التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ

________________________________________________________

المبلغ والطريق الآمن. وقيل : الاستطاعة الزاد والراحلة ، وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب ، وروي في ذلك حديث ضعيف (وَمَنْ كَفَرَ) قيل : المعنى من لم يحج ، وعبر عنه بالكفر تغليظا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ترك الصلاة فقد كفر ، وقيل : أراد اليهود لأنهم لا يحجّون ، وقيل : من زعم أن الحج ليس بواجب (لِمَ تَكْفُرُونَ) توبيخ اليهود (لِمَ تَصُدُّونَ) توبيخ أيضا. وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم (سَبِيلِ اللهِ) هنا الإسلام (تَبْغُونَها عِوَجاً) الضمير يعود على السبيل ، أي تطلبون لها الاعوجاج (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي تشهدون أن الإسلام حق (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً) الآية : لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) إنكار واستبعاد (حَقَّ تُقاتِهِ) قيل : نسخها ؛ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، [التغابن / ١٦] وقيل : لا نسخ إذ لا تعارض ، فإنّ العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزا من الإكراه وشبهه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) أي تمسكوا ، والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد ، والمراد به هنا : القرآن ، وقيل : الجماعة (وَلا تَفَرَّقُوا) نهي عن التدابر والتقاطع ، إذ ؛ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج ، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم ، ويحتمل أن يكون نهيا عن التفرق في أصول الدين ، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة ، إلى أن جمعهم الله بالإسلام (شَفا حُفْرَةٍ) أي حرف حفرة وذلك تشبيه ، لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) الآية : دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، وقوله : منكم : دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض ، وقيل : إنها لبيان الجنس ، وأن المعنى : كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب ، على حسب الأحوال (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) هم اليهود والنصارى ، نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم ، وورد في الحديث أنه عليه‌السلام قال : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها

١٦١

لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا

________________________________________________________

في النار إلّا واحدة ، قيل ومن تلك الواحدة؟ قال : من كان على ما أنا وأصحابي عليه (١). (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) العامل فيه محذوف وقيل : عذاب عظيم (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي يقال لهم : أكفرتم؟ والخطاب لمن ارتد عن الإسلام ، وقيل : للخوارج ، وقيل : لليهود ؛ لأنهم آمنوا بصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكورة في التوراة ثم كفروا به لما بعث (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله وكان الله غفورا رحيما ، وقيل : كنتم في علم الله ، وقيل : كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة ، وقيل : كنتم بمعنى أنتم ، والخطاب لجميع المؤمنين ، وقيل : للصحابة خاصة (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي بالكلام خاصة ، وهو أهون المضرة (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) إخبار بغيب ظهر في الوجود صدقه (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) إخبار مستأنف غير معطوف على يولوكم ، وفائدة ذلك أن توليهم الأدبار مقيد بوقت القتال ، وعدم النصر على الإطلاق ، وعطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء ، وثم لترتيب الأحوال ؛ لأن عدم نصرهم على الإطلاق أشد من توليهم الأدبار حين القتال (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) الحبل هنا العهد والذمة (لَيْسُوا سَواءً) أي : ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي قائمة بالحق ، وذلك فيمن أسلم من اليهود : كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعيد وأخيه أسد وغيرهم (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يدل أن تلاوتهم للكتاب في الصلاة (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [بالتاء حسب قراءة المؤلف] أي لن تحرموا ثوابه (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) الآية : تشبيه لنفقة الكافرين بزرع أهلكته ريح باردة ، فلن ينتفع به أصحابه. فكذلك لا ينتفع الكفار

__________________

(١). رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة كما أخرجه أحمد في المسند ج ٢ ص ٤٣٨.

١٦٢

صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

________________________________________________________

بما ينفقون. وفي الكلام حذف تقديره : مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، وإنما احتيج لهذا لأن ما ينفقون ليس تشبيها بالريح ، إنما هو تشبيه بالزرع الذي أهلكته الريح (صِرٌّ) أي برد (حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي عصوا الله فعاقبهم بإهلاك حرثهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) الضمير للكفار ، أو المنافقين ، أو لأصحاب الحرث ، والأول أرجح ، لأن قوله أنفسهم يظلمون فعل حال يدل على أنه للحاضرين (بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أي أولياء من غيركم فالمعنى : نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم. وقيل : لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلا من النصارى لا أحد أحسن خطا منه ، أفلا يكتب عنك : قال إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي : لا يقصرون في إفسادكم ، والخبال : الفساد (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي تمنوا مضرتكم ، وما مصدرية وهذه الجملة والتي قبلها صفة للبطانة أو استئناف (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي بكل كتاب أنزله الله ، واليهود لا يؤمنون بقرآنكم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ، والأنامل : جمع أنملة بضم الميم وفتحها (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) تقريع وإغاظة ، وقيل : دعاء (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) الحسنة هنا : الخيرات من النصر والرزق وغير ذلك ، والسيئة ضدها (لا يَضُرُّكُمْ) من الضير بمعنى الضرّ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) نزلت في غزوة أحد ، وكان غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) تنزلهم وذلك يوم السبت حين حضر القتال ، وقيل : ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة ، وذلك ضعيف ؛ لأنه لا يقال : غدوت فيما بعد الزوال إلّا على المجاز ، وقيل : ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف ؛ لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال ؛ إلّا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة (مَقاعِدَ) مواضع وهو جمع مقعد (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج ، لما رأوا كثرة المشركين وقلة المؤمنين هموا بالانصراف ؛ فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ تَفْشَلا) الفشل في البدن هو الإعياء ، والفشل في الرأي هو العجز

