لا ضرر ولا ضررا

السيّد كمال الحيدري

لا ضرر ولا ضررا

المؤلف:

السيّد كمال الحيدري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار فراقد
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٤
ISBN: 964-96354-3-2
الصفحات: ٤٣٢

١
٢

٣
٤

المقدمة

الخصائص العامة

لفكر الشهيد الصدر

٥
٦

الخصائص العامة

لفكر شهيد الصدر

يعتقد أستاذنا الشهيد محمد باقر الصدر أن علم الأصول الذي نشأ وترعرع وبلغ رشده على يد علماء مدرسة أهل البيت (عليهم‌السلام) قد مرّ بعصور ثلاثة :

«الأوّل : العصر التمهيدي ، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول ، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ الطوسي.

الثاني : عصر العلم ، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور ، وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الأصولي ، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع ، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ، ومن رجالاته الكبار : ابن إدريس الحلّي والمحقّق والعلّامة الحلّيان والشهيد الأوّل وغيرهم من النوابغ.

الثالث : عصر الكمال العلمي ، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني ، وبدأت تبنى للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.

٧

وقد تمثّلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد ، وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمّة.

ففي هذه المدّة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة.

ويتمثّل الجيل الأوّل في المحقّقين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد كالسيّد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة ١٢١٢ ه‍ والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة ١٢٢٧ ه‍ والميرزا أبي القاسم القمي المتوفى سنة ١٢٢٧ ه‍ والسيد علي الطباطبائي المتوفى سنة ١٢٢١ ه‍ والشيخ أسد الله التستري المتوفى سنة ١٢٣٤ ه‍.

ويتمثّل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء كالشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم المتوفى سنة ١٢٤٨ ه‍ ، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفى سنة ١٢٤٥ ه‍ ، والسيد محسن الأعرجي المتوفى سنة ١٢٢٧ ه‍ ، والمولى أحمد النراقي المتوفى سنة ١٢٤٥ ه‍ ، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفى سنة ١٢٦٦ ه‍ ، وغيرهم.

وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري الذي ولد بُعيد ظهور المدرسة الجديدة عام ١٢١٤ ه‍ ، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموّها ونشاطها ، وقُدّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها. ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد» (١)

__________________

(١) المعالم الجديدة للأصول ، محمد باقر الصدر ، مطبوعات مكتبة النجاح ، طهران

٨

ولا يخفى أنّ كلّ هذه الأدوار التي مرّ بها علم الأصول إنّما كان بعد أن غُرست بذرة التفكير الأصولي لدى فقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم‌السلام) منذ أيام الصادقين (عليهما‌السلام). يقول السيّد الصدر عن هذه المرحلة : «ولا نشكّ في أنّ بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم‌السلام) منذ أيام الصادقين (عليهما‌السلام) على مستوى تفكيرهم الفقهي. ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وجّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمّة (عليهم‌السلام) وتلقّوا جوابها منهم ، فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة ، وفي حجّية خبر الثقة وفي أصالة البراءة ، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد وما إلى ذلك من قضايا» (١).

ولا نبالغ إذا قلنا : إنّ البحث الأصولي بلغ أوجه على يد السيد الصدر بنحو يمكن أن تعدّ مدرسته الأصولية عصراً رابعاً من عصور تطوّر هذا العلم. يقول السيّد كاظم الحائري أحد أبرز تلامذة الأستاذ الشهيد : «لئن كان الفارق الكيفي بين بعض المراحل وبعض حينما يعتبر طفرة وامتيازاً نوعياً في هوية البحث يجعلنا نصطلح على ذلك بالأعصر المختلفة للعلم ، فحقّاً أنّ علم الأصول قد مرّ على يد أستاذنا الشهيد بعصر جديد ، فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسم إليها فترات العلم في المعالم الجديدة لكان هذا عصراً رابعاً هو عصر

__________________

 ـ الطبعة الثانية ، ص ٨٧.

(٢) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٤٧.

٩

ذروة الكمال» (١).

