التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٨١) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ

________________________________________________________

وعلى اله وسلّم أو للطائفة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تعاقبهم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) حض على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه (اخْتِلافاً كَثِيراً) أي تناقضا كما في كلام البشر أو تفاوتا في الفصاحة لكن القرآن منزّه عن ذلك ، فدل على أنه كلام الله ، وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من القرآن ، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم ، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) قيل : هم المنافقون وقيل : قوم من ضعفاء المسلمين ، كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش أو غير ذلك أذاعوا به ، أي تكلموا به وشهروه قبل أن يعلموا صحته ، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة وقلة التثبت ، فأنكر الله ذلك عليهم (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي : لو ترك هؤلاء القوم الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم ، وردوه إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وإلى أولي الأمر ؛ وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم ، لعلمه القوم الذين يستنبطونه أي يستخرجونه من الرسول وأولي الأمر ؛ فالذين يستنبطونه على هذا طائفة من المسلمين ؛ يسألون عنه الرسول صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وأولي الأمر ، وحرف الجر في قوله يستنبطونه منهم لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل ، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر ، وقيل : الذين يستنبطونه هم أولوا الأمر ، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه ؛ أنه سمع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق نساءه ، فدخل عليه ، فقال : أطلّقت نساءك؟ فقال : لا ، فقام على باب المسجد ، فقال : إنّ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله هذه القصة ، قال : وأنا الذي استنبطته ، فعلى هذا ؛ يستنبطونه هم أولو الأمر ، والضمير المجرور يعود عليهم ، ومنهم لبيان الجنس ، واستنباطه على هذا هو : سؤالهم عنه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو بالنظر والبحث ، واستنباطه على التأويل الأول وهو سؤال الذين أذاعوه للرسول عليه الصلاة والسلام ولأولي الأمر (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي : هداه وتوفيقه ، أو بعثه للرسل ، وإنزاله للكتب ، والخطاب في هذه الآية للمؤمنين (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلّا اتباعا قليلا فالاستثناء من المصدر ، والمعنى : لو لا فضل الله ورحمته لاتبعتم الشيطان إلّا في أمور قليلة كنتم لا تتبعونه فيها ، وقيل : إنه استثناء من الفاعل في اتبعتم أي إلّا قليلا منكم ، وهو الذي يقتضيه اللفظ ، وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان ؛ كورقة بن نوفل ، والفضل والرحمة على بعث الرسول وإنزال الكتاب ، وقيل : إنّ الاستثناء من قوله أذاعوا به

٢٠١

اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (٨٤) مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا (٨٥) وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى

________________________________________________________

(لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لما تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أي إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليس عليك في شأن المؤمنين إلّا التحريض (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : عسى من الله واجبة (١) ، والذين كفروا هنا قريش ، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وغيرها وبفتح مكة (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي عقابا وعذابا (شَفاعَةً حَسَنَةً) هي الشفاعة في مسلم لتفرج عنه كربة ، أو تدفع مظلمة أو يجلب إليه خيرا ، والشفاعة السيئة بخلاف ذلك وقيل : الشفاعة الحسنة هي الطاعة والشفاعة السيئة هي المعصية ، والأول أظهر ، والكفل هو النصيب (مُقِيتاً) قيل : قديرا ، وقيل : حفيظا ، وقيل : الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) معنى ذلك الأمر بردّ السلام ، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلّم عليه أو بأحسن منه ، والأحسن أفضل ، مثل أن يقال له : سلام عليك فيردّ السلام ويزيد الرحمة والبركة ، وردّ السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي ، وقال بعض الناس : هو فرض عين ، واختلف في الردّ على الكفار ، فقيل : يردّ عليهم لعموم الآية ، وقيل : لا يردّ عليهم ، وقيل : يقال لهم عليكم ، حسبما جاء في الحديث ، وهو مذهب مالك ولا يبتدئون بالسلام (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب قسم محذوف ، وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدّى بإلى (وَمَنْ أَصْدَقُ) لفظه استفهام ، ومعناه لا أحد أصدق من الله (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) ما استفهامية بمعنى التوبيخ ، والخطاب للمسلمين ، ومعنى فئتين : أي طائفتين مختلفتين ، وهو منصوب على الحال ، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين ؛ فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا ، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات ، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين؟ وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد ، فاختلف الصحابة في أمرهم ، ويرد هذا قوله : حتى يهاجروا (أَرْكَسَهُمْ) أي أضلهم ، وأهلكهم (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا (فَخُذُوهُمْ) يريد به

__________________

(١). لم يتضح لي مراد المؤلف بقوله : واجبة ، وقد ذكرها الطبري أيضا.

