لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

صور الزيادة والنقيصة في الروايات

قبل توضيح حال هذه الاضطرابات ، لا بدّ من تقديم قانون كلّي في موارد الاختلاف من حيث الزيادة والنقيصة ، وحاصله أن هنا صوراً ثلاثاً لذلك :

الصورة الأولى : أن يكون وجود الزيادة وعدمها مؤثّراً في فهم الباقي ، بحيث إنها إذا كانت موجودة يُفهم من الكلام معنىً ، وإن لم تكن فيفهم معنىً آخر.

في هذه الصورة يقع التعارض ما بين الخبرين ، لأن ناقل الزيادة يشهد بأنها صدرت من المعصوم (عليه‌السلام) والذي لم ينقلها ظهور حاله العدم ؛ لأن مقتضى ظهور حال الراوي وأمانته هو أن لا يحذف أي قرينة يكون لها دخل في فهم المعنى من الكلام ، والمفروض أن هذه الزيادة لو كانت موجودة لكانت قرينة على ما يقول. إذن مقتضى حذفه لها يشهد بأنها غير موجودة ، فتتعارض الشهادة بالوجود مع الشهادة بالعدم ، وهذا مرجعه إلى التعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة ، وهذا بحث لا بدّ من تحقيقه كما سيأتي.

الصورة الثانية : أن يفرض أنّ هذه الزيادة لا تؤثر في المعنى بحسب المتفاهم العرفي أصلاً.

وهنا بحسب الحقيقة لا تعارض بين الخبرين ، فلعل الزيادة كانت موجودة كما أخبر أحدهما ، إلّا أن الآخر لم ينقلها مع اعترافه بوجودها من باب أنه لا دخل لها في فهم المعنى. وليس الراوي ملتزماً بمقتضى ظهور حاله أن ينقل تمام كلمات المعصوم ، بل لا بد من نقل كلامه (عليه‌السلام) مع عدم حذف

١٠١

قرائنه المتصلة ، والمفروض أن هذه ليست منها ، فسكوته عنها ليس شهادة بعدم صدورها. أو لعل الزيادة غير موجودة في كلامه (عليه‌السلام) ، غاية الأمر أن الراوي زادها لأنها لا تضرّ بالمعنى ، والنقل بالمعنى جائز ، فلا تعارض في المقام بين الشهادتين من هذه الناحية ، ولا تترتّب أي آثار فقهيّة على إثبات الزيادة أو عدمها.

الصورة الثالثة : أن نقول : إنّ الزيادة إذا فرِض وجودها يكون للكلام معنىً ، وعلى فرض عدمها يشك في الباقي هل يحتفظ بنفس ذلك المعنى أو يكون له معنىً آخر؟

والتحقيق في هذه الصورة أنه لا تعارض بين الشهادتين أيضاً. فمثلاً : لو فرضنا أن صيغة «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» معناها واضح وليس فيها إجمال ، ولكن صيغة «لا ضرر ولا ضرار» نحتمل أنها تؤدّي نفس ذلك المعنى ، ونحتمل أنها تؤدّي معنىً آخر ؛ هنا نتمسك بالصيغة التي لا إجمال فيها ، ولا نقول بإيقاع التعارض بين الزيادة والنقيصة.

والنكتة فيه : أن هذا الذي زاد كلمة «على مؤمن» شهادته بصدور كلام دال عرفاً على هذا المعنى الواضح متيقّنة فنأخذ بها ، أما الآخر الذي لم يذكر هذه الزيادة ، فشهادته بأنه لم يصدر من المعصوم (عليه‌السلام) «على مؤمن» فرع ثبوت أن يكون لهذه الزيادة دخل في المعنى كي يكون ملتزماً بنقلها على فرض وجودها ، فيكون عدم نقله لها إخباراً عن عدمها ، وهذا كله مشكوك فيه كما هو المفروض ، فلعل الذي لم يذكر الزيادة إنّما فعَل ذلك من جهة أنه لم يرَ لها أهمية ، وليس من جهة أنه يشهد بعدمها. إذن فلا شهادة بالعدم حتى تعارض الشهادة بالوجود ، فيؤخذ بالأخير.

١٠٢

وكذلك لو فرض العكس (بأن كانت صيغة «لا ضرر ولا ضرار» واضحة المعنى ، والتي فيها «على مؤمن» مجملة) نأخذ بما هو الواضح ، ونقول : لعل الذي ذكر الزيادة إنما فعَل ذلك من جهة أنه لم يكن يرى في ضمّها محذوراً ، حيث إن وجودها وعدمها على حدّ سواء. والحاصل أنه في هذه الصورة يؤخذ دائماً بالمبيَّن من الصيغتين ، ولا يوقع التعارض بين نقل الصيغة الناقصة ونقل الزائدة.

وبهذا اتضح أنه ليس في كل موارد الاختلاف من حيث الزيادة والنقيصة ،

يقع التعارض ويكون من صغريات دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة ، بل إنّما يقع التعارض في الصورة الأولى فقط ، أما في الثانية فلا تعارض واقعاً ، وفي الثالثة لم يحرز تعارض فيكونُ بحكم العدم أيضاً.

