التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (٦٤)

________________________________________________________

في هؤلاء الأصناف إلى اجتهاد الإمام ، فله أن يجعلها في بعض دون بعض ، ومذهب الشافعي : أنه يجب أن تقسم على جميع هذه الأصناف بالسواء ، واختلف العلماء هل الفقير أشد حاجة من المسكين أو بالعكس؟ فقيل : هما سواء ، وقيل الفقير الذي يسأل الناس ويعلم حاله ، والمسكين ليس كذلك (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) أي الذين يقبضونها ويفرقونها (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) كفار يعطون ترغيبا في الإسلام ، وقيل : هم مسلمون يعطون ليتمكن إيمانهم ، واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم (وَفِي الرِّقابِ) يعني العبيد يشترون ويعتقون (وَالْغارِمِينَ) يعني من عليه دين ، ويشترط أن يكون استدان في غير فساد ولا سرف (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني الجهاد فيعطى منها المجاهدون ويشتري منها آلات الحرب ، واختلف هل تصرف في بناء الأسوار وإنشاء الأساطيل؟ (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو الغريب المحتاج (فَرِيضَةً) أي حقا محمودا : ونصبه على المصدر ، فإن قيل. لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب أنه حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها ، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله : ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) يعني من المنافقين وإذايتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأقوال والأفعال (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع كل ما يقال له ويصدّقه ، ويقال : إنّ قائل هذه المقالة هو نبيل بن الحارث وكان من مردة المنافقين ، وقيل : عتاب بن قيس (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي يسمع الخير والحق (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدقهم يقال : آمنت لك إذا صدقتك ، ولذلك تعدّى هذا الفعل بإلى وتعدّى يؤمن بالله بالباء (وَرَحْمَةٌ) بالرفع عطف على أذن ، وبالخفض على خير (يَحْلِفُونَ) يعني المنافقين (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) تقديره : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ، فهما جملتان حذف الضمير من الثانية لدلالة الأولى عليها ، وقيل : إنما وحد الضمير لأن رضا الله ورسوله واحد (مَنْ يُحادِدِ اللهَ) يعني من يعادي ويخالف (فَأَنَّ لَهُ) إن هنا مكررة تأكيدا للأولى ، وقيل : بدل منها ، وقيل : التقدير فواجب أن له ، فهي في موضع خبر مبتدأ محذوف (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) يعني في شأنهم سورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمائر في عليهم وتنبئهم وقلوبهم تعود على المنافقين ، وقال الزمخشري : إن الضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين ، وفي قلوبهم للمنافقين ، والأول أظهر (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) تهديد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) صنع ذلك بهم

٣٤١

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

________________________________________________________

في هذه السورة ، لأنها فضحتهم (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) نزلت في وديعة بن ثابت بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : هذا يريد أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات ، فسأله عن ذلك فقال : إنما كنا نخوض ونلعب (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) كان رجل منهم اسمه مخشن تاب ومات شهيدا (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) نفي لأن يكونوا من المؤمنين (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن البخل (نَسُوا اللهَ) أي غفلوا عن ذكره (فَنَسِيَهُمْ) تركهم من رحمته وفضله (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) الأصل في الشر أن يقال أوعد ، وإنما يقال فيه وعد إذا صرح بالشر (وَالْكُفَّارَ) يعني المجاهرين بالكفر (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) خطاب للمنافقين ، والكاف في موضع نصب ، والتقدير ، فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم ، أو في موضع خبر مبتدأ تقديره : أنتم كالذين من قبلكم (وَخُضْتُمْ) أي خلطتم وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يقال إلا في الباطل من الكلام (كَالَّذِي خاضُوا) تقديره كالخوض الذي خاضوا ، وقيل : كالذين خاضوا ، فالذي هنا على هذا بمعنى الجميع (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) الآية : تهديد لهم بما أصاب الأمم المتقدمة (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) يعني مدائن قوم لوط (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله : المنافقون بعضهم من بعض ، ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قيل : عدن هي مدينة الجنة وأعظمها ، وقال الزمخشري هو اسم علم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي رضوان من الله أكبر من كل ما ذكر ، وذلك معنى ما ذكر في الحديث : «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة أتريدون شيئا أزيدكم ، فيقولون

٣٤٢

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي

________________________________________________________

يا ربنا أي شيء تزيدنا؟ فيقول رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» (١).

(جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان ما لم يظهر ما يدل على كفرهم ، فإن ظهر منهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق ، وقد اختلف هل يقتل أم لا (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الغلظة ضد الرحمة والرأفة ، وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) نزلت في الجلاس بن سويد ، فإنه قال : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير ، فبلغ ذلك النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ، فقرأه عليه فحلف أنه ما قاله (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) يعني ما تقدم من قول الجلاس ؛ لأن ذلك يقتضى التكذيب (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) لم يقل بعد إيمانهم ، لأنهم كانوا يقولون بألسنتهم آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) هم الجلاس بقتل من بلغ تلك الكلمة عنه ، وقيل : هم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكلمة الكفر التي قالها قوله : سمن كلبك يأكلك ، وهمه بما لم يناله قوله : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) أي ما عابوا إلا الغني الذي كان حقه أن يشكروا عليه ، وذلك في الجلاس أو في عبد الله بن أبيّ (فَإِنْ يَتُوبُوا) فتح الله لهم باب التوبة فتاب الجلاس وحسن حاله.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) الآية : نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وذلك أنه قال يا رسول الله : ادع الله أن يكثر مالي. فقال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فأعاد عليه حتى دعا له فكثر ماله ، فتشاغل به حتى ترك الصلوات ، ثم امتنع من أداء الزكاة ، فنزلت فيه الآية فجاء بزكاته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعرض عنه ولم يأخذها منه ، وقال : إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك ، ثم لم يأخذها منه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان (بَخِلُوا بِهِ) إشارة إلى منعه الزكاة (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) عقوبة على العصيان بما هو أشد منه (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) حكم بوفاته على النفاق (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) نزلت في المنافقين حين تصدق

__________________

(١). رواه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب ج ٤ ص ٢٧٦ وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

٣٤٣

الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ

________________________________________________________

عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقالوا : ما هذا إلا رياء. وأصل المطوعين المتطوعين ، والمراد به هنا من تصدق بكثير (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) هم الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به ، نزلت في أبي عقيل تصدق بصاع من تمر ، فقال المنافقون : إن الله غنى عن صدقة هذا (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي يستخفون بهم (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) تسمية للعقوبة باسم الذنب (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يحتمل معنيين. أحدهما : أن يكون لفظه أمر ، ومعناه الشرط ، ومعناه : إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ، كما جاء في سورة المنافقين ، والآخر : أن يكون تخييرا ، كأنه قال إن شئت فاستغفر لهم ، وإن شئت فلا تستغفر لهم ، ثم أعلمه الله أنه لا يغفر لهم ، وهذا أرجح لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله خيرني فاخترت ، وذلك حين قال عمر : أتصلي على عبد الله بن أبيّ وقد نهاك الله عن الصلاة عليه (سَبْعِينَ مَرَّةً) ذكرها على وجه التمثيل للعدد الكثير (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) أي الذين خلفهم الله عن بدر وأقعدهم عنه ، وفي هذا تحقير وذم لهم ، ولذلك لم يقل المتخلفون (بِمَقْعَدِهِمْ) أي بقعودهم (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) أي بعده حين خرج إلى تبوك ، فخلاف على هذا ظرف ، وقيل : هو مصدر من خلف فهو على هذا مفعول من أجله (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أمر بمعنى الخبر فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها ، وبكاؤهم الكثير في الآخرة ؛ وقيل : هو بمعنى الأمر أي يجب أن يكونوا : يضحكون قليلا ويبكون كثيرا في الدنيا لما وقعوا فيه (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) إنما لم يقل إليهم ، لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) عقوبة لهم فيها خزي وتوبيخ (أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني في غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي مع القاعدين وهم النساء والصبيان (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول ، وصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه حين مات ، وروى أنه صلّى عليه فنزلت الآية ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه ، وتلا عليه : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصل

٣٤٤

أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥) وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩١) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى

________________________________________________________

عليه (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) قيل : يعني براءة والأرجح أنه على الإطلاق (أَنْ آمِنُوا) أن هنا مفسرة (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) أي أولو الغنى والمال الكثير (لكِنِ الرَّسُولُ) الآية أي إن تخلف هؤلاء فقد جاهد الرسول ومن معه (الْخَيْراتُ) تعم منافع الدارين وقيل : هو الحور العين لقوله : خيرات حسان (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) هم المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين ، واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين وقيل : هم المقصرون من عذر في الأمر إذا قصّر فيه ولم يجد ، فوزنه على هذا المفعلون وروي أنها نزلت في قوم من غفار (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) هم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم فكذبوا في دعواهم الإيمان (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من المعذرين.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) هذا رفع للحرج عن أهل الأعذار الصحيحة من ضعف البدن والفقر إذا تركوا الغزو. وقيل : إن الضعفاء هنا هم النساء والصبيان وهذا بعيد (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) قيل : نزلت في بني مقرن وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم وقيل : في عبد الله بن مغفل المزني (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ) يعني : بنياتهم وأقوالهم ، وإن لم يخرجوا للغزو (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) قيل : هم بنو مقرن وقيل ابن مغفل وقيل سبعة نفر من بطون شتى ؛ وهم البكاؤون ومعنى لتحملهم على الإبل وجواب إذا يحتمل أن يكون قلت (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ) أو تولوا إذا رجعتم يعني من غزوة تبوك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم (مِنْ أَخْبارِكُمْ) نعت لمحذوف وهو المفعول الثاني تقديره : قد نبأنا الله جملة من