٢٠٢

يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (٩١) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ

________________________________________________________

الأسر (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) الآية : استثناء من قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ.) ومعناها : أن من وصل من الكفار غير المعاهدين إلى الكفار المعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهد ومهادنة فحكمه كحكمهم في المسالمة وترك قتاله ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بالقتال في أول سورة براءة ، قال السهيلي وغيره : الذين يصلون هم بنو مدلج بن كنانة (إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) بنو خزاعة ، فدخل بنو مدلج في صلح خزاعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعنى يصلون إلى قوم : ينتهون إليهم ، ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة وقيل : معنى يصلون أي ينتسبون ، وهذا ضعيف جدا بدليل قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش ، وهم أقاربه وأقارب المؤمنين فكيف لا يقاتل أقارب الكفار المعاهدين (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ، عطف على يصلّون أو على صفة قوم وهي : بينكم وبينهم ميثاق ، والمعنى يختلف باختلاف ذلك ، والأول أظهر ، وحصرت صدورهم : في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب حصرت ، ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته ، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين ، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين ، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهم ، وهم أقاربهم الكفار ، فأمر الله بالكف عنهم. ثم نسخ أيضا ذلك بالقتال (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) أي إن سالموكم فلا تقاتلوهم ، والسلم هنا الانقياد (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) الآية : نزلت في قوم مخادعين ، وهم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم ، والفتنة هنا الكفر على الأظهر ، وقيل : الاختبار (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام ، ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله ، وقيل : إنّ الاستثناء هنا منقطع ، والمعنى : لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه ، لكن الخطأ قد يقع ، والصحيح أنه متصل ، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلّا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد ؛ إذ هو مغلوب فيه ، وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ) هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية ، فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية ففي مال عاقلته ، وجاء ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان للآية

٢٠٣

رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ

________________________________________________________

إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره ، وأجمع الفقهاء عليه ، واشترط مالك في الرقبة التي تعتق أن تكون مؤمنة ، ليس فيها عقد من عقود الحرية ، سالمة من العيوب أما إيمانها فنص هنا ، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا ، واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة اليمين ، وأما سلامتها من عقود الحرية فيظهر من قوله تعالى : فتحرير رقبة ، لأن ظاهره أنه ابتداء عتق عند التكفير بها وأما سلامتها من العيب ، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه وفي ذلك نظر ، ولم يبين في الآية مقدار الدية وهي عند مالك مائة من الإبل على أهل الإبل ، وألف دينار شرعية على أهل الذهب ، واثنا عشر ألف درهم شرعية على أهل الورق ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي مدفوعة إليهم ، والأهل هنا الورثة ، واختلف في مدة تسليمها ، فقيل : هي حالّة عليهم ، وقيل : يؤدونها في ثلاث سنين ، وقيل : في أربع ، ولفظ التسليم مطلق وهو أظهر في الحلول لو لا ما جاء من السنة في ذلك (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت ، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالك والجمهور ، خلافا لأهل الظاهر ، وحجتهم عود الضمير على الأولياء ، وقال الجمهور ، إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) معنى الآية : أن المقتول خطأ إن كان مؤمنا وقومه كفارا أعداء وهم المحاربون ، فإنما في قتله التحرير خاصة دون الدية فلا تدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين ، ورأى ابن عباس أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر ، وخالفه غيره ورأى مالك أن الدية في هذا لبيت المال فالآية عنده منسوخة ، (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الآية : معناها أن المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين ففي مثله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم ، والمقتول على هذا مؤمن ، ولذلك قال مالك : لا كفارة في قتل الذمي ، وقيل : إنّ المقتول في هذه الآية كافر ، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ ، وقيل : هي عامة في المؤمن والكافر ، ولفظ الآية مطلق إلّا أن قيده قوله : وهو مؤمن في الآية التي قبلها وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوض منه (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) منصوب على المصدرية ومعناه رحمة منه وتخفيفا (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الآية : نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ ، ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتدّ مشركا ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه

٢٠٤

وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤) لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ

________________________________________________________

واله وسلّم بقتله ، والمتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك ، وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول : لا يخلد عصاة المؤمنين في النار ، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله : خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه : أحدها : أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا ، والثاني : قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل ، وذلك يؤول إلى الكفر ، والثالث : قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي ، وإنما هو عبارة عن طول المدة ، والرابع : أنها منسوخة بقوله تعالى : إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس : الشرك والقتل من مات عليهما خلد ، وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلّا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» (١) ، وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي ، واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب ، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ والصحيح أنه يسقط عنه ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» (٢) ، وبذلك قال جمهور العلماء (ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي سافرتم في الجهاد (فَتَبَيَّنُوا) من البيان وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال (٣) أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته (أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) بغير ألف أي انقاد وألقى بيده ، وقرأ نافع وغيره السلام بمعنى التحية ، ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم ، وقال : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله ، فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط ، وقيل : القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني الغنيمة ، وكان للرجل المقتول غنم (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قيل : معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام ، وقيل : كنتم تخفون إيمانكم من قومكم (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالعزة والنصر حتى أظهرتموه (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية : معناها تفضيل المجاهدين على من لم

__________________

(١). رواه أحمد ج ٤ ص ١٣٨ عن معاوية وذكر في التيسير أنه رواه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء.

(٢). ذكره في التيسير وعزاه لأحمد عن خزيمة بن ثابت وفي سنده اضطراب.

(٣). فثبتوا.

٢٠٥

وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (١٠٠) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا

________________________________________________________

يجاهد وهم القاعدون (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) لما نزلت الآية : قام ابن أم مكتوم الأعمى ، فقال يا رسول الله هل من رخصة فإني ضرير البصر ، فنزل : غير أولي الضرر وقرئ غير بالحركات الثلاث ، بالرفع صفة للقاعدين ، وبالنصب (١) على الاستثناء أو الحال ، وبالخفض صفة للمؤمنين (دَرَجَةً) قيل : هي تفضيل على القاعدين من أهل العذر والدرجات على القاعدين بغير عذر ، وقيل : إنّ الدرجات مبالغة وتأكيد الدرجة (الْحُسْنى) الجنة (أَجْراً) منصوب على الحال من درجات أو المصدرية من معنى فضل ، وانتصب درجات على البدل من الأجر أو بفعل مضمر ، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلها : أي غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الآية : نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فلما كان يوم بدر خرجوا مع الكفار فقتلوا منهم قيس بن الفاكه والحارث بن زمعة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، ويحتمل أن يكون توفاهم ماضيا أو مضارعا ، وانتصب ظالمي على الحال (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) اعتذار عن التوبيخ الذي وبخهم به الملائكة : أي لم تقدروا على الهجرة ، وكان اعتذارا بالباطل (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) رد عليهم ؛ وتكذيب لهم في اعتذارهم (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) الذين كان استضعافهم حقا ، قال ابن عباس : كنت أنا وأبي وأمي ممن عنى الله بهذه الآية (مُراغَماً) أي متحوّلا وموضعا يرغم عدوه بالذهاب إليه (وَسَعَةً) أي اتساع في الأرض وقيل : في الرزق (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي ثبت وصح (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) الآية حكمها على العموم ، ونزلت في ضمرة بن القيس وكان من المستضعفين بمكة ، وكان مريضا فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال : أخرجوني فهيئ له فراش فوضع عليه وخرج فمات في الطريق ، وقيل : نزلت في خالد بن حزام ، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال : أولها : أنها في قصر

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب وقرأ غيرهم بالرفع.

٢٠٦

لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (١٠١) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ

________________________________________________________

الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر ، ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف على ظاهر الآية ، وهو قول عائشة وعثمان رضي الله عنهما ، والثاني : أن الآية تقتضي ذلك ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة ، ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب إنّ الله يقول : إن خفتم وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصر في السفر وهو آمن ، الثالث : أن قوله : إن خفتم راجع إلى قوله : وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد ، الرابع : أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة ، قال ابن عباس : فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة. الخامس : أنها في صلاة المسايفة ، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة كقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر ، فظاهرها أن القصر رخصة ، والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي ، وقال مالك : القصر أفضل ، وقيل إنهما سواء ، وأوجب أبو حنيفة القصر ، وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة ؛ لأن قوله : إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا ، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير ، ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا ؛ واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس ، وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة ، أو السفر المباح ، دون سفر المعصية ؛ فإنّ لفظها مطلق في السفر ، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية ، ومنعه مالك في سفر المعصية ، ومنعه ابن حنبل في المعصية ، وفي المباح. وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فأضربنا عن ذكرها ، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) الآية في صلاة الخوف ، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلّى بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم لأنه شرط كونه فيهم ، وبذلك قال أبو يوسف ، وأجازها الجمهور بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته ، وقد فعلها الصحابة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختلف الناس [العلماء] في صلاة الخوف على عشرة أقوال ، لاختلاف الأحاديث فيها ، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإنّ تفسيرها لا يتوقف على ذلك ، وكانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) يقسم الإمام المسلمين على طائفتين ؛ فيصلي بالأولى نصف الصلاة ، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس ، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور ، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام : اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة ، فقيل الطائفة