١٦٣

الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسَارِعُوا إِلَى

________________________________________________________

والحيرة وفساد العزم (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أي مثبتهما ، وقال جابر بن عبد الله : ما وددنا أنها لم تنزل لقوله : والله وليهما (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) تذكير بنصر الله لهم يوم بدر لتقوى قلوبهم (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) الذلة هي قلة عددهم وضعف عددهم ؛ كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، ولم يكن لهم إلّا فرس واحد ، وكان المشركون ما بين التسعمائة والألف ، وكان معهم مائة فرس. فقتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون وانهزم سائرهم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) متعلق بنصركم أو باتقوا ؛ والأول أظهر (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) كان هذا القول يوم بدر ، وقيل : يوم أحد ، فالعامل في إذ على الأول محذوف ، وعلى الثاني : بدل من إذ غدوت (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) تقرير ، جوابه بلى ، وإنما جاوب المتكلم لصحة الأمر وبيانه كقوله : قل (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ)(وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) الضمير للمشركين ، والفور السرعة : أي من ساعتهم وقيل : المعنى من سفرهم (بِخَمْسَةِ آلافٍ) بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم ، فإن كان هذا يوم بدر ، فقد قاتلت فيه الملائكة ، وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله : إن تصبروا وتتقوا ، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو وكسرها أي معلمين ، أو معلمين أنفسهم أو خيلهم ، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء ، إلّا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء ، وقيل : كانت عمائمهم صفر ، وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب وقيل : كانوا على خيل بلق (وَما جَعَلَهُ) الضمير عائد على الإنزال ، أو الإمداد (وَلِتَطْمَئِنَ) معطوف على بشرى لأن هذا الفعل بتأويل المصدر ، وقيل : يتعلق بفعل مضمر يدل عليه جعله (لِيَقْطَعَ) يتعلق بقوله : ولقد نصركم الله أو بقوله : وما النصر (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة اعتراضية بين المعطوفين ، ونزلت لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة على أحياء قبائل من العرب فترك الدعاء عليهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه يسلمون (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) كانوا يزيدون كل ما حل عاما بعد عام (سارِعُوا) بغير واو (١) استئناف ، وبالواو عطف على ما تقدم

__________________

(١). سارعوا بغير واو قراءة نافع وابن عامر.

١٦٤

مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن

________________________________________________________

(إِلى مَغْفِرَةٍ) أي إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة (عَرْضُهَا) قال ابن عباس : تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض ، كما تقرن الثياب فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلّا الله ؛ وقيل : ليس العرض هنا خلاف الطول ، وإنما المعنى سعتها كسعة السموات والأرض (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في العسر واليسر (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حذف مفعوله وتقديره : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) خطاب للمؤمنين تأنيسا لهم وقيل : للكافرين تخويفا لهم (فَانْظُروا) من نظر العين عند الجمهور وقيل : هو بالكفر (وَلا تَهِنُوا) تقوية لقلوب المؤمنين (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إخبار بعلو كلمة الإسلام (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) الآية معناها : إن مسكم قتل أو جراح في أحد فقد مس الكفار مثله في بدر ، وقيل : قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه ، فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم ، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي (نُداوِلُها) تسلية أيضا عما جرى يوم أحد (وَلِيَعْلَمَ) متعلق بمحذوف تقديره : أصابكم ما أصابهم يوم أحد ؛ ليعلم والمعنى ليعلم ذلك علما ظاهرا لكم تقوم به الحجة (شُهَداءَ) من قتل من المسلمين يوم أحد (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) أي : يظهر ، وقيل : يميز ، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد ، والمعنى أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين ، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين أي يهلكهم (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه ، وهذه الآية وما بعدها معاتبة لقوم من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر ، فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد ، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد وهو سبب الموت ، وقيل : إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) المعنى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول كسائر الرسل ؛ قد بلغ الرسالة كما بلغوا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته ، وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد : إنّ محمدا قد مات ، فتزلزل بعض الناس (أَفَإِنْ ماتَ) دخلت