٣٤٥

اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ

________________________________________________________

أخباركم (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) هم أهل البوادي من العرب (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) يعني أنهم أحق أن لا يعلموا الشرائع لبعدهم عن الحاضرة ومجالس العلم (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقل المغرم الذي ليس بحق عليه (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم مصائب الدنيا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) خبر أو دعاء (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي دعواته لهم وهو عطف على قربات ؛ أي يقصدون بنفقاتهم التقرب إلى الله واغتنام دعاء الرسول لهم وقيل : نزلت في بني مقرن (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) قيل : هم من صلّى للقبلتين وقيل : من شهد بدرا ، وقيل : من حضر بيعة الرضوان (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) سائر الصحابة ويدخل في ذلك التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة بشرط الإحسان (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي اجترءوا عليه وقيل : أقاموا عليه (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) العذاب العظيم هو عذاب النار وأما المرتان قبله ، فالثانية منهما عذاب القبر ، والأولى عذابهم بإقامة الحدود عليهم وقيل : بفضيحتهم بالنفاق (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) الآية : قيل : إنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري فعمله الصالح الجهاد وعمله السيء نصيحته لبني قريظة ، وقيل : هو لمن تخلف عن تبوك من المؤمنين فعملهم الصالح ما سبق لهم ، وعملهم السيئ تخلفهم عن تبوك ، وروى أنهم ربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد ، وقالوا : لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : هي عامة في الأمة إلى يوم القيامة.

قال بعضهم : ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) قيل : نزلت في المتخلفين الذين ربطوا أنفسهم لما تاب الله عليهم قالوا : يا رسول

٣٤٦

عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧)

________________________________________________________

الله ؛ إنا نريد أن نتصدق بأموالنا. فنزلت هذه الآية. وأخذ ثلث أموالهم. وقيل : هي الزكاة المفروضة ، فالضمير على العموم لجميع المسلمين (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ في موضع صفة لصدقة أو حال من الضمير في خذ (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم (سَكَنٌ لَهُمْ) أي تسكن به نفوسهم ، فهو عبارة عن صحة الاعتقاد ، أو عن طمأنينة نفوسهم إذا علموا أن الله تاب عليهم (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الضمير في يعلموا للتائبين من التخلف. وقيل : للذين تخلفوا ولم يتوبوا ، وقيل : عام. وفائدة الضمير المؤكد تخصيص الله تعالى بقبول التوبة دون غيره (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) قيل : معناه يأمر بها ، وقيل : يقبلها من عباده (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) قيل : هم الثلاثة الذين خلفوا قبل أن يتوب الله عليهم. وقيل : هم الذين بنوا مسجد الضرار ، وقرئ مرجئون بالهمز (١) وتركه وهما لغتان ومعناه التأخير (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) قرئ الذين بغير واو (٢) صفة لقوله وآخرون مرجون أو على تقديرهم الذين وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجون لأمر الله هم أهل مسجد الضرار ، وقرئ والذين بالواو عطف على آخرون مرجون وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجئين أنهم الثلاثة الذين خلفوا (ضِراراً وَكُفْراً) كانوا بنو عمرو بن عوف من الأنصار قد بنوا مسجد قباء ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيه ويصلي فيه ، فحسدهم على ذلك قومهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف ؛ فبنوا مسجدا آخر مجاورا له ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قباء ، وذلك هو الضرار الذي قصدوا وسألوا من رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أن يأتيه ، ويصلي لهم فيه فنزلت عليه فيه هذه الآية (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أرادوا أن يتفرّق المؤمنون عن مسجد قباء (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي انتظارا لمن حارب الله ورسوله ، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاسق وكان من أهل المدينة ، فلما قدمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاهر بالكفر والنفاق ، ثم خرج إلى مكة فحزّب الأحزاب من المشركين ، فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام ، ليستنصر بقيصر فهلك هناك. وكان أهل مسجد الضرار يقولون : إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد. والإشارة بقوله من قبل إلى ما فعل معه الأحزاب (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا

__________________

(١). قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بدون همزة وقرأ الباقون : مرجئون.

(٢). قرأ نافع وابن عامر : الذين وقرأ الباقون : والذين.

٣٤٧

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ

________________________________________________________

الْحُسْنى) أي الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله فأكذبهم الله في ذلك (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) نهي عن إتيانه والصلاة فيه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمر بطريقه (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) قيل : هو مسجد قباء ، وقيل : مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وقد روي ذلك عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) كانوا يستنجون بالماء ونزلت في الأنصار على قول من قال : إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد المدينة ، ونزلت في بني عمرو بن عوف خاصة على قول من قال : إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) الآية : استفهام بمعنى التقرير ، والذي أسس على التقوى والرضوان : مسجد المدينة أو مسجد قباء ، والذي أسس على شفا جرف هار : هو مسجد الضرار ، وتأسيس البناء على التقوى والرضوان : هو بحسن النية فيه ، وقصد وجه الله ، وإظهار شرعه ، والتأسيس على شفا جرف هار : هو بفساد النية ، وقصد الرياء ، والتفريق بين المؤمنين ، فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع ، ومعنى شفا جرف : طرفه ، ومعنى هار : ساقط أو واهي ، بحيث أشفى على السقوط ، وأصل هار : هائر ، فهو من المقلوب ، لأن لامه جعلت في موضع العين (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي طاح في جهنم ، وهذا ترشيح للمجاز ، فإنه لما شبه بالجرف وصف بالانهيار ؛ الذي هو من شأن الجرف ، وقيل : إن ذلك حقيقة ، وأنه سقط في نار جهنم وخرج الدخان من موضعه ، والصحيح أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أمر بهدمه فهدم (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار ريبة من بنيانه : أي شك في الإسلام بسبب بنيانه ، لاعتقادهم صواب فعلهم : أو غيظ بسبب هدمه (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي إلا أن يموتوا.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) قيل : إنها نزلت في بيعة العقبة ، وحكمها عام في كل مؤمن مجاهد في سبيل الله إلى يوم القيامة. قال بعضهم : ما أكرم الله ، فإن أنفسنا هو خلقها ، وأموالنا هو رزقها ، ثم وهبها لنا ، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي ، فإنها لصفقة رابحة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) جملة في موضع الحال بيان للشراء (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) قال بعضهم : ناهيك عن بيع البائع فيه رب العلا والثمن جنة المأوى ، والواسطة محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (التَّائِبُونَ) وما بعده : أوصاف للمؤمنين الذين

