التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ

________________________________________________________

مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) تعليل لقرب مودتهم ، والقسيس العالم والراهب العابد (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الآية ؛ هي في النجاشي ، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سبعون رجلا ، فقرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي ، حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم ، وقال السهيلي : نزلت في وفد نجران ، وكانوا نصارى عشرين رجلا ، فلما سمعوا القرآن بكوا (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) من الأولى سببية والثانية بيان للجنس (آمَنَّا) أي بالقرآن من عند الله (مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع المسلمين ، وكذلك مع القوم الصالحين (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) توقيف (١) لأنفسهم ، أو محاجة لغيرهم (وَنَطْمَعُ) قال الزمخشري : الواو للحال ، وقال ابن عطية : لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) سببها أن قوما من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء ، وبعضهم النوم بالليل ، وبعضهم أكل اللحم ، وهم بعضهم أن يختصوا ، أو يسيحوا في الأرض ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم : «أما أنا فأقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٢) (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم (وَكُلُوا) أي تمتعوا بالمآكل الحلال ، وبالنساء وغير ذلك ، وإنما خص الأكل بالذكر ، لأنه أعظم حاجات الإنسان (بِاللَّغْوِ) تقدم في البقرة (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي بما قصدتم عقده بالنية ، وقرئ عقدتم بالتخفيف» (٣) ، وعاقدتم بالألف (٤) (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزي في الكفارة إطعام غني ، فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب ، واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين ، وليس في الآية ما يدل على ذلك (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) اختلف في هذا التوسط

__________________

(١). توقيف معناها استفهام تقريري في هذا الكتاب.

(٢). رواه الإمام أحمد عن أنس ج ٣ ص ٣٠٤.

(٣). وهي قراءة حمزة والكسائي.

(٤). هي قراءة ابن عامر.

٢٤١

فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا

________________________________________________________

هل هو في القدر أو في الصنف ، واللفظ يحتمل الوجهين ، فأما القدر فقال مالك يطعم بالمدينة مدّا بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبغيرها : وسط من الشبع ، وقال الشافعي وابن القاسم : يجزي المدّ في كل مكان وقال أبو حنيفة إن غدّاهم وعشاهم أجزأه ، وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه ، أو من عيش أهل بلده؟ فمعنى الآية على التأويل الثاني من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة ، وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قال كثير من العلماء : يجزي ثوب واحد لمسكين ، لأنه يقال فيه كسوة ، وقال مالك : إنما يجزي ما تصح به الصلاة ، فللرجل ثوب واحد ، وللمرأة قميص وخمار (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة ؛ لتقيدها بذلك في كفارة القتل ، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة ، لإطلاق اللفظ هنا ، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام ، فالخصال الثلاث على التخيير ، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها ، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) معناه إذا حلفتم وخشيتم أو أردتم الحنث ، واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث أم لا (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي احفظوها فبروا فيها ، ولا تحنثوا ، وقيل : احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم ، وقيل : احفظوها ألا تنسوها تهاونا بها (الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ذكر في [البقرة : ٢١٩] (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) مذكوران في أول هذه السورة (رِجْسٌ) هو في اللغة : كل مكروه مذموم وقد يطلق بمعنى النجس وبمعنى الحرام وقال ابن عباس : معنى رجس سخط (فَاجْتَنِبُوهُ) نص في التحريم ، والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) تقبيح للخمر والميسر ، وذكر لبعض عيوبها ، وتعليل لتحريمها ، وقد وقعت في زمان الصحابة عداوة بين أقوام بسبب شربهم لها قبل تحريمها ، ويقال إن ذلك كان سبب نزول الآية (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) توقيف يتضمن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لما نزلت : انتهينا انتهينا (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) فيها تأويلان : أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة : كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية

٢٤٢

الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ

________________________________________________________

معلمة أنه : لا جناح على من شربها قبل التحريم ، لأنه لم يعص الله بشربها حينئذ ، والآخر أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها ، وعلى هذا أخذها عمر رضي الله عنه حين قال لقدامة : إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ، وكان قدامة قد شربها واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه ، فقال عمر : أخطأت التأويل (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) الآية قيل : كرر التقوى مبالغة ، وقيل : الرتبة الأولى : اتقاء الشرك ، والثانية اتقاء المعاصي ، والثالثة : اتقاء ما لا بأس به حذرا مما به البأس ، وقيل : الأولى للزمان الماضي والثانية للحال ، والثالثة للمستقبل (وَأَحْسَنُوا) يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس ، أو الإحسان في طاعة الله وهو المراقبة ، وهذا أرجح لأنه درجة فوق التقوى ، ولذلك ذكره في المرة الثالثة وهي الغاية ، ولذلك قالت الصوفية : المقامات ثلاثة : مقام الإسلام ثم مقام الإيمان ثم مقام الإحسان (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي يختبر طاعتكم من معصيتكم بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام وفي الحرم ، وكان الصيد من معاش العرب ومستعملا عندهم ، فاختبروا بتركه كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت (١) في السبت وإنما قلله في قوله : (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) إشعارا بأنه ليس من الفتن العظيمة ، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) قال مجاهد : الذي تناله الأيدي الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفرّ ، والذي تناله الرماح كبار الصيد ، والظاهر عموم هذا التخصيص (لِيَعْلَمَ اللهُ) أي يعلمه علما تقوم به الحجة ، وذلك إذا ظهر في الوجود (فَمَنِ اعْتَدى) أي بقتل الصيد وهو محرم ، والعذاب الأليم هنا في الآخرة (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم ، والصيد هنا عامّ خصّص منه الحديث : الغراب والحدأة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور (٢). وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها ، وقاس الشافعي على هذه الخمسة : كل ممّا لا يؤكل لحمه ، ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد ، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله [الآتي] «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي ، وبذلك قال أهل الظاهر ،

__________________

(١). حيثما ورد في هذا الكتاب فالمقصود به السمك على اختلاف أنواعه كما هو معروف في المغرب.

(٢). الحديث رواه أحمد عن عائشة وأوله : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : والحية والغراب : إلخ ج ٦ ص ١١٣.

٢٤٣

مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ

________________________________________________________

وقال جمهور الفقهاء : المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء ، ثم اختلفوا في قوله متعمدا على ثلاثة أقوال : أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله : ومن عاد فينتقم الله منه ، إذ لا وعيد على الناسي ، والثاني : أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد ، والثالث : أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) المعنى فعليه جزاء ، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به ، وقيل : مثل زائدة ، كقولك : أنا أكرم مثلك أي : أكرمك ، وقرئ فجزاء (١) بالتنوين ، ومثل بالرفع على البدل أو الصفة ، والنعم الإبل والبقر والغنم خاصة ، ومعنى الآية عند مالك والشافعي : أنّ من قتل صيدا وهو محرم أنّ عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الغزالة شاة ، فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار ، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام ، ومذهب أبي حنيفة أنّ المثل القيمة يقوّم الصيد المقتول ، ويخير القاتل بين أن يصدّق بالقيمة أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ) هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء ، ولا خلاف في ذلك ، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه ، فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة ، فإنه لا يحتاج إلى حكمين ، قاله مالك ، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة ، وفيما لم يحكموا فيه ، لعموم الآية ، وقال الشافعي : يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة (هَدْياً) يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى ، وهو الجذع من الضأن والثني مما سواه ، وقال الشافعي : يخرج المثل في اللحم ولا يشترط السن (بالِغَ الْكَعْبَةِ) لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحلّ إلى الحرم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن اشتراه في الحرم أجزأه (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) عدّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد ، فذكر أولا الجزاء من النعم ، ثم الطعام ثم الصيام ، ومذهب مالك والجمهور أنها : على التخيير ، وهو الذي يقتضيه العطف بأو ، ومذهب ابن عباس أنها : على الترتيب ، ولم يبين الله هنا مقدار الطعام ، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم. لأنهم اختلفوا في كيفية التقدير ، فقال مالك : يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام الحب أو الدراهم ، ثم تقوّم الدراهم بالطعام ، فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حيّ ، وقال بعض أصحاب مالك : يقدّر الصيد بالطعام أي يقال : كم كان يشبع الصيد من نفس ، ثم يخرج قدر شبعهم طعاما ، وقال الشافعي : لا يقدر الصيد نفسه ، وإنما يقدّر مثله ، وهو الجزاء الواجب على القاتل له (أَوْ

__________________

(١). وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالضم فقط.

