التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا

________________________________________________________

أمر الله تعالى بكتب الدين : جعل الرهن توثيقا للحق ، عوضا عن الكتابة ، حيث تتعذر الكتابة في السفر ، وقال الظاهرية : لا يجوز الرهن إلّا في السفر لظاهر الآية. وأجازه مالك وغيره في الحضر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعه بالمدينة (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) يقتضي بينونة المرتهن بالرهن ، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله. وأجاز مالك والجمهور وضعه على يد عدل ، والقبض للرهن شرط في الصحة عند الشافعي وغيره ، لقوله تعالى : (مَقْبُوضَةٌ) وهو عند مالك شرط كمال لا صحة (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية : أي إن أمن صاحب الحق المدين لحسن ظنه به ، فليستغن عن الكتابة وعن الرهن ، فأمر أولا بالكتابة ، ثم بالرهن ثم بالائتمان ، فللدين ثلاثة أحوال ثم أمر المديان بأداء الأمانة ، ليكون عند ظن صاحبه به (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) محمول على الوجوب (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) معناه : قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة ، وارتفع آثم بأنه خبر إن ، وقلبه فاعل به ، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ ، وآثم خبره ، وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كان جملة الكاتم هي الآثمة ، لأن الكتمان من فعل القلب ، إذ هو يضمرها ، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) الآية : مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب ، سواء أبدوه أم أخفوه ، ثم المعاقبة على ذلك لمن يشاء الله أو الغفران لمن شاء الله ، وفي ذلك إشكال لمعارضته لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها» (١) ، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة : أنه لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا هلكنا إن حوسبنا على خواطر أنفسنا ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا سمعنا وأطعنا» ، فقالوها ، فأنزل الله بعد ذلك : لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها ، فكشف الله عنهم الكربة ، ونسخ بذلك هذه الآية ، وقيل : هي في معنى كتم الشهادة وإبدائها ، وذلك محاسب به ، وقيل يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم ، ثم يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين ، والصحيح التأويل الأوّل لوروده في الصحيح ، وقد ورد أيضا عن ابن عباس وغيره ، فإن قيل : إنّ الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ ، فالجواب : أنّ النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه ، فلفظ الآية خبر ، ومعناها حكم (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ) قرئ بجزمهما عطفا على يحاسبكم وبرفعهما (٢) على تقدير فهو يغفر(آمَنَ

__________________

(١). أخرجه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥٦١ وفيه : ما لم تكلم به.

(٢). قرأ عاصم وابن عامر بالرفع والباقون بالجزم عطفا على : يحاسبكم.

١٤١

أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا

________________________________________________________

الرَّسُولُ) الآية سببها ما تقدّم في حديث أبي هريرة : لما قالوا سمعنا وأطعنا مدحهم الله بهذه الآية ، وقدّم ذلك قبل كشف ما شق عليهم (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول أو مبتدأ ، فعلى الأوّل يوقف على المؤمنون وعلى الثاني يوقف على من ربّه والأوّل أحسن (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إن كان المؤمنون معطوفا فكل عموم في الرسول والمؤمنون ، وإن كان مبتدأ فكل عموم في المؤمنين ووحد الضمير في آمن على معنى أن كل واحد منهم آمن (وَكُتُبِهِ) قرئ (١) بالجمع أي كل كتاب أنزله الله ، وقرئ بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) التقدير يقولون : لا نفرّق ، والمعنى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وبين غيره في الإيمان بل نؤمن بجميعهم ، ولسنا كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) حكاية عن قول المؤمنين على وجه المدح لهم (غُفْرانَكَ) مصدر ، والعامل فيه مضمر ونصبه على المصدرية تقديره اغفر غفرانك ، وقيل على المفعولية تقديره : نطلب غفرانك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إقرار بالبعث مع تذلل وانقياد ، وهنا تمت حكاية كلام المؤمنين (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إخبار من الله تعالى برفع تكليف ما لا يطاق ، وهو جائز عقلا عند الأشعرية ومحال عقلا عند المعتزلة ، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة (لَها ما كَسَبَتْ) أي من الحسنات (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي من السيئات ، وجاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع بالعبد به ، وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر العبد ، وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشرّ اكتسبت ، لأنّ في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة ، حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله ، ويتعدّاه بخلاف الحسنات ، فإنه فيها على الجادّة من غير تكلف أو لأنّ السيئات يجدّ في فعلها لميل النفس إليها ، فجعلت لذلك مكتسبة ، ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك : وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي قولوا ذلك في دعائكم ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكاية قولهم كما حكى عنهم قولهم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، والنسيان هنا هو ذهول القلب على الإنسان ، والخطأ غير العمد فذلك معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» (٢) وقد كان يجوز أن يأخذ به لو لا أنّ الله رفعه (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) التكاليف الصعبة ، وقد كانت لمن تقدّم من الأمم كقتل أنفسهم ، وقرض أبدانهم ، ورفعت عن هذه الأمة. قال تعالى : ويضع عنهم إصرهم. وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير(وَلا

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي : وكتابه بالافراد والباقون بالجمع.

(٢). قال المناوي في التيسير : رواه الطبراني عن ثوبان وهو حديث حسن وقيل بضعفه ولكنه يتقوى بكثرة شواهده.