١٦٥

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

________________________________________________________

ألف التوبيخ على جملة الشرط والجزاء ، ودخلت الفاء لتربط الجملة الشرطية بالجملة التي قبلها ، والمعنى أن موت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو قتله لا يقتضي انقلاب أصحابه على أعقابهم ، لأن شريعته قد تقررت وبراهينه قد صحت ، فعاتبهم على تقدير أن لو صدر منهم انقلاب لو مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو قتل وقد علم أنه لا يقتل ، ولكن ذكر ذلك لما صرخ به صارخ ووقع في نفوسهم (الشَّاكِرِينَ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الثابتون على دينهم (كِتاباً مُؤَجَّلاً) نصب على المصدر لأنّ المعنى : كتب الموت كتابا ، وقال ابن عطية : نصب على التمييز (نُؤْتِهِ مِنْها) في ثواب الدنيا ، مقيد بالمشيئة بدليل قوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء / ١٨] (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) الفعل مسند ، إلى ضمير النبيّ ومعه ربيون على هذا في موضع الحال ، وقيل : إنه مسند إلى الربيين ، فيكون ربيون على هذا مفعولا لما لم يسم فاعله فعلى الأوّل يوقف على قوله : قتل ، ويترجح الأوّل : بما صرخ به الصارخ يوم أحد : إنّ محمدا قد مات ، فضرب لهم المثل بنبيّ قتل ، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل قط نبي في محاربة (رِبِّيُّونَ) علماء مثل ربانيين ، وقيل : جموع كثيرة (فَما وَهَنُوا) الضمير لرِبِّيُّونَ على إسناد القتل للنبي ، وهو لم يق منهم على إسناد القتل إليهم (وَمَا اسْتَكانُوا) أي : لم يذلوا للكفار قال بعض النحاة : الاستكان مشتق من السكون ، ووزنه افتعلوا مطلت فتحة الكاف فحدث عن مطلها ألف وذلك كالإشباع ، وقيل : إنه من كان يكون ، فوزنه استفعلوا ، وقوله تعالى فما وهنوا وما بعده : تعريض لما صدر من بعض الناس يوم أحد (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي في الحرب (ثَوابَ الدُّنْيا) النصر (ثَوابِ الْآخِرَةِ) الجنة (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) هم المنافقون الذين قالوا في قضية أحد ما قالوا ، وقيل : مشركوا قريش وقيل : اليهود (الرُّعْبَ) قيل : ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأحد ، فرجعوا إلى مكة من غير سبب ، وقيل : لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين ، فألقى الله الرعب في قلوبهم (١) ، فأمسكوا ، والآية تتناول جميع الكفار

__________________

(١). في السيرة : لقد خرج المسلمون وهم مثخنون بالجراح خلف القرشيين وأقاموا في مكان (حمراء الأسد)

١٦٦

وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)

________________________________________________________

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نصرت بالرعب (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعد المسلمين عن الله بالنصر ، فنصرهم الله أولا ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد أمر الرماة أن يثبتوا في مكانهم ؛ ولا يبرحوا فلما رأوا المشركين قد انهزموا طمعوا في الغنيمة وأتبعوهم ، وخالفوا ما أمروا به من الثبوت في مكانهم ، فانقلبت الهزيمة على المسلمين (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي : تقتلونهم قتلا ذريعا يعني في أول الأمر (وَتَنازَعْتُمْ) وقع النزاع بين الرماة فثبت بعضهم كما أمروا ولم يثبت بعضهم (وَعَصَيْتُمْ) أي خالفتم ما أمرتم به من الثبوت ، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم وعظا للجميع ، وسترا على من فعل ذلك وجواب إذ محذوف تقديره : لانهزمتم (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) الذين حرصوا على الغنيمة معه (لِيَبْتَلِيَكُمْ) معناه لينزل بكم ما نزل من القتل والتمحيص (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم ، لو لا عفو الله عنهم ، فمعناه ؛ لقد أبقى عليكم ، وقيل : هو عفو عن الذنب (إِذْ تُصْعِدُونَ) العامل في إذ عفا ، فيوصل إذ تصعدون مع ما قبله ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمر (وَلا تَلْوُونَ) مبالغة في صفة الانهزام (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إليّ عباد الله ، وهم يفرون (فِي أُخْراكُمْ) من خلفكم وفيه مدح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنّ الأخرى هي موقف الأبطال (فَأَثابَكُمْ) أي جازاكم (غَمًّا بِغَمٍ) قيل : أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى المؤمنين ؛ إذ عصيتم وتنازعتم ؛ وقيل أثابكم غما متصلا بغم ، وأحد الغمين : ما أصابهم من القتل والجراح والآخر : ما أرجف به من قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلى ما فاتَكُمْ) من النصر والغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والجراح والانهزام (أَمَنَةً نُعاساً) قال ابن مسعود : نعسنا يوم أحد ، والنعاس في الحرب أمان من الله (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) هم المؤمنون المخلصون ، غشيهم النعاس تأمينا لهم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) هم المنافقون كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان ، والمشركون (غَيْرَ الْحَقِ) معناه

__________________

ثلاثة أيام فلما علم القرشيون بذلك انسحبوا عائدين إلى مكة. وسيذكرها المؤلف عند تفسيره للآية «١٧٢» من هذه السورة.