٢٠٧

فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (١٠٢) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (١٠٣)

________________________________________________________

المصلية وقيل الحارسة والأول أرجح ، لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ،) ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة : جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم ، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) الضمير في قوله : فإذا سجدوا للمصلين ، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى ، وقيل : إذا سجدوا في ركعة القضاء ، والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم : يحتمل أن يكون للذين سجدوا : أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم ، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى ، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها ، وإن كان السجود في ركعة القضاء ، فيقتضى ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء ، وهو مذهب مالك والشافعي ، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله : فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلّين يحرسونهم (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) يعني الطائفة الحارسة (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية : إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع ، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم ، فنزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبره بذلك ، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار ، وفي قوله : ميلة واحدة : مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) الآية : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس ، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر ، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) إن قيل : كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ : يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم ، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين ، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا ، والأظهر أنه في الآخرة (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ) الآية : أي إذا فرغتم من الصلاة ، فاذكروا الله بألسنتكم ، وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان ، وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا ، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة (كِتاباً مَوْقُوتاً) أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس : فرضا مفروضا

٢٠٨

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (١٠٦) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩) وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (١١٠) وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (١١٢) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)

________________________________________________________

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تضعفوا في طلب الكفار (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) الآية : معناها. إن أصابكم ألم من القتال فكذلك يصيب الكفار ألم مثله ، ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم : النصر في الدنيا ، والأجر في الآخرة ؛ وذلك تشجيع للمسلمين (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد ، أو بهما ، وإذا تضمنت الاجتهاد ، ففيها دليل على إثبات النظر والقياس خلافا لمن منع ذلك من الظاهرية وغيرهم (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة بن الأبيرق إذ سرق طعاما وسلاحا لبعض الأنصار ، وجاء قومه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنه بريء ، ونسبوا السرقة إلى غيره ، وظن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم صادقون ، فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا ، فالخائنون في الآية : هم السراق بنو الأبيرق ، وقال السهيلي : هم بشر وبشير ومبشر وأسيد ، ومعناها : لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لغيرهم (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أي من خصامك عن الخائنين ، على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون ليلا وإنما سمي التدبير قولا ، لأنه كلام النفس ، وربما كان معه كلام باللسان (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) قيل : إن الخطيئة تكون عن عمد ، وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلّا عن عمد ، وقيل : هما بمعنى ، وكرر لاختلاف اللفظ (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) هم الذين جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برّأوا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة ، فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها ، وبقية الآية تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقدير لنعم الله عليه (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي ، فالاستثناء الذي بعدها منقطع ، وقد يكون متصلا على حذف مضاف

٢٠٩

لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١١٦) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا (١١٧) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢) لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ

________________________________________________________

تقديره إلّا نجوى من أمر ، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة فالاستثناء متصل (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يعاديه ، والشقاق هو العداوة ، ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق ، لأنه ارتدّ وسار إلى المشركين ومات على الكفر ، وهي عامة فيه وفي غيره (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) استدل الأصوليون بها على صحة إجماع المسلمين وأنه لا يجوز مخالفته ، لأن من خالفه اتبع غير سبيل المؤمنين ، وفي ذلك نظر (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نتركه مع اختياره الفاسد (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قد تقدّم الكلام على نظيرتها (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) الضمير في يدعون للكفار ، ومعنى يدعون يعبدون ، واختلف في الإناث هنا ، فقيل : هي الأصنام ، لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة : كاللات والعزى ، وقيل : المراد الملائكة لقول الكفار إنهم إناث وكانوا يعبدونهم فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد ، وقيل : المراد الأصنام ، لأنها لا تفعل فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) يعني إبليس ، وإنما قال : إنهم يعبدونه ، لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال ، والمريد هو الشديد العتوّ والإضلال (لَعَنَهُ اللهُ) صفة للشيطان (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) الضمير للشيطان : أي فرضته لنفسي من قولك فرض للجند وغيرهم ، والمراد بهم أهل الضلال (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أي أعدهم الأماني الكاذبة (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي يقطعونها ، والإشارة بذلك إلى البحيرة وشبهها (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) التغيير هو الخصاء وشبهه ، وقد رخص جماعة من العلماء في خصاء البهائم ، إذا كان فيه منفعة ، ومنعه بعضهم لظاهر الآية ، وقيل : التغيير هو الوشم وشبهه ، ويدل على هذا الحديث الذي لعن فيه الواشمات ، والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، والمغيرات خلق الله (١) (مَحِيصاً) أي معدلا ومهربا (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران : الأوّل مؤكد للوعد الذي يقتضيه قوله : سندخلهم جنات ، والثاني مؤكد لوعد الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) الآية : اسم

__________________

(١). الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود في كتاب اللباس والزينة ٣ / ١٦٧٨.