٢٤٤

عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩٨) مَّا عَلَى الرَّسُولِ

________________________________________________________

عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن لأنه أقرب أو إلى الصيد ، واختلف في تعديل الصيام بالطعام فقال مالك : يكون مكان كل مدّ يوما ، وقال أبو حنيفة : مكان كل مدّين يوم ، وقيل : مكان كل صاع يوما ، ولا يجب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد ، لا بأخذه دون قتل لقوله : من قتله ، وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين ، وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذوق هنا مستعار لأن حقيقته بحاسة اللسان ، والوبال سوء العاقبة ، وهو هنا ما لزمه من التكفير (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي عن ذلك ؛ فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه أو بعذابه في الآخرة.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم ، والصيد هنا المصيد ، والبحر هو الماء الكثير : سواء كان ملحا أو عذبا ، كالبرك ونحوها ، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد ، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب ، وقال ابن عباس : طعامه ما ملح منه وبقي (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) الخطاب بلكم للحاضرين في البحر ، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما ، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه ، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره ، فإذا اصطاد حلال ، فقيل : يجوز للمحرم أكله ، وقيل : لا يجوز إن اصطاده لمحرم ، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك ، وإن اصطاد حرام [محرم] لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع ، وقيل : موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام ، وقيل : أراد العرب خاصة ، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة ، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال (وَالْهَدْيَ) يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب (وَالْقَلائِدَ) كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر ، وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم ، ليعلم أنه كان في عبادة ، فلا يتعرض له أحد بشيء ، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر ، وقيل : أراد قلائد الهدي ، قال سعيد بن جبير : جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس ، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل

٢٤٥

إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩) قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)

________________________________________________________

الأمور (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة من أبي؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبوك حذافة ، وقال آخر : أين أبي ؛ قال : في النار ، وقيل : سببها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت ، فأعادوا ، قال لا ، ولو قلت : نعم لوجبت (١) ، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم ، وعلى الثاني : تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم ، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها : أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفا الله عن الزكاة في الخيل» (٢) ، وقيل إن معنى عفا الله عنها : عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فيه معنى الوعيد على السؤال : كأنه قال : لا تسألوا ، وإن سألتم أبدي لكم ما يسؤوكم ، والمراد بحين ينزل القرآن : زمان الوحي (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) الضمير في سألها راجع إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا ، وهي مصدر ، ولذلك لم يتعدّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها ، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا ، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية : هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده ؛ أي لم يشرعه لهم ، وإنما الكفار جعلوا ذلك ، فأما البحيرة : فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق ، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها ، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها ، وأما السائبة فكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها ، وأما الوصيلة فكانوا : إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا : وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها ، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك

__________________

(١). رواه أحمد عن ابن عباس ج ١ / ٤٦٤.

(٢). روى أحمد الحديث عن عليّ بن أبي طالب بلفظ : عفوت لكم عن صدقة الخيل. ج ١ ص ١٧٩.

٢٤٦

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ

________________________________________________________

الأشياء ، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي يكفينا دين آبائنا (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) قال الزمخشري : الواو واو الحال ، دخلت عليها همزة الإنكار ، كأنه قيل : أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون ، قال ابن عطية : ألف التوقيف [الاستفهام] دخلت على واو العطف ، وقول الزمخشري أحسن في المعنى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قيل : إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها ، كأنه يقول : لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم ، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال : «سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» (١) ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ).