٣٤٨

الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١١٦) لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ

________________________________________________________

اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم ؛ تقديره : هم التائبون (السَّائِحُونَ) قيل معناه الصائمون ، ويقال ساح في الأرض : أي ذهب (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) نزلت في شأن أبي طالب ؛ فإنه لما امتنع أن يقول : لا إله إلا الله عند موته ، قال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك ، فكان يستغفر حتى نزلت هذه الآية ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية ، وقيل : إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم المشركين ؛ فنزلت الآية (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) المعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم ، وهو قوله سأستغفر لك ربي (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) قيل : تبين له ذلك بموت أبيه على الكفر ، وقيل : لأنه نهي عن الاستغفار له (لَأَوَّاهٌ) قيل : كثير الدعاء ، وقيل : موقن ، وقيل : فقيه ، وقيل : كثير الذكر لله ، وقيل : كثير التأوّه من خوف الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) الآية : نزلت من قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن ، فخافوا على أنفسهم من ذلك ، فنزلت الآية تأنيسا لهم أي : ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكن المنع من ذلك (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) يعني : حين محاولة غزوة تبوك ، والساعة هنا بمعنى الحين والوقت ، وإن كان مدة ، والعسرة : الشدة وضيق الحال (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) يعني : تزيغ عن الثبات على الإيمان ، أو عن الخروج في تلك الغزوة لما رأوا من الضيق والمشقة ، وفي كاد ضمير الأمر والشأن ، أو ترتفع بها القلوب (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) يعني : على هذا الفريق أي رجع بهم عما كادوا يقعون فيه (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) هم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك ، من غير عذر ومن غير نفاق ولا قصد للمخالفة ، فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتب عليهم ، وأمر أن لا يكلمهم أحد ، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم ، فبقوا على ذلك مدّة إلى أن أنزل الله توبتهم ، وقد روي حديثهم في البخاري ومسلم والسير ، ومعنى خلّفوا هنا : أي عن الغزوة.

٣٤٩

عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا

________________________________________________________

وقال كعب بن مالك معناه : خلفوا عن قبول الضر [كذا] وليس بالتخلف عن الغزو. يقوّي ذلك كونه جعل إذا ضاقت غاية للتخلف (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) عبارة عما أصابهم من الغم والخوف من الله (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي رجع بهم ليستقيموا على التوبة (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يحتمل أن يريد صدق اللسان إذا كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب ، فنفعهم الله بذلك ، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان ، وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم ، والمراد بالصادقين : المهاجرون لقول الله في الحشر : للفقراء المهاجرين ، إلى قوله : هم الصادقون وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة ، فقال : نحن الصادقون ، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا ، أي تابعين لنا.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) الآية : عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك من أهل يثرب ومن جاورها من قبائل العرب (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا يمتنعوا من اقتحام المشقات التي تحملها هو صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) تعليل لما يجب من عدم التخلف (ظَمَأٌ) أي عطش (وَلا نَصَبٌ) أي تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي جوع (وَلا يَطَؤُنَ) أي بأرجلهم أو بدوابّهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) عموم في كل ما يصيب الكفار.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). قال ابن عباس : هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا : أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا ، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه ، فالآية الأولى في الخروج معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه في السرايا التي كان يبعثها ، وقيل : هي ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع ، فهو دليل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين ، وقيل : هي في طلب العلم ، ومعناها : أنه لا تجب الرحلة في طلب العلم على الجميع ، بل على البعض لأنه فرض كفاية (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) تحضيض على نفر بعض المؤمنين للجهاد أو لطلب العلم (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) إن قلنا إن الآية في الخروج إلى طلب العلم ، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تنفر أي ترحل ، وكذلك الضمير في ينذروا وفي رجعوا : أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرحلة ، وإن قلنا : إن الآية في السرايا ، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تقعد في المدينة ولا تخرج مع السرايا ، وأما الضمير في رجعوا فهو

٣٥٠

قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١٢٨) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)