بعد هذا نأتي إلى ما هو محل الكلام من الاضطرابات الثلاثة :

مناقشة اضطرابات المتن في روايات الطائفة الأولى

أمّا الأول : (وهو سقوط جملة «لا ضرر ولا ضرار» في بعض الروايات ، فالصحيح أن هذا من قبيل الصورة الثانية ، بمعنى أن جملة «لا ضرر ولا ضرار» وإن كانت في نفسها ذات مضامين عالية ، فيكون نقلها موجباً لثمرات مهمّة في الفقه ، لكن ليس لها أثر في فهم الباقي الذي نقله الحذّاء. فهذا الراوي حينما أسقط هذه الجملة نحتمل أنه فعَل ذلك تسامحاً ولا يكون ذلك مخلّاً بأمانته ، لأنه ملزم بأن لا يفصل بين القرينة وذيها. ومن المحتمل أن يكون هذا الإسقاط من باب التساهل ، أما الزيادة فلا يحتمل فيها ذلك. فأصالة الحجية في طرف الزيادة لا يعارض بأصالة الحجية في طرف النقيصة

١٠٣

بعد فرض التعارض بينهما ، بل لا يوجد هنا بحسب الدقّة تعارض ، لأن الناقل للزيادة يبيّن لنا جملة لو لم تكن صادرة عن المعصوم (عليه‌السلام) لكان هذا منافياً لوثاقته. أما الذي أسقط هذه الجملة ، فمن المحتمل أنه حتى مع سماعه لها لم يبيّنها في فقرأت الرواية ، وكان في مقام بيان قصة سمرة لأجل الاعتبار بها ، وأسقط هذه الجملة لكونها غير مؤثرة في فهم القصّة. وعليه فلا تعارض بينهما لكي نأخذ بالزيادة.

أما الثاني (وهو التهافت بين نقل الصدوق للرواية ونقل الشيخ والكليني لها) فإن جملة «لا ضرر ولا ضرار» وإن كانت مختلفة بين النقلين من حيث تفريعها بالفاء وعدمه ، إلا أنها ظاهرة فيهما معاً أنها تعليل للحكم الذي قبلها.

غاية الأمر يوجد في الرواية حكمان ، حكم بأن سمرة لا يجوز له الدخول بلا استئذان ، والآخر الحكم بجواز قلع النخلة. فبحسب نقل الكليني والشيخ فإنه واضح كل الوضوح أن التعليل يشمل حتى الحكم الأخير. أما بحسب نقل الصدوق ، فهو أيضاً لا يبعد أن يكون تعليلاً لهما معاً ، لكن ليس فيها هذا الظهور القوي. ولهذا قد يقال : إن قوله «لا ضرر ولا ضرار» تعليل للحكم الأوّل.

من هنا يظهر أن أصل المطلب محفوظ فيهما معاً ، غاية الأمر أن أحدهما أقوى ظهوراً من الآخر ، وفي مثل هذا لا بأس بأن يؤخذ بهما معاً ويقال بأنه نقل بالمعنى ، والنقل بالمعنى لا يتحفّظ غالباً على درجة الظهور الموجودة أوّلاً ، فقد تضعف وقد تشتدّ. بل حتى لو فرض عدم الظهور في ذلك أيضاً ، لم يكن هناك تهافت ؛ لأن نقل الصدوق لا ينفي التفريع.

والمظنون أن الصحيح هو ما نقل في الكافي والتهذيب ، لأن الواضح من

١٠٤

عبارة الصدوق أنه لم يكن بصدد نقل لفظ الرواية ، بل نقل فعْل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالمعنى ، من أنه أمَر الأنصاري بقلع النخلة ، فلم يكن بإمكانه إدخال الفاء على الجملة الأخيرة ؛ بخلافه في نقل الكليني والشيخ فإنّهما بيّنا واقع كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أما الثالث (وهو من حيث إضافة كلمة «على مؤمن» وعدمه) فهو إما أن كلمة «على مؤمن» وجودها وعدمها سيّان بحسب الاستظهار العرفيّ ، فما نفهمه من قوله «لا ضرر ولا ضرار» بلا زيادة ومعها بمعنى واحد ، أو نشك في تأثيرها في اقتناص المعنى. فما نفهمه على أحد التقديرين واضح ، وعلى التقدير الآخر مجمل ، فنأخذ بما هو الواضح على كل من التقديرين ، ولا يدخل في باب التعارض.

وإما أن هذه الكلمة مؤثرة في المعنى بحسب المتفاهم العرفي جزماً ،

بحيث إن «لا ضرر ولا ضرار» لو كانت وحدها فهي تدلّ على نفي تشريع الأحكام الضررية ، أما لو كانت مع كلمة «على مؤمن» لدلّت على حرمة الإضرار بالغير. فعند ذاك يقع التعارض لا محالة بين النقيصة والزيادة.

وجوه تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة

من هنا لا بد من البحث في أصالة عدم الزيادة وهل تقدم على أصالة عدم النقيصة كما هو المعروف أم لا؟ والكلام يقع تارة في الكبرى وأخرى في الصغرى.

