التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

مقرئ جليل ثقة صدوق ، حافظ لما يكتب عنه. قرأ على اليزيدي ، وقرأ عليه أحمد بن حرب المعدل وجماعة.

أحمد بن فرج : أبو جعفر الضرير البغدادي المفسر ( ـ ٣٠٣ ه‍).

ثقة كبير ، قرأ على الدوري تلميذ اليزيدي بجميع ما عنده من القراءات ، وعلى عبد الرحمن بن واقد وعلى البزي وعمر بن شبة. وقرأ عليه جماعة منهم بن مقسم وابن مجاهد وابن شنبوذ. قارب التسعين.

١٣ ـ الحسن البصري : أبو سعيد بن يسار (٢١ ـ ١١٠ ه‍).

إمام زمانه علما وعملا ، أشهر من أن يعرّف. وقرأ على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري ، وعن أبي العالية عن أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وعمر بن الخطاب.

روى عنه أبو عمرو بن العلاء وسلام الطويل ويونس بن عبيد وعيسى بن عمر النحوي.

قال الشافعي : لو أشاء أقول إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت ، لفصاحته.

شجاع بن أبي نصر البلخي : أبو نعيم البغدادي الزاهد (١٢٠ ـ ١٩٠ ه‍).

ثقة كبير. عرض على أبي عمرو بن العلاء وهو من جلة أصحابه وسمع من عيسى بن عمر.

روى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو عمر الدوري وغيرهما. سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال : «بخ بخ ، وأين مثله اليوم».

الدوري : أحد راويي أبي عمرو بن العلاء أيضا ، تقدمت ترجمته.

١٤ ـ الأعمش : سليمان بن مهران ، أبو محمد الكوفي مولي بني أسد (٦٠ ـ ١٤٨ ه‍). الإمام الجليل ، مقرئ الأئمة ، صاحب نوادر.

أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي وزر بن حبيش وعاصم بن أبي النجود ومجاهد بن جبر وأبي العالية الرياحي وغيرهم. روى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة. وروى عنه الحروف محمد بن عبد الله المعروف بزاهر ومحمد بن ميمون.

قال هشام : (ما رأيت في الكوفة أقرأ لكتاب الله من الأعمش). وكان يقول : «إن الله زيّن بالقرآن أقواما ، وإني ممن زينه الله بالقرآن ، ولو لا ذلك لكان على عنقي دنّ أطوف به في سكك الكوفة».

الحسن بن سعيد المطوعي : أبو العباس العباداني البصري العمري ( ـ ٣٧١ ه‍).

إمام عارف ثقة في القراءة. رحل فيها إلى الأقطار فقرأ على إدريس بن عبد الكريم

٦١

ومحمد الأصبهاني ويوسف الواسطي والحسن بن حبيب الدمشقي وابن مجاهد ويموت بن المزرع وابن شنبوذ وجماعة.

وقرأ عليه جماعة ، وعمّر حتى جاوز المائة فانتهى إليه علو الإسناد في القراءات. له كتاب معرفة اللامات وتفسيرها.

أبو الفرج الشنبوذي : محمد بن أحمد إبراهيم الشطوي البغدادي (٣٠٠ ـ ٣٨٨ ه‍).

أستاذ من أئمة القراءة ، مشهور نبيل حافظ حاذق ، رحل ولقي الشيوخ وأكثر وتبحر في التفسير. أخذ القراءة عرضا عن ابن مجاهد وأبي بكر النقاش وأبي الحسن بن شنبوذ (ولازمه فنسب إليه) وغيرهم. وقرأ عليه جماعة واشتهر اسمه ، وطال عمره مع علمه بالتفسير وعلل القراءات» اه.

٦٢

سورة الفاتحة

وهي سبع آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

________________________________________________________

سورة أم القرآن

وتسمى سورة الحمد لله ، وفاتحة الكتاب ، والواقية ، والشافية ، والسبع المثاني. وفيها عشرون فائدة ، سوى ما تقدّم في اللغات من تفسير ألفاظها ، واختلف هل هي مكية أو مدنية؟ ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات ، إلّا أنّ الشافعي يعدّ البسملة آية منها ، والمالكيّ يسقطها ، ويعدّ أنعمت عليهم آية.

الفائدة الأولى : قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي ، خلافا لأبي حنيفة وحجتهما ؛ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للذي علمه الصلاة : «اقرأ ما تيسر من القرآن» (١).

الفائدة الثانية : اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد : أي قولوا : الحمد لله ، أو هو ابتداء كلام الله ، ولا بدّ من إضمار القول في : «إياك نعبد» وما بعده.