________________________________________________________

للفرقة التي خرجت مع السرايا (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) الضمير للقوم (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمر بقتال الأقرب فالأقرب على تدريج ، وقيل : إنها إشارة إلى قتال الروم بالشام ، لأنهم كانوا أقرب الكفار إلى أرض العرب ، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق حينئذ بعيدة (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) أي من المنافقين من يقول بعضهم لبعض : أيكم زادته هذه إيمانا على وجه الاستخفاف بالقرآن : كأنهم يقولون أي عجب في هذا؟ وأي دليل في هذا؟ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) المرض : عبارة عن الشك والنفاق والمعنى : زادتهم رجسا إلى رجسهم أو زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم (يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ) قيل : يفتنون أي يختبرون بالأمراض والجوع ، وقيل : بالأمر بالجهاد ، واختار ابن عطية أن يكون المعنى يفضحون بما يكشف من سرائرهم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي : تغامزوا ، وأشار بعضهم إلى بعض على وجه الاستخفاف بالقرآن ، ثم قال بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد؟ كأن سبب خوفهم أن ينقل عنهم ذلك. وقيل : معنى نظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجب مما ينزل في القرآن ؛ من كشف أسرارهم ثم قال بعضهم لبعض (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي هل رأى أحوالكم فنقلها عنكم أو علمت من غير نقل فهذا أيضا على وجه التعجب (ثُمَّ انْصَرَفُوا) يحتمل أن يراد الانصراف بالأبدان ، أو الانصراف بالقلوب عن الهدى (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء أو خبر (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) تعليل لصرف قلوبهم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب للعرب أو لقريش خاصة أي من قبيلتكم حيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته أو لبني آدم كلهم : أي من جنسكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يشق عليه عنتكم ، والعنت : هو ما يضرهم في دينهم أو دنياهم وعزيز صفة للرسول ، وما عنتم فاعل بعزيز ، وما مصدرية أو ما عنتم مصدر ، وعزيز خبر مقدّم والجملة في موضع الصفة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على إيمانكم وسعادتكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) سماه الله هنا باسمين من أسمائه (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي إن أعرضوا عن الإيمان ، فاستعن بالله وتوكل عليه وقيل : إن هاتين الآيتين نزلتا بمكة.

٣٥١

سورة يونس

يونس مكية إلا الآيات ٤٠ و ٩٥ و ٩٦ فمدنية

وآياتها ١٠٩ نزلت بعد الإسراء

 (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

________________________________________________________

سورة يونس

(الر) تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء التي في أوائل السور (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والكتاب هنا القرآن (الْحَكِيمِ) من الحكمة أو من الحكم أو من الأحكام للأمر أي أحكمه الله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) الهمزة للإنكار ، وعجبا خبر كان ، وأن أوحينا اسمها ، وأن أنذر : تفسير للوحي ، والمراد بالناس هنا كفار قريش وغيرهم ، وإلى رجل هنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى الآية : الرد على من استبعد النبوة أو تعجب من أن يبعث الله رجلا.

(قَدَمَ صِدْقٍ) أي عمل صالح قدّموه. وقال ابن عباس : السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) يعنون ما جاء به من القرآن ، وقرئ (١) لساحر يعنون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسير لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوّة ، ويكون خبرا مستأنفا (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) تعريف بالله وصفاته ليعبدوه ولا يشركوا به ، وفيه ردّ على من أنكر النبوة كأنه يقول : إنما أدعوكم إلى عبادة ربكم الذي خلق السموات والأرض فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي ما يشفع إليه أحد إلا بعد أن يأذن هو له في الشفاعة ، وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفع لهم (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) نصب وعد على المصدر المذكور المؤكد للرجوع إلى الله ، ونصب حقا على المصدر المؤكد لوعد الله(إِنَّهُ

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأهل الكوفة : لساحر. وقرأ الباقون : لسحر.

٣٥٢

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

________________________________________________________

يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يبدؤه في الدنيا ويعيده بعد الموت في الآخرة ، والبداءة دليل على العودة (لِيَجْزِيَ) تعليل للعودة وهي البعثة (بِالْقِسْطِ) أي بعدله في جزائهم أو بقسطهم في أعمالهم الصالحة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) وصف أفعال الله وقدرته وحكمته والضياء أعظم من النور (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الضمير للقمر والمعنى قدر سيره في منازل (وَالْحِسابَ) يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي ما خلقه عبثا ، والإشارة بذلك إلى ما تقدم من المخلوقات (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) قيل : معنى يرجون هنا يخافون ، وقيل : لا يرجون حسن لقاءنا ، فالرجاء على أصله ، وقيل : لا يرجون : لا يتوقعون أصلا ، ولا يخطر ببالهم (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي قنعوا أن تكون حظهم ونصيبهم (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي سكنت أنفسهم عن ذكر الانتقال عنها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) يحتمل أن تكون هي الفرقة الأولى ، فيكون من عطف الصفات ، أو تكون غيرها.

