التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)

________________________________________________________

أحدها : أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك ؛ يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب ، والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي : استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك ، والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك (مِنْ بَيْتِكَ) يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أي كرهوا قتال العدو ، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة ، ومعها أربعون راكبا ، فأخبر بذلك جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة ، فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ؛ ليمنعوا عيرهم. فنزل جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريش ، فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، فقالوا : العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقال له سعد بن عبادة : امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ : والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) كان جدالهم في لقاء قريش ، بإيثارهم لقاء العير ؛ إذ كانت أكثر أموالا ، وأقل رجالا ؛ وتبين الحق : هو إعلام رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم بأنهم ينصرون (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) يعني قريش أو عيرهم ، والعمل في إذ محذوف تقديره اذكروا (أَنَّها لَكُمْ) بدل من إحدى الطائفتين (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) الشوكة عبارة عن السلاح. سميت بذلك لحدّتها ، والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر (لِيُحِقَّ الْحَقَ) متعلق بمحذوف تقديره : ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك ، وليس تكرارا للأول ؛ لأن الأول مفعول يريد ، وهذا تعليل لفعل الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة ، وبالحق الثاني الإسلام. فيكون المعنى أن نصرهم ، ليظهر الإسلام ، ويؤيد هذا قوله : ويبطل الباطل أي يبطل الكفر (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) إذ بدل من إذ يعدكم ، وقيل : يتعلق بقوله : ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر (مُمِدُّكُمْ) أي مكثركم (مُرْدِفِينَ) من قولك ردفه إذا تبعه ، وأردفته إياه إذا أتبعته إياه. والمعنى : يتبع بعضهم بعضا ، فمن قرأه (١)

__________________

(١). قرأ نافع بفتح الدال ، وقرأ الباقون بكسر الدال.

٣٢١

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢)

________________________________________________________

بفتح الدال فهو اسم مفعول ، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل ، وصح معنى القراءتين ؛ لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا ، فمنهم تابعون ومتبوعون (وَما جَعَلَهُ اللهُ) الضمير عائد على الوعد ، أو على الإمداد بالملائكة (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر ، أو بما عند الله من معنى النصر ، أو بإضمار فعل تقديره : اذكر ، ومن قرأ يغشيكم (١) بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى ، ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشّى المشدد ، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني ، والمعنى يغطيكم به فهو استعارة ، من الغشاء ، ومن قرأ بفتح الياء والشين (٢) فهو من غشى المتعدى إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس (أَمَنَةً مِنْهُ) أي أمنا ، والضمير المجرور يعود على الله تعالى ، وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله. قال ابن مسعود : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) تعديد لنعمة أخرى ؛ وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر ، وقيل : بعد وصولهم ، فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر ، وتوضأ به سائرهم ، وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء ، فقالوا : نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء؟ فأنزل الله المطر ، وأزال عنهم وسوسة الشيطان (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) الضمير في به عائد على الماء ، وذلك أنهم كانوا في رملة دعصة لا يثبت فيها قدم ، فلما نزل المطر تلبدت وتدقت (٣) الطريق ، وسهل المشي عليها والوقوف ، وروي أن ذلك المطر بعينه صعّب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله (إِذْ يُوحِي) يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها ، أو يكون العامل فيه يثبت (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يكون التثبيت بقتال الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها : إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) يحتمل أن يكون

__________________

(١). وهي قراءة أهل المدينة.

(٢). هي قراءة أبو عمرو وابن كثير : يغشاكم. وأما يغشّيكم فهي قراءة أهل الكوفة.

(٣). كذا في الأصل المطبوع ولعلها خطأ فلتحرر.

