التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ 

________________________________________________________

زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفس بغير نفس (١) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النهي عن القرب يعم وجوه التصرف ، وفيه سدّ الذريعة ، لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال ، فالنهي عن أكله أولى وأحرى. والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) هو البلوغ مع الرشد ، وليس المقصود هنا السن وحده ، وإنما المقصود معرفته بمصالحه (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لما أمر بالقسط في الكيل والوزن ، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل ، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة ، وأنّ بفتح الهمزة والتشديد (٢) عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله : أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما ، وقرئ بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح والتخفيف على العطف ، وهي على هذا مخففة من الثقيلة (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة ، ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة ، وفي الحديث «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط خطا ، ثم قال هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، ثم قال هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» (٣) (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده أبو الحسن أحمد بن محمد البزي (ثُمَّ آتَيْنا) معطوف على وصاكم به ، فإن قيل : فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية ، فكيف عطفه عليها بثم؟ فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها ، فصح الترتيب ، وقيل : إنها هنا لترتيب الأخبار والقول ، لا لترتيب الزمان (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) فيه ثلاث تأويلات : أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى ، ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي ،

__________________

(١). رواه أحمد عن عدد من الصحابة منهم عثمان وعائشة وابن مسعود بألفاظ متقاربة وورد في الصحيحين من رواية ابن مسعود وذكره النووي في الأربعين.

(٢). هي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأما بالكسر فقراءة حمزة والكسائي وبالتخفيف قراءة ابن عامر.

(٣). رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص ٥٤٤.

٢٨١

وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)

________________________________________________________

والذي أحسن يراد به جنس المحسنين ، والآخر : أن المعنى تماما أي تفضلا ، أو جزاء على ما أحسن موسى عليه‌السلام من طاعة ربه وتبليغ رسالته ، فالفاعل على هذا ضمير موسى عليه‌السلام والذي صفة لعمل موسى ، والثالث تماما أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده ، فالعامل على هذا ضمير الله تعالى (أَنْ تَقُولُوا) في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهة أن تقولوا (عَلى طائِفَتَيْنِ) أهل التوراة والإنجيل (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا ، وأن هنا مخففة من الثقيلة (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) إقامة حجة عليهم (صَدَفَ) أي أعرض (هَلْ يَنْظُرُونَ) الآية : تقدّمت نظيرتها في [البقرة : ٢١٠] (بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها ، فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص ، فقوله : لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات ، ثم تاب إذا ظهرت : لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ (قُلِ انْتَظِرُوا) وعيد (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) هم اليهود والنصارى ، وقيل أهل الأهواء والبدع ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله ومن تلك الواحدة؟ قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه (١) ، وقرئ فارقوا أي تركوا (وَكانُوا شِيَعاً) جمع شيعة أي متفرّقين كل فرقة تتشيع لمذهبها (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي أنت بريء منهم (عَشْرُ أَمْثالِها) فضل عظيم على العموم في الحسنات ، وفي العاملين ، وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد (دِيناً قِيَماً) بدل من موضع إلى صراط مستقيم ،

__________________

(١). من حديث أبي هريرة رواه أصحاب السنن أبو داود ورقمه ٤٥٩١ / أول الجزء / ٥ والترمذي والنسائي وابن ماجة.

٢٨٢

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٦٥)

________________________________________________________

لأن أصله هداني صراطا بدليل اهدنا الصراط ، والقيّم فيعل من القيام وهو أبلغ من قائم وقرئ قيما بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها (١) ، وهو على هذا مصدر وصف به (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل من دينا ، أو عطف بيان (وَنُسُكِي) أي عبادتي وقيل : ذبحي للبهائم ، وقيل : حجي ، والأول أعم وأرجح (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) (٢) أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي (لِلَّهِ) أي خالصا لوجهه وطلب رضاه ، ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له : أي لا أريد بأعمالي غير الله ، فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء ، ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق أمته (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) تقرير وتوبيخ للكفار ، وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ردّ على الكفار لأنهم قالوا له : أعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك ، فنزلت هذه الآية : أي ليس كما قلتم ، وإنما كسب كل نفس عليها خاصة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ألا يحمل أحد ذنوب أحد ، وأصل الوزر الثقل ، ثم استعمل في الذنوب (خَلائِفَ) جمع خليفة : أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه ، والخطاب على هذا لجميع الناس ، وقيل : لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ) عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، وأعمالكم فيما مكنكم فيه (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) جمع بين التخويف والترجية ، وسرعة عقابه تعالى : إما في الدنيا بمن عجل أخذه ، أو في الآخرة لأن ، كل آت قريب ، ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته.