١٤٢

حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)

________________________________________________________

تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع. ثم إنّ الشرع دفع وقوعه. وتحقيق ذلك أنّ ما لا يطاق. أربعة أنواع : الأوّل : عقلي محض : كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن. فهذا جائز وواقع بالاتفاق. والثاني : عاديّ كالطيران في الهواء. والثالث : عقلي وعادي : كالجمع بين الضدّين ، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما ، والاتفاق على عدم وقوعه ، والرابع تكليف ما يشق ويصعب ، فهذا جائز اتفاقا ، فقد كلفه الله من تقدّم من الأمم ، ورفعه عن هذه الأمّة (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أنّ العفو ترك المؤاخذة بالذنب ، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر ، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام (مَوْلانا) ولينا وسيدنا.

١٤٣

سورة آل عمران

مدنية وآياتها ٢٠٠ نزلت بعد الأنفال

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (٣) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ

________________________________________________________

سورة آل عمران

نزل صدرها إلى نيف وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنوّرة يناظرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسى عليه‌السلام (الم) تقدّم الكلام على حروف الهجاء وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل لالتقاء الساكنين نحو من الناس ، وقال الزمخشري : هي حركة الهمزة نقلت إلى الميم وهذا ضعيف لأنها ألف وصل تسقط في الدرج (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ردّ على النصارى في قولهم إنّ عيسى هو الله لأنهم زعموا أنه صلب ، فليس بحيّ وليس بقيوم (الْكِتابَ) هنا هو القرآن (بِالْحَقِ) أي تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها أو بالاستحقاق (مُصَدِّقاً) قد تقدّم في مصدّقا لما معكم (بَيْنَ يَدَيْهِ) الكتب المتقدّمة (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أعجميان فلا يصح ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) يعني القرآن ؛ وإنما كرر ذكره ليصفه بأنه الفارق بين الحق والباطل ، ويحتمل أن يكون ذكره أولا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، ثم ذكره ثانيا : على وجه الامتنان بالهدى به ، كما قال في التوراة والإنجيل هدى للناس ، فكأنه قال : وأنزل الفرقان هدى للناس ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأول عليه ، فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارا ، وقيل : الفرقان هنا ؛ كل ما فرق بين الحق والباطل من كتاب وغيره ، وقيل : هو الزبور ، وهذا بعيد (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) خبر عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل ، وهذه صفة لم تكن لعيسى ، ولا لغيره ، ففي ذلك ردّ على النصارى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) برهان على إثبات علم الله المذكور قبل ، وفيه ردّ على النصارى ؛ لأن عيسى لا يقدر على التصوير ، بل كان مصوّرا كسائر بني آدم (كَيْفَ يَشاءُ) من طول ، وقصر ، وحسن ، وقبح ، ولون ؛ وغير ذلك (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) المحكم من القرآن : هو البيّن المعنى ، الثابت الحكم ، والمتشابه : هو

١٤٤

مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)

________________________________________________________

الذي يحتاج إلى التأويل ، أو يكون مستغلق المعنى : كحروف الهجاء ، قال ابن عباس : المحكمات : الناسخات والحلال والحرام ، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر ، وهو تمثيل لما قلنا (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي عمدة ما فيه ومعظمه (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال : نعم ، قالوا : فحسبنا إذا ، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه ، وقيل : نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع ، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي ليفتنوا به الناس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي : يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم ، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن ، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ مقطوع مما قبله ، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون : آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته ، وقيل : إنه معطوف على ما قبله ، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله ، وكلا القولين مروي عن ابن عباس ، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وهو أرجح ، وقال ابن عطية : المتشابه نوعان ؛ نوع انفرد الله بعلمه ، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول ، وعطفا بالنظر إلى الثاني (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي : المحكم والمتشابه من عند الله (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) حكاية عن الراسخين ، ويحتمل أن يكون منقطعا على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام ، وأما قوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) : فهو من كلام الله تعالى ، لا حكاية قول الراسخين. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) استدلال على البعث ، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين. أو منقطعا فهو من كلام الله (كَدَأْبِ) في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب (آلِ فِرْعَوْنَ) وفي ذلك تهديد (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون ، ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، والضمير عائد على آل فرعون (بِآياتِنا) البراهين أو الكتاب (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) قرئ بتاء الخطاب ليهود المدينة ، وقيل لكفار قريش ، وقرئ (١) بالياء إخبارا عن

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي : سيغلبون ويحشرون بالياء والباقون بالتاء.

١٤٥

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ

________________________________________________________

يهود المدينة ، وقيل : عن قريش وهو صادق على كل قول ، أما اليهود فغلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع ، وأما قريش ففي بدر وغيرها. والأشهر أنها في بني قينقاع ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر ، فقالوا له : لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال فلو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، فنزلت الآية. ثم أخرجهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) قيل : خطاب للمؤمنين وقيل : لليهود ، وقيل : لقريش ؛ والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم : ستغلبون. ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ) المسلمون والمشركون يوم بدر (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) قرئ : ترونهم بالتاء (١) خطابا لمن خوطب بقوله : قد كان لكم آية. والمعنى : ترون الكفار مثلي المؤمنين. ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم ، وقرئ بالياء. والفاعل في يرونهم المؤمنون ، والمفعول به هم المشركون. والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم. فإن قيل : إنّ الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين ؛ فالجواب من وجهين أحدهما : أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين ، لأن الكفار كانوا قريبا من ألف ، والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر. ثم إنّ الله تعالى قلّل عدد الكفار في أعين المؤمنين ؛ حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين ، ليتجاسروا على قتالهم ، إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للإثنين من قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] ، وهذا المعنى موافق لقوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) [الأنفال : ٤٤] ، والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلا ، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين ، وقيل : إنّ الفاعل في يرونهم ضمير المشركين ، والمفعول ضمير المؤمنين. وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين. والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين. وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم ، ويرد هذا قوله تعالى ، ويقللكم في أعينهم (رَأْيَ الْعَيْنِ) نصب على المصدرية ، ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة ، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين ؛ مع أنهم كانوا أكثر منهم (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) قيل : المزين هو الله وقيل الشيطان. ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار (٢) ، وهو ألف ومائتا أوقية ، وقيل : ألف

__________________

(١). وهي قراءة نافع.