٢١٠

الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا

________________________________________________________

ليس مضمر تقديره الأمر وشبهه ، والخطاب للمسلمين ، وقيل : للمشركين أي لا يكون ما تتمنون ، ولا ما يتمنى أهل الكتاب ، بل يحكم الله بين عباده ، ويجازيهم بأعمالهم (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وعيد حتم في الكفار ، ومقيد بمشيئة الله في المسلمين (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) دخلت من للتبعيض رفقا بالعباد ، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تقييد باشتراط الإيمان ، فإنه لا يقبل عمل إلّا به (نَقِيراً) هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، والمعنى تمثيل بأقل الأشياء (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي دين الإسلام (حَنِيفاً) حال من المتبع أو من إبراهيم (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي صفيا ، وهو مشتق من الخلة بمعنى المودّة ، وفي ذلك تشريف لإبراهيم ، وترغيب في اتباعه (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) عطف على اسم الله أي يفتيكم الله ، والمتلوّ عليكم في الكتاب يعني القرآن (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) كان الرجل من العرب يتزوّج اليتيمة من أقاربه بدون ما تستحقه من الصداق ، فقوله : ما كتب لهن يعني ما تستحقه المرأة من الصداق ، وقوله : وترغبون أن تنكحوهن : يعني : لجمالهن وما لهن من غير توفية حقوقهن ، فنهاهم الله عزوجل عن ذلك أول السورة في قوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية ، وهذه الآية هي التي تليت عليهم في يتامى النساء ، والمستضعفين من الولدان : عطف على يتامى النساء ، والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله : يوصيكم الله في أولادكم ، لأن العرب كانت لا تورث البنت ولا الابن الصغير ، فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) عطف على المستضعفين ، أي والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط ، ويجوز أن يكون منصوبا تقديره : ويأمركم أن تقوموا ، أو الخطاب في ذلك للأولياء ، والأوصياء ، أو للقضاة وشبههم ، والذي تلي عليهم في ذلك هو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] الآية ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة / ١٨٨] إلى غير ذلك (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين ، إذا خافت النشوز أو الإعراض ، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدّم معنى

٢١١

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨) وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (١٢٩) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (١٣٣) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا

________________________________________________________

النشوز ، وأما الإعراض فهو أخف ، ووجوه الصلح كثيرة منها أن يعطيها الزوج شيئا أو تعطيه هي أو تسقط حقها من النفقة أو الاستمتاع أو غير ذلك ، وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت له : أمسكني في نسائك ولا تقسم لي وقد وهبت يومي لعائشة (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما ، وقيل : معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل ، واللام في الصلح للعهد (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها ؛ لأنها جبلت عليه. والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه ، وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع ، وشح الزوج هو منع الصداق والتضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) معناه العدل التام الكامل في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك فرفع الله ذلك عن عباده ، فإنهم لا يستطيعون. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك» (١) يعني : ميله بقلبه وقيل : إنّ الآية نزلت في ميله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلبه إلى عائشة ، ومعناها اعتذار من الله تعالى عن عباده (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي لا ذات زوج ولا مطلقة (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) الآية : معناها إن تفرّق الزوجان بطلاق أغنى الله كل واحد منهما من فضله عن صاحبه ، وهذا وعد بخير وتأنيس (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) الآية : إخبار أنّ الله وصى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي بقوم غيركم ، وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ، وقال : هم قوم هذا (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) الآية : تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة ، لأنه خير من ثواب الدنيا ، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده ، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره ، وعلى أحد هذين الوجهين ، يرتبط الشرط بجوابه ، فالتقدير على الأول ، من كان يريد

__________________

(١). رواه : أحمد عن عائشة بلفظ : اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ج ٦ ص ١٦٤.