__________________

(١). وهي قراءة أهل الكوفة وابن عامر. أما التشديد فقراءة الباقين.

(٢). محياي : قرأها نافع بتسكين الياء والباقون بفتحها.

٢٨٣

سورة الأعراف

مكية إلا من آية ١٦٣ إلى غاية آية ١٧٠ فمدنية

وآياتها ٢٠٦ نزلت بعد ص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

المص (١) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)

________________________________________________________

سورة الأعراف

(المص) تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة (حَرَجٌ مِنْهُ) أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك ، وقيل : الحرج هنا الشك ، فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين [آل عمران / ٦٠] (لِتُنْذِرَ) متعلق بأنزل (وَذِكْرى) منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى ، لأن الذكر بمعنى التذكير ، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا ، وما زائدة للتوكيد (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) قيل : إنه من المقلوب تقديره : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وقيل : المعنى ؛ أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا ، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء ، ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك ، فلا يحتاج إلى تكلف ، والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم ، ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون (بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى : بائتين أي بالليل ، وقائلون : من القائلة : أي بالنهار ، وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل ، وبعضهم بالنهار ، وأو هنا للتنويع (دَعْواهُمْ) أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون ، وقيل : المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم ، فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك (أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أسند الفعل إلى الجار والمجرور ، ومعنى الآية : أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم ، ويسأل الرسل عما أجيبوا به (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي على الرسل والأمم (وَالْوَزْنُ) يعني وزن الأعمال (يَوْمَئِذٍ) أي

٢٨٤

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)

________________________________________________________

يوم يسأل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة (بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي يكذبون بها ظلما (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) قيل : المعنى أردنا خلقكم وتصويركم (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وقيل : خلقنا أباكم آدم ثم صورناه ، وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف (أَلَّا تَسْجُدَ) لا زائدة للتوكيد (إِذْ أَمَرْتُكَ) استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور ، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود ، وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه ، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود (فَاهْبِطْ مِنْها) أي من السماء (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الفاء للتعليل ، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره : أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم ، وما مصدرية ، وقيل : استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر (صِراطَكَ) يريد : طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآية : أي من الجهات الأربع ، وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه ، وقال ابن عباس : من بين أيديهم الدنيا ، ومن خلفهم الآخرة ، وعن أيمانهم الحسنات ، وعن شمائلهم السيّئات (مَذْؤُماً) من ذأمه بالهمز إذا ذمه (مَدْحُوراً) أي مطرودا حيث وقع (فَوَسْوَسَ) إذا تكلم كلاما خفيا يكرره ، فمعنى وسوس لهما : ألقى لهما هذا الكلام (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس ، أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه (الشَّجَرَةِ) ذكرت في [البقرة : ٣٥] (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي كراهة أن تكونا ملكين ، واستدل به من قال : إن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وقرئ ملكين بكسر اللام (١) ، ويقوي هذه القراءة قوله : وملك لا يبلى (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما : إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه

__________________

(١). تنسب هذه القراءة لابن عباس. وانظر الطبري.