١٦٧

يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)

________________________________________________________

يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن الله لا ينصرهم ، و (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) بدل وهو على حذف الموصوف تقديره ظن المودة الجاهلية (١) ، أو الفرقة الجاهلية (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) قالها عبد الله بن أبي بن سلول ، والمعنى : ليس لنا رأي ، ولا يسمع قولنا أو : لسنا على شيء من الأمر الحق ، فيكون قولهم على هذا كفرا (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) يحتمل أن يريد الأقوال التي قالوها أو الكفر (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) قاله معتب بن قشير (٢) ، ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) الآية : رد عليهم ، وإعلام بأن أجل كل إنسان إنما هو واحد ، وأن من لم يقتل يموت بأجله ، ولا يؤخر ، وأن من كتب عليه القتل لا ينجيه منه شيء (وَلِيَبْتَلِيَ) يتعلق بفعل تقديره فعل بكم ذلك ليبتلي (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا) الآية : نزلت فيمن فر يوم أحد (اسْتَزَلَّهُمُ) أي طلب منهم أن يزلوا ، ويحتمل أن يكون معناه : أزلهم ؛ أي أوقعهم في الزلل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها ؛ بأن مكن الشيطان من استزلالهم (عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي غفر لهم ما وقعوا فيه من الفرار (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي المنافقين (لِإِخْوانِهِمْ) هي أخوة القرابة ، لأن المنافقين كانوا من الأوس والخزرج ، وكان أكثر المقتولين يوم أحد منهم ، ولم يقتل من المهاجرين إلّا أربعة (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا وإنما قال : إذا التي للاستقبال مع قالوا ، لأنه على حكاية الحال الماضية (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز وزنه فعّل بضم الفاء وتشديد العين (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) اعتقاد منهم فاسد ؛ لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يقتلوا ، وهذا قول من لا يؤمن بالقدر والأجل المحتوم ، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجلين (لِيَجْعَلَ) متعلق بقالوا. أي قالوا ذلك فكان حسرة في قلوبهم ، فاللام لام الصيرورة لبيان العاقبة (ذلِكَ) إشارة إلى قولهم واعتقادهم الفاسد الذي أوجب لهم الحسرة ، لأن الذي يتيقن بالقدر والأجل تذهب عنه

__________________

(١). ربما في النص تحريف ، وفي الطبري يقول : ظن أهل الشرك.

(٢). وهو أحد بني عمرو بن عوف وكان منافقا.

١٦٨

وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)

________________________________________________________

الحسرة (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) رد على قولهم واعتقادهم (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) الآية إخبار أن مغفرة الله ورحمته لهم إذا قتلوا وماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) الآية إخبار أن من مات أو قتل فإنه يحشر إلى الله (فَبِما رَحْمَةٍ) ما زائدة للتأكيد لانفضوا أي تفرقوا (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يختص بحق الله (وَشاوِرْهُمْ) المشاورة مأمور بها شرعا ، وإنما يشاور النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم الناس في الرأي في الحروب وغيرها ، لا في الأحكام الشرعية ، وقال ابن عباس : وشاورهم في بعض الأمر (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها ، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها ، وهو من أعلى المقامات ، لوجهين : أحدهما قوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) والآخر : الضمان الذي في قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق / ٣] وقد يكون واجبا لقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة / ٢٣] فجعله شرطا في الإيمان ، والظاهر قوله جل جلاله ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران / ١٢٢] فإن الأمر محمول على الوجوب.

وأعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب : الأولى : أن يعتمد العبد على ربه ، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له ، وقيامه بمصالحه ، والثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه ، فإنه لا يعرف سواها ، ولا يلجأ إلّا إليها ، والثالثة : أن يكون العبد مع ربه : كالميت بين يدي الغاسل ، قد أسلم نفسه إليه بالكلية ، فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه ، بخلاف صاحب الثانية ، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنيّة على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة / ١٦٣] فهي تقوى بقوته ، وتضعف بضعفه ، فإن قيل : هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام : أحدهما : سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى : فهذا لا يجوز تركه : كالأكل لدفع الجوع ، واللباس لدفع البرد. والثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش ، وشبه ذلك ، فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب ، لا من أعمال البدن ، ويجوز تركه لمن قوي عليه ، (١) والثالث : سبب موهوم بعيد ، فهذا يقدم فعله في التوكل ،

__________________

(١). رحم الله المصنف كيف غفل عن أن السعي مطلوب ، وهو لا ينافي التوكل إلا لمن كان غافلا عن ربه الذي بيده نجاح الأسباب وفشلها.

١٦٩

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)

________________________________________________________

ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية ، فإن المتوكل له مراد واختيار ، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه ، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار ، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى ، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) هو من الغلول وهو أخذ الشيء خفية من المغانم وغيرها ، وقرئ (١) بفتح الياء وضم الغين ، ومعناه تبرئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغلول ، وسببها أنه فقدت من المغانم قطيفة حمراء ، فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها ، وقرأ نافع وغيره بضم الياء وفتح الغين ، أي ليس لأحد أن يغل نبيا : أي يخونه في المغانم ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا من الأمر ، لشنعة الحال مع النبي ؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته ، وقيل معنى هذه القراءة : أن يوجد غالا كما تقول أحمدت الرجل ، إذا أصبته محمودا ، فعلى هذا القول يرجع معنى هذه القراءة ، إلى معنى فتح الياء (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَ) وعيد لمن غل بأن يسوق يوم القيامة على رقبته الشيء الذي غل ، وقد جاء ذلك مفسرا في الحديث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لا ألفين أحدكم على رقبته فرس لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع لا ألفين أحدكم على رقبته صامت ، لا ألفين أحدكم على رقبته إنسان فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك (٢) (أَفَمَنِ اتَّبَعَ) الآية : فقيل : إن الذي أتبع رضوان الله. من لم يغلل ، والذي باء بالسخط من غل ، وقيل الذي أتبع الرضوان : من استشهد بأحد ، والذي باء بالسخط : المنافقون الذين رجعوا عن الغزو (هُمْ دَرَجاتٌ) ذووا درجات ، والمعنى تفاوت بين منازل أهل الرضوان وأهل السخط ، أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان فإن بعضهم فوق بعض ، فكذلك درجات أهل السخط (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) الآية إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) معناه في الجنس واللسان ، فكونه من جنسهم يوجب الأنس به ، وقلة الاستيحاش منه ، وكونه بلسانهم يوجب حسن الفهم عنه ، ولكونه منهم يعرفون حسبه وصدقه وأمانته صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ويكون ، هو صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أشفق عليهم وأرحم بهم من الأجنبيين (٣) (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية. عتاب للمسلمين على كلامهم فيمن