الفائدة الثالثة : الحمد أعمّ من الشكر ؛ لأنّ الشكر لا يكون إلّا جزاء على نعمة ، والحمد يكون جزاء كالشكر ، ويكون ثناء ابتداء ، كما أنّ الشكر قد يكون أعم من الحمد ، لأن الحمد باللسان ؛ والشكر باللسان والقلب ، والجوارح. فإذا فهمت عموم الحمد : علمت أنّ قولك : الحمد لله يقتضي الثناء عليه ؛ لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات ، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين ، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى ، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات ، واتفق دون عدّه عقول الخلائق ، ويكفيك أن الله جعلها أوّل كتابه ، وآخر دعوى أهل الجنة.

الفائدة الرابعة : الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم ، قال رسول الله

__________________

(١). ذكر المناوي في التيسير حديثا عن أنس بن مالك : «أفضل القرآن : الحمد لله رب العالمين» وعزاه للحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وذكر الشافعي في الأم حديثا بسنده إلى عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب».

٦٣

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)

________________________________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التحدّث بالنعم شكر» (١) والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه ، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة. والعلم بأنها من الله وحده ، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد. وأعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى ، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام : نعم دنيوية : كالعافية والمال ، ونعم دينية : كالعلم ، والتقوى. ونعم أخروية : وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير. والناس في الشكر على مقامين : منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة ، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم ، والشكر على ثلاث درجات : فدرجات العوام الشكر على النعم ، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم ، قال رجل لإبراهيم بن أدهم : الفقراء إذا منعوا شكروا. وإذا أعطوا آثروا (٢) ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق ، ومن صفات الخلق فإنّ من أسماء الله : الشاكر والشكور ، وقد فسرتهما في اللغة.

الفائدة الخامسة : قولنا : «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من لا إله إلّا الله لوجهين : أحدهما ما خرّجه النسائي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال لا إله إلّا الله كتب له عشرون حسنة ، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة» والثاني : أنّ التوحيد الذي يقتضيه لا إله إلّا الله حاصل في قولك «رب العالمين» وزادت بقولك الحمد لله ، وفيه من المعاني ما قدّمنا ، وأما قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلّا الله» (٣) ، فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه ، وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها ، وهذا المؤمن يقولها لطلب الثواب ، أما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلّا الله.

الفائدة السادسة : الرب وزنه فعل بكسر العين ثم أدغم ، ومعانيه أربعة : الإله ، والسيد ، والمالك ، والمصلح. وكلها في رب العالمين ، إلّا أن الأرجح معنى الإله : لاختصاصه لله تعالى ، كما أنّ الأرجح في العالمين : أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى ، فيعم جميع المخلوقات.

الفائدة السابعة : ملك قراءة الجماعة بغير ألف من الملك ، وقرأ عاصم والكسائي

__________________

(١). أورده العجلوني في كشف الخفاء ص ٢٩٨ ج ١ بلفظ : «التحدث بالنعمة شكر» وعزاه لأحمد والطبراني عن النعمان بن بشير.

(٢). كذا بالأصل ، والكلام فيه نقص والحكاية معروفة عن حدّ الشكر.

(٣). هو جزء من حديث : أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت ... عزاه العجلوني في كشف الخفاء لمالك مرسلا وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب.

٦٤

الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا

________________________________________________________

بالألف والتقدير على هذا : مالك مجيء يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين ، وقراءة الجماعة أرجح من ثلاثة أوجه. الأوّل : أنّ الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما الملك فهو سيد الناس ، والثاني : قوله : وله الملك يوم ينفخ في الصور والثالث : أنها لا تقتضي حذفا ، والأخرى تقتضيه ؛ لأنّ تقديرها مالك الأمر ، أو مالك مجيء يوم الدين ، والحذف على خلاف الأصل. وأمّا قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين فهي على طريقة الاتساع ، وأجري الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية : أي الملك في يوم الدين ، ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين ، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قرئ ملك بوجوه كثيرة إلّا أنها شاذة.

الفائدة الثامنة : الرحمن ، الرحيم ، مالك : صفات ، فإن قيل : كيف جرّ مالك ومالك صفة للمعرفة ، وإضافة اسم الفاعل غير محضة؟ فالجواب : أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، وأما هذا فهو مستمر دائما فإضافته محضة.

الفائدة التاسعة : هو يوم القيامة ويصلح هنا في معاني الحساب والجزاء والقهر ، ومنه إنا لمدينون.

الفائدة العاشرة : إياك في الموضعين مفعول بالفعل الذي بعده ، وإنما قدّم ليفيد الحصر فإنّ تقديم المعمولات يقتضي الحصر ، فاقتضى قول العبد إياك نعبد أن يعبد الله وحده لا شريك له ، واقتضى قوله : «وإياك نستعين» اعترافا بالعجز والفقر وأنا لا نستعين إلّا بالله وحده.

