مصاديق ل «فاعَل» ، لكنها ليست موضوعة بالوضع النوعي ، لأن مادتها ليس لها وضع بقطع النظر عن هذه الهيئة ، ليحصل المعنى من ضمّ مدلول الهيئة إلى مدلول المادّة.

وفي جملة أخرى من هذه النقوض توجد قرينة كالمتصلة على صرف

١٥٩

اللفظ عن ذلك المعنى ، فإن بعض الموارد لا تناسب أن تكون بحسب الارتكاز العقلائي صادرة من اثنين ، مثل «وارى وباشر وخالع وآخذ» ف «وارى» بمعنى أخفى ، ولا يتناسب صدوره من الاثنين ، وكذلك «باشر» معناه تولية أموره وجعله تحت قيمومته ، ولا يناسب أن يكون فعْل الاثنين ، وهكذا في الموارد الأخرى.

نعم تبقى هناك جملة من النقوض التي ترد في المقام ، إلّا أنها لا تشكل إشكالاً حقيقياً على مبنى المشهور ، لأنهم لا يريدون : أن تمام موارد «فاعَل» في لغة العرب موضوعة لفعل الاثنين ، فإنهم بأنفسهم يذكرون ثلاثة أو أربعة معانٍ لهذه الصيغة ، وإنّما دعواهم أن الأصل في هذا الباب أن يكون فعْل الاثنين ، وهذه الأصالة يتحفظ عليها ما لم توجد نقوض كثيرة بحيث توجب الخروج عن هذا الأصل. فإذا اندفعت أكثر هذه النقوض لا يبقى هناك ما يبرهن على أن «فَاعَل» ليس الأصل فيه فعْل الاثنين.

هذا تمام الكلام في مناقشة نظرية المحقّق الأصفهاني في المقام.

نظرية المصنِّف في باب المفاعلة

ثم إن هذا كلّه بناءً على أن يكون المراد من الأصل في كلام المشهور بمعنى الشيء الغالب والكثير ، عندها يراد أن يبرهَن على عدم ذلك من خلال النقوض الواردة عليها ؛ فيجاب بقلّة هذه النقوض كما تقدّم. إلّا أن هناك احتمالاً آخر في معنى أن الأصل في باب المفاعلة بمعنى فعْل الاثنين ، هو أن هيئة «فاعَل» وضعت بوضع أوّلي لفعل الاثنين ، ثم وضعت بعد هذا لمعان أُخر متعدّدة ، إلا أنه لوحظ في تمام موارد أوضاعها الأخرى نكتة تقرّبها من باب

١٦٠