٢٨٥

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ

________________________________________________________

اجتهد فيه ، أو لأنه أقسم لهما : وأقسما له أن يقبلا نصيحته (فَدَلَّاهُما) أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة (بِغُرُورٍ) أي غرّهما بحلفه لهما لأنهما ظنّا أنه لا يحلف كاذبا (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي زال عنهما اللباس ، وظهرت عوراتهما ، وكان لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر ، وقيل : كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به (وَناداهُما رَبُّهُما) يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك ، أو بغير واسطة (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة ، وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها (اهْبِطُوا) وما بعده مذكور في البقرة (فِيها تَحْيَوْنَ) أي في الأرض (لِباساً) أي الثياب التي تستر ، ومعنى أنزلنا خلقنا ، وقيل : المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر ، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة (رِيشاً) أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر (وَلِباسُ التَّقْوى) لباسا كقولهم : ألبسك الله قميص تقواه ، وقيل : لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع وشبهها ، وقرئ بالرفع (١) على الابتداء أو خبره الجملة ، وهي : ذلك خير (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الإشارة إلى ما أنزل من اللباس ، وهذه الآية واردة على وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يعني في غالب الأمر ، وقد استدل به من قال : إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة ، فتحمل الآية على الأكثر ؛ جمعا بينها وبين الأحاديث (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) قيل : هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة ؛ الرجال والنساء ، ويحتمل العموم في الفواحش (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما : تقليد آبائهم ، والآخر : افتراؤهم على الله (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) قيل : المراد إحضار النية ، والإخلاص لله ،

__________________

(١). قراءة النصب هي لنافع وابن عامر والكسائي والباقون بالضم : لباس.

٢٨٦

كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (٣٠) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧) قَالَ ادْخُلُوا فِي

________________________________________________________

وقيل : فعل الصلاة والتوجه فيها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود ، والأول أظهر ، والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا (١) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى (فَرِيقاً) الأول منصوب بهدى ، والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده (خُذُوا زِينَتَكُمْ) قيل : المراد به الثياب الساترة ، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة ، وقيل : المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الأمر فيهما للإباحة ، لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة ، وقال الأطباء : إن الطب كله مجموع في هذه الآية ، وقيل : لا تسرفوا بأكل الحرام (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) إنكار لتحريمها هو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل ، وكان بعض العرب إذا حجوا يجرّدون الثياب ويطوفون عراة ، ويحرّمون الشحم واللبن ، فنزل ذلك ردّا عليهم (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٢) أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم ، وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم ، وقرئ خالصة بالنصب على الحال ، والرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء مضمر (وَالْإِثْمَ) عام في كل ذنب (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) أي تفتروا عليه في التحريم وغيره ف (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد ، ولزمتها النون الشديدة المؤكدة ، وجواب الشرط فمن اتقى الآية (فَمَنْ أَظْلَمُ) ذكر في الأنعام (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها (ضَلُّوا عَنَّا) أي غابوا (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ)

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٣١٥

(٢). خالصة بالضم هي قراءة نافع وبالنصب قرأ الباقون.

٢٨٧

أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا

________________________________________________________

أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم (ادَّارَكُوا) تلاحقوا واجتمعوا (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) المراد بأولاهم الرؤساء والقادة ، وأخراهم الأتباع والسفلة ، والمعنى : أن أخراهم طالبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم ، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم ، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا : أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى ، يوجب أن يكون عذابنا أشدّ من عذابكم بل : نحن وأنتم سواء (فَذُوقُوا الْعَذابَ) من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما : لا يصعد عملهم إلى السماء ، والثاني لا يدخلون الجنة ، فإن الجنة في السماء ، والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة ، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا ، فلا يدخلونها أبدا (مِهادٌ) فراش (غَواشٍ) أغطية (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا ، وإنما قال : نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل ، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع ، وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله : نادى أصحاب الجنة ، ونادى أصحاب الأعراف ، ونادى أصحاب النار ، وغير ذلك (هَدانا لِهذا) إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) وأن قد وجدنا ، وأن لعنة ، وأن سلام : يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة ، فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير لمعنى القول (ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب

٢٨٨

نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم

________________________________________________________

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي أعلم معلم وهو ملك (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله : فضرب بينهم بسور (الْأَعْرافِ).