__________________

(١). هي قراءة عاصم وابن كثير وأبي عمرو.

(٢). الحديث أخرجه أحمد بتفصيل عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥٦٢.

(٣). الأشهر جمع أجنبي على أجانب والمراد : أغراب.

١٧٠

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ

________________________________________________________

أصيب منهم يوم أحد ، ودخلت ألف التوبيخ على واو العطف ، والجملة معطوفة على ما تقدم من قصة أحد وعلى محذوف (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) قتل يوم أحد من المسلمين سبعون ، وكان قد قتل من المشركين يوم بدر سبعون ، وأسر سبعون (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) قيل : معناه أنهم عوقبوا بالهزيمة ؛ لمخالفتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد أن يقيم بالمدينة ولا يخرج إلى المشركين. فأبوا إلّا الخروج ، وقيل : بل ذلك إشارة إلى عصيان الرماة حسبما تقدم (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي جمع المسلمين والمشركين يوم أحد (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) الآية : كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرج المسلمون إلى المشركين ، فلما طلب الخروج قوم من المسلمين ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غضب عبد الله ، وقال : أطاعهم وعصانا ، فرجع ورجع معه ثلاثمائة رجل وخمسون فمشى في أثرهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري ، وقال لهم : ارجعوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا ، فقال له عبد الله بن أبيّ : ما أرى أن يكون لو علمنا أنه يكون قتال لكنا معكم (أَوِ ادْفَعُوا) أي كثروا السواد ، وإن لم تقاتلوا (الَّذِينَ قالُوا) بدل من الذين نافقوا ، أو لإخوانهم في النسب ، لأنهم كانوا من الأوس والخزرج (قُلْ فَادْرَؤُا) أي ادفعوا المعنى ردّ عليهم (بَلْ أَحْياءٌ) إعلام بأن حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة ؛ بخلاف سائر الأموات من المؤمنين ، فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) المعنى : أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم ؛ لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم ؛ فينالوا مثل ما نالوا من الشهادة (أَلَّا خَوْفٌ) في موضع المفعول أو بدل من الذين (يَسْتَبْشِرُونَ) كرر ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) صفة للمؤمنين أو مبتدأ وخبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الآية ، ونزلت في الذين خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلف المشركين بعد غزوة أحد ، فبلغ بهم إلى «حمراء الأسد» وهي على ثمانية أميال من المدينة ، وأقام بها ثلاثة أيام ، وكانوا قد أصابتهم جراحات وشدائد ، فتجلدوا وخرجوا فمدحهم الله بذلك (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآية : لما خرج رسول الله صلّى الله عليه

١٧١

الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (١٧٨)

________________________________________________________

واله وسلّم إلى حمراء الأسد بعد أحد : بلغ ذلك أبا سفيان فمر عليه ركب من عبد القيس يريدون المدينة بالميرة ؛ فجعل لهم حمل بعير من زبيب على أن يثبطوا المسلمين عن إتباع المشركين ، فخوفوهم بهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فخرجوا ، فالناس الأول ركب عبد القيس ، والناس الثاني مشركو قريش وقيل : نادى أبو سفيان يوم أحد : موعدنا ببدر في القابل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شاء الله فلما كان العام القابل ؛ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بدر للميعاد ، فأرسل أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي ليثبط المسلمين ، فعلى هذا الناس الأول نعيم ، وإنما قيل له : الناس وهو واحد : لأنه من جنس الناس : كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا (فَزادَهُمْ) الفاعل ضمير المفعول ، وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص ، فمعناه هنا قوة يقينهم وثقتهم بالله (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره ؛ وهي التي قالها إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار ، ومعنى حسبنا الله : كافينا وحده فلا نخاف غيره ، ومعنى : ونعم الوكيل : ثناء على الله وأنه خير من يتوكل العبد عليه ويلجأ إليه (فَانْقَلَبُوا) أي رجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بخروجهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) المراد هنا أبو سفيان ، أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أبو إبليس ، وذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره وما بعده مستأنف ، أو الشيطان نعت وما بعده خبر (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه وهم الكفار ، فالمفعول الأول محذوف ويدل عليه قوله : فلا تخافوهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، وقيل المعنى يخوف المنافقين وهم أولياؤه من كفار قريش ، فالمفعول الثاني على هذا محذوف (وَلا يَحْزُنْكَ) (١) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرأ [الباقون ما عدا نافع] بفتح الياء وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثاني ، وهو أشهر في اللغة من أحزن (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي يبادرون إلى أقواله وأفعاله وهم المنافقون والكفار (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) الآية هم المذكورون قبل أو على العموم في جميع الكفار (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) أي نمهلهم أن مفعول يحسبن ، وما اسم أن فحقها أن تكتب منفصلة وخير خبر : إنما نملي لهم ، ما هنا كافة والمعنى ردّ عليهم أي أن الإملاء لهم ليس خيرا لهم إنما هو استدراج ليكتسبوا الإثم(ما كانَ اللهُ