قال مكي : هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابا ، ومعنى ، وحكما ، ونحن نبين معناها على الجملة ، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل ، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام ، وخرج معهما رجل آخر بتجارة ، فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه ، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة ، ودفعا رحله إلى ورثته ، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها ، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبقى الأمر مدّة ، ثم عثر على إناء عظيم من فضة ، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا ، فقال اشتريته من فلان وفلان ، يعني الرجلين ، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا ، فمعنى الآية : إذا حضر الموت أحد في السفر ، فليشهد عدلين بما معه ، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت ، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية ، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره : اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور ، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة ، وهذا على أن يكون

__________________

(١). ورد هذا الحديث بلفظ قريب منه في جامع الترمذي وسنن ابن ماجة في كتاب الفتن عن أبي ثعلبة الخشني.

٢٤٧

حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ

________________________________________________________

إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا ، ويجوز أن تكون شرطية ، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى : إذا حضر أحدكم الموت ، فينبغي أن يشهد حين الوصية ، ظرف العامل فيه حضر ، ويكون بدلا من إذا (ذَوا عَدْلٍ) صفة للشاهدين منكم (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قيل : معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم ، ومن غيركم ، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور : منكم أي من المسلمين ، ومن غيركم من الكفار ، إذا لم يوجد مسلم ، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلا؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة ، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر ، وهو قول ابن عباس (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم ، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها ، والمعنى : إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فشهادة بينكم شهادة اثنين (تَحْبِسُونَهُما) قال أبو علي الفارسي : هو صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة ، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض ، وحلول الموت في السفر ، وقال الزمخشري : تحبسونهما استئناف كلام من بعد الصلاة قال الجمهور : هي صلاة العصر ، فاللام للعهد ، لأنها وقت اجتماع الناس ، وبعدها أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأيمان ، وقال : من حلف على سلعة بعد صلاة العصر ، وكان التحليف بعدها معروف عندهم ، وقال ابن عباس : هي صلاة الكافرين في دينهما ؛ لأنهما لا يعظمان صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أي يحلفان ؛ ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما ، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه ، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) هذا هو المقسوم عليه ، والضمير في به للقسم ، وفي كان للمقسم له : أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا : أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريبا لنا ، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها ، وإضافتها إلى الله تعظيما لها (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما ، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) أي اثنان من أولياء الميت ، يقومان مقام الشاهدين في اليمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت (الْأَوْلَيانِ) تثنية أولى بمعنى أحق : أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما ، والأحقان بالمال : لقرابتهما ، وهو مرفوع على أنه خبر

٢٤٨

الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي

________________________________________________________

ابتداء تقديره هما الأوليان ، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان ، أو بدل من الضمير في يقومان ، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان ، وأجازه ابن عطية ، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل ، فالأوليان فاعل باستحق ، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه ، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما : أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة ، وقرئ الأولين جمع أول (١) ، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم ، أو منصوبا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق : أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن اعتدينا ، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى : أقرب ، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) هو يوم القيامة ، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم ، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره ، ولو أريد الجواب ، لقيل بما ذا أجبتم (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس : المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا ، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب ، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر ، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم ، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون ، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار (إِذْ قالَ اللهُ) يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع ، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمرا ، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول ، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران (فَتَنْفُخُ فِيها) الضمير المؤنث عائد على الكاف ، لأنها صفة للهيئة ، وكذلك الضمير في تكون ، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على

__________________

(١). قرأ حمزة وأبو بكر الأولين وقرأ حفص الأوليان.

٢٤٩

فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١١٢)