قال ابن عباس : هو تل بين الجنة والنار ، وقيل : سور الجنة (رِجالٌ) هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث : أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم يدخلوا الجنة ولا النار ، وقيل : هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم ، فاستشهدوا ، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم ، ونجوا من النار للشهادة (١) (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم ، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم ، أو غير ذلك من العلامات (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) يعني من الكفار الذين في النار ، قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ (جَمْعُكُمْ) يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق ، فما ها هنا مصدرية وما في قوله «ما أغنى» استفهامية أو نافية (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة ، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين ، ولا يعبأ بهم ؛ فظهر خلاف ما قالوا ، وقيل : هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار ، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره : قد قيل لهم ادخلوا الجنة ، أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) دليل على أنّ الجنة فوق النار (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من سائر الأطعمة والأشربة (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) أي نتركهم (كَما نَسُوا) الكاف للتعليل (وَما كانُوا) عطف على كما نسوا : أي لنسيانهم وجحودهم (جِئْناهُمْ بِكِتابٍ)

__________________

(١). روى الطبري بإسناده عدة روايات حول أصحاب الأعراف فانظره إن شئت.

٢٨٩

بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

________________________________________________________

يعني القرآن (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) أي علمنا كيف نفصله (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره ، وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي قد تبين وظهر الآن أنّ الرسل جاءوا بالحق.

(اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره ، وتأوّله قوم بمعنى : قصد كقوله : ثم استوى إلى السماء ، ولو كان كذلك لقال : ثم استوى إلى العرش ، وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى استولى بالملك والقدرة ، و [القول] الحق : الإيمان به من غير تكييف ، فإنّ السلامة في التسليم ، ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة ، وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة ، وجعفر الصادق ، والحسن البصري ، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء ، بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلحق الليل بالنهار ، ويحتمل الوجهين ، هكذا قال الزمخشري ، وأصل اللفظة من الغشاء ، أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي سريعا ، والجملة في موضع الحال من الليل أي طلب الليل النهار فيدركه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) قيل : الخلق المخلوقات ، والأمر مصدر أمر يأمر ، وقيل : الخلق مصدر خلق ، والأمر واحد الأمور : كقوله : إلى الله تصير الأمور ، والكل صحيح (تَبارَكَ) من البركة ، وهو فعل غير منصرف لم تنطق له العرب بمضارع (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطمعا ، وخفية من الإخفاء ، وقرئ خيفة من الخوف (الْمُعْتَدِينَ) المجاوزين للحد ، وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط فيه (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا ، كما قال الله تعالى : (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧] فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدّة عقابه ، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه ، قال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ـ ٥٠] (١) ومن عرف فضل الله رجاه ، ومن عرف عذابه خافه ، ولذلك جاء في الحديث ، لو وزن خوف المؤمن

__________________

(١). قال العجلوني عنه في كشف الخفاء : مأثور من كلام السلف ومعناه صحيح وقال السيوطي أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند.

٢٩٠

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)

________________________________________________________

ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» (١) ..

واعلم أن الخوف على ثلاث درجات : الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر ، فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة ، والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز ، وخير الأمور أوسطها ، والناس في الخوف على ثلاث مقامات : فخوف العامة من الذنوب ، وخوف الخاصة من الخاتمة ، وخوف خاصة الخاصة من السابقة ، فإن الخاتمة مبنية عليها ، والرجاء على ثلاث درجات : الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور ، والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن ، فهذا حرام ، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات : فمقام العامة رجاء ثواب الله ، ومقام الخاصة رضوان الله ، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة : بالرحم أو الترحم أو العفو ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب ، أو على تقدير النسب أي ذات قرب ، وقيل : قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها (الرِّياحَ بُشْراً) قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر ، وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة ، وإفرادها إذا كانت للعذاب ، ومنه ورد في الحديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (٢) وقرئ بالإفراد ، والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين ، وهو على هذا مصدر في موضع الحال ، وقرئ بضمها وهو جمع نشر ، وقيل : جمع منشور ، وقرئ بضم النون وإسكان الشين نشر وهو تخفيف من الضم : كرسل ورسل ، وقرئ بالباء (٣) في موضع النون وهو من البشارة (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قبل المطر (أَقَلَّتْ) حملت (سَحاباً ثِقالاً) لأنها تحمل الماء فتثقل به (سُقْناهُ) الضمير للسحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) يعني : لا نبات فيه من شدّة القحط ، وكذلك معناه حيث وقع (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) الضمير للسحاب أو البلد ، على أن تكون الباء ظرفية (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) تمثيل لإخراج الموتى من القبور ، وبإخراج الزرع من الأرض ، وقد وقع ذلك في القرآن في

__________________

(١). رواه أحمد من حديث جابر ج ٣ ص ٣٧٢.