أما البحث الكبروي ، فقد يذكر لتقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة عدّة وجوه :

١٠٥

الوجه الأول : أنّ ناقل الزيادة كلامه صريح في إثباتها ،

أما الذي لم ينقل الزيادة ، فكلامه ليس صريحاً في نفي الزيادة ، وإنّما له ظهور سكوتي في ذلك ، فيكون التعارض بين النصّ والظهور ، والنص مقدّم على الظاهر كما هو واضح.

والجواب : أن تقديم الصراحة على الظهور إنما هو بالنسبة إلى متكلّم واحد يراد استكشاف مراده من كلماته المختلفة ، لا في شهادتين لشخصين كما في المقام ، ولذا لا يجمع بين بينتين متعارضتين إذا كانت إحداهما أظهر من الأخرى ، بل تكون داخلة في باب التكاذب بين الشهادتين ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن ناقل الزيادة يشهد بشيء ، وهي غير شهادة الآخر الذي لم ينقلها.

الوجه الثاني : أن الزيادة لو فرض عدم صدورها ، فلا وجه لعدم ذكر الراوي لها إلّا الغفلة والكذب ،

وهما منفيان بالأصول العقلائية. أما الأول فبأصالة عدم الغفلة ، وأما الثاني فبأصالة حجية خبر الثقة. أما لو فرض أن الراوي أسقط

الزيادة فهنا لا ينحصر أمره في الغفلة والكذب ، بل توجد احتمالات أخرى أيضاً لا يمكن نفيها بالأصول العقلائية ، من قبيل احتمال أنه لم يكن في مقام البيان من سائر الجهات ، وإنما كان بصدد بيان مطلب دون آخر ، أو أن يكون له طبع في اختصار الكلام ، فإن الناس يختلفون في ذلك ، وهذا ليس أمراً على خلاف العادة أو على خلاف الطبع حتى ينفى بالأصول العقلائية. إذن فاحتمال الزيادة منفيّ بالأصول العقلائية ، بخلاف احتمال النقيصة فإن مناشئها لا يمكن نفي جميعها بذلك ، لأن بعضها ليست على خلاف العادة والطبع العقلائي.

١٠٦

هذا الوجه غير تام أيضاً ، لأنه لا يمكن قبول دعوى أن للنقيصة مناشئ أخرى غير الغفلة والكذب ، وذلك لأن كلمة «على مؤمن» إما أن يفرض أنها من القرائن التي يكون لها دخل في اقتناص المعنى من الجملة أو لا ، بل هي مجرّد تفنن في العبارة مثلاً. فإن فرض الثاني فلا يتحقّق تعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة ، ويدخل المقام في الصورة الثانية من الصور المتقدّمة ، فيكون من حقّ كل منهما أن يزيد وينقص. إلّا أن هذا خلف ، لأن المفروض أن كلمة «على مؤمن» هي من القرائن التي تؤثر في فهم المعنى إثباتاً ونفياً ، فلا يمكن أن يقال : لعل إسقاط الراوي لها كان من باب أنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة ، أو أن طبعه الاختصار في التعبير ونحوهما ، لأن ظاهر حال كل راوٍ بمقتضى أمانته أن لا يفصل القرينة عن ذي القرينة ، بمعنى أن لا يذكر كلاماً أو يُسقط ما هو قرينة عليه. نعم يمكن أن يذكر شيئاً أو يسقطه إذا لم يكن له دخل في فهم المعنى ، وعليه يكون إسقاطه لشيء أيضاً منحصراً أمره إما في الغفلة أو الكذب. ولو لا ذلك لسقطت كل الأخبار عن الحجية ، لاحتمال ما يغيّر معناها الظاهر ، وقد أسقطه الراوي لسبب لا يمكن نفيه بالأصول العقلائية. إذن فلا فرق بين الزيادة والنقيصة من هذه الجهة.

الوجه الثالث : أن أصالة عدم الغفلة إنما هو أصل عقلائي معتبر بلحاظ كاشفيته وأماريته وحكايته عن الواقع ، ومن المعلوم أن الغفلة على الإطلاق على خلاف طبع الإنسان ، سواء كانت بالنسبة إلى كلمة سمعها وغفل عنها أو إلى كلمة لم يسمعها وتخيّل أنه سمعها ، ولكن احتمال الغفلة في طرف الزيادة أوهن من احتمالها في طرف النقيصة ، لأن افتراض أن الإنسان لم يسمع كلمة ثم تخيّل أنه سمعها أقلّ ندرة من افتراض أنه سمعها فغفل عنها فلم

١٠٧

يذكرها بعد ذلك. فالغفلة عن الموجود أكثر من تخيّل غير الموجود موجوداً في مقام السماع. على هذا تكون أصالة عدم الغفلة عن الزائد أقوى من أصالتها عن الناقص ، فيقدّم الأوّل على الثاني.