ولست الآن بصدد بيان الملامح والسمات العامة التي تميّزت بها هذه العصور الأربعة من عصور العلم ، وما تركته من آثار عميقة وواسعة على عملية الاستنباط عموماً سواء على مستوى القواعد الأصولية أو الأبحاث الفقهية ؛ لأنّ ذلك له مجال آخر ، وإنّما الذي أريد الوقوف عليه قليلاً ، هو بيان بعض السمات والخصائص العامّة التي تميّزت بها المدرسة الفكرية للسيّد الصدر عموماً لا سيما فيما يرتبط بإبداعاته ونظرياته في علم الأصول.

الخصوصية الأولى

في مجال نظرية المعرفة

من السمات البارزة التي تميّزت بها مدرسة السيد الصدر إبداعاته الأساسية في مجال المعرفة الإنسانية ، ونعني بها «تناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس ، ومحاولة استكشاف الركائز الأوّلية للكيان الفكري الجبّار الذي تملكه البشرية ، والإجابة بذلك عن هذا التساؤل : كيف نشأت المعرفة عند الإنسان ، وكيف تكوّنت حياته العقلية بكلّ ما تزخر به من أفكار ومفاهيم ، وما هو المصدر الذي يمدّ الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟» (٢).

__________________

(١) مباحث الأصول ، تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر ، السيد كاظم الحسيني الحائري ، الجزء الأول من القسم الثاني ، ص ٥٨.

(٢) فلسفتنا ، دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات

١٠

والمتتبّع للأبحاث الأصولية يعلم جيّداً بأنّ الأصوليين وإن لم يعنونوا البحث عن نظرية المعرفة تحت عنوان مستقل إلّا أنّ البحث الأصولي امتدّ إلى هذا المجال الأساسي بشكل عميق وواسع ، ومن أهم مظاهر ذلك البحث هو ما نجده في «الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين ، الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل» (١). يقول الأستاذ الشهيد عن تاريخ هذا الصراع : «وقد مُني علم الأصول بعد صاحب المعالم بصدمة عارضت نموّه وعرّضته لحملة شديدة ، وذلك نتيجة لظهور حركة الأخبارية في أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمّد أمين الأسترآبادي المتوفى سنة ١٠٢١ ه‍ واستفحال أمر هذه الحركة بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر» (٢). «وقد قُدّر للاتجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتّخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له ، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدّد الكبير محمّد باقر البهبهاني المتوفى سنة ١٢٠٦ ه‍ ، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم الأصول ، حتّى تضاءل الاتجاه الأخباري ومُني بالهزيمة. وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي ، والارتفاع بعلم

__________________

الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الدياليكتيكية (الماركسية) ، الشهيد محمد باقر الصدر ، الطبعة العاشرة ، دار الكتاب الإسلامي ، قم ، ص ٥٧.

(١) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٩٦.

(٢) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٧٦.

١١

الأصول إلى مستوى أعلى حتّى أنّ بالإمكان القول بأنّ ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحقّقون الكبار قد كان حدّا فاصلاً بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول» (١).

وقد تعرّض الأستاذ الشهيد «ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته للأخباريين في مدى حجّية البراهين العقلية على نمط التفكير المنطقي الأرسطي ونقده بما لم يسبقه به أحد ، وبعد ذلك طوّر من تلك الأبحاث وأكملَها وأضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية ، فأخرجها بأروع صياغة باسم كتاب : الأسس المنطقية للاستقراء» (٢).

وهذا ما أكّده السيد الصدر في تقريرات بحثه حيث قال في معرض حديثه عن الصراع المذكور آنفاً : «إنّ طريقة تولّد المعارف البشرية حسبما يصوّرها المنطق الصوري أنّ الفكر يسير دائماً من معارف أوّلية ضرورية هي أسس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريقة البرهان والقياس ، التي يحدّد صورتها علم المنطق ، فأي خطأ يفترض إن كان في الصورة فعلم المنطق هو العاصم منه ، وإن كان في مادّة القياس ؛ فإن كانت المادة أوّلية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها ، وإن كانت ثانوية مستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة ؛ لأنّ المعارف الأوّلية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية. وقد اصطلح على المعارف الأوّلية في الفكر البشري بمدركات العقل الأوّل وعلى المعارف المستنتجة منها

__________________

(١) المعالم الجديدة ، مصدر سابق ، ص ٨٥.