٢١٢

بَصِيرًا (١٣٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ

________________________________________________________

ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وعلى الثاني من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه من الله فعند الله ثواب الدنيا والآخرة (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي مجتهدين في إقامة العدل (شُهَداءَ لِلَّهِ) معناه لوجه الله ولمرضاته (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) يتعلق بشهد وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق ، ثم ذكر الوالدين والأقربين ، إذ هم مظنة للتعصب والميل : فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) جواب إن محذوف على الأظهر أي إن يكن المشهود عليه غنيا ، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما له ، وإن كان فقيرا فلا تمتنع من الشهادة عليه اتفاقا فإنّ الله أولى بالغني والفقير ، أي بالنظر إليهما (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أن مفعول من أجله ، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل ، فالتقدير إرادة أن تعدلوا بين الناس ، أو من العدل ، فالتقدير كراهة أن تعدلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) قيل : إنّ الخطاب للحكام ، وقيل للشهود ، واللفظ عام في الوجهين ، والليّ : هو تحريف الكلام ، أي تلووا عن الحكم بالعدل أو عن الشهادة بالحق ، أو تعرضوا عن صاحب الحق ، أو عن المشهود له بالحق ، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون ، وقرئ إن تلوا بضم اللام من الولاية (١) : أي إن وليتم إقامة الشهادة ، أو أعرضتم عنها (آمِنُوا بِاللهِ) الآية خطاب للمسلمين : معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذكر ، أو يكون أمرا بالدوام على الإيمان ، وقيل : خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين : معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الآية ، قيل : هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر ، وقيل : في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأوّل أرجح ؛ لأنّ الكلام من هنا فيهم ، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم ارتدّ ، ثم عاد إلى الإيمان ، ثم ارتدّ وازداد كفرا (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره ، وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) الآية :

__________________

(١). وهي قراءة حمزة وعامر.

٢١٣

اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (١٤٤) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧) لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨) إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ

________________________________________________________

إشارة إلى قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] وغيرها ، وفي الآية دليل على وجوب تجنب أهل المعاصي ، والضمير في قوله : معهم يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) صفة للمنافقين : أي ينتظرون بكم دوائر الزمان (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) قال علي بن أبي طالب وغيره : ذلك في الآخرة ، وقيل : السبيل هنا الحجة البالغة (يُخادِعُونَ اللهَ) ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب ، لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم (مُذَبْذَبِينَ) أي مضطربين متردّدين ، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار (سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) أي في الطبقة السفلى من جهنم ، وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شرّ من الكفار (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من المنافقين ، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم ، وقدّم الشكر على الإيمان ، لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان : متقدّم عليه ، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان ، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به ، والشاكر اسم الله ذكر في اللغات (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي إلّا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه ، وقيل : أن يذكر ما فعل به من الظلم ، وقيل : أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) الآية : ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية ، وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار ، وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) الآية : في اليهود والنصارى ، لأنهم آمنوا بأنبيائهم ، وكفروا

٢١٤

بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (١٥٢) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤)فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ

________________________________________________________

بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره ، ومعنى التفريق بين الله ورسله الإيمان به والكفر برسله ، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم ، فحكم الله على من كان كذلك بحكم الكفر الحقيقي الكامل (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية : في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم آمنوا بالله وجميع رسله (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية ، روي أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة ، وقيل كتاب إلى فلان ، وكتاب إلى فلان بأنك رسول الله ، وإنما طلبوا ذلك على وجه التعنت ، فذكر الله سؤالهم من موسى ، وسوء أدبهم معه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتأسي بغيره ، ثم ذكر أفعالهم القبيحة ليبين أنّ كفرهم إنما هو عناد ، وقد تقدّم في البقرة ذكر طلبهم للرؤيا ، واتخاذهم العجل ، ورفع الطور فوقهم ، واعتدائهم في السبت وغير ذلك بما أشير إليه هنا (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ما زائدة للتأكيد ، والباء تتعلق بمحذوف تقديره بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا ، أو تتعلق بقوله حرمنا عليهم ، ويكون فبظلم على هذا بدلا من قوله : فبما نقضهم (بُهْتاناً عَظِيماً) هو أن رموا مريم بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عدّد الله في جملة قبائحهم قولهم : إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك ، ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه ، وهم يعتقدون أنه عيسى ، وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي. فيقتل ويكون رفيقي في الجنة ، فقال أحدهم أنا فألقي عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى» (١) وقيل بل دلّ على عيسى يهوديّ ، فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا ، حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال (رَسُولَ اللهِ) إن قيل : كيف قالوا فيه رسول الله ، وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من

__________________

(١). أورد الطبري هذا الحديث بسنده عن القاسم بن أبي بزة وعن ابن جريج فلينظر هناك.