__________________

(١). حسب قراءة نافع في كل القرآن ما عدا : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء / ١٠٣.

١٧٢

مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن

________________________________________________________

لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية : خطاب للمؤمنين ، والمعنى ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين ، ولكنه ميز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال ، التي تدل على الإيمان أو على النفاق (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي ما كان الله ليطلعكم على ما في القلوب من الإيمان والنفاق ، أو ما كان الله ليطلعكم على أنكم تغلبون أو تغلبون (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على ما شاء من غيبه (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يمنعون الزكاة وغيرها (هُوَ خَيْراً) هو فضل وخيرا مفعول ثان ، والأول محذوف تقديره : لا يحسبن البخل خيرا لهم (سَيُطَوَّقُونَ) أي يلزمون إثم ما بخلوا به ، وقيل : يجعل ما بخلوا به حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) الآية : لما نزلت : من ذا الذي يقرض الله : قال بعض اليهود وهو فنحاص ، أو حيي بن أخطب أو غيرهما : إنما يستقرض الفقير من الغني ، فالله فقير ونحن أغنياء ، فنزلت هذه الآية ، وكان ذلك القول اعتراضا على القرآن أوجبه قلة فهمهم ، أو تحريفهم للمعاني ، فإن كانوا قالوه باعتقاد فهو كفر [يضاف إلى كفرهم] ، وإن قالوه بغير اعتقاد : فهو استخفاف ، وعناد (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي تكتبه الملائكة في الصحف (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) أي قتل آبائهم للأنبياء ، وأسند إليهم لأنهم راضون به ، ومتبعون لمن فعله من آبائهم (الَّذِينَ قالُوا) صفة للذين ، وليس صفة للعبيد (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا قبول الله لصدقة أو غيرها جعلوه في مكان ، فتنزل نار من السماء فتحرقه ، وإن لم تنزل فليس بمقبول ، فزعموا أن الله جعل لهم ذلك علامة على صدق الرسل (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ) الآية : رد عليهم بأن الرسل قد جاءتهم بمعجزات توجب الإيمان بهم ، وجاءوهم أيضا بالقربان الذي تأكله النار ، ومع ذلك كذبوهم وقتلوهم ، فذلك يدل عل أن كفرهم عناد ، فإنهم كذبوا في قولهم : إن الله عهد إلينا (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ) الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتأسي بغيره (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي نحي وأبعد (لَتُبْلَوُنَ) الآية : خطاب للمسلمين ، والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفي الأموال

١٧٣

تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (١٩٢) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ

________________________________________________________

بالمصائب والإنفاق (وَلَتَسْمَعُنَ) الآية : سببها قول اليهود : إن الله فقير ، وسبهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) قال ابن عباس : هي لليهود ؛ أخذ عليهم العهد في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتموه ، وهي عامة في كل من علمه الله علما (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الآية : قال ابن عباس نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا إليه بذلك ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه ، وقال أبو سعيد الخدري : نزلت في المنافقين : كانوا إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، وإذا قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بالتاء (١) وفتح الباء : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالياء (٢) وضم الباء : أسند الفعل للذين يفرحون : أي لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب ، ومن قرأ : تحسبن بالتاء : فهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين يفرحون مفعول به ، وبمفازة المفعول الثاني ، وكرر فلا تحسبنهم : للتأكيد ، ومن قرأ لا يحسبن بالياء من أسفل ، فإنه حذف المفعولين ، لدلالة مفعولي لا تحسبنهم عليهما (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ذكر في البقرة (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي يذكرون الله على كل حال ؛ فكأن هذه الهيآت حصر لحال بني آدم ، وقيل : إن ذلك في الصلاة : يصلون قياما فإن لم يستطيعوا صلوا قعودا ، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم (رَبَّنا) أي يقولون : ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة بل خلقته وخلقت البشر ، لينظروا فيه فيعرفونك (سَمِعْنا مُنادِياً) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسنة رسلك (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) من لبيان الجنس ، وقيل زائدة لتقدّم النفي (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) هم المهاجرون آذاهم المشركون

__________________

(١). وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي.

(٢). قرأ بها الباقون.