(٢). القنطار ١٢٠٠ أوقية. الأوقية : ٤٠ درهما ، الدرهم : ٤ غرامات تقريبا :

١٤٦

وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

________________________________________________________

ومائتا مثقال ، وكلاهما مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْمُقَنْطَرَةِ) مبنية من لفظ القناطير وللتأكيد ؛ كقولهم : ألوف مؤلفة ، وقيل : المضروبة دنانير أو دراهم (الْمُسَوَّمَةِ) الراعية من قولهم : سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح ، وقيل : المعلمة في وجوهها شيات فهي من السمات بمعنى العلامات وقيل : المعدة للجهاد (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) تحقير لها ليزهد فيها الناس (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) تفضيل للآخرة على الدنيا ليرغب فيها. وتمام الكلام في قوله : من ذلكم ثم ابتدأ قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) تفسيرا لذلك ، فجنات على هذا مبتدأ وخبره (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ، وقيل : إن قوله (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) متعلق بما قبله. وتمام الكلام في قوله : عند ربهم ، فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) زيادة إلى نعيم الجنة ، وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث (١) (الَّذِينَ يَقُولُونَ) نعت للذين اتقوا ، ورفع بالابتداء ، أو نصب بإضمار فعل (الصَّادِقِينَ) في الأقوال والأفعال (وَالْقانِتِينَ) العابدين والمطيعين (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف نستغفر؟ فقال : قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (بِالْأَسْحارِ) جمع سحر وهو آخر الليل يقال : إنه الثلث الأخير ، وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذ : «من يستغفرني فأغفر له» (شَهِدَ اللهُ) الآية : شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل : معناها إعلامه لعباده بذلك (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية ، ويعني بأولي العلم : العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته (قائِماً) منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح (بِالْقِسْطِ) بالعدل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إنما كرر التهليل لوجهين : أحدهما : أنه ذكر أولا الشهادة بالوحدانية ، ثم ذكرها ثانيا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة ، والآخر : أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها (إِنَّ الدِّينَ) بكسر الهمزة ابتداء ، وبفتحها بدل من أنه ، وهو بدل شيء من شيء ، لأن التوحيد هو الإسلام (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ) الآية : إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي ، وهو الحسد ، والآية في اليهود ، وقيل : في النصارى ، وقيل : فيهما (سَرِيعُ الْحِسابِ) قد تقدّم معناه في البقرة وهو هنا تهديد ، ولذلك وقع في جواب من يكفر (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي جادلوك في الدين ،

__________________

(١). رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي هريرة وأدلة : ينزل ربنا ... ٥٢١ / ١.

١٤٧

وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)

________________________________________________________

والضمير لليهود ونصارى نجران (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أي أخلصت نفسي وجملتي (لِلَّهِ) وعبّر بالوجه على الجملة ومعنى الآية : إقامة الحجة عليهم ؛ لأن من أسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك ، فسقطت حجة من خالفه (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء في أسلمت ويجوز أن يكون مفعولا معه (أَأَسْلَمْتُمْ) تقرير بعد إقامة الحجة عليهم أي : قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي : إنما عليك أن تبلغ رسالة ربك ، فإذا أبلغتها فقد فعلت ما عليك ، وقيل : إن فيها موادعة نسختها آية السيف (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) الآية : نزلت في اليهود والنصارى توبيخا لهم ، ووعيدا على قبح أفعالهم ، وأفعال أسلافهم (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هم اليهود ، والكتاب هنا التوراة ، أو جنس (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) قال ابن عباس : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد ، فقالوا له على أي دين أنت؟ فقال لهم : على دين إبراهيم ، فقالوا : إنّ إبراهيم كان يهوديا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبوا عليه فنزلت الآية ، فكتاب الله على هذا التوراة ، وقيل : هو القرآن : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إليه فيعرضون عنه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية : والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم ، والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) أي : كيف يكون حالهم يوم القيامة ، والمعنى : تهويل واستعظام لما أعدّ لهم (اللهُمَ) منادى ، والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين ، ولذلك لا يجتمعان ، وقال الكوفيون : أصله يا الله أمّنا بخير فالميم عندهم من أمّنا (مالِكَ الْمُلْكِ) منادى عند سيبويه ، وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله ؛ وقيل إنّ الآية نزلت ردّا على النصارى في قولهم : إنّ عيسى هو الله «لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى ، وقيل : لما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر : استبعد ذلك المنافقون ، فنزلت الآية (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) قيل : المراد بيدك الخير والشر ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه ، وقيل : إنما خص الخير بالذكر ، لأنّ الآية في معنى دعاء ورغبة