٣٢٢

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)

________________________________________________________

من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين ، أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) يحتمل أيضا أن يكون خطابا للملائكة أو للمؤمنين ، ومعنى فوق الأعناق : أي على الأعناق ، حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح ، والضرب فيها يطيّر الرأس ، وقيل : المراد الرؤوس ، لأنها فوق الأعناق ، وقيل : المراد الأعناق وفوق زائدة (كُلَّ بَنانٍ) قيل : هي المفاصل ، وقيل : الأصابع وهو الأشهر في اللغة ، وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) الإشارة إلى ما أصاب الكفار يوم بدر ، والباء للتعليل ، وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) الخطاب هنا للكفار ، وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب ، ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله : فذوقوه ، كقولك زيدا فاضربه (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على ذلك على تقدير رفعه ، أو نصبه ، أو مفعول معه ، والواو بمعنى مع (زَحْفاً) حال من الذين كفروا ، أو من الفاعل في لقيتم ، ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص ، وأصل الزحف الاندفاع (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) نهي عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم اللقاء في أي عصر كان (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم ، ثم يعطف عليه ، وذلك من الخداع في الحرب (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منحازا إلى جماعة من المسلمين ، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب ، فالتحيز إليها جائز باتفاق ، واختلف في التحيز إلى المدينة ، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا ، ويروى عن عمر بن الخطاب ، أنه قال : أنا فئة لكل مسلم ، وهذا إباحة لذلك ، والفرار من الذنوب الكبائر ، وانتصب قوله متحرفا على الاستثناء من قوله ومن يولهم ، وقال الزمخشري : انتصب على الحال وإلا لغو ، ووزن متحيز متفيعلا ، ولو كان على متفعل لقال متحوز ، لأنه من حاز يحوز (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى ، لكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا ، فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة (بَلاءً حَسَناً) يعني الأجر والنصر والغنيمة (مُوهِنُ) من الوهن وهو الضعف ، وقرئ موهّن (١)

__________________

(١). وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وقرأ أهل الكوفة والشام : موهن بالتخفيف.

٣٢٣

إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (٢٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)

________________________________________________________

بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) الآية : خطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه ، وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين ، وفتح لهم ، ومعنى : إن تستفتحوا : تطلبوا الفتح ، ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم ، وقيل : إن الخطاب للمؤمنين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إن كان الخطاب للكافر فالفتح هنا بمعنى الحكم : أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر ، وإن كان الخطاب للمؤمنين ، فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم ، لأن الله حكم لهم ، أو بمعنى النصر (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للأمر بالطاعة (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي تسمعون القرآن والمواعظ (كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) أي كل من يدب ، والمقصود أن الكفار شر الخلق ، قال ابن قتيبة : نزلت هذه الآية في بني عبد الدار ، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين (لِما يُحْيِيكُمْ) أي للطاعة ، وقيل : للجهاد لأنه يحيا بالنصر (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) قيل : يميته ، وقيل : يصرّف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك (فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أي لا تصيب الظالمين وحدهم ، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم. وإن كان لم يظلم.

وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، وعمار بن ياسر ، وطلحة والزبير ، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل ، ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية : أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة ، وأيدكم بنصره في بدر وغيرها (لا تَخُونُوا اللهَ) نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الذبح ، وقيل : المعنى : لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) عطف

٣٢٤

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ

________________________________________________________

على لا تخونوا أو منصوب (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي تفرقة بين الحق والباطل ، وذلك دليل على أن التقوى تنوّر القلب ، وتشرح الصدر ، وتزيد في العلم والمعرفة (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على إذ أنتم قليل ، أو استئناف ، وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليسجنونك (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) قيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ كان قد تعلم من أخبار فارس والروم ، فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وقيل : هي في سائر قريش (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أخبارهم المسطورة (وَإِذْ قالُوا اللهُمَ) الآية ، قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوا على أنفسهم إن كان أمره هو الحق ، والصحيح أن الذي دعا بذلك أبو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما ، وانتصب الحق لأنه خبر كان.

وقال الزمخشري : معنى كلامهم جحود أي : إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره ، ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا ، وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم ، إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) إكراما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب ، قال بعض السلف : كان لنا أمانان من العذاب وهما وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستغفار ، فلما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب الأمان الواحد ، وبقي الآخر ، وقيل : الضمير في يعذبهم للكفار ، وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال ، وذلك من الموجب لعذابهم (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء : التصفير بالفم ، والتصدية : التصفيق باليد. وكانوا يفعلونهما إذ صلّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الآية نزلت في إنفاق قريش في غزوة أحد وقيل : إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد (تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي يتأسفون