١٧٤

عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

________________________________________________________

بمكة حتى خرجوا منها (ثَواباً) منصوبا على المصدرية (لا يَغُرَّنَّكَ) الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لا تظنوا أن حال الكفار في الدنيا دائمة فتهتموا لذلك ، وأنزل لا يغرّنك منزلة لا يحزنك (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي تقلبهم في الدنيا قليل ؛ بالنظر إلى ما فاتهم في الآخرة (نُزُلاً) منصوب على الحال من جنات أو على المصدرية (لِلْأَبْرارِ) جمع بارّ وبرّ ، ومعناه العاملون بالبرّ ، وهي غاية التقوى والعمل الصالح ، قال بعضهم : الأبرار ؛ هم الذين لا يؤذون أحدا (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية ؛ قيل : نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، فإنه كان نصرانيا فأسلم ، وقيل : في عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود (لا يَشْتَرُونَ) مدح لهم ، وفيه تعريض لذم غيرهم ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا وصابروا أي صابروا عدوكم في القتال (وَرابِطُوا) أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم مستعدين للجهاد ، وقيل : هو مرابطة العبد فيما بينه وبين الله ، أي معاهدته على فعل الطاعة وترك المعصية والأوّل أظهر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» (١) وأما قوله في انتظار الصلاة فذلكم الرباط (٢) فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لعظم أجره ، والمرابط عند الفقهاء هو الذي يسكن الثغور فيرابط فيها وهي غير موطنه ، فأما سكانها دائما بأهلهم ومعايشهم فليسوا مرابطين ، ولكنهم حماة ، حكاه ابن عطية.

__________________

(١). أخرجه أحمد عن عثمان بلفظ : رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ج ١ ص ٧٩.

(٢). أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأوله : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : رواه النووي في فضائل الوضوء.

١٧٥

سورة النساء

مدنية وآياتها ١٧٦ نزلت بعد الممتحنة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)

________________________________________________________

سورة النساء

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هو آدم عليه‌السلام (زَوْجَها) هي حوّاء خلقت من ضلع آدم (وَبَثَ) نشر (تَسائَلُونَ بِهِ) أي يقول بعضكم لبعض : أسألك بالله أن تفعل كذا و (الْأَرْحامَ) بالنصب عطفا على اسم الله أي : اتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، أو على موضع الجار والمجرور. وهو به ، لأنّ موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به ، وهو ضعيف عند البصريين ، لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثمر حالين : أما العلم : فهو معرفة العبد ؛ بأنّ الله مطلع عليه ، ناظر إليه يرى جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله ، وأما الحال : فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ، ولا يغفل عنه ، ولا يكفي العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال : كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجدّ في الطاعات ، وكانت ثمرتها عند المقرّبين : الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال ، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١) فقوله أن تعبد الله كأنك تراه : إشارة إلى الثمرة الثانية ، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم : كمن يشاهد ملكا عظيما ، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك : إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين ، فأعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما

__________________

(١). جزء من الحديث المشهور أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب. راجع الأربعين النووية.

١٧٦

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ

________________________________________________________

فسر الإحسان أوّل مرة بالمقام الأعلى ؛ رأى أنّ كثيرا من الناس قد يعجزون عنه ، فنزل عنه إلى المقام الآخر ، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة والمرابطة ، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة ، فأما المشارطة : فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي ، وأما المرابطة ؛ فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره ، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله : حمد الله ، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ، ونقض عهد المرابطة ، عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة ، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).

خطاب للأوصياء ، وقيل : للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم ، وعلى القول بأنّ الخطاب للأوصياء ، فالمراد أن يؤتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم ، فيكون اليتيم على هذا حقيقة ، وقيل : المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا ، فيكون اليتيم على هذا مجاز ، لأن اليتيم قد كبر (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف ، فنهوا عن ذلك. وقيل : المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث ، وتدعوا مالكم وهو الطيب (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) المعنى : نهي أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم ، وقيل : نهي عن خلط أموالهم بأموال اليتامى ، ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم ، وإنما تعدّى الفعل بإلى ؛ لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل : بمعنى مع (حُوباً) أي ذنبا (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا) الآية ، قالت عائشة : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم ، فيريدون أن يتزوّجوهن ويبخسوهن في الصداق لمكان ولايتهم عليهم ، فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن ، وقال ابن عباس : إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، فنزلت الآية في ذلك : أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى : كذلك خافوا النساء ، وقيل : إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر ، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم ، فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب : أي ما حل ، وإنما قال ما ، ولم يقل من : لأنه أراد الجنس ، وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء ، ومنه قوله : وما ملكت أيمانكم (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لا

١٧٧

أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (٤) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (٥)