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي يسددهم بسبب إيمانهم إلى الاستقامة أو يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة ، وهو أرجح لما بعده (دَعْواهُمْ فِيها) أي دعاؤهم (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي : لو يعجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ، ونزلت الآية عند قوم : في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده ، وقيل : نزلت في الذين قالوا : إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [الأنفال : ٣٢] (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا) عتاب في ضمنه نهي لمن يدعو الله عند الضر ، ويغفل عنه عند العافية (لِجَنْبِهِ) أي مضطجعا ، وروي أنها نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة لمرض كان به (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) إخبار ضمنه وعيد للكفار (لِنَنْظُرَ) معناه

٣٥٣

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١)

________________________________________________________

ليظهر في الوجود فتقوم عليكم الحجة به (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني على قريش (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أي ما تلوته إلا بمشيئة الله ، لأنه من عنده وما هو من عندي (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي ولا أعلمكم به (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي بقيت بينكم أربعين سنة قبل البعث ما تكلمت في هذا حتى جاءني من عند الله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تنصل من الافتراء على الله ، وبيان لبراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما نسبوه إليه من الكذب ، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بيان لظلمهم في تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الضمير في يعبدون لكفار العرب ، وما لا يضرهم ولا ينفعهم هي الأصنام (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام ، والمعنى : أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السموات والأرض ، وكل ما ليس بمعلوم لله فهو عدم محض ، ليس بشيء فقوله : أتنبئون الله تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم أي : كيف تعلمون الله بما لا يعلم؟ (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) تقدم في [البقرة : ٢١٣] في قوله : كان الناس أمة واحدة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) يعني القضاء (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) كانوا يطلبون آية من الآيات التي اقترحوها ، ولقد نزل عليه آيات عظام فما اعتدوا بها لعنادهم وشدة ضلالهم (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) إن شاء فعل (١) وإن شاء لم يفعل لا يطلع على ذلك أحد (فَانْتَظِرُوا) أي انتظروا نزول ما اقترحتموه (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي منتظر لعقابكم على كفركم (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) هذه الآية من الكفار وتضمنت النهي لمن كان كذلك من غيرهم ، والمكر هنا الطعن في آيات الله وترك شكره ، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكرا مشاكلة

__________________

(١). الكلام هنا فيه نقص أو تصحيف وصوابه : إن شاء اطلع عليه من يشاء من عباده وإن لم يشأ فلا يطلع عليه أحد ، والله أعلم.

٣٥٤

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٢٥) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧)

________________________________________________________

لفعلهم ، وتسمية للعقوبة باسم الذنب (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) الضمير المؤنث في جرين للفلك ، والضمير في بهم للناس ، وفيه الخروج من الخطاب إلى الغيبة ، وهو يسمى الالتفات ، وجواب إذا كنتم قوله : جاءتها ريح عاصف ، وقوله : دعوا الله.

قال الزمخشري : هو بدل من ظنوا ، ومعناه : دعوا الله وحده وكفروا بمن دونه (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) رفع على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره : وذلك متاع ، أو يكون خبر : إنما بغيكم ، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) معنى الآية تحقير الدنيا وبيان سرعة فنائها وشبهها بالمطر الذي يخرج به النبات ، ثم تصيب ذلك النبات آفة عند حسنه وكماله (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) كالزرع والفواكه (وَالْأَنْعامُ) يعني : المرعى التي ترعاها من العشب وغيره (أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) تمثيل بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب (قادِرُونَ عَلَيْها) أي متمكنون من الانتفاع بها (أَتاها أَمْرُنا) أي بعض الجوائح كالريح ، والصر ، وغير ذلك (فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي جعلنا زرعها كالذي حصد وإن كان لم يحصد (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) كأن لم تنعم. [أي لم توجد. انظر الطبري].

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي إلى الجنة ، وسميت دار السلام أي دار السلامة من العناء والتعب ، وقيل : السلام هنا اسم الله : أي يدعو إلى داره (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ذكر الدعوة إلى الجنة عامة مطلقة والهداية خاصة بمن يشاء (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله ، وقيل : الحسنى جزاء الحسنة بعشر أمثالها والزيادة التضعيف فوق ذلك إلى سبعمائة ، والأول أصح لوروده في الحديث وكثرة القائلين به (قَتَرٌ) أي غبار بغير الوجه (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) مبتدأ على حذف مضاف تقديره : جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو على تقدير : لهم جزاء سيئة بمثلها ، أو معطوفا على الذين أحسنوا ، ويكون : جزاء سيئة مبتدأ وخبره بمثلها (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي لا يعصمهم أحد من عذاب الله (قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) من قرأ بفتح الطاء فهو