(٢) مباحث الأصول ، مصدر سابق ، ج ١ ، ص ٦٣.

١٢

بمدركات العقل الثاني.

إلّا أنّ هذا التصوّر أساساً غير صحيح على ما شرحناه مفصّلاً في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء. فإنّ هذا البحث كان منشأً لانتقالنا إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية استطاعت أن تملأ فراغاً كبيراً في نظرية المعرفة لم يستطع الفكر الفلسفي أن يملأه خلال ألفي سنة» (١).

ولكي يتّضح الدور المهم الذي قام به السيّد الشهيد في بناء المعرفة الإنسانية لا بأس بالإشارة ولو إجمالاً إلى ما كان عليه المنطق الأرسطي ؛ لبيان كيفية توالد المعرفة الإنسانية ، وما انتهى إليه السيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء.

نعلم جميعاً أنّ الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين : «أحدهما الاستنباط ، والآخر الاستقراء ، ولكل من الدليل الاستنباطي والدليل الاستقرائي منهجه الخاص وطريقه المتميّز.

ونريد بالاستنباط : كلّ استدلال لا تكبر نتيجته المقدّمات التي تكوّن منها ذلك الاستدلال. ففي كلّ دليل استنباطي تجيء النتيجة دائماً مساوية أو أصغر من مقدّماتها ، فيقال مثلا : محمّد إنسان ، وكلّ إنسان يموت ، فمحمّد يموت. ويقال أيضاً : الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق ، والصامت يموت والناطق يموت ،

__________________

(١) بحوث في علم الأصول ، مباحث الحجج والأصول العملية ، تقريراً لأبحاث سيدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر طاب ثراه ، السيد محمود الهاشمي ، ج ١ ، الحجج والأمارات ، ص ١٣٠.

١٣

فالحيوان يموت.

ففي قولنا الأول استنتجنا أنّ محمّداً يموت بطريقة استنباطية ، وهذه النتيجة أصغر من مقدّماتها لأنّها تخصّ فرداً من الإنسان وهو محمّد ، بينما المقدّمة القائلة : " كلّ إنسان يموت" تشمل الأفراد جميعاً. وبذلك يتّخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه من العام إلى الخاص فهو يسير من الكلّي إلى الفرد ومن المبدأ العام إلى التطبيقات الخاصة.

ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم «القياس» ويعتبر الطريقة القياسية هي الصورة النموذجية للدليل الاستنباطي.

وفي قولنا الثاني استنتجنا أنّ الحيوان أيّ حيوان يموت بطريقة استنباطية أيضاً ، ولكن النتيجة مساوية للمقدّمة التي ساهمت في تكوين الدليل عليها القائلة : " الصامت يموت والناطق يموت" لأنّ الصامت والناطق هما كلّ الحيوان بموجب المقدّمة الأخرى القائلة : الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق.

ونريد بالاستقراء : كلّ استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدّمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال ، فيقال مثلاً ، هذه القطعة من الحديد تتمدّد بالحرارة ، وتلك تتمدّد بالحرارة ، وهذه القطعة الثالثة تتمدّد بالحرارة أيضاً ، إذن كلّ حديد يتمدّد بالحرارة. وهذه النتيجة أكبر من المقدّمات ؛ لأنّ المقدّمات لم تتناول إلّا كميّة محدودة من قطع الحديد ثلاث قطع أو أربع قطع ... أو ملايين ، بينما النتيجة تناولت كلّ حديد وحكمت بأنه يتمدّد بالحرارة ، وبذلك شملت القطع الحديدية التي لم تدخل في المقدّمات ولم يجر عليها الفحص. ومن أجل هذا يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكساً للسير في الدليل الاستنباطي

١٤

الذي يصطنع الطريقة القياسية ، فبينما يسير الدليل الاستنباطي وفق الطريقة القياسية من العام إلى الخاص عادة ، يسير الدليل الاستقرائي خلافاً لذلك من الخاص إلى العام.