________________________________________________________

ينصرف (١) للعدل والوصف ، وهي حال من ما طاب ، وقال ابن عطية : بدل ، وهي عدو له عن أعداد مكررة ، ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة ، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد ، فتكررت الأعداد بتكرار الناس ، والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا في ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع ، وقال قوم لا يعبأ بقولهم : إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع : يجمع فيه تسعة ، وهذا خطأ ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع ، ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا ، وأيضا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة (فَواحِدَةً) أي إن خفتم أن لا تعدلوا بين الاثنين أو الثلاث أو الأربع : فاقتصروا على واحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير. رغبة في العدول. وانتصاب واحدة بفعل مضمر تقديره : فانكحوا واحدة (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) الإشارة إلى الاقتصار على الواحدة ، والمعنى : أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا ومعنى تعولوا : تميلوا ، وقيل يكثر عيالكم (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) خطاب للأزواج ، وقيل : للأولياء ، لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته ، وقيل : نهي عن الشغار (٢) (نِحْلَةً) أي عطية منكم لهن ، أو عطية من الله ، وقيل : معنى نحلة أي ؛ شرعة وديانة ، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهن أو على الحال من ضمير المخاطبين (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) الآية : إباحة للأزواج والأولياء على ما تقدم من الخلاف أن يأخذوا ما دفعوا للنساء من صدقاتهن عن طيب أنفسهن ، والضمير في منه يعود على الصداق أو على الإيتاء (هَنِيئاً مَرِيئاً) عبارة عن التحليل ومبالغة في الإباحة ، وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ : إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وهما وصف للمصدر : أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل ، وقيل : يوقف على فكلوه ويبدأ (هَنِيئاً مَرِيئاً) على الدعاء (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) قيل : هم أولاد الرجل وامرأته : أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير ، وقيل : السفهاء المحجورون ، وأموالكم. أموال المحجورين ، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم (قِياماً) جمع قيمة ، وقيل بمعنى قياما بألف ، أي تقوم بها معايشكم (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) قيل : إنها فيمن تلزم الرجال نفقته من زوجته وأولاده ، وقيل : في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم(وَقُولُوا لَهُمْ

__________________

(١). أي ممنوع من الصرف وهو اصطلاح نحوي معروف.

(٢). هو الزواج بالتبادل فيعطي أحدهم شقيقته إلى الآخر ويأخذ بدلا منها شقيقة الآخر أو ابنته بدون مهر لأي منهما.

١٧٨

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦) لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩)

________________________________________________________

قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي ادعوا لهم بخير ، أو عدوهم وعدا جميلا : أي إن شئتم دفعنا لكم أموالكم (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي اختبروا رشدهم (بَلَغُوا النِّكاحَ) بلغوا مبلغ الرجال (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الرشد : هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله ، وإن لم يكن من أهل الدين ، واشترط قوم الدين ، واعتبر مالك البلوغ والرشد ، وحينئذ يدفع المال ، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه ، وقوله مخالف للقرآن (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) ومعناه : مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر ، وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره : مخافة أن يكبروا (فَلْيَسْتَعْفِفْ) أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال عمر بن الخطاب : المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم ، فإذا أيسر ردّه ، وقيل : المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته ، ومعنى : بالمعروف من غير إسراف ، وقيل : نسختها ؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (١) (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أمر بالتحرز والحرز فهو ندب ، وقيل : فرض (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية : سببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء ، فنزلت الآية ليرث الرجال النساء (نَصِيباً مَفْرُوضاً) منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله : (٢) فريضة من الله ، وقال الزمخشري : منصوب على التخصيص ، أعني : بمعنى نصيبا (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية : خطاب للوارثين ؛ أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم ، وعلى اليتامى وعلى المساكين ، فقيل : إن ذلك على الوجوب ، وقيل : على الندب وهو الصحيح ، وقيل : نسخ بآية المواريث (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) الآية ؛ معناها : الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في حفظ أموالهم ، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا ، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة ، وقيل : الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته ، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم ، وحذف مفعول وليخش ، وخافوا جواب لو (قَوْلاً سَدِيداً) على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام

__________________

(١). في الآيتين ١٠ ، ١١ التاليتين.

(٢). في الآيتين ١٠ ، ١١ التاليتين.

١٧٩

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ

________________________________________________________

الحسن ، وعلى القول الثاني أن يقول للمورث : لا تشرف في وصيتك وارفق بورثتك (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث ، وقيل : في الأوصياء ، ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي : أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار ، وقيل : يأكلون النار في جهنم (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع ، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه ، ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال ، وقيل : نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال : (يُوصِيكُمُ) بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر ، ولم يقل : يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية ، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال : في أولادكم ولم يقل في أبنائكم ، لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة ، وعلى ابن البنت ، وعلى ابن الابن المتوفى وليسوا من الورثة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) هذا بيان للوصية المذكورة ، فإن قيل : هلا قال : للأنثيين مثل حظ الذكر ، فالجواب : لأن الذكر مقدم (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) إنما أنث ضمير الجماعة في كن ، لأنه قصد الإناث ، وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث ، وقيل : يعود على المتروكات ، وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ظاهره أكثر من اثنتين ، ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان ، وأما البنتان فاختلف فيهما ، فقال ابن عباس : لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور الثلثان ، وتأولوا فوق اثنتين أن المراد ثنتان فما فوقهما ، وقال قوم : إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل : بالقياس على الأختين (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) بالرفع فاعل ، وكان تامة ، وبالنصب خبر كان ، وقوله تعالى : (فَلَهَا النِّصْفُ) نص على أن للبنت النصف إذا انفردت ، ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد ؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) الولد يقع على الذكر والأنثى ، والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب ، أو ولد ابن ، وكلهم يرد الأبوين (١) إلى السدس (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر ، وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه ، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا

__________________

(١). أي يحصر الولد حق الأبوين بالسدس فقط.

١٨٠