١٤٨

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ

________________________________________________________

فكأنه يقول : بيدك الخير فأجزل حظي منه (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قال عبد الله بن مسعود : هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة ، وقال عكرمة : هي إخراج الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، وقيل : يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ، فالحياة والموت على هذا استعارة ، وفي ذكر الحي من الميت المطابقة ، وهي من أدوات البيان ، وفيه أيضا القلب لأنه قدم الحيّ على الميت ، ثم عكس (بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تضييق وقيل : بغير محاسبة (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) الآية. عامة في جميع الأعصار ، وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود ، وقيل : كتاب حاطب إلى مشركي قريش (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) تبرؤ ممن فعل ذلك ، ووعيد على موالاة الكفار ، وفي الكلام حذف تقديره : ليس من التقرب إلى الله في شيء ، وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله ، قاله ابن عطية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ) إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم ، والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن (تُقاةً) وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين. وفاؤه واو ، وأبدل منها تاء ، ولامه ياء أبدل منها ألف ، وهو منصوب على المصدرية ، ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) تخويف (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب على الظرفية ، والعامل فيه فعل مضمر تقديره : أذكروا أو خافوا وقيل : العامل فيه قدير ، وقيل : المصير ، وقيل : يحذركم (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) مبتدأ خبره تودّ ، أو معطوف (أَمَداً) أي مسافة (وَاللهُ رَؤُفٌ) ذكر بعد التحذير تأنيسا لئلا يفرط [في] الخوف ، أو لأن التحذير والتنبيه رأفة (فَاتَّبِعُونِي) جعل اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له ، وقيل إنّ الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) الآية : لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه ، وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه‌السلام ، وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما‌السلام تكميلا للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء ، ثم ذكر إبراهيم تدريجا إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه‌السلام ، وقيل : إنّ عمران هنا هو والد موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، والأظهر أن المراد هنا والد مريم ، لذكر قصتها بعد ذلك (آلَ إِبْراهِيمَ

١٤٩

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا

________________________________________________________

وَآلَ عِمْرانَ) يحتمل أن يريد بآل : القرابة ، أو الأتباع ، وعلى الوجهين ؛ يدخل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آل إبراهيم (ذُرِّيَّةً) بدل مما تقدم أو حال ووزنه فعلية منسوب إلى الذر أي النمل. لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، (إِذْ قالَتِ) العامل فيه محذوف تقديره : اذكروا ، وقيل : عليم ، وقال الزجّاج : العامل فيه معنى الاصطفاء (امْرَأَتُ عِمْرانَ) اسمها حنة بالنون ، وهي أم مريم ، وعمران هذا هو والد مريم (نَذَرْتُ) أي : جعلت نذرا عليّ أن يكون هذا الولد في بطني حبسا على خدمة بيتك ، وهو بيت المقدس (مُحَرَّراً) أي عتيقا من كل شغل إلّا خدمة المسجد (فَلَمَّا وَضَعَتْها) الآية. كانوا لا يحررون الإناث للقيام بخدمة المساجد ، فقالت : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) تحسرا وتلهفا على ما فاتها من النذر الذي نذرت (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) قرئ وضعت بإسكان التاء وهو من كلام الله تعظيما لوضعها وقرئ بضم التاء (١) وإسكان العين وهو على هذا من كلامها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يحتمل أن يكون من كلام الله ، فالمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لك ، وأن يكون من كلامها فالمعنى : ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد ؛ لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث (سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) إنما قالت لربها سميتها مريم ؛ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة ، فأرادت بذلك التقرب إلى الله ، ويؤخذ من هذا تسمية المولود يوم ولادته ، وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث ، وفيه أيضا العجمة (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) ورد في الحديث «ما من مولود إلّا نخسه الشيطان يوم ولد فيستهل صارخا إلّا مريم وابنها» (٢) ، لقوله : وإني أعيذها بك : الآية (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي رضيها للمسجد مكان الذكر (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) فيه وجهان : أحدهما : أن يكون مصدرا على غير المصدر ، والآخر : أن يكون اسما لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) عبارة عن حسن النشأة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) (٣) أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته ، والكافل هو الحاضن ، وكان زكريا زوج خالتها ، وقرئ كفلها بتشديد الفاء ، ونصب زكريا : أي جعله الله كافلها (الْمِحْرابَ) في اللغة : أشرف المجالس ، وبذلك سمي موضع الإمام ، ويقال : إنّ زكريا بنى لها غرفة في المسجد ، وهي المحراب هنا ، وقيل : المحراب موضع العبادة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة

__________________

(١). هي قراءة ابن عامر وأبو بكر والباقون سكون التاء.

(٢). أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج ٢ ص ٣٦٢.

(٣). وكفلها : بدون تشديد الفاء حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وغيره وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد.