٣٢٥

عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ

________________________________________________________

على إنفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) إخبار بالغيب (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) معنى يميز : يفرق بين الخبيث والطيب ، والخبيث هنا الكفار. والطيب : المؤمنون وقيل : الخبيث ما أنفقه الكفار ، والطيب : ما أنفقه المؤمنون ، واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون ، وعلى الأول بيحشرون (فَيَرْكُمَهُ) أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعضه (إِنْ يَنْتَهُوا) يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، ولا تصح المغفرة إلا به (وَإِنْ يَعُودُوا) يعني إلى القتال (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الفتنة هنا الكفر ، فالمعنى قاتلوهم ، حتى لا يبقى كافر ، وهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (١) (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) لفظه عام يراد به الخصوص ، لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس : وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال ، ومنها : ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه ، وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف ، وما طرحه العدو خوف الغرق ، ومنها : ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ، ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية : اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم : يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة ، وسهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مصالح المسلمين ، وقيل : للوالي بعده : وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل.

وقال الشافعي : على خمسة أسهم ، ولا يجعل لله سهما مختصا ، وإنما بدأ عنده بالله ، لأن الكل ملكه ، وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم : لليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) راجع إلى ما تقدم ، والمعنى : إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس ، واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي أنزل عليه القرآن والنصر (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر (الْتَقَى الْجَمْعانِ) يعني المسلمين والكفار (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) العامل في إذ

__________________

(١). الحديث متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر. ورواه النووي في الأربعين.

٣٢٦

الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)

________________________________________________________

التقى والعدوة : شفير الوادي ، وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان ، والدنيا القريبة من المدينة ، والقصوى البعيدة (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعني العير التي كان فيها أبو سفيان ، وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم ، أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه ، ويعيش من عاش بعد البيان له ، وقيل : ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن ، وقرئ من حيي (١) بالإظهار والإدغام وهما لغتان (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) الآية : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم (لَفَشِلْتُمْ) أي جبنتم عن اللقاء (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال (رِيحُكُمْ) أي قوتكم ونشاطكم ، وذلك استعارة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر (بَطَراً) أي عتوا وتكبرا (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الآية : لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه ، ووعدهم بالنصر (نَكَصَ) أي رجع إلى وراء (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) رأى الملائكة تقاتل (يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الذين كانوا بالمدينة ، وقيل : الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي اغترّ

__________________

(١). حيي : قرأها نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر وقرأ الباقون حيّ بالتشديد.

٣٢٧

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)

________________________________________________________

المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ذلك فيمن قتل يوم بدر (وَأَدْبارَهُمْ) أي أستاههم ، وقيل : ظهورهم (وَذُوقُوا) هذه من قول الملائكة لهم تقديره : ويقولون لهم : ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون ، ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) تقديره عند سيبويه الأمر ذلك ، والباء سببية ، والمعنى : أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي (كَدَأْبِ) ذكر في آل عمران (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) يريد بني قريظة (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أي نقضا للعهد (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي ردّ العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم (عَلى سَواءٍ) أي على معادلة ، وقيل : معناه أن تستوي معهم في العلم بنقض العهد (وَلا يَحْسَبَنَ) (١) (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون ، وحكمه عام في جميع الكفار (مِنْ قُوَّةٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ألا إن القوة الرمي» (٢) ، (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) قال الزمخشري : الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.

وقال ابن عطية : رباط الخيل جمع ربط أو مصدر (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) يعني الكفار (وَآخَرِينَ) يعني المنافقين : وقيل : بني قريظة ، وقيل : الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل ، وقيل : فارس ، والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) قال السهيلي : لا ينبغي أن يقال فيهم شيء ، لأن الله تعالى قال : لا تعلمونهم ، فكيف يعلمهم

__________________

(١). يحسبنّ : قرأها ابن عامر وحمزة وحفص وقرأ الباقون : ولا تحسبنّ.

(٢). رواه مسلم عن عقبة بن عامر الجهني. ذكره النووي في رياض الصالحين.