(٢). عزاه الإمام النووي في الأذكار للإمام الشافعي في كتابه الأم بسنده إلى ابن عباس.

(٣). وهي قراءة عاصم وقرأ نافع وغيره نشرا وقرأ غيرهم : نشرا.

٢٩١

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٦٠) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً

________________________________________________________

مواضع منها : كذلك النشور ، وكذلك الخروج (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) هو الكريم من الأرض الجيد التراب (وَالَّذِي خَبُثَ) بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها (بِإِذْنِ رَبِّهِ) عبارة عن السهولة والطيب ، والنكد بخلاف ذلك ، فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ؛ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر ، أو تكون تمثيلا للقلوب ، فقيل : على هذا الطيب : قلب المؤمن ، والخبيث : قلب الكافر. وقيل : هما للفهيم والبليد (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قرأ الكسائي غيره بالخفض حيث وقع على اللفظ ، وقرأ غيره بالرفع على الموضع (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم (الْمَلَأُ) أشراف الناس (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال ، لأن الضلالة أخص من الضلال ، كما إذا قيل لك عندك تمر ، فتقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي (أُبَلِّغُكُمْ) قرئ بالتشديد والتخفيف (١) ، والمعنى واحد ، وهو في وضع رفع صفة لرسول أو استئناف (أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من صفاته ورحمته وعذابه (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قال : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم : أي على لسان رجل منكم (فِي الْفُلْكِ) متعلق بمعه والتقدير : استقروا معه في الفلك ، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه (عَمِينَ) جمع أعمى وهو من عمى القلب (أَخاهُمْ) أي واحد من قبيلتهم ، وهو عطف على نوحا ، وهودا بدل منه أو عطف بيان ، وكذلك أخاهم صالحا وما بعده ، وما هو مثله حيث وقع (الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيّد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد ، بخلاف قوم نوح ، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن ، فأطلق لفظ الملأ (أَمِينٌ) يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق (خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) كانوا

__________________

(١). قرأ أبو عمرو وحده بالتخفيف : أبلغكم.

٢٩٢

فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (٧١) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا

________________________________________________________

عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا ، وأطولهم مائة ذراع (آلاءَ اللهِ) نعمه حيث وقع (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) استبعدوا توحيد الله مع اعترافهم بربوبيته ، ولذلك قال لهم هود : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي حقّ عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) يعني الأصنام : أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء ، ففي الكلام حذف ، وأراد بقوله : سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء ، فدل ذلك على أنها محدثة ، فلا يصح أن تكون آلهة ، أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها آلهة ، فقولكم باطل ؛ فالجدال على القول الأول في عبادتها ، وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة ، والمراد بالأسماء على القول الأول : المسمى ، وعلى القول الثاني : التسمية (دابِرَ) ذكر في [الأنعام : ٤٥] (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آية ظاهرة وهي الناقة ، وأضيفت إلى الله تشريفا لها ، أو لأنه خلقها من غير فحل ، وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه‌السلام أن يخرجها لهم من صخرة ، وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك ، فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون ، ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون (لَكُمْ آيَةً) أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح ، والمجرور في موضع الحال من آية ، لأنه لو تأخر لكان صفة (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي لا تضربوها ولا تطردوها (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون» (١) ، مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي تتخذون بيوتا في الجبال ، وكانوا يسكنون القصور في الصيف ، والجبال في الشتاء ، وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك : خطت هذا الثوب قميصا (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)

__________________

(١). رواه أحمد عن ابن عمر ج ٢ ص ١٤.