١٥٠

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا

________________________________________________________

الصيف في الشتاء ، ويقال : إنها لم ترضع ثديا قط ، وكان الله يرزقها (أَنَّى لَكِ هذا) إشارة إلى مكان أي : كيف ومن أين؟ (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ) يحتمل أن يكون من كلام مريم أو من كلام الله تعالى (هُنالِكَ) إشارة إلى مكان ، وقد يستعمل في الزمان ، وهو الأظهر هنا أي : لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم : سأل من الله الولد (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أنث رعاية للجماعة ، وقرئ فناداه بالألف (١) على التذكير ، وقيل : الذي ناداه جبريل وحده وإنما قيل الملائكة : لقولهم : فلان يركب الخيل ، أي جنس الخيل وإن كان فرسا واحدا يحيى اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد ، وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقا وبناء في العربية ، وهو لا ينصرف ، فإن كان في الإعراب أعجميا ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي مصدقا بعيسى عليه‌السلام مؤمنا به ، وسمي عيسى كلمة الله ، لأنه لم يوجد إلّا بكلمة الله وحدها وهي قوله : كن لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم (وَسَيِّداً) السيد ، الذي يسود قومه ؛ أي يفوقهم في الشرف والفضل (وَحَصُوراً) أي لا يأتي النساء فقيل : خلقه الله كذلك ، وقيل : كان يمسك نفسه ، وقيل : الحصور الذي لا يأتي الذنوب (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) تعجّب استبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته ، وعقم امرأته ، ويقال : كان له تسع وتسعون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون سنة ، وفاستبعد ذلك في العادة ، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك ، فسأله مع علمه بقدرة الله ، واستبعده لأنه نادر في العادة ، وقيل : سأله وهو شاب ، وأجيب وهو شيخ ، ولذلك استبعده (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي مثل هذه الفعلة العجيبة ، يفعل الله ما يشاء ؛ فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلة ، والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا ، واسم الله مرفوع بالابتداء ، أو كذلك خبره فيجب وصله معه ، وقيل : الخبر يفعل الله ما يشاء ، ويحتمل كذلك على هذا وجهين : أحدهما : أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل ، والآخر : أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأمر كذلك ، أو أنتما كذلك ، وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام ، وارتباط قوله : يفعل ما يشاء مع ما قبله ، ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله : (كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) [هود : ١٠٢] (اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : علامة على حمل المرأة (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي علامتك أن

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي فناداه بألف مع الإمالة.

١٥١

وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا

________________________________________________________

لا تقدر على كلام الناس (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بمنع لسانه عن ذلك مع إبقاء الكلام بذكر الله ، ولذلك قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكرا على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر (إِلَّا رَمْزاً) إشارة باليد أو بالرأس أو غيرهما ، فهو استثناء منقطع (بِالْعَشِيِ) من زوال الشمس إلى غروبها ، والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) اختلف ، هل المراد جبريل أو جمع من الملائكة؟ والعامل في إذ مضمر (اصْطَفاكِ) أولا حين تقبلك من أمك (وَطَهَّرَكِ) من كل عيب في خلق وخلق ودين (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصا ؛ بأن وهب لها عيسى من غير أب ، فيكون على نساء العالمين عاما ، أو يكون الاصطفاء عاما فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة ، أو يكون المعنى : على نساء زمانها ؛ وقد قيل : بتفضيلها على الإطلاق ، وقيل : إنها كانت نبية لتكليم الملائكة لها (اقْنُتِي) القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة ، وقيل : طول القيام في الصلاة وهو قول الأكثرين (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) أمرت بالصلاة فذكر القنوت والسجود لكونها من هيئة الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها : اركعي مع الراكعين بمعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين ، أو في الجماعة ؛ فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع ، لأنه لم يرد الركوع والسجود المنضمين في ركعة واحدة ، وقيل أراد ذلك ، وقدم السجود لأن الواو لا ترتب ، ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من القصص وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) احتجاجا على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لكونه أخبر بهذه الأخبار وهو لم يحضر معهم (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي أزلامهم ، وهي قداحهم ، وقيل : الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة ؛ اقترعوا بها على كفالة مريم ، حرصا عليها وتنافسا في كفالتها ، وتدل الآية على جواز القرعة ، وقد ثبتت أيضا من السنة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) مبتدأ وخبر في موضع نصب بفعل تقديره : ينظرون أيهم (يَخْتَصِمُونَ) يختلفون فيمن يكفلها منهم (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) إذ بدل من إذ قالت ، أو من إذ يختصمون ، والعامل فيه مضمر (اسْمُهُ) أعاد الضمير المذكر على الكلمة ، لأن المسمى بها ذكر (الْمَسِيحُ) قيل : هو مشتق من ساح في الأرض ، فوزنه مفعل ، وقال الأكثرون : من مسح لأنه مسح بالبركة فوزنه فعيل وإنما قال : عيسى ابن مريم والخطاب لمريم لينسبه إليها ، إعلاما بأنه يولد من غير والد (وَجِيهاً) نصب على الحال ، ووجاهته في الدنيا النبوة والتقديم على الناس ، وفي الآخرة

١٥٢

وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٥١)

________________________________________________________

الشفاعة وعلوّ الدرجة في الجنة (فِي الْمَهْدِ) في موضع الحال ، (وَكَهْلاً) عطف عليه ، والمعنى أنه يكلم الناس صغيرا ؛ آية تدل على براءة أمّه مما قذفها به اليهود ، وتدل على نبوته ، ويكلمهم أيضا كبيرا ؛ ففيه إعلام بعيشه إلى أن يبلغ سن الكهولة ، وأوله : ثلاث وثلاثون سنة وقيل : أربعون (وَيُعَلِّمُهُ) عطف على يبشرك أو ويكلم (الْكِتابَ) هنا جنس ، وقيل الخط باليد ، والحكمة هنا العلوم الدينية ، أو الإصابة في القول والفعل (وَرَسُولاً) حال معطوف على ويعلمه إذ التقدير : ومعلما الكتاب أو يضمر له فعل تقديره أرسل رسولا أو جاء رسولا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أرسل إليهم عيسى عليه‌السلام مبينا لحكم التوراة (أَنِّي) تقديره بأني (أَخْلُقُ) بفتح الهمزة بدل من أني الأولى ، أو من آية وبكسرها ابتداء كلام (فَأَنْفُخُ فِيهِ) ذكر هنا الضمير لأنه يعود على الطين ، أو على الكاف من كهيئة ، وأنث في المائدة (١) لأنه يعود على الهيئة (فَيَكُونُ طَيْراً) قيل : إنه لم يخلق غير الخفاش ، وقرئ طيرا بياء ساكنة على الجمع ، وبالألف وهمزة طائرا على الإفراد ، ذكر بإذن الله : رفعا لوهم من توهم في عيسى الربوبية (وَأُبْرِئُ) روي أنه كان يجتمع إليه جماعة من العميان والبرصاء فيدعو لهم فيبرءون (وَأُحْيِ الْمَوْتى) روي أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلمه ، وروي أنه أحيى سام بن نوح (وَأُنَبِّئُكُمْ) كان يقول : يا فلان أكلت كذا وادخرت في بيتك كذا (وَمُصَدِّقاً) عطف على رسولا أو على موضع بآية من ربكم ، لأنه في موضع الحال ، وهو أحسن لأنه من جملة كلام عيسى فالتقدير : جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم مصدقا (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على بآية من ربكم ، وكانوا قد حرم عليهم الشحم ولحم الإبل وأشياء من الحيتان (٢) والطير فأحل لهم عيسى بعض ذلك (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ردّ على من نسب الربوبية لعيسى وانتهى كلام عيسى عليه‌السلام إلى قوله : (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) وابتداؤه من قوله : أني قد جئتكم ، وكل ذلك يحتمل أن يكون مما