________________________________________________________

الكاف أيضا ، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت : هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة ، وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك ، وقيل : المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير ، والطين ، وهو بعيد في المعنى (بِإِذْنِي) كرره مع كل معجزة ردّا على من نسب الربوبية إلى عيسى (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) معطوف على ما قبله ، فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام (وَاشْهَدْ) يحتمل أن يكون خطابا لله تعالى أو لعيسى عليه‌السلام (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) نداؤهم له باسمه : دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه ، وإنما يقولون : يا رسول الله يا نبي الله ، وقولهم ابن مريم : دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد ، بخلاف ما اعتقده النصارى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ظاهر هذا اللفظ أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري ، وقال ما وصفهم الله بالإيمان ، ولكن حكى دعواهم في قولهم : آمنا. وقال ابن عطية وغيره : ليس كذلك لأنهم شكوا في قدرة الله ، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا ، وهل يقع منه إجابة إليه ، وهذا أرجح ، لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه ، مع أنّ في اللفظ بشاعة تنكر ، وقرئ تستطيع (١) بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك ، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا ، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها ، وقالت : كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا : هل يستطيع ربك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء ، ومفعول بالمصدر ، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء ، والمائدة هي التي عليها طعام ، فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فقوله لهم : اتقوا الله ؛ يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة ، واقتراح الآيات ، ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم : هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري ، أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك ، وقوله : إن كنتم مؤمنين : هو على ظاهره على مذهب الزمخشري ، وأما على مذهب ابن عطية وغيره ، فهو تقرير لهم كما تقول : افعل كذا إن كنت رجلا ، ومعلوم أنه رجل ، وقيل : إنّ هذه

__________________

(١). وهي قراءة الكسائي فقط.

٢٥٠

قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي

________________________________________________________

المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أي أكلا نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الاستدلال (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم ، ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله ، وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر ، وقام يصلي ويدعو ويبكي (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) قيل : نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة ، ثم لمن بعدهم ، وقال ابن عباس : المعنى تكون مجتمعا لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور (وَآيَةً مِنْكَ) أي علامة على صدقي (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أجابهم الله إلى ما طلبوا ، ونزلت المائدة عليها سمك وخبز ، وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس : كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) عادة الله عزوجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته ، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير ، قال عبد الله بن عمر : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون ..

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال ابن عباس والجمهور : هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه ، ويعلمون أنهم كانوا على باطل ، وقال السدّي : لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، وسأل الله حينئذ عن ذلك ، فقال : سبحانك الآية ، فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو لفظه ، وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) نفي يعضده دليل العقل ؛ لأنّ المحدث لا يكون إلها (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) اعتذار وبراءة من ذلك القول ، ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته ، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة ، فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي ، وبقية قوله تعظيما لله ، وإخبار بما

٢٥١

نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

________________________________________________________

قال الناس في الدنيا (أَنِ اعْبُدُوا) أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية بدل من الضمير في به (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله ، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه ، لأن الخلق عباده ، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار ، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته ، وفرق بين الجواز والوقوع ، وأما على قول من قال : إن هذا الخطاب لعيسى عليه‌السلام حين رفعه الله إلى السماء ، فلا إشكال ، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة ، وكانوا حينئذ أحياء ، وكل حيّ معرض للتوبة ، السؤال الثاني : ما مناسبة قوله : فإنك أنت العزيز الحكيم ، لقوله : وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل : فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له ، كان قوله : فإنك أنت العزيز الحكيم أليق ، فإن الحكمة تقتضي التسليم له ، والعزة تقتضي التعظيم له ، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ؛ ولا يغلبه غيره ، ولا يمتنع عليه شيء أراده ، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة ؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني : قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : إنما لم يقل الغفور الرحيم ؛ لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار ، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله : (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال.

(هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) عموم في جميع الصادقين ، وخصوصا في عيسى ابن مريم ؛ فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه ، وقرأ غير نافع بقية القراء هذا يوم بالرفع على الابتداء أو الخبر ، وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون يوم ظرف لقال ، فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول ، وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم ، وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام ، والآخر أن يكون هذا مبتدأ ، ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم ، ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع ، لأنه أضيف إلى معرب ، قاله الفارسي والزمخشري.