ومنذ بدأ الإنسان يدرس مناهج الاستدلال والتفكير ويحاول تنظيمها منطقياً طرح على نفسه السؤال التالي : هب أنّ المقدّمات التي تقرّرها في الدليل الاستنباطي أو الاستقرائي صحيحة حقّا ، فكيف يتاح لك أن تخرج منها بنتيجة وتتخذ تلك المقدّمات سبباً كافياً لتبرير الاعتقاد بهذه النتيجة؟ وقد أدرك الإنسان لدى مواجهة هذا السؤال فارقاً أساسياً بين الاستنباط والاستقراء ، واكتشف على هذا الأساس ثغرة في تركيب الدليل الاستقرائي لا يوجد في الدليل الاستنباطي ما يماثلها.

ففي الاستنباط يرتكز استنتاج النتيجة من مقدّماتها دائماً على مبدأ عدم التناقض ، ويستمدّ مبرره المنطقي من هذا المبدأ ، لأنّ النتيجة في حالات الاستنباط مساوية لمقدّماتها أو أصغر منها كما تقدّم فمن الضروري أن تكون النتيجة صادقة إذا صدقت المقدّمات ؛ لأن افتراض صدق المقدّمات دون النتيجة يستبطن تناقضاً منطقياً ما دامت النتيجة مساوية أو أصغر من مقدّماتها أي مستبطنة بكامل حجمها في تلك المقدّمات.

وهكذا نجد أن الاستدلال الاستنباطي صحيح من الناحية المنطقية ، وأن الانتقال فيه من المقدّمات إلى النتيجة ضروري على أساس مبدأ عدم التناقض.

وأمّا في حالات الاستقراء فإنّ الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص إلى العام ؛ لأنّ النتيجة في الدليل الاستقرائي أكبر من مقدّماتها وليست مستبطنة فيها ، فهو يقرّر في المقدّمات أن كمية محدودة من قطع الحديد لوحظ تمدّدها بالحرارة ،

١٥

ويخرج من ذلك بنتيجة عامة وهي" أن كلّ حديد يتمدّد بالحرارة".

وهذا الانتقال من الخاص إلى العام لا يمكن تبريره على أساس مبدأ عدم التناقض كما رأينا في حالات الدليل الاستنباطي ؛ لأنّ افتراض صدق المقدّمات وكذب النتيجة لا يستبطن تناقضاً. فبالإمكان أن نفترض أنّ تلك الكمية المحدودة من القطع الحديدية قد تمدّدت بالحرارة فعلاً ونفترض في نفس الوقت أنّ التعميم الاستقرائي القائل" إنّ كلّ حديد يتمدّد بالحرارة" خطأ ، دون أن نقع في تناقض منطقي ، لأنّ هذا التعميم غير مستبطن في الافتراض الأوّل.

وهكذا نعرف أن منهج الاستدلال في الدليل الاستنباطي منطقي ، ويستمدّ مبرّره من مبدأ عدم التناقض ، وخلافاً لذلك منهج الاستدلال في الدليل الاستقرائي فإنّه لا يكفي لتبريره منطقياً مبدأ عدم التناقض ، ولا يمكن على أساس هذا المبدأ تفسير القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاص إلى العامّ وما تؤدّي إليه من ثغرة في تكوينه المنطقي» (١).

وبناءً على ذلك يتّضح لماذا آمن المنطق الأرسطي بأنّ الاستدلال القياسي إذا كانت مقدّماته مادّة وصورة يقينيّة يفيد اليقين ، بخلافه في الدليل الاستقرائي.

وتظهر أهمّية الدليل الاستقرائي من جهة أن جميع العلوم الطبيعية من فيزيائية وطبّية وفلكية ونحوها ؛ كلّها تعتمد الملاحظة والتجربة للانتهاء إلى التعميمات

__________________

(١) الأسس المنطقية للاستقراء ، دراسة جديدة للاستقراء تستهدف اكتشاف الأساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعية وللإيمان بالله ، محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، ص ٥ ٧.