٢١٥

وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ

________________________________________________________

ثلاثة أوجه : أحدها : أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء ، والثاني : أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا رسول الله عندكم أو بزعمكم ، والثالث : أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله ، وفائدة تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إنا قتلناه (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ردّ عليه وتكذيب لهم وللنصارى أيضا في قولهم : إنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك. والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إنه إله أو ابن إله ثم يقولون إنه صلب (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) فيه تأويلان : أحدهما : ما ذكرناه من إلقاء شبهه على الحواري أو على اليهودي ، والآخر : أنّ معناه شبه لهم الأمر ؛ أي خلط لهم القوم الذين حاولوا قتله بأنهم قتلوا رجلا آخر وصلبوه ومنعوا الناس أن يقربوا منه ، حتى تغير بحيث لا يعرف ، وقالوا للناس : هذا عيسى ، ولم يكن عيسى ، فاعتقد الناس صدقهم وكانوا متعمدين للكذب (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) روي أنه لما رفع عيسى وألقي شبهه على غيره فقتلوه ، قالوا : إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا ، فقال بعضهم هو هو ، وقال بعضهم ليس هو ، فأجمعوا أن شخصا قتل ، واختلفوا من كان (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) استثناء منقطع لأنّ العلم تحقيق والظن تردّد ، وقال ابن عطية : هو متصل إذا الظن والعلم يجمعهما جنس المعتقدات ، فإن قيل : كيف وصفهم بالشك وهو تردّد بين احتمالين على السواء ثم وصفهم بالظنّ وهو ترجيح أحد الاحتمالين؟ فالجواب أنهم كانوا على الشك ، ثم لاحت لهم أمارات فظنوا ، قاله الزمخشري ، وقد يقال : الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف ، وقيل : هي مصدر في موضع الحال : أي ما قتلوه متيقنين ، وقيل : هو تأكيد للنفي الذي في قوله : ما قتلوه أي يتقين نفي قتله ، وهو على هذا منصوب على المصدرية (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) فيها تأويلان : أحدهما : أنّ الضمير في موته لعيسى ، والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض ، قبل أن يموت عيسى ، وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا ، وهو دين الإسلام ، والثاني أنّ الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله : وإن من أهل الكتاب التقدير : وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمن بعيسى ، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان ، وذلك حين معاينة الموت ، وهو إيمان لا ينفعه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره ، وفي مصحف أبيّ بن كعب قبل موتهم ، وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني ، والضمير في به لعيسى على الوجهين ، وقيل : هو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَبِصَدِّهِمْ) يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض ، فيكون كثيرا صفة لمصدر

٢١٦

الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١) لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤) رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥) لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ

________________________________________________________

محذوف تقديره صدّا كثيرا ، أو بمعنى صدّهم لغيرهم ، فيكون كثيرا مفعولا بالصدّ ، أي صدّوا كثيرا من الناس عن سبيل الله (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) هو عبد الله بن سلام ، ومخيريق ، ومن جرى مجراهم (وَالْمُقِيمِينَ) منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيرا في الكلام ، وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود : والمقيمون ، على الأصل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية : ردّ على اليهود الذين سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي : كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء ، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ) منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر ، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) منصوب بفعل مضمر أو على البدل (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول : لو أرسل إليّ رسولا لآمنت (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) الآية : معناها أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده ، وكذلك تشهد الملائكة بذلك ، وسبب الآية : إنكار اليهود للوحي ، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا : لن نشهد بما أنزل إليك ، فقيل : لكن الله يشهد بذلك ، وفي الآية من أدوات البيان الترديد ، وهو ذكر الشهادة أولا ، ثم ذكرها في آخر الآية (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله ، خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم ، وقد تأوّلوا الآية بتأويل بعيد (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب عام ، لأنّ النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم بعث إلى جميع الناس (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) انتصب خبرا هنا ، وفي قوله : انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره ائتوا خيرا لكم ، هذا مذهب سيبويه ، وقال الخليل : انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى ، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف ، وقال الكوفيون هو خبر

٢١٧

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧٣) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