٢٥٢

سورة الأنعام

مكية إلا الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ فمدنية

وآياتها ١٦٥ نزلت بعد الحجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي

________________________________________________________

سورة الأنعام

قال كعب (١) : أول الأنعام هو أول التوراة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) جعل هنا بمعنى خلق ، والظلمات : الليل ، والنور النهار ، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما ، وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس ، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار ، وقولهم : إن الخير من النور والشر من الظلمة ؛ فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يسوون ويمثلون من قولك : عدلت فلانا بفلان ، إذا جعلته نظيره وقرينه. ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض ، والظلمات والنور وكذلك قوله : ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم ، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك. وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور ، وبعبدة الأصنام ، لأنهم المجاورون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي خلق أباكم آدم من طين (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) الأجل الأوّل الموت ، والثاني يوم القيامة وجعله عنده : لأنه استأثر بعلمه ، وقيل : الأوّل النوم ، والثاني : الموت ، ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار ، لا لترتيب الوقوع ، لأن القضاء متقدم على الخلق (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) يتعلق في السموات بمعنى اسم الله ، فالمعنى كقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب ، ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر : فيتعلق باسم فاعل محذوف ، والمعنى على هذا قريب من الأوّل ، وقيل : المعنى أنه

__________________

(١). ورد هذا الكلام في الطبري أيضا ولعله كعب الأحبار واسمه كعب بن ماتع.

٢٥٣

الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (٩)

________________________________________________________

في السموات والأرض بعلمه كقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، والأول أرجح وأفصح ؛ لأنّ اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة ، وغير ذلك ، فقد جمعها مع الإيجاز ، ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه ، لقوله بعدها : يعلم سركم وجهركم ، وقيل : يتعلق بمحذوف تقديره : المعبود في السموات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله : واسم الله على هذا القول ، وعلى الأول هو خبر المبتدأ ، وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من الأولى زائدة ، والثانية للتبعيض ، أو لبيان الجنس (بِالْحَقِ) يعني ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) الآية : وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) حض للكفار على الاعتبار بغيرهم ، والقرن مائة سنة ، وقيل سبعون ، وقيل أربعون (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) الضمير عائد على القرن ، لأنه في معنى الجماعة (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة ، ومدرارا : بناء مبالغة وتكثير من قولك درّ المطر إذا غزر (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) التقدير : فكفروا وعصوا فأهلكناهم ، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية : إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات ، والمراد بقوله : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك ، يشبه أن يكون سبب هذه الآية قول بعضهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك ، وما أراني مع هذا أصدقك (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) حكاية عن طلب بعض العرب ، وروي أن العاصي بن وائل ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، لو كان معك ملك (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عباس : المعنى ؛ لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعجل لهم العذاب ، ففي الكلام على هذا حذف ، وقضي الأمر على هذا : تعجيل أخذهم ، وقيل : المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته ، فقضي الأمر على هذا : موتهم (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل ، لأنهم لا

٢٥٤

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)

________________________________________________________

طاقة لهم على رؤية الملك في صورته (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان قالوا : هذا إنسان وليس بملك (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآية : إخبار قصد به تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يلقى من قومه (فَحاقَ) أي أحاط بهم ، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية : حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم (ثُمَّ انْظُرُوا) قال الزمخشري : إن قلت أي فرق بين قوله : فانظروا وبين قوله : ثم انظروا؟ قلت : جعل النظر سببا عن السير في قوله : فانظروا. كأنه قال : سيروا لأجل النظر ، وأما قوله : فسيروا في الأرض ثم انظروا : فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بثم ، لتباعد ما بين الواجب والمباح (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك ، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا ، لمن ما في السموات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله ، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة ، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله ، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي قضاها ، وتفسير ذلك بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض ، وفيه «إن رحمتي سبقت غضبي» (١) ، وفي رواية : تغلب غضبي (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) مقطوع مما قبله ، وهو جواب لقسم محذوف ، وقيل : هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره : أن يجمعكم ، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها ، فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل : هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف ، والصحيح أنها للغاية على بابها (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ؛ ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن ، وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر ، وقيل : هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف ، وقيل : منادى وهو باطل (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على قوله قل :

__________________

(١). الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة. وهو في كتاب التوحيد في البخاري ص ٢١٦ / ٨.

