التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥)

________________________________________________________

الله الجبل مثالا لموسى ، وقال قوم : المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله : فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا ، فقوله تعالى : لن تراني نفي للرؤية ، وليس فيه دليل على أنها محال ، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لا استحالتها ، ولو كانت الرؤية مستحيلة ، لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] ، فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك ، وأما في الآخرة ، فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا ينكرها إلا مبتدع ، وبين أهل السنة والمعتزلة في مسألة الرؤية تنازع طويل ، وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها ، ولما فيه من الأقوال الفاسدة (جَعَلَهُ دَكًّا) أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك : ضربت الأمير (١) ، والدك والدق : أخوان ، وهو التفتت ، وقرئ : دكاء بالمد والهمز (٢) أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره ، وقيل تفتت حتى صار غبارا ، وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي مغشيا عليه (تُبْتُ إِلَيْكَ) معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي أول قومه أو أهل زمانه ، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) هو عموم يراد به الخصوص ، فإنّ جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة ، واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا ، والصحيح : أنه كلم نبينا محمدا صلّى الله تعالى عليه واله وسلم ليلة الإسراء (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) أي ألواح التوراة وكانت سبعة ، وقيل : عشرة وقيل : اثنان وقيل : كانت من زمردة وقيل : من ياقوت ، وقيل : من خشب (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم ، وكذلك تفصيلا لكل شيء ، وموضع كل شي نصب على أنه مفعول كتبنا ، وموعظة بدل منه (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي بجدّ وعزم ، والضمير للتوراة (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو ، وكذلك سائر المباحات مع المندوبات (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي دار فرعون وقومه وهو مصر ، ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا ، وقيل : منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها ، وقيل : جهنم ، وقرأ ابن عباس : سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة ، وهي على

__________________

(١). قوله : «ضربت الأمير» ، لم يتضح لي مراده من هذا المثال.

(٢). وهي قراءة حمزة والكسائي فقط.

٣٠١

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ

________________________________________________________

هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) الآيات : يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين ، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم ، وقيل : الصرف منعهم من إبطالها (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي : ولقاؤهم الآخرة ، أو من إضافة المصدر إلى الظرف (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) هم بنو إسرائيل (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد غيبته في الطور (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بضم الحاء والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي ، وقرئ (١) بكسر الحاء للإتباع ، وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام ، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة (جَسَداً) أي جسما دون روح ، وانتصابه على البدل (لَهُ خُوارٌ) الخوار هو : صوت البقر ، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر ، فقذفه في العجل فصار له خوار ، وقيل : كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) ردّ عليهم ، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته (اتَّخَذُوهُ) أي اتخذوه إلها ، فحذف المفعول الثاني للعلم به ، وكذلك حذف من قوله : واتخذ قوم موسى (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا يقال : سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره (أَسِفاً) شديد الحزن على ما فعلوه ، وقيل : شديد الغضب كقوله : (فَلَمَّا آسَفُونا) [الزخرف : ٥٥] (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) أي قمتم مقامي ، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف ، والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم ، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه‌السلام ، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) معناه : أعجلتم عن أمر ربكم ، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور ، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه‌السلام قد مات فعبدوا العجل (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) أي شعر رأسه (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل (ابْنَ أُمَ) كان هارون شقيق

__________________

(١). وهي قراءة حمزة والكسائي. وقرأ الباقون بالضم.

٣٠٢

الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥)

________________________________________________________

موسى ، وإنما دعاه بأمّه ، لأنه أدعى إلى العطف والحنوّ ، وقرئ ابن أم بالكسر (١) على الإضافة إلى ياء المتكلم ، وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : لا تظن أني منهم أو لا تجد عليّ في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ) أي : غضب في الآخرة وذلة في الدنيا (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أي سكن ، وكذلك قرأ بعضهم ، وقال الزمخشري : قوله سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له ألق الألواح وجرّ برأس أخيك ، ثم سكت عن ذلك (وَفِي نُسْخَتِها) أي فيما ينسخ منها ، والنسخة فعلة بمعنى مفعول (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي يخافون ، ودخلت اللام لتقدّم المفعول كقوله : (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ، وقال المبرّد : تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً) حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا : أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم ، وقيل : إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته ، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء ، والأول أظهر لقوله : ثم بعثناكم من بعد موتكم (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك ، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين ، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال : لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك ، وأنت تفعل ما تشاء ، ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال : لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت ، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا ، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية ، والذين عبدوا العجل ، فمعنى هذا إدلاء بحجته ، وتبرؤ من فعل السفهاء ، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي الأمور كلها بيدك(تُضِلُّ

__________________

(١). هي قراءة أهل الشام والكوفة وقرأ بالفتح : نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص.