هذا الوجه من حيث أصل المدّعى وإن كان مقبولاً في نفسه ، ولكن الكلام في أن هذه الأقوائية هل تؤثر في الحجية أم لا؟ فإن مجرّد وجود أمارتين متعارضتين ، إحداهما أقوى من الأخرى ، لا يكفي في مقام تقديم أقوى المتعارضين على أضعفهما ، بل لا بد من النظر إلى دليل الحجية ، لنرى هل يقتضي تقديم الأقوى أم لا؟ وليس دليل الحجية إلّا البناء والارتكاز العقلائي ، ولا جزم بانعقاد مثل هذا الارتكاز بنحو يكون مؤثراً في مقام الترجيح ، بل المتيقّن أن هذه الأمارة يلتفِت إليها العقلاء ويضمّون إليها سائر النكات الأخرى ، فإن تحصّل من ذلك ظن قوي يعملون به ، وإلّا فلا. إذن فالكبرى بلحاظ دليل الحجية لا تكون تامة.

إلى هنا اتضح عدم تمامية شيء من الوجوه التي ذُكرت لإثبات كبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة. على هذا إذا تعارضت الزيادة مع النقيصة فلا بد من ملاحظة كل الخصوصيات والنكات في المورد لأجل معرفة ما إذا كان يمكن تحصيل الظن القوي المعتمد عليه في أحد الطرفين أم لا؟ فإن

حصل ذلك فهو ، وإلّا فلا يمكن تقديم إحداهما على الأخرى.

هذا تمام الكلام من حيث الكبرى.

١٠٨

البحث الصغروى نظرية الميرزا النائيني في المقام

أما الصغرى ، فالمستفاد من كلمات الميرزا النائيني (١) (قدس‌سره) أنه قبِل كبرى تقديم أصالة عدم الزيادة على عدم النقيصة ، بنكتة أن الأمارية النوعية الموجودة في الأوّل أقوى من الموجودة في الثاني ، فتكون ميزاناً في التقديم في مقام التعارض ، سواء كانت هذه الأقوائية النوعية مؤثرة فعلاً في الظن على طبقها أم لا ، لأن الأمارات التي تكون حجة من باب الظن النوعي ، لا يشترط في حجيتها عند العقلاء إفادتها الظن فعلاً.

هذا هو ظاهرة العبارة فنّاً ، لكن يظهر من تضاعيف كلامه (قدس‌سره) أنه لا يدّعي ذلك ، لأنه هو أيضاً يستشكل فيه ، ويرى أن التقديم بلحاظ الأقوائية إنما يكون إذا أثّرت بالفعل في ظن قوي معتدّ به بأن الزيادة مطابقة للواقع ؛ من هنا صار بصدد بيان أنه لا يوجد في المقام ظن بالفعل على صدق الزيادة ، لأن هذه الأقوائية معارضة بنكات أخرى في صالح عدم الغفلة عن النقيصة ، وذكر لذلك نكتتين :

__________________

(١) قال : «والأضبط بل المتعيّن ما هو المشهور ، بلا إضافة هاتين الكلمتين ، فإنّه في مقام التعارض بين الزيادة والنقيصة ، كما إذا كانت القضية شخصية ، وإن كان بناء أهل الحديث والدراية على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ، والحكم بثبوتها في نفس الأمر وسقوطها عن الرواية الأخرى الحاكية لتلك القضية بدونها ، لأن بعيد غاية البعد ، فلا ينافي ذلك حجّية كلّ واحد من الأصلين من باب أصالة عدم الغفلة ، إلا أن في المقام خصوصيّة بها تقدّم أصالة عدم النقيصة على أصالة عدم الزيادة.».

كتاب منية الطالب في حاشية المكاسب ، لمؤلفه حجة الإسلام الحاج شيخ موسى النجفي الخوانساري ، ج ٢ ، ص ١٩١ ،

١٠٩

النكتة الأولى : أن أصالة عدم الغفلة عن الزيادة إنما تقدم على أصالة عدم النقيصة فيما إذا كان الراوي للزيادة واحداً والراوي للنقيصة واحداً أيضاً ، فعندها يقال : إنه وقعت غفلة واحدة ، إما من الأول أو الثاني ، وحيث إن غفلة راوي الزيادة أضعف احتمالاً من غفلة راوي النقيصة فيبنى على صدور الزيادة من المعصوم (عليه‌السلام). أما إذا فرض أن راوي الزيادة كان واحداً وراوي النقيصة متعدّداً ، فيدور الأمر بين غفلة واحدة في طرف الزيادة وغفلات متعدّدة في طرف النقيصة ؛ لأن الزيادة إن كانت صادرة ، فهؤلاء الذين أنقصوا كلهم غفلوا عنها ، وإلّا فهذا الواحد قد غفل وزاد ، وغفلته وإن كانت أضعف احتمالاً من كل واحد من أولئك ، لكنه ليس أضعف من مجموع احتمالات الغفلة فيهم. فبالكسر والانكسار لا يبقى عندنا ميزان لتقديم أصالة عدم الغفلة عن الزيادة على أصالة عدم الغفلة عن النقيصة.