٣٢٨

وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٦٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٧٠) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ

________________________________________________________

أحد ، وهذا لا يلزم ، لأن معنى قوله لا تعلمونهم : لا تعرفونهم : أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس ، ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) السلم هنا المهادنة ، والآية منسوخة بآية القتال في براءة ، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قيل : المراد ، بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام ، واللفظ عام (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على اسم الله ، وقال الزمخشري مفعول معه ، والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) الآية : إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم ، وأشار عمر بقتلهم. فنزلت الآية عتابا على استبقائهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي يبايع في القتال (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) عتاب لمن رغب في فداء الأسرى (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم ، وقيل : ما قضاه الله من تحليل الغنائم لهم (فِيما أَخَذْتُمْ) يريد به الأسرى وفداؤهم ، ولما نزلت الآية قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم : لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) إباحة للغنائم ولفداء الأسارى (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية ، قال العباس : فيّ نزلت وكان قد افتدى يوم بدر ، ثم أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المال ما لا يقدر أن يحمله ، فقال : قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني ، وأنا أرجو أن يغفر لي (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) الآية تهديد لهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر السورة مقصدها : بيان منازل المهاجرين

٣٢٩

آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

________________________________________________________

والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا بعد الحديبية ، فبدأ أولا بالمهاجرين ، ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا ، وأثبت الولاية بينهم ، وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر ، وقيل : هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا : أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين : إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم ، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية ، والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله : إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، أو النصر الذي في قوله : فعليكم النصر ، والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) الآية : ثناء على المهاجرين والأنصار ، ووعد لهم ، والرزق الكريم في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) قيل : هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار ، قال مالك : ليست في الميراث ، وقال أبو حنيفة : هي في الميراث ، وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام (فِي كِتابِ اللهِ) أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ.

٣٣٠

سورة التوبة

مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها ١٢٩ : نزلت بعد المائة

بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ

________________________________________________________

سورة براءة

وتسمى سورة التوبة ، وتسمى أيضا الفاضحة : لأنها كشفت أسرار المنافقين ، واتفقت المصاحف والقراء على إسقاط البسملة من أولها ، واختلف في سبب ذلك ، فقال عثمان بن عفان : اشتبهت معانيها بمعاني الأنفال ، وكانت تدعى القرينتين في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك قرنت بينهما فوضعتهما في السبع الطوال. وكان الصحابة قد اختلفوا هل هما سورتان أو سورة واحدة؟ فتركت البسملة بينهما لذلك وقال علي بن أبي طالب : البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ، فلذلك لم تبدأ بالأمان (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين ، وارتفاع براءة على أنه خبر ابتداء أو مبتدأ (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تقدير الكلام : براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فمن وإلى يتعلقان بمحذوف لا ببراءة ، وإنما أسند العهد إلى المسلمين في قوله عاهدتم ، لأن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازم للمسلمين ، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة ، فمنهم من وفى فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ، ومنهم من نقض ، أو قارب النقض فجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي سيروا آمنين أربعة أشهر ، وهي الأجل الذي جعل لهم ، واختلف في وقتها فقيل : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، لأن السورة نزلت حينئذ وذلك عام تسعة ، وقيل : هي من عيد الأضحى إلى تمام العشر الأول من ربيع الآخر ، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث تلك السنة أبا بكر الصديق يحج بالناس ، ثم بعث بعده علي بن أبي طالب فقرأ على الناس سورة براءة يوم عرفة وقيل : يوم النحر (غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تفوتونه (وَأَذانٌ) أي إعلام بتبرّي الله تعالى ورسوله من المشركين (إِلَى النَّاسِ) جعل البراءة مختصة بالمعاهدين من المشركين ، وجعل الإعلام بالبراءة عاما لجميع الناس : من عاهد ، ومن لم يعاهد ، والمشركين وغيرهم (الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) هو يوم عرفة أو يوم النحر ، وقيل : أيام الموسم كلها ، وعبر عنها بيوم كقولك يوم

٣٣١

مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)