٣٥٥

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ

________________________________________________________

جمع قطعة وإعراب مظلما على هذه القراءة : حال من الليل ، ومن قرأ قطعا بإسكان الطاء (١) ، فمظلما صفة له أو حال من الليل (مَكانَكُمْ) تقديره الزموا مكانكم أي لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي فرقنا (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي تختبر بما قدمت من الأعمال ، وقرئ تتلو (٢) بتاءين بمعنى تتبع أو تقرأه في المصاحف (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) الآية : احتجاج على الكفار بحجج كثيرة واضحة لا محيص لهم عن الإقرار بها (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) مذكور في [آل عمران : ٢٧] (رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي الثابت الربوبية بخلاف ما تعبدون من دونه (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي عبادة غير الله ضلال بعد وضوح الحق ، وتدل الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات ، إذ الحق فيها في طرف واحد ، بخلاف مسائل الفروع (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) المعنى : كما حق الحق في الاعتقادات كذلك حقت كلمة ربك على الذين عتوا وتمردوا في كفرهم أنهم لا يؤمنون ، والكلمات يراد بها القدر والقضاء (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الآية : احتجاج على الكفار ، فإن قيل : كيف يحتج عليهم بإعادة الخلق ، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب ، أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة ، وفي ذلك إبطال لربوبيتهم ، وأيضا فوضعت الإعادة موضع المتفق عليه لظهور برهانها (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) (٣) بتشديد الدال معناه : لا يهتدي في نفسه ، فكيف يهدي غيره ، وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره والقراءة الأولى أبلغ في الاحتجاج (فَما لَكُمْ) ما استفهامية معناها تقرير وتوبيخ ولكم خبرها ويوقف عليه (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي تحكمون بالباطل في عبادتكم لغير الله (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي غير

__________________

(١). هي قراءة الكسائي وابن كثير وقرأ الباقون : قطعا بفتح الطاء.

(٢). هي قراءة الكسائي وحمزة تتلو. وقرأ الباقون : تبلوا.

(٣). اختلف القراء في قراءتها : فقراءة نافع يهدّي وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وورش بفتح الهاء وعن عاصم روايتان رواية أبي بكر : يهدّي : ثلاث كسرات. وفي رواية حفص : بفتح الياء وكسر الهاء والدال مشددة. وقرأ حمزة والكسائي : يهدي.

٣٥٦

أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧)

________________________________________________________

تحقيق ، لأنه لا يستند إلى برهان (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ذلك في الاعتقادات إذ المطلوب فيها اليقين بخلاف الفروع (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مذكور في البقرة (أَمْ يَقُولُونَ) أم هنا بمعنى بل والهمزة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) تعجيز لهم وإقامة حجة عليهم (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) يعني من شركائكم وغيرهم من الجنّ والإنس (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي سارعوا إلى التكذيب بما لم يفهموه ولم يعلموا تفسيره (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي علم تأويله ويعني بتأويله الوعيد الذي لهم فيه (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية فيها. قولان : أحدهما إخبار بما يكون منهم في المستقبل ، وأن بعضهم يؤمن وبعضهم يتمادى على الكفر ، والآخر أنها إخبار عن حالهم أن منهم من هو مؤمن به ويكتم إيمانه ، ومنهم من هو مكذب (فَقُلْ لِي عَمَلِي) الآية : موادعة ، منسوخة بالقتال (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي يستمعون القرآن ، وجمع الضمير بالحمل على معنى من (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) المعنى أتريد أن تسمع الصم وذلك لا يكون. لا سيما إذا انضاف إلى الصمم عدم العقل (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) المعنى أتريد أن تهدى العمي ، وذلك لا يكون ولا سيما إذا انضاف إلى عدم البصر عمى البصيرة ، والصمم والعمى عبارة عن قلة فهمهم (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً) تقليل لمدّة بقائهم في الدنيا أو في القبور (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعني يوم الحشر فهو على هذا حال من الضمير في يلبثوا (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) شرط جوابه وإلينا مرجعهم. والمعنى إن أريناك بعض عذابهم في الدنيا فذلك وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) ذكرت ثم لترتيب الأخبار ، لا لترتيب الأمر ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب ، فالترتيب على هذا صحيح (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) قيل : مجيئه في الآخرة للفصل ، وقيل : مجيئه في الدنيا وهو بعثه.

٣٥٧

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ

________________________________________________________

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) كلام فيه استبعاد واستخفاف (بَياتاً) أي بالليل (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) المعنى أي شيء يستعجلون من العذاب وهو ما لا طاقة لكم به ، وقوله : ماذا جواب إن أتاكم ، والجملة متعلقة بأرأيتم (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) دخلت همزة التقرير على ثم العاطفة ، والمعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به الآن ، وذلك لا ينفعكم لأنكم كنتم تستعجلونه ومكذبين به (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) أي يسألونك هل الوعيد حق أو هل الشرع والدين حق؟ والأول أرجح ، لقوله : وما أنتم بمعجزين : أي لا تفوتون من الوعيد (قُلْ إِي) أي نعم (ظَلَمَتْ) صفة لنفس ، أي لو ملك الظالم الدنيا لافتدى بها من عذاب الآخرة (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفوها في نفوسهم ، وقيل : أظهروها (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) أي يشفي ما فيها من الجهل والشك (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) يتعلق بفضل بقوله : فليفرحوا ، وكرر الباء في قوله فبذلك تأكيدا ، والمعنى : الأمر أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته لا بغيرهما ، والفضل والرحمة عموم ، وقد قيل : الفضل الإسلام ، والرحمة القرآن (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي فضل الله ورحمته خير مما يجمعون من حطام الدنيا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) الآية : مخاطبة لكفار العرب الذي حرّموا البحيرة والسائبة وغير ذلك (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بأرأيتم ، وكرر قل للتأكيد ، ولما قسم الأمر إلى إذن الله لهم وافترائهم ثبت افتراؤهم ، لأنهم معترفون أن الله لم يأذن لهم في ذلك (وَما ظَنُ) وعيد للذين يفترون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف منصوب بالظن ، والمعنى : أي شيء يظنون أن يفعل بهم في ذلك اليوم (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الشأن الأمر ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد هو وجميع الخلق ، ولذلك قال في آخرها : وما تعملون من عمل بمخاطبة الجماعة ، ومعنى الآية : إحاطة علم الله بكل شيء