أقول : هذا الذي ذكره (قدس‌سره) بظاهر عبارته لا يمكن تتميمه ، بل يحتاج إلى تطوير ، لأن ما نحن فيه ليس من قبيل أن يكون الراوي للزيادة واحداً والنقيصة متعدّداً ، لأنه إن كان مراده من كون الراوي متعدداً حتى بلحاظ روايات غير الطائفة الأولى ، فهذه الروايات لا دخل لها في محل الكلام ، لأن البحث في تشخيص النص الوارد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في قصة سمرة بن جندب ، فلا يكون طرفاً للمعارضة في المقام. وإن أراد أن ناقل النقيصة متعدّد بلحاظ الطائفة الأولى من الروايات ، فليس هو إلّا راوٍ واحد ، لأن هذه القصة رواها اثنان ، أحدهما زرارة والآخر أبو عبيدة الحذاء. أما الثاني فقد أسقط أصل جملة «لا ضرر ولا ضرار» فضلاً عن قيد «على مؤمن» ، فإسقاط الراوي أو من هو في طوله في سلسلة السند لا يكون قرينة

١١٠

على تضعيف احتمال صحّة هذا القيد ، لأن عدم اشتماله على الذيل يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، وليس شاهداً على عدم هذه الكلمة. أما الأول فقد نقل عنه اثنان ، أحدهما ابن بكير والآخر ابن مسكان ، والأول نقل الرواية بلا زيادة والثاني معها. فالتنافي ليس بين الرواة عن الإمام (عليه‌السلام) مباشرة ، بل بين راويين عن زرارة ، فلا يكون المقام من قبيل كون الراوي في أحد الطرفين واحداً وفي الآخر متعدّداً.

إلّا أن روح كلام المحقّق النائيني قابل للإصلاح ولعل مقصوده واقعاً وإن كانت عبارته قاصرة عن أدائه هو أنّ في سلسلة سند الرواية التي أسقطت القيد مزايا ونكات تعادل أو تفوق تلك الأقوائية النوعية لأصالة عدم الغفلة في الرواية التي زادت القيد ، حيث إن الرواية التي أنقصت رواها الكليني ، عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام). والرواية التي زادت ، رواها الكليني أيضاً عن محمد بن بندار عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام). ويمكن تلخيص تلك المزايا بما يلي :

الأولى : أن الوسائط بين الكليني والإمام (عليه‌السلام) في الرواية التي أنقصت القيد خمسة ، بينما هي في الرواية التي زادت ستّة. ومن المعلوم أن الغفلة تكون بعدد الوسائط. وهذا معناه أن في جانب النقصان خمس غفلات محتملة ، وفي جانب الزيادة ستاً ، وهذا نحو امتياز للرواية الأولى على الثانية.

الثانية : أننا إذا لاحظنا رواية النقيصة نجد أن واسطة من وسائطها تكاد تكون مقطوعاً بها ، بحيث يكون احتمال الغفلة فيها موهوناً جدّاً وهي التي ينقل عنها الكليني مباشرة ، إذ يقول : «عدّة من أصحابنا» ، وهم أربعة وفيهم

١١١

من هو من أجلّاء الشيعة وكبارهم. أما في رواية الزيادة فلا يوجد في أي واسطة تعدّد رباعي ، فلا محالة تكون إحدى هذه الغفلات الخمس في غاية الوهن ، بل يكون بحكم عدم الواسطة للقطع بصدقهم.

الثالثة : أن هناك طريقاً آخر إلى ابن بكير ، وهو طريق الصدوق ، فإنه بإسناده ، وهو غير هذا الإسناد ، إذ نقل من ابن بكير نفس الرواية ولم يضف كلمة «على مؤمن». فهذا يقوّي عدم الغفلة في الوسائط التي هي قبل ابن بكير ، بحيث يكاد ينحصر احتمال الغفلة في عبد الله بن بكير ومن فوقه دون من تحته.

الرابعة : أن في خبر الزيادة إرسالاً عن شخص مجهول ، حيث جاء فيها : عن «بعض أصحابنا». فلو بنينا على حجية المرسل ، لكن لا نعلم من هو ، فلعلّه شخص لا يرقى إلى هؤلاء الذين كلّهم من أكابر الثقات ، من هنا يكون احتمال الغفلة بالنسبة إليه أقوى من احتمال الغفلة بالنسبة إليهم.

فإذا حسبنا هذه الحسابات المقارنة بين السندين ، لا يبقى عندنا أقوائية فعلية بالنسبة إلى أصالة عدم الغفلة عن الزيادة ، بل يمكن تقوية احتمال النقيصة في قبال الزيادة.

النكتة الثانية التي ذكرها الميرزا (قدس‌سره) هي عبارة عن : أن أصالة عدم الزيادة إنّما يبنى على تقديمها على أصالة عدم النقيصة ، من باب أن الزيادة السهوية أبعد احتمالاً من النقيصة السهوية ، وهذا إنما يكون إذا لم تكن الزيادة على مقتضى الطبع ، أما إذا فرض أنها كانت على مقتضى الطبع والاستئناس الذهني والمناسبات العرفية ، فإن الزيادة السهوية لا تكون أبعد من النقيصة السهوية. وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ فإن زيادة كلمة «على مؤمن»

١١٢

على طبق الطبع ، لأن مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في ذهن الراوي وهي المنّة الإلهية لنفي الضرر والضرار إنما تتناسب مع الإيمان. فمثل هذه المناسبة تكون موجبة لانتقال الذهن إلى القيد ، ومعه لا تكون الزيادة السهوية أبعد احتمالاً من النقيصة السهوية.