________________________________________________________

صفين والجمل ، وكانت أياما كثيرة (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تقديره أذان بأن الله بريء ، وحذفت الباء تخفيفا ، وقرئ إن الله بالكسر ، لأن الأذان في معنى القول (وَرَسُولِهِ) ارتفع بالعطف على الضمير في برىء ، أو بالعطف على موضع اسم إن ، أو بالابتداء وخبره محذوف وقرئ بالنصب عطف على اسم إن ، وأما الخفض فلا يجوز فيه العطف على المشركين لأنه معنى فاسد ويجوز على الجوار أو القسم ، وهو مع ذلك بعيد والقراءة به شاذة (فَإِنْ تُبْتُمْ) يعني التوبة من الكفر (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) يريد الذين لم ينقضوا العهد (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) يعني الأشهر الأربعة التي جعلت لهم ، فمن قال : إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهي الحرم المعروفة زاد فيها شوال ونقص رجب ، وسميت حرما تغليبا للأكثر ومن قال : إنها إلى ربيع الثاني : فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ناسخة لكل موادعة في القرآن ، وقيل : إنها نسخت أيضا فإمّا منّا بعد وإما فداء ، وقيل : بل نسختها هي فيجوز المنّ والفداء (وَخُذُوهُمْ) معناه الأسر ، والأخيذ هو الأسير (كُلَّ مَرْصَدٍ) كل طريق ونصبه على الظرفية (فَإِنْ تابُوا) يريد من الكفر ، ثم قرن بالإيمان الصلاة والزكاة ، فذلك دليل على قتال تارك الصلاة والزكاة ، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، والآية في معنى قوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (١) (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) تأمين لهم (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) هو من الجوار أي استأمنك فأمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي إن لم يسلم فردّه إلى موضعه ، وهذا الحكم ثابت عند قوم ، وقال قوم : نسخ بالقتال (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) لفظ استفهام ، ومعناه استنكار واستبعاد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قيل : المراد قريش ، وقيل : قبائل بني بكر (فَمَا اسْتَقامُوا) ما

__________________

(١). رواه الشيخان من حديث ابن عمر. النووي في الأربعين.

٣٣٢

كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (١٢) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٣)قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ

________________________________________________________

ظرفية (كَيْفَ) تأكيد للأولى ، وحذف الفعل بعدها للعلم به تقديره : كيف يكون لهم عهد؟ (لا يَرْقُبُوا) أي لا يراعوا (إِلًّا وَلا ذِمَّةً) الإلّ القرابة ، وقيل : الحلف ، والذمة العهد (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) استثنى من قضي له بالإيمان (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) (١) أي رؤساء أهله قيل : إنهم أبو جهل لعنه الله ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، وسهيل بن عمرو ، وحكى ذلك الطبري وهو ضعيف لأن أكثر هؤلاء كان قد مات قبل نزول هذه السورة ، والأحسن أنها على العموم (لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا أيمان لهم يوفون بها ، وقرئ لا إيمان (٢) بكسر الهمزة (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) يتعلق بقاتلوا (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) قيل : يعني إخراجه من المدينة حين قاتلوه بالخندق وأحد ، وقيل : يعني إخراجه من مكة إذا تشاوروا فيه بدار الندوة ثم خرج هو بنفسه (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني : إذايتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بمكة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) يريد بالقتل والأسر وفي ذلك وعد للمسلمين بالظفر (قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قيل : إنهم خزاعة والإطلاق أحسن (وَيَتُوبُ اللهُ) استئناف إخبار فإن الله يتوب على بعض هؤلاء الكفار فيسلم (أَمْ حَسِبْتُمْ) الآية : معناها أن الله لا يتركهم دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث ، وأم هنا بمعنى بل والهمزة ، (يَعْلَمِ اللهُ) أي : يعلم ذلك موجبا لتقوم به الحجة (وَلِيجَةً) أي بطانة (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) أي ليس لهم ذلك بالحق والواجب ، وإن كانوا قد عمروها تغليبا وظلما (٣) ، ومن قرأ مساجد بالجمع أراد جميع المساجد ، ومن قرأ (٤) بالتوحيد أراد المسجد الحرام (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي أن أحوالهم وأقوالهم تقتضي الإقرار بالكفر ، وقيل : الإشارة إلى قولهم في التلبية : لا شريك لك إلا شريكا هو

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : أيمة.

(٢). وهي قراءة ابن عامر فقط.

(٣). كذا في الأصل المطبوع فلعلها محرفة.

(٤). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : مسجد في الآيتين.

٣٣٣

حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٢٧)

________________________________________________________

لك (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية : سببها أن قوما من قريش افتخروا بسقاية الحاج ، وبعمارة المسجد الحرام ؛ فبين الله أن الجهاد أفضل من ذلك ، ونزلت الآية في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت وعندي مفاتحه.