الفائدة الحادية عشرة : إياك نستعين : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية ، وأنّ الحق بين ذلك.

الفائدة الثانية عشرة : اهدنا : دعاء بالهدى. فإن قيل كيف يطلب المؤمنون الهدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب إن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت ، أو الزيادة منه فإنّ الارتقاء في المقامات لا نهاية له.

الفائدة الثالثة عشرة : قدم الحمد والثناء على الدعاء لأنّ تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح ، وذلك أقرب للإجابة. وكذلك قدّم الرحمن على ملك يوم الدين لأنّ رحمة الله سبقت غضبه ، وكذلك قدّم إياك نعبد على إياك نستعين لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة.

الفائدة الرابعة عشرة : ذكر الله تعالى في أوّل هذه السورة على طريق الغيبة ، ثم على

٦٥

الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)

________________________________________________________

الخطاب في إياك نعبد وما بعده ، وذلك يسمى الالتفات ، وفيه إشارة إلى أنّ العبد إذا ذكر الله تقرّب منه فصار من أهل الحضور فناداه.

الفائدة الخامسة عشرة : الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى ، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير والشر ، ومعنى المستقيم القويم الذي لا عوج فيه ، فالصراط المستقيم الإسلام ، وقيل القرآن ، والمعنيان متقاربان ، لأنّ القرآن يضمن شرائع الإسلام وكلاهما مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرئ الصراط بالصاد والسين وبين الصاد والزاي ، وقد قيل إنه قرئ بزاي خالصة ، والأصل فيه السين ، وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق ، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر.

الفائدة السادسة عشرة : الذين أنعمت عليهم : قال ابن عباس : هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون. وقيل : المؤمنون وقيل الصحابة ، وقيل قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا ، والأوّل أرجح لعمومه ، ولقوله : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩].

الفائدة السابعة عشرة : إعراب غير المغضوب بدل ، ويبعد النعت لأنّ إضافته غير مخصوصة وهو قد جرى عن معرفة وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال.

الفائدة الثامنة عشرة : إسناد أنعمت عليهم إلى الله. والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب : كقوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] وعليهم أوّل في موضع نصب ، والثاني في موضع رفع.

الفائدة التاسعة عشرة : المغضوب عليهم اليهود ، والضالين : النصارى ، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وقد روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه ، وكل ضال ، والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجلالة قائله وذكر ولا في قوله : ولا الضالين دليل على تغاير الطائفتين وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن : كقوله (فَباؤُ بِغَضَبٍ) [البقرة : ٩٠] ، والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى بن مريم عليه‌السلام ، ولقول الله فيه : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧].

الفائدة العشرون : هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدّمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، والدار الآخرة : في قوله مالك يوم الدين ، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي : في قوله

٦٦

……………………………………………………………………………….

________________________________________________________

إياك نعبد والشريعة كلها في قوله : الصراط المستقيم ، والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم ، وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

خاتمة : أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها ، وقولك : آمين اسم فعل معناه : اللهم استجب ، وقيل : هو من أسماء الله ، ويجوز فيه مدّ الهمزة وقصرها ، ولا يجوز تشديد الميم ، وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ ، واختلفوا إذا جهر.

٦٧

سورة البقرة

مدنية إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجة الوداع

وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الم (١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (٢)

________________________________________________________

سورة البقرة

(الم) اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور ، وهي : المص ، والر ، والمر ، وكهيعص ، وطه ، وطسم ، وطس ، ويس ، وص ، وق ، وحم ، وحم عسق ، ون. فقال قوم : لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله ، قال أبو بكر الصديق : لله في كل كتاب سرّ ، وسرّه في القرآن فواتح السور ، وقال قوم تفسر ، ثم اختلفوا فيها ، فقيل : هي أسماء الله ، وقيل : أشياء أقسم الله بها ، وقيل : هي حروف مقطعة من كلمات : فالألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثل ذلك في سائرها ، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها ؛ فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر ، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر ، والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك : الله لأفعلن (ذلِكَ الْكِتابُ) هو هنا القرآن ، وقيل : التوراة والإنجيل ، وقيل : اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن. والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ٢] يعني القرآن باتفاق ، وخبر ذلك : لا ريب فيه ، وقيل : خبره الكتاب فعلى هذا «ذلك الكتاب» جملة مستقلة فيوقف عليه (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق ، ولم يعتبر أهل الباطل ، وخبر لا ريب : فيه ، فيوقف عليه ، وقيل : خبرها محذوف فيوقف على «لا ريب». والأول أرجح لتعيّنه في قوله : «لا ريب» في مواضع أخر.