________________________________________________________

كان المحذوفة تقديره يكن الإيمان خيرا لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو غني عنكم لا يضره كفركم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) هذا خطاب للنصارى لأنهم غلوا في عيسى حتى كفروا ، فلفظ أهل الكتاب عموم يراد به الخصوص في النصارى ، بدليل ما بعد ذلك والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد (وَكَلِمَتُهُ) أي مكون عن كلمته التي هي كن من غير واسطة أب ولا نطفة (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي ذو روح من الله ، فمن هنا لابتداء الغاية ، والمعنى من عند الله ، وجعله من عند الله لأن الله أرسل به جبريل عليه‌السلام إلى مريم (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) نهي عن التثليث ، وهو مذهب النصارى وإعراب ثلاثة خبر مبتدأ مضمر (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) برهان على تنزيهه تعالى عن الولد ، لأنه مالك كل شيء (لَنْ يَسْتَنْكِفَ) لن يأنف كذلك ، ومعناه حيث وقع (وَلَا الْمَلائِكَةُ) فيه دليل لمن قال : إنّ الملائكة أفضل من الأنبياء ، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ) هو القرآن ، وهو أيضا النور المبين ، ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج ، وبالنور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه سمّاه سراجا (يَسْتَفْتُونَكَ) أي يطلبون منك الفتيا ، ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة ، ويفتيكم أيضا طلب لها ، فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه ، والأوّل أظهر ، وقد تقدّم معنى الكلالة في أوّل السورة والمراد بالأخت والأخ هنا : الشقائق ، والذين للأب إذا عدم الشقائق ، وقد تقدّم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفع بفعل مضمر عند البصريين ، ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث (أَنْ تَضِلُّوا) مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا.

٢١٨

سورة المائدة

مدنية إلا آية ٣ فنزلت بعرفات في حجة الوداع

وآياتها ١٢٠ نزلت بعد الفتح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ

________________________________________________________

سورة المائدة

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قيل : إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك ، وقيل : ما عقده مع ربه من الطاعات : كالحج والصيام وشبه ذلك ، وقيل : ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه ، ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله : أحلت لكم وما بعده (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) هي الإبل والبقر والغنم ، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه ؛ لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها ، قال الزمخشري : هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام ، وقيل : هي الوحش ؛ كالظباء ، وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم ، وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يريد الميتة وأخواتها (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) نصب على الحال من الضمير في لكم (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من محلي الصيد ، وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج ، فالاستثناء بإلّا من البهائم المحللة ، والاستثناء بغير من القوم المخاطبين (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) قيل : هي مناسك الحج ، كان المشركون يحجون ويعتمرون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقيل لهم : لا تحلوا شعائر الله : أي لا تغيروا عليهم ولا تصدّوهم وقيل : هي الحرم ، وإحلاله الصيد فيه ، وقيل هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك ، وإحلاله : فعله (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) قيل : هو جنس الأشهر الحرام الأربعة ، وهي رجب وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وقيل أشهر الحج ، وهي : شوال ، وذو القعدة وذو الحجة ، وإحلالها هو : القتال فيها وتغيير حالها ، (وَلَا الْهَدْيَ) هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام ، ويذبح تقرّبا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه ، أو يصد عن البيت (وَلَا الْقَلائِدَ) قيل : هي التي تعلق في أعناق الهدي ، فنهى عن التعرّض لها ، وقيل : أراد ذوات القلائد

٢١٩

وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ

________________________________________________________

من الهدي وهي البدن وجدّدها بالذكر بعد دخولها في الهدي اهتماما بها وتأكيدا لأمرها (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي قاصدين إلى البيت لحج أو عمرة ، ونهى الله عن الإغارة عليهم أو صدّهم عن البيت ، ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحطم البكري واسمه : شريح بن ضبيعة أخذته خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر ، وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء : عام في المسلمين والمشركين ، ثم نسخ النهي عن قتال المشركين بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وبقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة : ٢٩] وبقوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧] (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) الفضل : الربح في التجارة ، والرضوان : الرحمة في الدنيا والآخرة (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم ، فالأمر هنا إباحة بإجماع (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) معنى لا يجرمنكم : لا يكسبنكم ، يقال : جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه ، والشنآن : هو البغض والحقد ، ويقال : بفتح النون وإسكانها ، وأن صدوكم : مفعول من أجله ، وأن تعتدوا : مفعول ثان ليجرمنكم ، ومعنى الآية : لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام ، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل ، لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، فنهاهم الله عن قتلهم ، لأن الله علم أنهم يؤمنون (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) وصية عامة ، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات ، وفي كل ما يقرب إلى الله ، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبرّ أعمّ من التقوى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس ، والعدوان على الناس (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) تقدّم الكلام عليها في [البقرة : ١٧٣] (وَالْمُنْخَنِقَةُ) هي التي تخنق بحبل وشبهه (وَالْمَوْقُوذَةُ) هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه ، والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبهه ذلك ، والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي أكل بعضه ، والسبع كل حيوان مفترس : كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) قيل إنه استثناء منقطع ، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها : ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح

٢٢٠