وقال العباس : أنا صاحب السقاية ، وقال علي : لقد أسلمت قبل الناس ، وجاهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ) الآية قيل : نزلت فيمن ثبط عن الهجرة ولفظها عام وكذلك حكمها (فَتَرَبَّصُوا) وعيد لمن آثر أهله أو ماله أو مسكنه على الهجرة والجهاد (بِأَمْرِهِ) قيل : يعني فتح مكة ، وقيل : هو إشارة إلى عذاب أو عقاب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) عطف على مواطن أو منصوب بفعل مضمر ، وهذا أحسن لوجهين : أحدهما أن قوله : إذ أعجبتكم كثرتكم مختص بحنين ، ولا يصح في غيره من المواطن فيضعف عطف يوم حنين على المواطن للاختلاف الذي بينهما في ذلك ، والآخر أن مواطن ظرف مكان ، ويوم حنين ظرف زمان ، فيضعف عطف أحدهما على الآخر ، إلا أن يريد بالمواطن الأوقات ، وحنين : اسم علم لموضع عرف برجل اسمه حنين وانصرف لأنه مذكر (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) كانوا يومئذ اثنا عشر ألفا ، فقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة ، فأراد الله إظهار عجزهم ففرّ الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى بقي على بغلته في نفر قليل ، ثم استنصر بالله ، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه الكفار وقال : شاهت الوجوه ، ونادى بأصحابه فرجعوا إليه ، وهزم الله الكفار وقصة حنين مذكورة في السير (بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت على كثرة اتساعها وما هنا مصدرية (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني : الملائكة (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) إشارة إلى إسلام هوازن الذين قاتلوا المسلمين بحنين.

٣٣٤

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ

________________________________________________________

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قيل : إن نجاستهم بكفرهم وقيل : بالجنابة (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) نص على منع المشركين ، وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام ، فأجمع العلماء على ذلك ، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد ، فمنع جميع الكفار من جميع المساجد ، وجعلها الشافعي عامة في الكفار خاصة بالمسجد الحرام ، فمنع جميع الكفار دخول المسجد الحرام خاصة ، وأباح لهم دخول غيره. وقصرها أبو حنيفة على موضع النص ؛ فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام خاصة ، وأباح لهم دخول سائر المساجد وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) يريد عام تسعة من الهجرة حين حج أبو بكر بالناس ، وقرأ عليهم عليّ سورة براءة (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا ، كان المشركون يجلبون الأطعمة إلى مكة ، فخاف الناس قلة القوت بها إذ منع المشركون منها ، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله ، فأسلمت العرب كلها وتمادى جلب الأطعمة إلى مكة ثم فتح الله سائر الأمصار (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أمر بقتال أهل الكتاب ، ونفى عنهم الإيمان بالله لقول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ، ونفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأن اعتقادهم فيه فاسد ، فإنهم لا يقولون بالمعاد والحساب (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) لأنهم يستحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يدخلون في الإسلام (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للذين أمر بقتالهم وحين نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى غزوة تبوك لقتال النصارى (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب (١) ، واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين ، وقدرها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الورق ، ويؤخذ ذلك من كل رأس (عَنْ يَدٍ) فيه تأويلان : أحدهما دفع الذميّ لها بيده لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك يدا بيد ، الثاني عن استسلام وانقياد كقولك : ألقى فلان بيده (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلاء (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) قال ابن

__________________

(١). رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف ص ٤٥.

٣٣٥

النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ

________________________________________________________

عباس : إن هذه المقالة قالها أربعة من اليهود ، وهم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقيل : لم يقلها إلا فنحاص ، ونسب ذلك إلى جميعهم لأنهم متبعون لمن قالها ، والظاهر أن جماعتهم قالوها إذ لم ينكروها حين نسبت إليهم ، وكان سبب قولهم ذلك أنهم فقدوا التوراة ، فحفظها عزير وحده ، فعلّمها لهم فقالوا : ما علم الله عزير التوراة إلا أنه ابنه ، وعزير مبتدأ ، وابن الله خبره ، ومنع عزير (١) التنوين لأنه أعجمي لا ينصرف وقيل : بل هو منصرف وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف ، وأما من نونه فجعله عربيا (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).

قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وابن إله وذلك كفر شنيع (بِأَفْواهِهِمْ) يتضمن معنيين أحدهما : إلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك ، والثاني : أنهم لا حجة لهم في ذلك ، وإنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه : هذا قول بلسانك (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) معنى يضاهئون يشابهون ، فإن كان الضمير لليهود والنصارى ، فالإشارة بقوله الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم أول كافر. أو للصابئين أو لأمم متقدمة وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى ، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم ، وقيل : معناه لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعجب كيف يصرفون عن الحق والصواب (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) أي أطاعوهم كما يطاع الرب وإن كانوا لم يعبدوهم (وَالْمَسِيحَ) معطوف على الأحبار والرهبان (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي أمرهم بذلك عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي يريدون أن يطفئوا نبوة محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وما جاء به من عبادة الله وتوحيده (بِأَفْواهِهِمْ) إشارة إلى أقوالهم كقولهم ساحر وشاعر ، وفيه أيضا إشارة إلي ضعف حيلتهم فيما أرادوا (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) الضمير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو للدين ، وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب ، وقيل : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم حتى لا يبقى إلا دين الإسلام (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) هو الرشا

__________________

(١). عزير : قرأها عاصم والكسائي بالتنوين وقرأها الباقون : عزير بضمة واحدة.

٣٣٦

عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ

________________________________________________________

[جمع رشوة] على الأحكام وغير ذلك (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ورد في الحديث أن : «كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز ، وما لم تؤد زكاته فهو كنز» ، وقال أبو ذرّ وجماعة من الزهاد : كلما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز (١) (وَلا يُنْفِقُونَها) الضمير للأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى ، وقيل : هي الفضة ، واكتفى في ذلك عن الذهب إذا الحكم فيهما واحد (يَوْمَ يُحْمى) العامل في الظرف أليم أو محذوف (عَلَيْها) الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير ينفقونها.

(اثْنا عَشَرَ شَهْراً) هي الأشهر المعروفة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة ، وكان الذي جعل المحرم أول شهر من العام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (فِي كِتابِ اللهِ) أي : في اللوح المحفوظ ، وقيل : في القرآن والأوّل أرجح لقوله : يوم خلق السموات والأرض (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعني أن تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم ، دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به حتى غيّره بعضهم (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الضمير في قوله : فيهن للأشهر الحرم ، تعظيما لأمرها وتغليظ للذنوب فيها ، وإن كان الظلم ممنوعا في غيرها ، وقيل : الضمير للاثني عشر شهرا ، أو الزمان كله ، والأوّل أظهر (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي قاتلوهم في الأشهر الحرم ، فهذا نسخ لتحريم القتال فيها ، وكافة حال من الفاعل أو المفعول (إِنَّمَا النَّسِيءُ) وهو تأخير حرمة الشهر إلى الشهر الآخر ، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات ، وكانت محرّمة عليهم في الأشهر الحرم ، فيشق عليهم تركها فيجعلونها في شهر حرام ويحرمون شهرا آخر بدلا منه ، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى تكمل في العام أربعة أشهر محرمة (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي تارة يحلون وتارة يحرمون ، ولم يرد العام حقيقة (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي ليوافقوا عدد الأشهر الحرم وهي أربعة (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) يعني : إحلالهم القتال في الأشهر الحرم (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عبارة عن

__________________

(١). رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى ابن عمر.

٣٣٧

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ

________________________________________________________

تخلفهم ، وأصل اثاقلتم تثاقلتم (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) شرط وجزاء وهو العذاب في الدنيا والآخرة (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) شرط وجواب ، والضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قيل : ارتبط هذا الشرط مع جوابه ، فالجواب : أن المعنى ؛ إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين ، فدل بقوله نصره الله على نصره في المستقبل (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة ، وأسند إخراجه إلى الكفار ، لأنهم فعلوا معه من الأذى ما اقتضى خروجه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) هو أبو بكر الصديق (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) يعني أبا بكر (إِنَّ اللهَ مَعَنا) يعني بالنصر واللطف (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الضمير للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم ، وقيل : لأبي بكر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل معه السكينة ، ويضعف ذلك بأن الضمائر بعدها للرسول عليه‌السلام (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة يوم بدر وغيره (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) يريد إذلالها ودحضها. (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قيل هي : لا إله إلا الله ، وقيل : الدين كله.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أمر بالنفير إلى الغزو ، والخفة استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة ، والثقل من يمكنه بصعوبة ، وقال بعض العلماء : الخفيف : الغني ، والثقيل : الفقير ، وقيل : الخفيف الشاب ، والثقيل الشيخ ، وقيل : الخفيف النشيط ، والثقيل الكسلان ، وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفة ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) الآية : نزلت هي وكثير مما بعدها في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة وكانت في شدّة الحر وطيب الثمار والظلال ، فثقلت عليهم فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض من الدنيا ، أو إلى مسافة قريبة لفعلوه (بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي الطريق والمسافة (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) إخبار بغيب وهو أنهم يعتذرون بأعذار كاذبة ويحلفون (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذبة ، أو تخلفهم عن الغزو (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) الآية : كان بعض المنافقين قد استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم ، فعاتبه الله تعالى على إذنه لهم ، وقدم العفو على العتاب إكراما له