فإن قيل : فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله : «لا فيها غول»؟ فالجواب : أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه : لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب ، كما أن «لا فيها غول» إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول ، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.

٦٨

……………………………………………………………………………….

________________________________________________________

(هُدىً) هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين ، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ). وإعرابه : خبر ابتداء ، أو مبتدأ وخبره : فيه ، عند ما يقف على لا ريب ، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة (لِلْمُتَّقِينَ) مفتعلين من التقوى ، وقد تقدّم معناه في الكتاب ، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول.

الأوّل : في فضائلها المستنبطة من القرآن ، وهي خمس عشرة : الهدى كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] والنصرة ، لقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [النحل : ١٢٨] والولاية لقوله : (اللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية : ١٨] والمحبة لقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [براءة : ٤] والمغفرة لقوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢] الآية وتيسير الأمور لقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٥] وتقبل الأعمال لقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] والفلاح لقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة : ١٨٩] والبشرى لقوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤] ودخول الجنة لقوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [القلم : ٣٤] والنجاة من النار لقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم : ٧٢].

الفصل الثاني : البواعث على التقوى عشرة : خوف العقاب الأخروي ، وخوف العقاب الدنيوي ، ورجاء الثواب الدنيوي ، ورجاء الثواب الأخروي ، وخوف الحساب ، والحياء من نظر الله ، وهو مقام المراقبة ، والشكر على نعمه بطاعته ، والعلم لقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وتعظيم جلال الله ، وهو مقام الهيبة ، وصدق المحبة لقول القائل : ـ

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

ولله درّ القائل : ـ

قالت وقد سألت عن حال عاشقها :

لله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقلت : لو كان يظن الموت من ظمإ

وقلت : قف عن ورود الماء لم يرد

الفصل الثالث : درجات التقوى خمس : أن يتقي العبد الكفر ، وذلك مقام الإسلام ، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة ، وأن يتقي الشبهات ، وهو مقام الورع ، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد ، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه ، وهو مقام المشاهدة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فيه قولان : يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها ، فالغيب على

٦٩

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم

________________________________________________________

هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل ، وإما تخفيفا في فعيل : كميت ، والآخر : يؤمنون في حال غيبهم ، أي باطنا وظاهرا ، وبالغيب : على القول الأوّل : يتعلق بيؤمنون ، وعلى الثاني : في موضع الحال ، ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت ، أو نصبا على إضمار فعل ، أو رفعا على أنه خبر مبتدأ (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إقامتها : علمها من قولك : قامت السوق (١) ، وشبه ذلك ، والكمال : المحافظة عليها في أوقاتها ، بالإخلاص لله في فعلها ، وتوفية شروطها ، وأركانها ، وفضائلها ، وسننها ، وحضور القلب الخشوع فيها ، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فيه ثلاثة أقوال : الزكاة لاقترانها مع الصلاة ، والثاني : أنه التطوّع ، والثالث : العموم ، وهو الأرجح : لأنه لا دليل على التخصيص ، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات ، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب ، فيكون عطفا للمغايرة ، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل ، فإن كان الذين للجنس : فلفظها عام يراد به الخصوص ، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم ، وقد اختلف فيهم ؛ فقيل : المراد من قتل ببدر من كفار قريش ، وقيل : المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان (سَواءٌ) خبر إن و (أَنْذَرْتَهُمْ) فاعل به لأنه في تقدير المصدر ، وسواء مبتدأ ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن ، و (لا يُؤْمِنُونَ) على هذه الوجوه : استئنافا للبيان ، أو للتأكيد ، أو خبر بعد خبر ، أو تكون الجملة اعتراضا ، ولا يؤمنون الخبر ، والهمزة فيء أنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام (خَتَمَ) الآية تعليل لعدم إيمانهم ، وهو عبارة عن إضلالهم ، فهو مجاز وقيل : حقيقة ، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعا إصبعا حتى يختم عليه ، والأوّل أبرع ، و (عَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على قلوبهم ، فيوقف عليه ، وقيل الوقف على قلوبهم ، والسمع راجع إلى ما بعده ، والأوّل أرجح لقوله : «وختم على سمعه وقلبه» [الجاثية : ٢٣] (غِشاوَةٌ) مجاز باتفاق ، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه ، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل ، والمصادر لا تجمع و (مِنَ النَّاسِ) أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس

__________________

(١). المراد بإقامة الصلاة : عدم التهاون بها. راجع تفسير الطبري.