٢٥٥

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً

________________________________________________________

لله ، ومعنى سكن : حل ، فهو من السكنى ، وقيل : هو من السكون وهو ضعيف لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم ، والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) إقامة حجة على الكفار ، ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي من هذه الأمة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق أمته إلى الإسلام (وَلا تَكُونَنَ) في الكلام حذف تقديره وقيل لي : ولا تكونن من المشركين ، أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام ، ونهيت عن الإشراك (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه‌الله ، وقرئ يصرف (١) بفتح الياء وفاعله الله (وَذلِكَ) إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) معنى يمسسك : يصبك ، والضر : المرض وغيره على العموم في جميع المضرات ، والخير : العافية وغيرها على العموم أيضا ، والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير ، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود ، وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره ، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله : قل الله ، بمعنى أن الله أكبر شهادة ، ثم يبتدئ على تقدير : هو شهيد بيني وبينكم ، والأول أرجح لعدم الإضمار ، والثاني أرجح لمطابقته للسؤال ، لأنّ السؤال بمنزلة من يقول : من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب ، فلان وتقديره فلان أكبر ، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإظهار معجزته الدالة على نبوّته (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل ببلغ ضمير القرآن ، والمفعول محذوف يعود على من تقديره : ومن بلغه والمعنى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين ، وهم أهل مكة ، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة ، قال سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : المعنى ؛ ومن بلغ الحلم وهو بعيد (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) الآية : تقرير

__________________

(١). وهي قراءة حمزة والكسائي.

٢٥٦

أُخْرَى قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)

________________________________________________________

المشركين على شركهم ، ثم تبرأ من ذلك بقوله : لا أشهد ، ثم شهد الله بالوحدانية ، وروي أنها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها آخر (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) تقدّم في البقرة [١٤٦] (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون وقيل : الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد ، لأن أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا إلا ليقيم الحجة على الكفار (وَمَنْ أَظْلَمُ) لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) وذلك تنصل من الكذب على الله ، وإظهاره لبراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نسبوه إليه من الكذب ، ويحتمل أن يريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي علاماته وبراهينه (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ (تَزْعُمُونَ) أي تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه ، والعامل في يوم نحشرهم محذوف (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر ، أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه ، وقيل : فتنتهم معذرتهم ، وقيل : كلامهم ، وقرئ فتنتهم بالنصب (١) على خبر كان واسمها أن قالوا ، وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) جحود لشركهم ، فإن قيل : كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن ، فيكتم قوم ويقر آخرون ، ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر ، لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال : إنهم جحدوا طمعا في النجاة ، فختم الله على أفواههم ، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الضمير عائد على الكفار ، وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) أكنة جمع كنان ، وهو الغطاء ، وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهة أن يفقهوه ، ومعنى الآية : أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه ، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة ، وهي استعارة (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي قصصهم وأخبارهم ، وهو جمع أسطار وأسطورة قال

__________________

(١). وهي قراءة نافع وأبو عمرو وأبو بكر. وقرأ حفص وابن كثير وابن عامر بالرفع.

٢٥٧

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا

________________________________________________________

السهيلي : حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين ، فإن قائلها هو النضر بن الحارث ، وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم ، فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) هم عائد على الكفار ، والضمير في عنه عائد على القرآن ، والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان ، وينأون هم عنه أي يبعدون ، والنأي هو البعد ، وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن أذاه ، وهم مع ذلك يبعدون عنه ، والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه : يحمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يسلم وفي قوله : ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) جواب لو محذوف هنا ، وفي قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) ، وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع : أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا ، ومعنى وقفوا حبسوا ، قاله ابن عطية ، ويحتمل أن يريد بذلك إذا ادخلوا النار ، وإذا عاينوها وأشرفوا عليها ، ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى كأنه ماض (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) قرئ (١) برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني ، ومثّله سيبويه بقولك : دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود ، ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين ، أو عطف على نرد ، وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم ، وقيل : هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر ، وهذان القولان بعيدان ، فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب ، وقيل : إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم ، فظهر لهم ذلك يوم القيامة (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) يعني في قولهم : ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، ولا يصح أن يرجع إلى قولهم : يا ليتنا نردّ ، لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) تقرير لهم وتوبيخ (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى

__________________

(١). قرأها هكذا ما عدا ابن عامر ، وحمزة وحفص. وقرأها الباقون بالرفع في نرد ، ولا نكذب ، ونكون.