٣٣٨

(٤٣) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)

________________________________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : إن قوله عفا الله عنك ليس لذنب ولا عتاب ، ولكنه استفتاح كلام كما يقول : أصلحك الله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) كانوا قد قالوا : استأذنوه في القعود ، فإن أذن لنا قعدنا ، وإن لم يأذن لنا قعدنا ، وإنما كان يظهر الصدق من الكذب لو لم يأذن لهم ، فحينئذ كان يقعد العاصي والمنافق ويسافر المطيع (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية : لا يستأذنك في التخلف عن الغزو لغير عذر من يؤمن بالله واليوم الآخر (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكت ، ونزلت الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول والجد بن قيس (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) الآية. أي لو كانت لهم نية في الغزو والاستعداد له قبل أوانه : (انْبِعاثَهُمْ) أي خروجهم (فَثَبَّطَهُمْ) أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل (وَقِيلَ اقْعُدُوا) يحتمل أن يكون القائل لهم اقعدوا هو الله تعالى ، وذلك عبارة عن قضائه عليهم بالقعود ، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي مع النساء والصبيان وأهل الأعذار ، وفي ذلك ذم لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي شرا وفسادا (وَلَأَوْضَعُوا) أي أسرعوا السير ، والإيضاع سرعة السير ، والمعنى أنهم يسرعون للفساد والنميمة (خِلالَكُمْ) أي بينكم (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يحاولون أن يفتنوكم (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) وقيل : يسمعون أخبارهم وينقلونها إليهم (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي طلبوا الفساد ، وروى أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي دبروها من كل وجه ، فأبطل الله سعيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) لما دعا النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم إلى غزوة تبوك قال الجد بن قيس وكان من المنافقين : ائذن لي في القعود ولا تفتني برؤية بني الأصفر فإني لا أصبر عن النساء (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي وقعوا في الفتنة التي فروا منها (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي قد حذرنا وتأهبنا من قبل (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي ما قدر

٣٣٩

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي

________________________________________________________

وقضى ، وهذا رد على المنافقين (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى أمرين : إما الظفر والنصر ، وإما الموت في سبيل الله وكل واحد من الخصلتين حسن (بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) المصائب وما ينزل من السماء أو عذاب الآخرة (أَوْ بِأَيْدِينا) يعني القتل (فَتَرَبَّصُوا) تهديد (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) تضمن الأمر هنا معنى الشرط ، فاحتاج إلى جواب ، والمعنى : لن يتقبل منكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها ، والطوع والكره عموم في الإنفاق أي : لن يتقبل على كل حال (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل لعدم قبول نفقاتهم بكفرهم ، ويحتمل أن يكون إنهم كفروا فاعل ما منعهم ، أو في موضع مفعول من أجله والفاعل الله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) قيل : العذاب في الدنيا بالمصائب ، وقيل : ما ألزموا من أداء الزكاة (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) إخبار بأنهم يموتون على الكفر (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي من المؤمنين (يَفْرَقُونَ) يخافون (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي ما يلجأ إليه من المواضع (أَوْ مَغاراتٍ) هي الغيران في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) وزنه مفتعل من الدخول ومعناه نفق أو سرب في الأرض (يَجْمَحُونَ) أي يسارعون (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي يعيبك على قسمتها ، والآية في المنافقين كالتي قبلها وبعدها ؛ وقيل : في ذي الخويصرة الذي قال : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم : «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل (١) الحديث» (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا) الآية : ترغيب لهم فيما هو خير لهم ، وجواب لو محذوف تقديره : لكان ذلك خيرا لهم.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الآية : إنما هنا تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية ، فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم ، ومذهب مالك أن تفريقها

__________________

(١). أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله ج ٣ ص ٤٤٨.

٣٤٠