١٦

التي تصل إليها.

ومن هنا حاول المنطق الأرسطي إرجاع الدليل الاستقرائي (الذي يسير من الخاص إلى العام) إلى الدليل القياسي (الذي يسير من العام إلى الخاص) وذلك تخلّصاً من تلك الثغرة التي يتركّب منها تكوينه المنطقي.

توضيحه : «أنّ الدليل الاستقرائي بعد أن يحصل خلال الاستقراء الناقص على عدد كبير من الأمثلة ، ينطلق من ذلك المبدأ العقلي ، ويتّخذ الشكل القياسي في الاستدلال ، فيقرّر أنّ ظاهرة (أ) وظاهرة (ب) قد اقترنتا خلال الاستقراء في مرّات كثيرة ، وكلّما اقترنت ظاهرتان بكثرة فإحداهما سبب للأخرى ؛ لأنّ الاتّفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً ، ويستنتج من ذلك أن (أ) سبب ل (ب).

وهذا استدلال قياسي بطبيعته ، لأنّه يسير من العام إلى الخاص ، وليس من نمط الاستدلال الاستقرائي الذي يسير من الخاص إلى العام. وإذا ثبت باستدلال قياسي يسير من العام إلى الخاص أن بين الحرارة وتمدّد الحديد رابطة سببية ، استطعنا أن نؤكّد أنّ الحديد يتمدّد كلّما تعرّض للحرارة لأنّ المسبَّب يوجد كلّما وُجد سببه.

وعلى هذا الضوء يتّضح أن الدليل الاستقرائي في المنطق الأرسطي يستبطن قياساً. فهو في الحقيقة دليل قياسي يسير من العام إلى الخاص ، وليس دليلاً استقرائياً يسير من الخاص إلى العام.

ويسمّي المنطق الأرسطي هذا الدليل الاستقرائي بما يستبطن من قياس تجربة ، ويعتبر التجربة أحد مصادر المعرفة أي من القضايا اليقينيّة في المنطق الأرسطي ويؤمن بقيمتها المنطقية وإمكان قيام العلم على أساسها ، خلافاً

١٧

للاستقراء الناقص الذي يمثّل أحد عنصري التجربة ويعطي صغرى القياس المستبطن فيها. فالتمييز بين التجربة والاستقراء الناقص في المنطق الأرسطي يقوم على أساس أنّ الاستقراء الناقص مجرّد تعبير عددي عن الأمثلة التي لوحظت خلال الاستقراء ، وأمّا التجربة فهي تتألّف من ذلك الاستقراء ومن مبدأ عقلي مسبق يتكوّن منهما معاً قياس منطقي كامل» (١).

وهكذا نعرف لماذا يقول المنطق الأرسطي تارة : إنّ الاستقراء الناقص لا يفيد علماً ، ويقول أخرى : إنّ التجربة تفيد العلم ، بل تجعل المجرّبات من اليقينيات التي يقوم عليها صرح المنطق الأرسطي ، حيث إنّه يريد بالاستقراء الناقص الذي لا يفيد العلم تلك الحالة التي نشاهدها من خلال إجراء التجربة على بعض الظواهر الطبيعية من دون أن يضاف إليها أيّ مبدأ عقلي مسبق يكون كبرى عملية الاستدلال ، ويريد بالتجربة التي تفيد العلم تلك الظواهر الطبيعية إذا أمكن تطبيق المبدأ العقلي القائل إنّ الصدفة والاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً ؛ ليتألّف من الاستقراء الناقص وذلك المبدأ العقلي قياس منطقي كامل يبرهن على التعميم الذي نريد الوصول إليه.

يقول المحقّق الطوسي في شرحه لمنطق الإشارات «المجرّبات تحتاج إلى أمرين : أحدهما : المشاهدة المتكرّرة ، والثاني القياس الخفيّ» (٢).

إذن النقطة المركزية في المنطق الأرسطي هو أنّ الاستقراء الناقص لكي يفيد علماً لا بدّ أن يستبطن قياساً خفيّاً ، فيكون الاستقراء صغرى القياس ،

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٣٣ ٣٤.