٣٥٨

عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (٦١) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦)

________________________________________________________

(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الضمير عائد على القرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قال : ما تتلو شيئا من القرآن ، وقيل : يعود على الشأن ، والأول أرجح ، لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) يقال : أفاض الرجل في الأمر إذا أخذ فيه بجدّ (وَما يَعْزُبُ) ما يغيب [وقرأ الكسائي يعزب]. (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) وزنها والذرة صغار النمل ، قال الزمخشري : إن قلت لم قدمت الأرض على السماء بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب : أن السماء تقدمت في سبأ لأن حقها التقديم ، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) من قرأهما بالفتح فهو عطف على لفظ مثقال ، ومن قرأهما بالرفع (١) ، فهو عطف على موضعه أو رفع بالابتداء.

أولياء الله اختلف الناس في معنى الولي اختلافا كثيرا ، والحق فيه ما فسره الله بعد هذا بقوله : الذين آمنوا وكانوا يتقون ، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو الولي ، وإعراب الذي آمنوا صفة للأولياء ، أو منصوب على التخصيص ، أو مرفوع بإضمار : هم الذين ولا يكون ابتداء مستأنفا لئلا ينقطع مما قبله (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أما بشرى الآخرة فهي الجنة اتفاقا ، وأما بشرى الدنيا فيه الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له (٢) ، روي ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : محبة الناس للرجل الصالح ، وقيل : ما بشّر به في القرآن من الثواب (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده ، وقد استدل ابن عمر على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدله. (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) يعني ما يقوله الكفار من التكذيب (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) إخبار في ضمنه وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر ، وتسلية له (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) فيها وجهان : أحدهما أن تكون ما نافية وأوجبت بقوله : إلا الظن وكرر إن يتبعون توكيدا ، والمعنى ما يتبع الكفار إلا الظن ، والوجه الثاني : أن تكون ما استفهامية ، ويتم الكلام عند قوله شركاء ، والمعنى أي شيء يتبعون على وجه التحقير لما يتبعونه ، ثم ابتدأ الإخبار بقوله

__________________

(١). بالرفع هي قراءة حمزة. وقرأ الباقون بفتح أصغر وأكبر.

(٢). انظر ابن ماجة كتاب تعبير الرؤيا ص / ١٢٨٣.

٣٥٩

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ (٧١) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧)

________________________________________________________

إن يتبعون إلا الظن ، والعامل في شركاء على الوجهين يدعون (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) من السكون وهو ضدّ الحركة (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا تبصرون فيه الأشياء (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) الضمير للنصارى ولمن قال : إن الملائكة بنات الله (هُوَ الْغَنِيُ) وصف يقتضي نفي الولد والردّ على من نسبه إليه ، لأن الغني المطلق لا يفتقر إلى اتخاذ ولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بيان وتأكيد للغني ، وباقي الآية توبيخ للكفار ووعيد لهم (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) تقديره : لهم متاع في الدنيا (نُوحٍ) روي أن اسمه عبد الغفار ، وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه من خوف الله (كَبُرَ عَلَيْكُمْ) أي صعب وشق (مَقامِي) أي قيامي لوعظكم والكلام معكم ، وقيل : معناه مكاني يعني نفسه ، كقولك : فعلت ذلك لمكان فلان (فَأَجْمِعُوا) بقطع الهمزة من أجمع الأمر إذا عزم عليه ، وقرئ بألف وصل من الجمع (شُرَكاءَكُمْ) أي ما تعبدون من دون الله ، وإعرابه : مفعول معه ، أو مفعول بفعل مضمر تقديره : ادعوا شركاءكم ، وهذا على القراءة بقطع الهمزة ، وأما على الوصل فهو معطوف (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي لا يكون قصدكم إلى هلاكي مستورا ولكن مكشوفا تجاهرونني به وهو من قولك : غم الهلال إذا لم يظهر ، والمراد بقوله : أمركم في الموضعين إهلاككم لنوح عليه‌السلام ، أي : لا تقصروا في إهلاكي إن قدرتم على ذلك (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي انفذوا فيما تريدون ، ومعنى الآية أن نوحا عليه‌السلام قال لقومه : إن صعب عليكم دعائي لكم إلى الله فاصنعوا بي غاية ما تريدون ، وإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله وثقتي به سبحانه (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي يخلفون من هلك بالغرق (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً) يعني : هودا وصالحا وإبراهيم وغيرهم (أَسِحْرٌ هذا) قيل إنه معمول أتقولون ،

٣٦٠