٢٥٨

يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم

________________________________________________________

يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر ، وقيل : الساعة أي فرطنا في شأنها ، والاستعداد لها ، والأول أظهر (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) كناية عن تحمل الذنوب ، وقال : على ظهورهم ، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور ، وقيل : إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة ، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة ، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن ، إلا قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ، وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون : قولهم إنه ساحر ، شاعر ، كاهن (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) من قرأ بالتشديد فالمعنى : لا يكذبونك معتقدين لكذبك ، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به ، ومن قرأ بالتخفيف (١) ، فقيل : معناه لا يجدونك كاذبا ، يقال : أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا ، كما يقال : أحمدته إذا وجدته محمودا ، وقيل : هو بمعنى التشديد ، يقال : كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد ، وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون ، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم : إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به ، وأنه قال للأخنس بن شريق : والله إن محمدا لصادق ، ولكني أحسده على الشرف (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) أي : ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) الآية : تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحضّ له على الصبر ، ووعد له بالنصر (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لمواعيده لرسله ؛ كقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات :١٧٢] ، وفي هذا تقوية للوعد (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم ، وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر ، وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف ، وقيل هو المجرور (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) الآية : مقصودها حمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصبر ، والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر ، فإنه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم كان شديد الحرص على إيمانهم ، فقيل له : إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها ، فافعل وأنت لا تقدر

__________________

(١). أي : لا يكذبونك وهي قراءة نافع والكسائي.

٢٥٩

بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي

________________________________________________________

على ذلك ، فاستسلم لأمر الله ، والنفق في الأرض معناه : منفذ تنفذ منه إلى ما تحت الأرض ، وحذف جواب إن لفهم المعنى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) حجة لأهل السنة على القدرية (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) المعنى إنما يستجيب لك الذين يسمعون فيفهمون ويعقلون (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيها ثلاث تأويلات : أحدهما أن الموتى عبارة عن الكفار بموت قلوبهم ، والبعث يراد به الحشر يوم القيامة ، فالمعنى أن الكفار في الدنيا كالموتى في قلة سمعهم وعدم فهمهم ، فيبعثهم الله في الآخرة ، وحينئذ يسمعون ، والآخر أن الموتى عبارة عن الكفار ، والبعث عبارة عن هدايتهم للفهم والسمع والثالث أن الموتى على حقيقته ، والبعث على حقيقته فهو إخبار عن بعث الموتى يوم القيامة (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الضمير في قالوا للكفار ، ولو لا عرض ، والمعنى : أنهم طلبوا أن يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية على نبوّته ، فإن قيل : فقد أتى بآية ومعجزاته كثيرة فلم طلبوا آية؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنهم لم يعتدوا بما أتى به ، وكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم وجحدهم ، والآخر أنهم إنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تفكر (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) جواب على قولهم ، وقد حكي هذا القول عنهم في مواضع من القرآن وأجيب عليه بأجوبة مختلفة ، منها ما يقتضي الردّ عليهم في طلبهم الآيات فإنه قد أتاهم بآيات وتحصيل الحاصل لا ينبغي كقوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) ، وكقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١] ، ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم ، لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته ، ويحتمل أن يكون من هذا قوله : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) ، ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حذف مفعول يعلمون ، وهو يحتمل وجهين : أحدهما لا يعلمون أن الله قادر ، والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد ، فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب (بِجَناحَيْهِ) تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة ، فقد يقال : طائر للسعد والنحس (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي في الخلق والرزق ، والحياة والموت ، وغير ذلك ، ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين : أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى ، فكأنه يقول : تفكروا في مخلوقاته ، ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات ، والآخر : تنبيه على البعث ، كأنه يقول : جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم ، وهو أظهر لقوله بعده : ثم إلى ربهم يحشرون (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما غفلنا ، والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ ، والكلام

٢٦٠