٣٠٣

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم

________________________________________________________

بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) ومعنى هذا : اعتذار عن فعل السفهاء ، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا ، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه‌السلام إنما هو : استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه ، ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) قيل : الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة ، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم ، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال : إنها تصحيف (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة ، وعموما في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي : تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا ، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين ، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق ، فيكون عموما في الرحمة ، وفي كل شيء (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم ، وهم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كانت رحمة الدنيا ، فهي أيضا مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم ، وأعلى دينهم على جميع الأديان ، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم ، وإن كانت على الإطلاق : فقوله : سأكتبها تخصيص للإطلاق (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء ، وليس ذلك لغير هذه الأمّة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) هذا الوصف خصص أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال بعضهم : لما قال الله : ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس ، فلما قال : فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله ، وبقيت اليهود والنصارى (النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) أي الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وذلك من أعظم دلائل نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة ، ولذلك قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨] ، قال بعضهم : الأميّ منسوب إلى الأمّ وقيل : إلى الأمة (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل ، وكذلك الضمير في عندهم ، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأمّيين أنت عبدي ورسولي ، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة ، ولكن تعفو وتصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح به عيونا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا» ٢١ / ٣.

ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب ، وهو باق بأيديهم إلى الآن : إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له : في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق ، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم : ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين : ١٧].

ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء ، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران ، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه‌السلام ، وساعد موضع عيسى وفاران هي : مكة موضع مولد نبينا محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ومبعثه ، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو : ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع ، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكّة : قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك ، فقد تخلل الأرض الظلام ، وعلا على الأمم المصاب ، والرب يشرق عليك إشراقا ، ويظهر كرامته عليك ، تسير الأمم إلى نورك ، والملوك إلى ضوء طلوعك ، ارفعي بصرك إلى ما حولك ، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم : لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود ، وامتلأت الأرض من حمده ، لأنه ظهر بخلاص أمته.

ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين : ١٦] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها : يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت : أهرب من سيدتي سارة ، فقال لها : ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس ، وتكون يده فوق الجميع ، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور دينه وعلو كلمته ، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..

ومن ذلك أيضا من التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم ، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه ، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق ، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم ..

ومن ذلك في التوراة : إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل ، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما ، وأجعله لأمة عظيمة ..

ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين : إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه

٣٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم في قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣] وتفسير الفارقليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمد وأحمد وقيل معنى الفارقليط الشافع المشفع ..

ومن ذلك في التوراة : مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون ، وبيان ذلك أن أمته يقرءون : الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة ، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار ، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك ، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من عظمائهم وخيارهم ، قال كعب : وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة ، وبكتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعاني ، فقال يا بني : قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم ، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث ، وقد أظل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه ؛ وقد قطعتها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما ، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي ، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما ، فإن الله يزيدك بهذا خيرا ، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.

فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين ، لا نبي بعده ، مولده بمكة ومهاجره بطيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمادون الذي يحمدون الله على كل شرف ، وعلى كل حال ، وتتذلل بالتكبير ألسنتهم ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم ، فلما قرأت هذا قلت في نفسي : والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه ، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة ، فقلت : هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين ، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي : إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه ، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : في نفسي : لعله لم يكن الذي كنت أظن.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم بلغني أن خليفة قام مقامه ، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي : لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر ، وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم ، وإلى ما تكون عاقبتهم. فلم أزل أقدّم ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب ، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد ، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر ، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام.

فو الله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي ، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح ، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.

وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام : يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل ، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار ، متراحمون متواصلون متباذلون ، فقال له عمر : ثكلتك أمك ، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى ، والذي يسمع ما تقول إنه لحق ، فقال عمر : الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم برحمته التي وسعت كل شيء.

ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان من ملوك العرب بالشام ، فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم ، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل.

يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله ، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي.

ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام ، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي ، فذهبت أنازعه فقيل لي : لا تفعل فإنه لا نصيف

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لك منه ، فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى ، فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي : أنقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع ، فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه ، فقال : أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا ، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت : واثكل أمك يا عمر ، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير ، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت : أضللت أصحابي ، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف ، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني ، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه ، فقال : قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني ، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير ، وتغلبنا عليه ، فقلت : يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب ، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب ، فقال : أنت والله صاحبنا ، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه ، فقلت : يا هذا إنك قد صنعت إليّ صنيعة فلا تكررها ، فقال إنما هو كتاب في رق ، فإن كنت صاحبنا فذلك ، وإلا لم يضرك شيء فكتب (١) له على ديره وما فيه ، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتانا فقال لي : أتراها فقلت : نعم ، قال سر عليها ، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك ، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال ، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز ، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم.

فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه ، فقال : قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه ، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال : هل عندكم من نفع للمسلمين ، قال : نعم يا أمير المؤمنين ، قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال : نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه.

وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ؛ والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.

ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أرسله إلى عمان واليا عليها ، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له : أنشدك بالله ، من أرسلك إلينا؟ فقال له : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال اليهودي : والله إنك لتعلم أنه رسول الله ؛ قال عمرو : نعم ، فقال اليهودي :

__________________

(١). الصواب : فكتبت.

٣٠٨

بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ

________________________________________________________

لئن كان حقا ما تقول ؛ لقد مات اليوم. فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات فيه. ثم خرج فأخبر بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبارك وشرف وكرم.

ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه ، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود ، ثم ائتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلموه ، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر ، وقال : إنه ليطوف بالأسواق ، ويمشي وحده ، ولا شرطة معه ، ويرغب من يراه منه (١) فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة ، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله ، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته ، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه ، أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال ، وأن الخبائث هي الحرام ، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات ، وأن الخبائث هي المستقذرات : كالخنافس والعقارب وغيرها (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات ، كقتل الأنفس في التوبة ؛ وقطع موضع النجاسة من الثوب ، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم ، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك (وَعَزَّرُوهُ) أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) هو القرآن أو الشرع كله ، ومعنى معه مع بعثه ورسالته (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) تفسيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة (٢)» فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) هي الكتب التي أنزلها الله عليه

__________________

(١). كذا في الأصل المطبوع ولعل في الكلام تصحيفا.

(٢). رواه أحمد عن أبي ذر وأوله : أوتيت خمسا ج ٥ ص ١٩١ ورواه صاحب عيون الأثر ج ١ ص ٨١ بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

٣٠٩

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا

________________________________________________________

وعلى غيره من الأنبياء (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عصره (وَقَطَّعْناهُمُ) أي فرقناهم (أَسْباطاً) السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ، وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز ، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا مفردا ، وقال الزمخشري على التمييز ، لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط (فَانْبَجَسَتْ) أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس : أول الانفجار (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في [البقرة : ٥٧].

تنبيه : وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله : وإذ قلنا ادخلوا ، وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله : وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء ، فقال الزمخشري : لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض ، وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها (وَسْئَلْهُمْ) أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ (عَنِ الْقَرْيَةِ) قيل : هي إيلياء ، وقيل : هي طبرية ، وقيل : مدين (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة منه أو على شاطئه (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يتجاوزون حدّ الله فيه ، وهو اصطيادهم يوم السبت «وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها ، وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم ؛ إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت ، وتغيب عنهم في سائر الأيام ، وسبتهم مصدر من قولك : سبت اليهودي يسبت إذا عظّم يوم السبت ، ومعنى شرّعا : ظاهرة قريبة منهم يقال : شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون ، أو بدل من إذ يعدون (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) للآية : افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق : فرقة عصت يوم السبت بالصيد ، وفرقة نهت عن ذلك

٣١٠

مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ

________________________________________________________

واعتزلت القوم ، وفرقة سكتت واعتزلت ، فلم تنه ولم تعص ، وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية : لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم ، فقالت الناهية : ننهاهم معذرة إلى الله ولعلهم يتقون ، فهلكت الفرقة العاصية ، ونجت الناهية ، واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد (١) ، وقرئ بالهمز وتركه ، وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ذكر في [البقرة : ٦٥] والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة ، وقيل : فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا ، والعذاب البئيس هو المسخ (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) عزم ، وهو من الإيذان بمعنى الإعلام (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) الآية أي يسلط عليهم ، ومن ذلك أخذ الجزية ، وهوانهم في جميع البلاد (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي فرّقناهم في البلاد ، ففي كل بلدة فرقة منهم ، فليس لهم إقليم يملكونه (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدّمين منهم (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي بالنعم والنقم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي حدث بعدهم قوم سوء ، والخلف بسكون اللام ذم ، وبفتحها مدح ، والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين ، وقيل : المراد النصارى (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي عرض الدنيا (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ذلك اغترار منهم وكذب (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم (مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) إشارة إلى كذبهم في قولهم : سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له ، أو تكون أن حرف عبارة وتفسير (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) قرئ بالتشديد والتخفيف ؛ وهما بمعنى واحد ، وإعراب الذين عطف على الذين يتقون ، أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين ، وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير ، لأن المصلحين هم

__________________

(١). بيس : قراءة نافع. وبئس : قراءة ابن عامر وقرأ أبو بكر عن عاصم : بيأس. والباقون : بئيس.