٢٩٣

بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (٨١) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨٥) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ

________________________________________________________

بدل من الذين استضعفوا (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون ؛ لئلا يكون اعترافا برسالته (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) نسب العقر إلى جميعهم ؛ لأنهم رضوا به ، وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر (الرَّجْفَةُ) الصيحة حيث وقعت ، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض فماتوا منها (جاثِمِينَ) حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) الآية : يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم ، لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم ، أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا ، وهو ظاهر الآية ، وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم ، وقوله : لا تحبون الناصحين : حكاية حال ماضية (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) العامل في إذ أرسلنا المضمر ، أو يكون بدلا من لوط (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم ، ومن الأولى زائدة ، والثانية للتبعيض أو للجنس (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) الآية : أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله (أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتنزهون عن الفاحشة (مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الهالكين ، وقيل : من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا ، أو من الباقين من أترابها يقال غبر بمعنى مضى ، وبمعنى بقي ، وإنما قال : من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم ، وقلبت البلاد بمن كان فيها (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آية ظاهرة ، ولم تعين في القرآن آية شعيب (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) كانوا ينقصون في الكيل والوزن ، فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك ، والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان ، كما جاء في هود المكيال والميزان ، ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) قيل هو نهي عن السلب وقطع الطريق ، وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردّون الناس عن اتباع شعيب

٢٩٤

وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)

________________________________________________________

ويوعدونهم إن اتبعوه (وَتَصُدُّونَ) أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان ، والضمير في به للصراط أو لله (تَبْغُونَها عِوَجاً) ذكر في [آل عمران : ٩٩] (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجهم ، أو عودهم إلى ملة الكفر ، فإن قيل : إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم : لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم ، ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال ، فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين : أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار ، فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه ، والثاني : قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب ، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك ، فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد ، وبمثل ذلك يجاب عن قوله : إن عدنا في ملتكم ، وما يكون لنا أن نعود فيها (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة للاستفهام والإنكار ، والواو للحال ، تقديره : أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) أي إن عندنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله ، وذلك تبرأ من العود فيها (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه ، وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم : أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء ، فإن قلت : إن ذلك يصح في حق قومه ، وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر؟ فالجواب : أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى ، واستسلاما لأمره كقول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (١) مع أنه قد علم أنه يثبته (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) أي احكم (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي كأن لم يقيموا في ديارهم

__________________

(١). رواه أحمد عن أنس ج ٣ ص ١٤١.

٢٩٥

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم

________________________________________________________

(فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) قد تقدم (بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم (قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار (بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بالمطر والزرع (أَوَأَمِنَ) من قرأ بإسكان الواو (١) فهي أو العاطفة ، ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله : أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي أو لم يتبين (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) أي يسكنونها (أَنْ لَوْ نَشاءُ) هو فاعل أو لم يهد ، ومقصود الآية الوعيد (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل ، أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أو لم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) من قرأ عليّ بالتشديد (٢) على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر ، وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق ، وموضع أن لا أقول على هذا رفع ، على أنه خبر حقيق ، وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ على

__________________

(١). هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وقرأ الباقون : أو : بفتحتين.

(٢). هي قراءة نافع وقرأ الباقون : على بالتخفيف.

٢٩٦

بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن

________________________________________________________

بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر ، وحقيق صفة لرسول ، وفي المعنى على هذا وجهان ، أحدهما أن على بمعنى الباء فمعنى الكلام : رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق ، والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدّى بعلى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمعجزة تدل على صدقي ؛ وهي العصا أو جنس المعجزات (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم ، وذلك أنه لما توفي يوسف عليه‌السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى ، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) وكان موسى عليه‌السلام شديد الأدمة [السواد] فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه ، ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشدّ بياضا ، وقيل : إنها كانت منيرة شفافة كالشمس ، وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه (لِلنَّاظِرِينَ) مبالغة في وصف يده بالبياض ، وكان الناس يجتمعون للنظر إليها ، والتعجب منها (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) حكى هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون ، كأنه قاله هو وهم ، أو قاله هو ووافقوه عليه ، كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل ، وقيل : المراد إخراج بني إسرائيل ، وكانوا خدّاما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من قول الملأ أو من قول فرعون ، وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة ، أو من الأمر وهو ضدّ النهي (أَرْجِهْ) من قرأه بالهمزة (١) فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته ، فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما ، وقيل : المراد بالإرجاء هنا السجن ، ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة ، أو يكون بمعنى الرجاء أي أطعمه ، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان ، وأما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف (حاشِرِينَ) يعني الشرطة أي جامعين للسحرة (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) قيل : هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) من قرأه بهمزتين أإن فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة ، والأجر هنا : الأجرة ، طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى ، فأنعم [أقرّ] لهم فرعون بها

__________________

(١). قرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر : (أرجئه) وقرأ نافع والكسائي : أرجهي وقرأ عاصم وحمزة : أرجه.