٧٠

بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ

________________________________________________________

وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا (مَنْ يَقُولُ) إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة ، وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ : ومن (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) هم المنافقون ، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج ، رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر ، ويسمى الآن من كان كذلك : زنديقا ، وهم في الآخرة مخلدون في النار ، وأما في الدنيا ؛ إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم ، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان ، فمذهب مالك : القتل ، دون الاستتابة ، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل ، فإن قيل : كيف جاء قولهم «آمنا» جملة فعلية «وما هم بمؤمنين» جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب : أن قولهم (١) «وما هم بمؤمنين» أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال : ما آمنوا ، فإن قيل : لم جاء قولهم : آمنا مقيدا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين مطلقا؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين : التقييد ؛ فتركه لدلالة الأوّل عليه ، والإطلاق ، وهو أعم في سلبهم من الإيمان (يُخادِعُونَ) أي يفعلون فعل المخادع ، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون ، وقيل : معناه يخدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأوّل أظهر (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا) أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم ، وقرئ : وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف (٢) من خدع وهو أبلغ في المعنى ، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع ، وخدع إذا تم له (وَما يَشْعُرُونَ) حذف معموله أي : لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يحتمل أن يكون حقيقة ، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره ، وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد (فَزادَهُمُ) يحتمل الدعاء والخبر (يَكْذِبُونَ) بالتشديد أي يكذبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرئ : بالتخفيف أي يكذبون (٣) في قولهم آمنا (لا تُفْسِدُوا) أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا ، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح (كَما آمَنَ النَّاسُ) أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل ، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية (أَنُؤْمِنُ) إنكار منهم وتقبيح (هُمُ السُّفَهاءُ) ردّ عليهم وإناطة السفه بهم ، وكذلك هم المفسدون ، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه

__________________

(١). الأصح أن يقول : قوله بإعادة الضمير إلى الله.

(٢). وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص : ٦٨.

(٣). وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص : ٦٨.

٧١

النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ (١٧)

________________________________________________________

والفساد فيهم ، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب (قالُوا آمَنَّا) كذبوا خوفا من المؤمنين (خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) هم رؤساء الكفر ، وقيل : شياطين الجن ، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا ، وقيل : إلى بمعنى مع ، أو بمعنى الباء وجه قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بجملة اسمية مبالغة وتأكيد ، بخلاف قولهم : آمنا ، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : تسمية للعقوبة باسم الذنب : كقوله «ومكروا ومكر الله» وقيل : يملي لهم بدليل قوله : «ويمدّهم» وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد : ١٣ (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) الآية (وَيَمُدُّهُمْ) يزيدهم ، وقيل يملي لهم ، وقد ذكروا يعمهون (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة ، فهو مجاز بديع (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيح للمجاز ، لمّا ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران ، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا ؛ لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في هذا الشراء ، أو على الإطلاق. وقال الزمخشري : نفى الربح في قوله : فما ربحت ، ونفى سلامة رأس المال في قوله : وما كانوا مهتدين (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة (اسْتَوْقَدَ) أي أوقد ، وقيل : طلب الوقود على الأصل في استفعل (فَلَمَّا أَضاءَتْ) إن تعدّى فما حوله مفعول به ، وإن لم يتعدّ فما زائدة أو ظرفية (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي أذهبه ، وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره : طفيت النار ، وذهب الله بنورهم : جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين ، فعلى هذا يكون «الذي» على بابه من الإفراد ، والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي : واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا ؛ سواء كان واحدا أو جماعة ، ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه ، لأنهم جماعة ، فإن قيل : ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور ، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده ، والثاني : أن استخفاء كفرهم كالنور ، وفضيحتهم كالظلمة ، والثالث : أنّ ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر ، فإيمانه نور ، وكفره بعده ظلمة ، ويرجح هذا قوله : «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» فإن قيل : لم قال :

٧٢

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩)

________________________________________________________

(ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل : أذهب الله نورهم ، مشاكلة لقوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ) فالجواب : أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير ، بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يحتمل أن يراد به المنافقون ، والمستوقد المشبه بهم ، وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم ، وليس المراد فقد الحواس (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إن أريد به المنافقون : فمعناه لا يرجعون إلى الهدى ، وإن أريد به أصحاب النار : فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة ، لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق (أَوْ كَصَيِّبٍ) عطف على الذي استوقد ، والتقدير : أو كصاحب صيب ، أو للتنويع ؛ لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين ، والصيب : المطر ، وأصله صيوب ، ووزنه فعيل ، وهو مشتق من قولك صاب يصوب ، وفي قوله (مِنَ السَّماءِ) إشارة إلى قوته وشدّة انصبابه ، قال ابن مسعود : إنّ رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك ، فعزما على الإيمان ، ورجعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين ، وقيل : المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق ، فضلّ عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه ، وهذا التشبيه على الجملة ، وقيل : إنّ التشبيه على التفصيل ، فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام ، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين ، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم ، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة ، فإن قيل : لم قال رعد وبرق بالإفراد ، ولم يجمعه كما جمع ظلمات؟ فالجواب : أن الرعد والبرق مصدران ، والمصدر لا يجمع ، ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما (١) لأنهما في الأصل مصدران (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) أي من أجل الصواعق ، قال ابن مسعود : كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ، لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فهو على هذا حقيقة في المنافقين ، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن ، والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان ، وقيل : لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم ، والصواعق على هذا حقيقة ، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد ، ونزول قطعة نار والموت أيضا حقيقة. وقيل : إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه ؛ من شدة الخوف من المطر والرعد ، فإن قيل : لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل ، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي لا يفوتونه ؛ بل هم تحت قهره ، وهو قادر على عقابهم