٣١١

وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ

________________________________________________________

الذين يمسكون بالكتاب (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم : خذوا التوراة حين أبوا من أخذها ، وقد تقدم في [البقرة : ٩٣] تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) الآية : في معناها قولان :

أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم ، فأقروا بذلك والتزموه ، روى هذا المعنى عن النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.

والثاني أن ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال لهم : ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال : بلى أنت ربنا ، والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به ، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها ، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر ، وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم ، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم ، والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله : ولقد خلقناكم ثم صورناكم : الآية ، وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم في صورته ، وقال الزمخشري : إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود ، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه (قالُوا بَلى شَهِدْنا) قولهم بلى : إقرار منهم بأن الله ربهم ، فإن تقديره : أنت ربنا ، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات ، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب ، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي ، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية : لو قالوا : نعم لكفروا ، وأما قولهم : شهدنا ؛ فمعناه شهدنا بربوبيتك ، فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله ، وقيل : إن شهدنا من قول الله والملائكة ؛ أي شهدنا على بني آدم باعترافهم (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) في موضع مفعول من أجله : أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا ، فهو من قول الله لا من قولهم ، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم ، وبالياء (٢) على الإخبار عنهم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال ابن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر : ذريّاتهم ، وقرأ أهل مكة والكوفة : ذريّتهم.

(٢). هي قراءة أبو عمرو.

٣١٢

مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ

________________________________________________________

موسى عليه‌السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله ، فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل ، وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم ، فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون : سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى ، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول : هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة ، وقيل : كان عنده من صحف إبراهيم ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي : هو أمية بن أبي الصلت ، وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر ، ثم رجع عن ذلك ومات كافرا ، وفيه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ، فالآية على هذا ما كان عنده من العلم ، والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي صفته كصفة الكلب ، وذلك غاية في الخسة والرداءة (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب ، وهي حالة دائمة للكلب ، ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه ، فهو يلهث على كل حال ، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال ، فضلالته على كل حال كما أنّ لهث الكلب على كل حال. وقيل : إنّ ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه ، وكصفة الرجل المشبه به ؛ لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا ، وإن تركوا لم يهتدوا ، وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم ، كما أنّ الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ) الآية : قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم ، فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله : هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي (لا يُبْصِرُونَ بِها) ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة ،

٣١٣

الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ

________________________________________________________

وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة (١). وسبب نزول الآية : أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة ، والرحمن أخرى ، فقال : يزعم محمد أنّ الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة ، فنزلت الآية مبينة أنّ تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد ، والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد (فَادْعُوهُ بِها) أي سموه بأسمائه ، وهنا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى ، فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث ، فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة ، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره ، ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث ، وقد ورد في كتاب الترمذي عدّتها أعني تعيين التسعة والتسعين ، واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو موقوفة على أبي هريرة ، وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قيل : معنى ذروا : اتركوهم ، لا تحاجوهم ولا تتعرّضوا لهم ، فالآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل : معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله : وذرني والمكذبين [المزمل : ١١] وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله : هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه ، وقيل : تسميته بما لا يليق ، وقيل : تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله ، والعزى من العزيز (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ) الآية روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هذه الآية لكم ، وقد تقدّم مثلها لقوم موسى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الاستدراج استفعال من الدرجة ، أي : نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون ، والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) يعني بصاحبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون ، ويحتمل أن يكون قوله : ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به ، والمعنى : أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبكم من جنة ، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله : أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبارا استئنافا لقوله : ما بصاحبكم من جنة ، والأوّل أحسن (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) يعني نظر استدلال (ما خَلَقَ اللهُ) عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء : جميع المخلوقات إذ

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٦٦١.