راجع الحجة لأبي زرعة ص ٢٩٠.

٢٩٧

كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)

________________________________________________________

وزادهم التقريب منه والجاه عنده (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم ، واختلف في عدد السحرة اختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيّروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدءوا هم بإلقاء سحرهم ، فأمرهم أن يلقوا ، وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل ، وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الاسمية ، إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي خوّفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر (أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل : إنه طال حتى جاوز الفيل (تَلْقَفُ) أي تبتلع (ما يَأْفِكُونَ) أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم ، وروي : أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومدّ موسى يده إليه فصار عصا كما كان ، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر ، وليس في قدرة البشر ، فآمنوا بالله وبموسى عليه‌السلام (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ) الآية : وعيد من فرعون للسحرة ، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك ، لكن روى أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره ، وقد ذكر معنى من خلاف في العقود [المائدة : ٣٦] (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا) أي ما تعيب منا إلا إيماننا (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه (وَيَذَرَكَ) معطوف على ليفسدوا ، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو (وَآلِهَتَكَ) قيل : إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها ، وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال : أنا ربكم الأعلى [النازعات : ٢٤] ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام ، وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك : أي عبادتك والتذلل لك (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) وقيل : يعني أرض فرعون ، فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله : يورثها من

٢٩٨

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ

________________________________________________________

يشاء من عباده ، ثم صرح في قوله : عسى ربكم الآية (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) حض على الاستقامة والطاعة. بالسنين : أي الجدب والقحط (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) الآية : إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا : هذه لنا وبسعدنا ، ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى : أي قالوا هذه بشؤمه ، فإن قيل : لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟

فالجواب : أن وقوع الحسنة كثير ، والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد ، وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله ، وهو مأخوذ من زجر الطير ، ثم سمي به ما يصيب الإنسان. ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما ، ثم قلبت الألف هاء ، وقيل : هي اسم بسيط غير مركب. والضمير في به يعود على مهما ، وإنما قالوا : من آية على تسمية موسى لها آية ، أو على وجه التهكم (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم ، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون (وَالْجَرادَ) هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم (وَالْقُمَّلَ) قيل هي صغار الجراد ، وقيل : البراغيث ، وقيل : السوس ، وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف ، فهي على هذا القمل المعروف ، وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم (وَالضَّفادِعَ) هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه (وَالدَّمَ) صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما ، وما يلي الإسرائيلي ماء (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم ، فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) بدعائك إليه ووسائلك ، والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عندك (فِي الْيَمِ) البحر حيث وقع (الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) هم بنو

٢٩٩

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى

________________________________________________________

إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) الشام ومصر (بارَكْنا فِيها) أي بالخصب وكثرة الأرزاق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي تمت لهم واستقرت ، والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل ، وقيل هي قوله : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي يبنون ، وقيل : هي الكروم وشبهها فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل (مُتَبَّرٌ) من التبار وهو الهلاك (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) وما بعده مذكور في [البقرة : ٤٧].

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة ، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة (مِيقاتُ رَبِّهِ) أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور (اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي (قالَ رَبِّ أَرِنِي) لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته ، فسألها كما قال الشاعر :

وأفرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الديار من الديار

 واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا ، وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل ، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين : أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة ؛ فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا ، والآخر أن معنى أرني أنظر إليك : عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد ، والثاني أبعد وأضعف ، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية (قالَ لَنْ تَرانِي) قال مجاهد وغيره : إن الله قال لموسى لن تراني ، لأنك لا تطيق ذلك ، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ ، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت ، وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت ، فعلى هذا إنما جعل

٣٠٠