__________________

(١). فتنفخ فيها وهنا قال : فيه.

(٢). الحيتان المراد بها الأسماك عموما.

١٥٣

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

________________________________________________________

ذكرت الملائكة لمريم ، حكاية عن عيسى عليه‌السلام أنه سيقوله ، ويحتمل أن يكون خطاب مريم قد انقطع ثم استؤنف الكلام من قوله ورسولا ، على تقدير جاء عيسى رسولا : بأني قد جئتكم بآية من ربكم ، ثم استمر كلامه إلى آخره (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي علم علما ظاهرا كعلم ما يدرك بالحواس (مَنْ أَنْصارِي) طلب للنصرة ، والأنصار جمع ناصر (إِلَى اللهِ) تقديره : من يضيف أنفسهم (١) في نصرتي إلى الله فلذلك قيل : إلى هنا بمعنى مع أو يتعلق بمحذوف تقديره ذاهبا أو ملتجئا إلى الله (الْحَوارِيُّونَ) حواري الرجل صفوته وخاصته ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبيّ حواريّ وإن حواريّ الزبير» (٢) وقيل : إنّ الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي : يبيضونها ولذلك سماهم الحواريين (بِما أَنْزَلْتَ) يريدون الإنجيل ، والرسول هنا عيسى عليه‌السلام (مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم ، وقيل : مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم يشهدون على الناس (وَمَكَرُوا) الضمير لكفار بني إسرائيل ومكرهم أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة (وَمَكَرَ اللهُ) أي رفع عيسى إلى السماء ، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل عوضا منه (٣) ، وعبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة لقوله مكروا (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم وهو فاعل ذلك بحق ، والماكر من البشر فاعل بالباطل (إِذْ قالَ اللهُ) العامل فيه فعل مضمر ، أو يمكر (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قيل : وفاة موت ، ثم أحياه الله في السماء ، وقيل : رفع حيا ، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال ، وقيل : يعني وفاة نوم ؛ وقيل : المعنى قابضك من الأرض إلى السماء (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي إلى السماء (وَمُطَهِّرُكَ) أي من سوء جوارهم (الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم المسلمون ، وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر وقيل : الذين اتبعوك النصارى ، والذين كفروا اليهود ، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود وإذلالهم لهم (ذلِكَ نَتْلُوهُ) إشارة إلى ما تقدم من الأخبار (مِنَ الْآياتِ) المتلوّات أو المعجزات (الذِّكْرِ) القرآن (الْحَكِيمِ) الناطق بالحكمة.

__________________

(١). قوله : يضيف أنفسهم : يبدو في الكلام نقص أو خطأ.

(٢). أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ج ٣ ص ٤٦٤.

(٣). ذكر المؤلف في تفسير الآية ٥٨ من سورة النساء قولا آخر هو أرجح من هذا فانظره هناك.

١٥٤

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)

________________________________________________________

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) الآية حجة على النصارى في قولهم : كيف يكون ابن دون أب ، فمثّله الله بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب ، وذلك أغرب مما استبعدوه ، فهو أقطع لقولهم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) تفسير لحال آدم فيكون حكاية عن حال ماضية ، والأصل لو قال : خلقه من تراب ، ثم قال له كن فكان ، لكنه وضع المضارع موضع الماضي ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم (الْحَقُ) خبر مبتدأ مضمر (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي في عيسى ، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى ، وكان لهم سيدان يقال لأحدهما : السيد ، والآخر ، العاقب (نَبْتَهِلْ) نلتعن والبهلة اللعنة أي نقول : لعنة الله على الكاذب منا ومنكم ، هذا أصل الابتهال : ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن لعنة ، ولما نزلت الآية أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة فخافوا أن يهلكهم الله أو يمسخهم الله قردة وخنازير ، فأبوا من الملاعنة وأعطوا الجزية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لنصارى نجران ، وقيل : اليهود (سَواءٍ) أي عدل ونصف (أَلَّا نَعْبُدَ) بدل من كلمة أو رفع على تقدير هي ، ودعاهم صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى توحيد الله وترك ما عبدوه من دونه كالمسيح والأحبار والرهبان (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) قالت اليهود : كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى : كان نصرانيا ، فنزلت الآية ردّا عليهم لأن ملة اليهود والنصارى إنما وقعت بعد موت إبراهيم بمدة طويلة (ها أَنْتُمْ) ها تنبيه ، وقيل : بدل من همزة الاستفهام ، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وحاججتم استئناف ؛ أو هؤلاء منصوب على التخصيص وحاججتم الخبر (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فيما نطقت به التوراة والإنجيل (فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ما تقدم على ذلك من حال إبراهيم (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) ردّ على اليهود والنصارى (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نفي للإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي

١٥٥

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ

________________________________________________________

يتضمن دين اليهود والنصارى (وَهذَا النَّبِيُ) عطف على الذين اتبعوه : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) لأنه على دينه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَدَّتْ طائِفَةٌ) هم اليهود ، دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي لا يعود وبال الإضلال إلّا عليهم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي تعلمون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ) أي تخلطون : والحق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباطل الكفر به (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ) كان قوم من اليهود لعنهم الله أظهروا الإسلام أول النهار ، ثم كفروا آخره ليخدعوا المسلمين فيقولوا : ما رجع هؤلاء إلّا عن علم ، وقال السهيلي : إنّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ؛ الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله متصلا بقوله : إنّ الهدى هدى الله وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلا بقولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، ويكون إنّ الهدى اعتراضا بين الكلامين ، فعلى الأول يكون المعنى : كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقلتم ما قلتم ، ودبرتم ما دبرتم من الخداع ، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله ، أو منصوب بفعل مضمر تقديره : فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة ، وعلى الثاني فيكون المعنى. لا تؤمنوا أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم لئلا يدعوهم إلى الإسلام ، فموضع أن يؤتى مفعول بتؤمنوا المضمن معنى تقروا ، ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله : أي لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على أن يؤتى ، وضمير الفاعل للمسلمين ، وضمير المفعول لليهود (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ردّ على اليهود في قولهم : لم يؤت أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة والشرف (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية : إخبار أن أهل الكتاب على قسمين : أمين ، وخائن. وذكر القنطار مثالا للكثير ؛ فمن أدّاه : أدّى ما دونه ، وذكر الدينار مثالا للقليل ، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى (قائِماً) يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد ، أو من القيام بالأمر ، وهو

١٥٦

لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ

________________________________________________________

العزيمة عليه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) الإشارة إلى خيانتهم والباء للتعليل (لَيْسَ عَلَيْنا) زعموا : بأنّ أموال الأمّيين وهم العرب حلال لهم (الْكَذِبَ) هنا قولهم ، إنّ الله أحلها عليهم في التوراة ، أو كذبهم على الإطلاق (بَلى) عليهم سبيل وتباعة ضمان في أموال الأمّيين (بِعَهْدِهِ) الضمير يعود على من أو على الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) الآية قيل : نزلت في اليهود ؛ لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا ، وقيل : نزلت بسبب خصومة بين الأشعث بن قيس وآخر ، فأراد خصمه أن يحلف كاذبا (وَإِنَّ مِنْهُمْ) الضمير عائد على أهل الكتاب (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) أي يحرفون اللفظ أو المعنى (لِتَحْسَبُوهُ) الضمير يعود على ما دل عليه قوله : يلوون ألسنتهم ، وهو الكلام المحرف.

(ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية : هذا النفي متسلط على (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) والمعنى : لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوّة ، والإشارة إلى عيسى عليه‌السلام ، ردّ على النصارى الذين قالوا : إنه الله ، وقيل : إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن اليهود قالوا يا محمد : تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال : معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت (رَبَّانِيِّينَ) جمع رباني ، وهو العالم ، وقيل : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره (١) (بِما كُنْتُمْ) الباء سببية وما مصدرية (تُعَلِّمُونَ) بالتخفيف تعرفون. [وهي قراءة نافع وغيره] وقرئ بالتشديد من التعليم (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع : استئناف ، والفاعل الله أو البشر المذكور ، وقرئ بالنصب (٢) عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول ، والفاعل على هذا البشر.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) معنى الآية ؛ أنّ الله أخذ العهد والميثاق ، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وينصره إن أدركه ، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء ، واللام في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) لام التوطئة ، لأنّ أخذ الميثاق في

__________________

(١). المقصود مسائل العلم وقضاياها الابتدائية ثم العالية بالتدريج.

(٢). وهي قراءة عاصم وغيره.

١٥٧

وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (٨٨)