(٢) الإشارات والتنبيهات للشيخ أبي علي حسين بن عبد الله بن سينا ، ج ١ ، ص ٢١٧.

١٨

والقضية القائلة : " إنّ الصدفة لا تكون دائمية ولا أكثرية" كبرى القياس. هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ هذه الكبرى إنّما يؤمن بها المنطق الأرسطي كقضية قبلية «أي أنه مدرك للعقل بصورة مستقلّة عن الاستقراء والتجربة لأنّه إذا كان مستخلصاً من الاستقراء والتجربة فلا يمكن أن يعتبر أساساً للاستدلال الاستقرائي وشرطاً ضرورياً للتعميمات الاستقرائية ، إذ يصبح هو بنفسه واحداً من تلك التعميمات الاستقرائية ، فيتوجّب على المنطق الأرسطي وهو يحاول أن يتّخذ من ذلك المبدأ أساساً منطقياً للاستدلال الاستقرائي عموماً أن يمنحه طابعاً عقلياً خالصاً ويؤمن به بوصفه معرفة عقلية قبلية مستقلّة عن الاستقراء والتجربة» (١).

وهنا تكمن نقطة الخلاف الجوهرية بين المنطق الأرسطي وبين ما أسماه الأستاذ الشهيد بالمنطق الذاتي (٢) الذي وضع قواعده في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» حيث يرى «أنّ المبدأ الذي ينفى تكرّر الصدفة النسبية باستمرار ليس معرفة عقلية قبلية بل هو إذا قبلناه ليس على أفضل تقدير إلا. نتاج استقراء للطبيعة ، كشف عن عدم تكرّر الصدفة النسبية فيها على خط طويل ، وإذا كان هذا المبدأ بنفسه معطى استقرائياً فلا يمكن أن يكون هو الأساس للاستدلال الاستقرائي ، بل يتوجّب عندئذ الاعتراف بأنّ الأمثلة التي يعرضها

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٤٥.

(٢) يقول (قدس‌سره): «ونريد بالمذهب الذاتي للمعرفة اتجاهاً جديداً في نظرية المعرفة يختلف عن كلّ من الاتجاهين التقليديين اللذين يتمثّلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي». الأسس المنطقية ، ص ١٣٣.

١٩

الاستقراء كافية للاستدلال على قضية كلّية وتعميم استقرائي دون حاجة إلى إضافة ذلك المبدأ الأرسطي إليها» (١).

وبكلمة واضحة : إنّ الأستاذ الشهيد يعتقد أننا يمكن أن ننتهي إلى النتائج الكلّية من خلال نفس الاستقراء الناقص وذلك من خلال المنطق الذاتي ، بلا حاجة إلى ما تكلّفه المنطق العقلي في الاتجاه الأرسطي من إرجاع الدليل الاستقرائي الذي يسير من الخاص إلى العام ، إلى الدليل القياسي الذي يسير من العام إلى الخاص.

يقول بهذا الصدد : «ويكفي هنا أن نسجّل رأينا هذا دون أن ندخل في تفاصيله ، تاركين ذلك إلى القسم الثالث من هذا الكتاب ، حيث نستعرض بشمول وعمق النظرية التي يتبنّاها هذا الكتاب في تفسير الدليل الاستقرائي ، والتي تؤكّد أن الاستقراء يؤدّي إلى التعميم بدون حاجة إلى أي مصادرات قبلية ، وسوف يبدو بوضوح في ضوء تلك النظرية أنّ المصادرات الثلاث التي آمن بها المنطق الأرسطي وربط مصير الدليل الاستقرائي بها يمكن إثباتها جميعاً بالاستقراء نفسه كما نثبت أي تعميم من التعميمات الأخرى عن طريق الدليل الاستقرائي» (٢).

هذه هي خلاصة المحاولة التي قام بها الأستاذ الشهيد في هذه «الدراسة الشاملة للكشف عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي ، الذي يضمّ كلّ ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة ، واستطاعت أن

__________________

(١) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٤٦.

(٢) الأسس المنطقية ، مصدر سابق ، ص ٧٠.

٢٠