__________________

(١). ربما كان الأصل : ولم يجمعهما.

٧٣

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ

________________________________________________________

(يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين : فهو بيّن في المعنى ، وإن رجع إلى المنافقين : فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين : أحدهما : تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق ، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم ، والآخر : يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم ، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق ، وإن رجع إلى المنافقين : فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان : ثبتوا على كفرهم ، وقيل : إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك ؛ فهذا مثل الضوء ، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا : فهذا مثل الظلمة ، فإن قيل : لم قال مع الإضاءة كلما ، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما ، لأنها تقتضي التكرار والكثرة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) الآية : إن رجع إلى أصحاب المطر : فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق ، وإن رجع إلى المنافقين : فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة ، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم ، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)(يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف : المؤمنين ، والكافرين والمنافقين : أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله ، وجاء بالدعوة عامة للجميع ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى جميع الناس (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته ، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا ، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا ، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا (لَعَلَّكُمْ) يتعلق بخلقكم : أي خلقكم لتتقوه كقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي : دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون ، وهذا أحسن. وقيل : يتعلق بقوله : «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي ؛ فتأويله أنه في حق المخلوقين ، جريا على عادة كلام العرب ، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال ، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو : عسى ، فإذا قالها الله : فمعناها أطباع العباد ، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى : (الْأَرْضَ فِراشاً) تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها ؛ كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء (مِنَ الثَّمَراتِ) من للتبعيض أو لبيان الجنس ، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها

٧٤

الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)

________________________________________________________

والباء في به سببية ، أو كقولك : كتبت بالقلم ؛ لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا) لا ناهية أو نافية ، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا ، والأوّل أظهر (أَنْداداً) (١) يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي : وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين ، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق ، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : «اعبدوا» والأوّل أظهر.

فوائد ثلاث

الأولى : هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين : أحدهما : إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر : ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام ، فذكر أوّلا ربوبيته لهم ، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم ، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد ، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء ، ومن إنزال المطر ، وإخراج الثمرات ، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر ، وانظر قوله : جعل لكم ، ورزقا لكم : يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.

الثانية : المقصود الأعظم من هذه الآية : الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها : فلا تجعلوا لله أندادا ، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا : لا إله إلّا الله ، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد ، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات (٢) ، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار ، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي : أنّ الله موجود ، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة ، وأنه واحد لا شريك له ، لأنه لا خالق إلّا هو (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] وأنه حيّ قدير عالم مريد ، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها ، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات ، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث ، وأنه باق ، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه ، وأنه حكيم ، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت ، وأنه رحيم ، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته ، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على

__________________

(١). جمع ند ومعناه : النظير ، والشبيه.

(٢). ربما في الكلام نقص. والله أعلم.

٧٥

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ

________________________________________________________

المخاطبين دون الذين من قبلهم ، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب : أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمراد الجميع ، فإن قيل : هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا؟ فالجواب أنّ التقوى غاية العبادة وكمالها ، فكان قوله : لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) الآية إثبات لنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله ، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة ، فإن قيل : كيف قال إن كنتم في ريب ، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟ فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان ، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع ، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ)(عَلى عَبْدِنا) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعبودية على وجهين : عامة ، وهي التي بمعنى الملك ، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص ، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل :

لا تدعني إلّا بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ) أمر يراد به التعجيز (مِنْ مِثْلِهِ) الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن ، ومن لبيان الجنس ، وقيل يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن على هذا : لابتداء الغاية من بشر مثله ، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود ، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة (شُهَداءَكُمْ) آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله ، وقيل : هو من الدين الحقير ، فهو مقلوب اللفظ (وَلَنْ تَفْعَلُوا) اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة ، وهو إخبار ظهير (١) مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن ، مع فصاحة العرب في زمان نزوله ، وتصرفهم في الكلام ، وحرصهم على التكذيب ، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى ، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين : أحدهما : أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح ، والثاني : أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه ، والإعجاز حاصل على الوجهين ، وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدّمة (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي فآمنوا لتنجوا من النار ، وعبر باللازم عن ملازمه ، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف (وَقُودُهَا) حطبها (الْحِجارَةُ) قال ابن مسعود : هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها ، وقيل الحجارة المعبودة ، وقيل الحجارة على الإطلاق (أُعِدَّتْ) دليل على أنها قد خلقت ، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة ، خلافا لمن قال : إنها تخلق يوم القيامة ، وكذلك الجنة (وَبَشِّرِ) يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو خطابا لكل

__________________

(١). والصواب : ظهر.

٧٦

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا

________________________________________________________

أحد ، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه ، خلافا لمن قال : الإيمان اعتقاد ، وقول ، وعمل ، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال ، خلافا للمرجئة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تحت أشجارها وتحت مبانيها ، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع ، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود (مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) من الأولى : للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس ، ومن الثانية : لبيان الجنس ، (مِنْ قَبْلُ) أي في الدنيا ، بدليل قولهم : «إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين» [الطور : ٢٦] في الدنيا ، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا ، وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه ، وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم ، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى (مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وسائر الأقذار ، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق (لا يَسْتَحْيِي) تأوّل قوم أن معناه لا يترك ، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله ؛ لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر ، وليس كذلك ؛ وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب ، ويردّ عليهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا» (١) (أَنْ يَضْرِبَ) سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت ، عاب الكفار على ذلك ، وقيل : المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك ؛ فنزلت الآية ردّا عليهم (٢) (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) إعراب بعوضة مفعول بيضرب ، ومثلا حال ، أو : مثلا مفعول ، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان ، أو هما مفعولان بيضرب ؛ لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين ، وما صفة للنكرة أو زائدة (فَما فَوْقَها) في الكبر ، وقيل : في الصغر ، والأول أصح (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء ، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة : وضرب أمثال ، وبيان للناس ، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله (ما ذا أَرادَ اللهُ) لفظه الاستفهام ، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب ، وفي إعراب ماذا : وجهان ؛ أن تكون ما مبتدأ ، وذا خبره وهي موصولة ، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد ، ومثلا منصوب على الحال أو التمييز (يُضِلُّ بِهِ) من كلام الله جوابا للذين قالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا ، وهو أيضا تفسير لما أراد الله

__________________

(١). ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وإسناده جيد عن سلمان الفارسي.

(٢). في الكلام تشويش ولعل الصواب : سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك [وقالوا : ما بال العنكبوت والذباب يذكران] فنزلت الآية عليهم. راجع الطبري في تفسير الآية المذكورة.

٧٧

وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا

________________________________________________________

بضرب المثل من الهدى والضلال (عَهْدَ اللهِ) مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد ، ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود ، لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشار بقطع (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إلى قريش ؛ لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين ، ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين ؛ لأن الفساد من أفعالهم ، حسبما تقدّم في وصفهم (مِيثاقِهِ) الضمير للعهد أو لله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) موضعها الاستفهام ، ومعناها هنا : الإنكار والتوبيخ (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أي معدومين أي : في أصلاب الآباء ، أو نطفا في الأرحام فأحياكم أي أخرجكم إلى الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الموت المعروف (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء ، وقيل : الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد ، وقيل : في الحياة الثانية إنها في القبور ، والراجح القول الأول لتعينه في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الحج : ٦٦].

فوائد ثلاثة

الأولى : هذه الآية في معرض الردّ على الكفار ، وإقامة البرهان على بطلان قولهم ، فإن قيل : إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به ، فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له؟ فالجواب أنه ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث ، لأن القدرة صالحة لذلك كله. الثانية : قوله (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) في موضع الحال ، فإن قيل : كيف جاز ترك قد وهي لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب : أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل ، والمراد مجموع الكلام. كأنه يقول : وحالهم هذه. فلذلك لم تلزم قد. الثالثة : عطف فأحياكم بالفاء ؛ لأنّ الحياة إثر العدم ولا تراخي بينهما ، وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم ؛ للتراخي الذي بينهما (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض (ثُمَّ اسْتَوى) أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة فسوّاهنّ أي أتقن خلقهن : كقوله : (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار : ٧] ، وقيل جعلهنّ سواء.