أقول : هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل وتدقيق ، لأنه قد يتراءى فيه بدواً ثلاثة احتمالات :

الأول : أن يكون المدّعى انسباق اللسان إلى هذه الزيادة ، باعتبار شدّة ترابطها مع أصل الكلام. هذا الاحتمال لا ينبغي أن يكون هو المراد ، لأن سبق اللسان إلى الزيادة لا يكفي فيه مجرّد الترابط المعنوي بين مدلول الجملة الأولى والثانية ، بل يحتاج إلى ترابط بين نفس الجملتين في مقام النطق ، بحيث تكون هناك عادة في اللسان على النطق بالزيادة حينما ينطق الجملة السابقة. وهذا لم يدّعه الميرزا (قدس‌سره) وإنما ادّعى وجود ترابط معنويّ. فحمل كلامه على هذا الاحتمال ثم الاستشكال عليه ممّا لا وجه له.

الثاني : أن مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في ذهن العرف أو المتشرعة ، توجب انصراف المطلق وهو «لا ضرر ولا ضرار» إلى المقيّد وهو نفي الضرر عن المؤمن ، لأن الكافر لا يناسبه مثل هذا التفضّل من قبل الله تعالى ، لأن هذه المناسبات قد توجب توسعة المقيّد أحياناً ، وقد توجب تضييق المطلق أحياناً أخرى. وعلى هذا قد يقال : إنّ النص الصادر كان مطلقاً لكن تلك المناسبات المركوزة أوجبت الانصراف إلى خصوص المؤمن ، فنقل المقيد.

إلّا أن هذا الاحتمال لا يفيد هو الآخر ، لأنه مع فرض تماميته موجود في ذهن الراوي الآخر أيضاً ، الذي لم ينقل الزيادة ، فنعكس المطلب

١١٣

ونقول : لعلّ النص قد صدر مع الزيادة ، لكن حيث إن المطلق ينصرف إلى خصوص المقيّد في المقام ، لذا نقل الراوي المطلق بتخيّل أنه ينصرف إلى المقيّد ، فكأنّه نقل المقيد ، فكما أن الانصراف يسمح لسامع المطلق أن ينقل المقيّد ، يسمح لسامع المقيّد أن ينقل المطلق ، فلو تمّ هذا الانصراف لكان منشأً للإشكال فيهما معاً.

الثالث : أن مناسبات الحكم والموضوع المركوزة في ذهن العرف والمتشرّعة بين نفي الضرر وبين الإيمان ، ليست هي بمرتبة تكون كالقرينة المتصلة التي تغيّر ظهور اللفظ ، بل هي بمقدار أن ذهن الراوي لو ترك له أمر التشريع ، لكان بحسب طبعه وسجيته يميل إلى تخصيص هذه القاعدة بخصوص المؤمن ، فلعل هذا الميل أوجب غفلته عن أن الشارع جرى على خلاف ميله ، وتخيل أنه شرع على طبق ميله ، ومن ثم لا تكون الزيادة السهوية أضعف احتمالاً من النقيصة السهوية.

فهذا الاحتمال مع المقرّبات السابقة التي أشرنا إليها ، ربما يوجب أن تكون قيمة احتمال النقيصة في المقام ليست بأقل من قيمة احتمال الزيادة ، بل ربما يوجب تقوية احتمال النقيصة. ولكن هذا إنما ينفع لو كان الميزان في التقديم هو حصول الظن الشخصي بأحد الطرفين دون الآخر كما تقدّم ، لا إذا ما كان المناط في التقديم هو الظنّ النوعيّ الذي هو ملاك الحجية والاعتبار عادة.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

١١٤

الجهة الثانية

ضبط متن الحديث في روايات أقضية النبي (ص)

يبدو أن هناك نحواً من الاختلاف في الروايات التي نقلت أقضية النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأن جملة «لا ضرر ولا ضرار» وردت في طريقين ؛ أحدهما ينتهي إلى عقبة بن خالد عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، والثاني إلى أحد الصحابة (عبادة بن الصامت) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفيها نقلت هذه الجملة كقضاء مستقلّ ، فإن هذه الرواية استعرضت زهاء عشرين قضاءً للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

أما المنقول عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) فروايتان ؛ إحداهما في باب الشفعة ، والأخرى في باب إحياء الموات. ففي الأولى ينقل قضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الشفعة ، ويعقبه بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا ضرر ولا ضرار». وفي الثانية ينقل عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قضاءه بأنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، ويعقبه بهذه الجملة. وكل من هذين القضائين المذيّلين بهذه الجملة ، موجود في تسلسل الأقضية التي ينقلها عبادة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من دون تذييل بهذه الجملة.