________________________________________________________

معنى الاستخلاف ، واللام في لتؤمنن جواب القسم ، وما يحتمل أن تكون شرطية ، ولتؤمنن سدّ مسدّ جواب القسم والشرط. وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيناكموه (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) والضمير في به ولتنصرنه عائد على الرسول (أَأَقْرَرْتُمْ) أي اعترفتم (إِصْرِي) عهدي (فَاشْهَدُوا) أي على أنفسكم وعلى أممكم بالتزام هذا العهد (وَأَنَا مَعَكُمْ) تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جلّ جلاله (بَعْدَ ذلِكَ) أي من تولى عن الإيمان بهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذا الميثاق ؛ فهو فاسق مرتد متمرد في كفره (أَفَغَيْرَ) الهمزة للإنكار ، والفاء عطفت جملة على جملة ، وغير مفعول قدّم للاهتمام به أو للحصر (وَلَهُ أَسْلَمَ) أي انقاد واستسلم (طَوْعاً وَكَرْهاً) مصدر صدّر في موضع الحال ، والطوع للمؤمنين والكره للكافر إذا عاين الموت ، وقيل : عند أخذ الميثاق المتقدّم ، وقيل : إقرار كل كافر بالصانع هو إسلامه كرها (قُلْ آمَنَّا) أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أمّته بالإيمان (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) تعدى هنا (بَعْلِي) مناسبة لقوله : قل ، وفي البقرة بإلى لقوله : قولوا. لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علو. ونزوله على هذا المعنى مختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإلى حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمّة (وَمَنْ يَبْتَغِ) الآية : إبطال لجميع الأديان غير الإسلام ، وقيل : نسخت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى) [البقرة : ٦٢] الآية (كَيْفَ) سؤال ، والمراد به هنا : استبعاد الهدى (قَوْماً كَفَرُوا) نزلت في الحرث بن سويد وغيره ؛ أسلموا ثم ارتدّوا ولحقوا بالكفار ، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلة الآية إلى قوله : إلّا الذين تابوا ، فرجعوا إلى الإسلام ؛ وقيل : نزلت في اليهود والنصارى شهدوا [ممن] بصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث ، وشهدوا ؛ عطف على إيمانهم ، لأنّ معناه بعد أن آمنوا ، وقيل : الواو للحال ، وقال ابن عطية : عطف على كفروا والواو لا ترتب (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين ، أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة (خالِدِينَ فِيها) الضمير عائد على اللعنة ، وقيل : على النار وإن لم تكن ذكرت ؛ لأنّ

١٥٨

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٩١) لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)

________________________________________________________

المعنى يقتضيها (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قيل : هم اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى ، ثم ازدادوا كفرا ؛ بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بعداوتهم له وطعنهم عليه ؛ وقيل : هم الذين ارتدّوا (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قيل : ذلك عبارة عن موتهم على الكفر : أي ليس لهم توبة فتقبل ، وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر ، وقيل : لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر ، فذلك عامّ (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ) جزم بالعذاب لكل من مات على الكفر. والواو في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ ،) قيل : زيادة وقيل : للعطف على محذوف ، كأنه قال : لن يقبل من أحدهم لو تصدّق به ولو افتدى به وقيل : نفى أولا القبول جملة على الوجوه كلها ، ثم خص الفدية بالنفي كقولك : أنا لا أفعل كذا أصلا ولو رغبت إليّ.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي لن تكونوا من الأبرار ، ولن تنالوا البر الكامل (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة : إنّ أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة ، وكان ابن عمر يتصدّق بالسكر ويقول : إني لأحبه. (كُلُّ الطَّعامِ) الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) أبوهم يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) وهو لحم الإبل ولبنها ، ثم حرّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها ، عقوبة لهم على معاصيهم ، وفيها رد عليهم في قولهم : إنهم على ملة إبراهيم عليه‌السلام ، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم ، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه ؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها ، خلافا لليهود في قولهم : إنّ النسخ محال على هذه الأشياء ، وفيها معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد ، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض ، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا لله وتقرّبا إليه ، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ) تعجيزا لليهود ، وإقامة حجة عليهم ، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة (فَمَنِ افْتَرى) أي : من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره ، كان محرما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل (صَدَقَ اللهُ) أي الأمر كما وصف ، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إلزام لهم أن يسلموا ، كما ثبت أن ملة

١٥٩

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)

________________________________________________________

الإسلام هي ملة إبراهيم ، التي لم يحرم فيها شيء مما هو محرم عليهم.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) أي أول مسجد بني في الأرض ، وقد سأل أبو ذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي مسجد بني أول؟ قال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس (١) ، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : المعنى أنه أول بيت وضع مباركا وهدى وقد كانت قبله بيوتا (بِبَكَّةَ) قيل : هي مكة والباء بدل من الميم ، وقيل : مكة الحرم كله ، وبكة المسجد وما حوله (مُبارَكاً) نصب على الحال والعامل فيه على قول عليّ : وضع (مُبارَكاً) على أنه حال من الضمير الذي فيه ، وعلى القول الأول : هو حال من الضمير المجرور. والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) آيات البيت كثيرة. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء ، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين ، وذلك الأثر باق إلى اليوم ، ومنها أن الطيور لا تعلوه ، ومنها إهلاك أصحاب الفيل ، ورد الجبابرة عنه ، ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه ، وحفر عبد المطلب بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شرب له ، إلى غير ذلك (مَقامُ إِبْراهِيمَ) قيل : إنه بدل من الآيات أو عطف بيان ، وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة ؛ لدلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك ، وقيل : الآيات ؛ مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، فعلى هذا يكون قوله : ومن دخله عطفا ، وعلى الأول استئنافا ، وقيل : التقدير ؛ منهن مقام إبراهيم ، فهو على هذا مبتدأ ، والمقام هو الحجر المذكور ، وقيل : البيت كله ، وقيل : مكة كلها (كانَ آمِناً) أي آمنا من العذاب ، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب ، ولا يعاقب ، فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود ، ولا من القصاص ، وقال ابن عباس وأبو حنيفة : ذلك الحكم باق في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدّ أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج ، وقيل : آمنا من النار.

(حِجُّ الْبَيْتِ) بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قيل لهم : إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه (مَنِ اسْتَطاعَ) بدل من الناس ، وقيل : فاعل بالمصدر ، وهو حج ؛ وقيل : شرط مبتدأ ؛ أي : من استطاع فعليه الحج ؛ والاستطاعة عند مالك هي : القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن ، إما راجلا وإما راكبا ، مع الزاد

__________________

(١). أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ص ١١٧ ج ٤.

١٦٠