٣١٤

أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ

________________________________________________________

جميعها دليل على وحدانية خالقها (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أن الأول مخففة من الثقيلة ، وهي عطف على الملكوت ، وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى ، وأجلهم يعني : موتهم ، والمعنى لعلهم يموتون عن قريب ، ينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) الضمير للقرآن (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) السائلون اليهود أو قريش ، وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب (أَيَّانَ مُرْساها) معنى أيّان : متى ، ومرساها : وقوعها وحدوثها ، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) معنى يجليها يظهرها ، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء ، واللام في لوقتها ظرفية : أي عند وقتها ، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في معناه ثلاثة أقوال : الأوّل ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها ، والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض ، والثالث معنى ثقلت : أي ثقل علمها أي خفي (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) الحفيّ بالشيء هو المهتم به المعتني به ، والمعنى : يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها وقيل : المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم ، فعنها على هذين القولين يتعلق بيسألونك ، وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) براءة من علم الغيب ، واستدلال على عدم علمه (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير ، واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير والشر ، وقيل : إن قوله وما مسني السوء : استئناف إخبار ، والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين وأنذرهم ، وخص بهم البشارة والنذارة ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ، ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين ، والأوّل أحسن (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (زَوْجَها) يعني حوّاء (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) يميل إليها ويستأنس بها (تَغَشَّاها) كناية عن الجماع (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى والكرب ، وقيل : الحمل الخفيف المني في فرجها (فَمَرَّتْ بِهِ) قيل : معناه استمرّت به إلى حين ميلاده ، وقيل معناه قامت وقعدت (فَلَمَّا

٣١٥

(١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٢) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

________________________________________________________

أَثْقَلَتْ) أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي ولدا صالحا سالما في بدنه (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا : جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك فيما آتاهما : أي فيما آتى أولادهما وذريتهما ، وقيل : إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها : إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث ، فسأخلصه لك ، وكان اسم إبليس الحارث ، وإن عصيتني في ذلك قتلته ، فأخبرت بذلك آدم ، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة ، فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك ، فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته ، فقوله : جعلا له شركاء فيما آتاهما : أي في التسمية لا غير ، لا في عبادة غير الله ، والقول الأول أصح لثلاثة أوجه : أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره ، وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بضمير الجمع ، والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح ، وهو غير موجود في تلك القصة ، وقيل : من نفس واحدة قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي : سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف ، وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم ، والآخر أن قوله : وجعل منها زوجها ، فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم ، ولا يصح في زوجة قصي (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم ، والمراد بقوله : ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله ، والمعنى : أنها مخلوقة غير خالقة ، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم ، ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة ، فكيف يكونون آلهة (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) (١) يعني : أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى أو إلى أن تهدي ، لأنها جمادات (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) تأكيد وبيان لما قبلها ، فإن قيل : لم قال : أم أنتم صامتون فوضع الجملة الاسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم؟ فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة ، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) رد على المشركين بأن آلهتهم عباد ؛

__________________

(١). قرأ نافع يتبعوكم بالتخفيف وقرأ الباقون : بالتشديد يتّبعوكم.

٣١٦

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (١٩٧) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ

________________________________________________________

فكيف يعبد العبد مع ربه (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا) أمر على جهة التعجيز (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) وما بعده : معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة ، ومن كان كذلك : لا يكون إلها ، فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة ؛ وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام ، لأن المشركين مقرّون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش ، ولا تبصر ، ولا تسمع ، فلزمته الحجة ، والهمزة في قوله «ألهم» للاستفهام مع التوبيخ ، وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة ، ومعنى بل وليست عاطفة (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) المعنى : استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد عليّ ، ولا تؤخروني ، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي ، ومقصد الآية الردّ عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة ، وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده ، وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الآية : أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني ، ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي ، ثم وصف الله بأنه الذي نزّل الكتاب ، وبأنه يتولى الصالحين ، وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال الكتاب عليه ، وبأن الله تولى حفظه ، ومن تولى حفظه فهو من الصالحين ، والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) الآية : ردّ على المشركين ، وقد تقدّم معناه (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم ، وردّا على من عبدها ، فإنها جمادات لا تسمع شيئا ، فيكون المعنى كالذي تقدّم ، أو يريد الكفار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به ، لإفراط نفورهم ، أو لأن الله طبع على قلوبهم (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إن كان هذا من وصف الأصنام ، فقوله : ينظرون مجاز ، وقوله : لا يبصرون حقيقة ، لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا ، وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون (خُذِ الْعَفْوَ) فيه قولان : أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم ، لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم ، وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر :

خذي العفو منّي تستديمي مودتي

والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم ، وذلك قبل فرض الزكاة ، فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)

٣١٧

الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ

________________________________________________________

أي بالمعروف وهو فعل الخير ، وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد ، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي لا تكافي السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم ، ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم جبريل عنها ، فقال : لا أدري حتى أسأل ؛ ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وعن جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بمكارم الأخلاق ، وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح ، وقيل كانت مداراة للكفار ، ثم نسخت بالقتال (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب ، فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك ، كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به : نعوذ بالله من الشيطان الرجيم (١) (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) معناه لمة منه ، كما جاء : «إنّ للشيطان لمة وللملك لمة» (٢) ، ومن قرأ طائف بالألف ، فهو اسم فاعل ومن قرأ طيف (٣) بياء ساكنة ، فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدّد ، كميّت وميت (تَذَكَّرُوا) حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله ، أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه ، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) هو من بصيرة القلب (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) الضمير في إخوانهم للشياطين ، وأريد بقوله : طائف من الشيطان : الجنس ، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار ، ومعنى يمدّونهم : يكونون مددا لهم : يعضدونهم ، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار ، وضمير الفاعل للشيطان ، ويحتمل أن يريد بالإخوان : الشياطين ، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار ، والمعنى على الوجهين : أنّ الكفار يمدّهم الشيطان وقرئ يمدّونهم بضم الياء (٤) وفتحها ، والمعنى واحد ، وفي الغيّ : يتعلق بيمدّونهم ، وقيل : يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله ، أو في الشيطان (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار ، أو لا يقصر الكفار عن غيهم ، وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) الضمير في لم تأتهم للكفار ، ولو لا هنا عوض ،

__________________

(١). رواه أحمد عن معاذ بن جبل بألفاظ قريبة ج ٥ ص ٣٠٤.

(٢). ذكره المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والنسائي وابن حبان عن مسعود الترمذي : حسن غريب.

(٣). هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو ومعنى : طيف : خاطرة من الشيطان.

(٤). هي قراءة نافع فقط.

٣١٨

مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)

________________________________________________________

وفي معنى اجتبيتها قولان : أحدهما اخترعتها من قبل نفسك ، فالآية على هذا من القرآن ، وكان النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم يتأخر عنه الوحي أحيانا ، فيقول الكفار : هلا جئت بقرآن من قولك ، والآخر معناه : طلبتها من الله ، وتخيرتها عليه ، فالآية على هذا معجزة ، أي يقولون : اطلب المعجزة من الله (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) معناه : لا أخترع القرآن على القول الأول ، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني (هذا بَصائِرُ) أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة ، والثاني أنه الإنصات للخطبة ، والثالث : أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين : أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه ، والثاني أن الآية مكية ، والخطبة إنما شرعت بالمدينة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قال بعضهم : الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان ، أو الذكر باللسان سرا ، فعلى الأول يكون قوله : ودون الجهر من القول ؛ عطف متغاير أي حالة أخرى ، وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل ؛ قيل : المراد صلاة الصبح والعصر ، وقيل : فرض الخمس والأظهر الإطلاق (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم الملائكة عليهم‌السلام ، وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله ، والله أعلم.

٣١٩

سورة الأنفال

مدنية إلا من آية ٣٠ إلى غاية آية ٣٦ فمكية

وآياتها ٧٥ نزلت بعد البقرة

 (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)

________________________________________________________

سورة الأنفال

نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسائلون هم الصحابة ، والأنفال هي الغنائم ، وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش تحرسه ، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم ، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها ، واختلفوا فيما بينهم ، فنزلت الآية ومعناها : يسألونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل : الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه ، وقد اختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك؟ أو من الأربعة الأخماس ، أو من رأس الغنيمة ، قبل إخراج الخمس (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي الحكم فيها لله والرسول لا لكم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي اتفقوا وائتلفوا ، ولا تنازعوا ، وذات هنا بمعنى : الأحوال ، قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته. وقال الزبيري : إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) يريد في الحكم في الغنائم ، قال عبادة بن الصامت : نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا ، فنزع الله الأنفال من أيدينا ، وجعلها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمها على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الآية : أي الكاملو الإيمان ، فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت وقرأ أبي بن كعب : فزعت (زادَتْهُمْ إِيماناً) أي قوي تصديقهم ويقينهم ، خلافا لمن قال : إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وإن زيادته إنما هي بالعمل (لَهُمْ دَرَجاتٌ) يعني في الجنة (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) فيه ثلاث تأويلات :

٣٢٠