إذن فكلا هذين القضائين يختلف حالهما في رواية عبادة عن حالهما في

١١٥

رواية عقبة. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى أن هذا الاختلاف ليس له تأثير حاسم في اقتناص النتيجة ، فإن المعنى المستنبط سواء كانت هذه القاعدة قد وردت مستقلة أو في ذيل القضاء بالشفعة ومنع فضل الماء لا يتغيّر. نعم إذا ثبت أن هذه القاعدة وردت ذيلاً للقضاء بالشفعة ومنع فضل الماء ، لعزّزت إلى درجة كبيرة ذلك المعنى المستنبط منها.

لتوضيح ذلك نقول على وجه الإشارة : إن هناك اتجاهين في تفسير هذه الجملة ؛ أحدهما مبنيّ على أن هذه القاعدة حكم من الأحكام التكليفية وهو حرمة الإضرار ، ثانيهما : أنها قاعدة مشرّعة للأحكام ، فقد تنشأ منها أحكام تكليفية أو وضعية ، وقد تغير الحقوق والملكيات ، إلى غير ذلك من أنحاء التصرف التي يستدعيها نفي الضرر والضرار في الإسلام.

فإذا فرض أن الجملة كانت قد وردت ذيلاً وتعليلاً لقضاء الشفعة ومنع فضل الماء ، تعزّز إلى درجة كبيرة الاتجاه الثاني ، لأن هذه الجملة تكون كقانون عُلِّل به إنشاء حق الشفعة أو حق الرعاة في ماء البئر فيما زاد على حاجة المالك ، فيكون هذا القانون مشرعاً ومنشأً للأحكام في الشريعة ، ولا معنى حينئذٍ لأن يقال بأنها مجرّد تحريم للإضرار بالغير.

أما إذا فرض أن الجملة لم تكن تعليلاً لشيء ، هنا وإن كان يمكن أن يستظهر منها المعنى السابق أيضاً ، إلّا أنه ليس بذلك الوضوح والقوة ، لأنه من الممكن أن يقال : إن «لا» فيها ناهية لا نافية ، فيكون المراد النهي من الإضرار.

وحيث إن شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس‌سره) ذهب إلى هذا الاتجاه ولم يقبل الاتجاه الآخر ، لذا وقعت عليه مسؤولية إسقاط ما يتراءى من رواية

١١٦

عقبة بن خالد من تطبيق هذه القاعدة على حق الشفعة ، وبذل عناية فائقة في سبيل تقديم ظهور رواية عبادة بن الصامت التي لها ظهور في استقلالية هذه الجملة على روايتي عقبة بن خالد ، لظهورهما في كونها تعليلاً لما قبلها بعد أن أوقع التعارض بينهما ، لكي ينتهي من ذلك إلى القول بأن هذه الجملة دالّة على حكم تكليفي هو حرمة الإضرار ، وليست قانوناً مشرّعاً.

بتعبير آخر : كأنه يوجد في المقام افتراضان ، أحدهما : أن هذين المطلبين صدر أحدهما في زمان غير زمان صدور الآخر ، غاية الأمر أن الناقل جمع بينهما ويسمى الجمع في الرواية. والافتراض الآخر : أنهما صدرا معاً. فالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قضى بالشفعة تطبيقاً لذلك القانون الكلي ، ويسمّى هذا بالجمع في المرويّ. إلّا أن مثل هذا الظهور ضعيف يمكن رفع اليد عنه بعد الالتفات إلى نكات توجب تقديم رواية عبادة بن الصامت وشهادته باستقلالية هذه الجملة على مثل هذا الظهور ، على ما يأتي تفصيل كلامه.

احتمالان في رواية الشفعة

وتحقيق الكلام في ذلك هو أن رواية الشفعة وردت عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار».

هنا يتصوّر بدواً احتمالان :

الأوّل : أن يكون فاعل «قال» الثانية ، الإمام (عليه‌السلام) فتكون جملة «قال» من كلام الراوي ، فكأنه نقل قولين عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) أحدهما : قضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة ، والآخر «لا ضرر ولا

١١٧

ضرار». ومن الواضح أن هذا ليس جمعاً في المروي ، ومن ثم لا مجال لاحتمال أن الذيل والمذيل كانا مجتمعين في كلامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله). وهذا الاحتمال هو الذي يناسب الجمع في الرواية الذي يعنيه شيخ الشريعة.

إلّا أنه مع ذلك لا يتم مراد شيخ الشريعة ، لأن الإمام (عليه‌السلام) حينما يقول : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة» ، وبعدها يقول الراوي : «وقال : لا ضرر ولا ضرار» هذا بنفسه يكون له ظهور في أنه نقل كلاماً من الإمام (عليه‌السلام) متصلاً بالكلام الأول ، لا أنه كلام آخر سمعه في مجال آخر ، فجمعَه هنا ، بل هذا الكلام الثاني كان في أعقاب نقل الإمام (عليه‌السلام) لقضاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالشفعة ، فينعقد له ظهور بحسب مناسبات الحكم. والموضوع المركوزة في ذهن العرف هو أنه تعليل له ، غاية الأمر يكون تعليلاً من الإمام (عليه‌السلام) لقضاءٍ صدر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). فهذا الاحتمال وإن كان لا يتناسب مع الجمع في المروي ، إلا أنه لا يفيد شيخ الشريعة شيئاً.