(فائدة) هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض ، وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] ظاهره خلاف ذلك ، والجواب من وجهين : أحدهما : أنّ الأرض خلقت قبل السماء ، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض ، والآخر : تكون ثم لترتيب الأخبار (لِلْمَلائِكَةِ) جمع ملك واختلف في وزنه فقيل : فعل فالميم أصلية ، ووزن ملائكة على هذا

٧٨

وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا

________________________________________________________

مفاعلة وقيل : هي من الألوكة وهي الرسالة ، فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة ، ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد (خَلِيفَةً) هو آدم عليه‌السلام ؛ لأنّ الله استخلفه في الأرض ، وقيل ذريته لأنّ بعضهم يخلف بعضا ، والأوّل أرجح ، ولو أراد الثاني لقال خلفاء (أَتَجْعَلُ فِيها) الآية : سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه ، وليس فيه اعتراض ؛ لأنّ الملائكة منزهون عنه ، وإنما علموا أنّ بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك ، وقيل : كان في الأرض جنّ فأفسدوا ، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) اعتراف ، والتزام للتسبيح لا افتخار (بِحَمْدِكَ) أي حامدين لك والتقدير : نسبح متلبسين بحمدك ، فهو في موضع الحال (وَنُقَدِّسُ لَكَ) يحتمل أن تكون الكاف مفعولا ، ودخلت عليها اللام كقولك. ضربت لزيدا ، وأن يكون المفعول محذوفا ، أي نقدسك على معنى : ننزهك أو نعظمك ، وتكون اللام في ذلك للتعليل أي لأجلك ، أو يكون التقدير : نقدس أنفسنا أي نطهرها لك (ما لا تَعْلَمُونَ) أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة (الْأَسْماءَ كُلَّها) أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر وغير ذلك (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي عرض المسميات ، وبيّن أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء (أَنْبِئُونِي) أمر على وجه التعجيز (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في قولكم : إنّ الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، وقيل : إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء (لا عِلْمَ لَنا) اعتراف (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء (اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود على وجه التحية وقيل : عبادة لله ، وآدم كالقبلة فسجدوا روي أنّ من أوّل من سجد إسرافيل ، ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل عند من قال : إنه كان ملكا. ومنقطع عند من قال : كان من الجن (١) (اسْتَكْبَرَ) لقوله : أنا خير منه (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قيل : كفر بإباءته من السجود ، وذلك بناء على أن المعصية كفر. والأظهر : أنه كفر باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم ، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية (وَزَوْجُكَ) هي حواء خلقها الله من ضلع آدم ، ويقال زوجة ، وزوج هنا أفصح (الْجَنَّةَ) هي جنة الخلد عند الجماعة وعند

__________________

(١). وهو الأصح لأن الملائكة منزهون عن المعصية.

٧٩

حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)

________________________________________________________

أهل السنة ، خلافا لمن قال : هي غيرها (لا تَقْرَبا) النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى ، وإنما نهى عن القرب سدّا للذريعة ، فهذا أصل في سدّ الذرائع (الشَّجَرَةَ) قيل هي شجرة العنب ، وقيل شجرة التين (١) ، وقيل الحنطة ، وذلك مفتقر إلى نقل صحيح ، واللفظ مبهم (فَتَكُونا) عطف على تقربا ، أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي (فَأَزَلَّهُمَا) متعدّ من أزل القدم ، وأزالهما بالألف من الزوال (عَنْها) الضمير عائد على الجنة ، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا.

فائدة : اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان : لقوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها ، وهذا باطل ؛ لأن خمر الجنة لا تسكر ، وقيل : أكل عمدا وهي معصية صغرى ، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر ، وقيل : تأوّل آدم أن النهي : كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها ، وقيل : لما حلف له إبليس صدقه ؛ لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذبا (اهْبِطُوا) خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل : بعضكم لبعض عدوّ (مُسْتَقَرٌّ) موضع استقرار وهو في مدّة الحياة ، وقيل في بطن الأرض بعد الموت (وَمَتاعٌ) ما يتمتع به (إِلى حِينٍ) إلى الموت (فَتَلَقَّى) أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة (٢) ، وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات ، فتلقى على هذا من اللقاء (كَلِماتٍ) هي قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، بدليل ورودها في الأعراف : ٢٣ وقيل غير ذلك (اهْبِطُوا) كرر ليناط به ما بعده ، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء ، والآخر من الجنة ، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) إن شرطية وما زائدة للتأكيد ، والهدى هنا : يراد به كتاب الله ورسالته (فَمَنْ تَبِعَ) شرط ، وهو جواب الشرط الأوّل ، وقيل : فلا خوف جواب الشرطين (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم : دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود ، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم ، وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.

فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء ، وهي : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] ، (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] ، و (بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [البقرة : ٥٦] ،

__________________

(١). ورد في الأبريز للسيد عبد العزيز الدباغ أنها شجرة التين بغير شك.

(٢). في الكلام نقص والله أعلم.

٨٠