الثاني : أن يكون فاعل «قال» النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيكون المعنى أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لا ضرر ولا ضرار».

وهذا الاحتمال لعلّه هو الأظهر من الأوّل ، لظهور سياقيّ حاصله : أن كل من بدأ بنقل حديث عن شخص ، فظاهر سياقه بحسب أساليب المحاورة العرفية أن يستمر نقله لذلك ما لم ينصب قرينة على انتهائه منه ، وعقبة بن خالد بدأ بحديث عن الإمام (عليه‌السلام) فظاهر حاله أنه تعهّد بنقله وأنه لا ينتهي منه ما لم ينصب قرينة على الخلاف.

وهذا الظهور السياقي هو الذي يوجب عندنا في سائر الموارد أن نحمل

١١٨

الفقرات المتأخّرة في الروايات على أنها صادرة من المعصوم (عليه‌السلام) مع أنه في جملة من الموارد يناسب أن تكون صادرة من قبل الراوي في مقام التعليق على كلامه (عليه‌السلام). ومن الواضح أن هذا الظهور الحالي السياقي يعيِّن الاحتمال الثاني.

فتحصل إلى هنا : أوّلاً : أن الظهور السياقي يقتضي كون الجمع في المروي لا في الرواية ، ونكتة هذا الظهور هو أن وحدة النقل بحسب المتفاهم العرفي تكون ملاكاً لوحدة المنقول عنه ، فإذا فرض أن سياق النقل كان واحداً ، فهو يوجب ظهوراً في كون المنقول عنه واحداً أيضاً.

ثانياً : لو غُضّ النظرُ عن ذلك وفرضنا أنّ الكلامين لم يكونا مجتمعين في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإنما جمعهما الناقل ، فنقول : إن الناقل هو الإمام الصادق (عليه‌السلام) وليس عقبة بن خالد ، فهو جمع بين كلامين متفرّقين للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في هذا الخطاب. ومثل هذا الجمع ليس له نكتة بحسب الارتكاز العرفي إلّا التعليل ، حيث إنه (عليه‌السلام) يعرف أن هذا القضاء مستند إلى تلك الكبرى ، لذا جمع بينهما ، فينعقد حينئذٍ أيضاً ظهور بلحاظ جمع الإمام (عليه‌السلام) لهذه المتفرّقات أنه في مقام التعليل.

وهكذا يتحصّل أنه على جميع التقادير يواجه شيخ الشريعة المشكلة من حيث كيفية تطبيق هذه القاعدة على إنشاء حكم ، سواء كان التعليل بلحاظ كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو بلحاظ جمع الإمام (عليه‌السلام). لذا قلنا إنه بذل عناية فائقة في سبيل التغلب عليها. وكلامه (قدس‌سره) في تصوّر أصل المشكلة وكيفية التغلّب عليها وتقديم رواية عبادة بن الصامت على

١١٩

ظهور رواية عقبة بن خالد في غاية الاختصار والتشويش.

وقد نقل الميرزا (١) (قدس‌سره) كلامه وأضاف إليه بعض النكات والخصوصيات الأخرى. وفيما يلي نستعرض كلامه مع الأخذ بعين الاعتبار إضافات الميرزا في مقام توضيحه وتطويره.

نظرية شيخ الشريعة في المقام

يمكن تحليل استدلال شيخ الشريعة (قدس‌سره) إلى مقدّمات ثلاث ، حاول من خلالها استنتاج أن ظهور رواية عبادة بن الصامت في الاستقلالية أقوى من ظهور رواية عقبة بن خالد.

المقدّمة الأولى : في بيان وثاقة عبادة بن الصامت وضبطه وإتقانه.

المقدّمة الثانية : أن عقبة بن خالد كما هو في الكتب الأربعة له روايات عديدة عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) في أقضية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله). لكن الذي يحدس به هذا الفقيه أن هذه الأقضية بتمامها كانت مجموعة في رواية واحدة سمعها من الإمام (عليه‌السلام) لكن الفقهاء قطّعوها ، كما هو شأنهم في موارد أخرى ، فتفرّقت في مختلف الأبواب.

المقدّمة الثالثة : بعد فرض إرجاع تمام روايات عقبة إلى رواية واحدة ، فلا يكون بينها وبين رواية عبادة تعارض إلّا في خصوصية واحدة ، هي أن جملة «لا ضرر ولا ضرار» جاءت مستقلة هناك وذيلاً هنا ، ولو فرضنا أنه كان لرواية عقبة ظهور في التعليل ، فلا بد من رفع اليد عنه بواسطة معارضته مع

__________________

(١) منية الطالب : ج ٢ ، ص ١٩٤.

١٢٠