التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد :

فقد صحبت كتاب «التسهيل في علوم التنزيل» للعلامة الأندلسي المرحوم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المتوفي عام ٧٤١ ه‍ ـ منذ أكثر من ثلاثين سنة وأعجبت به لقوة عبارته وسهولة بيانه ، وغزارة فوائده ، ولكن الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد مضى عليها أكثر من خمسين سنة وهي مملوءة بالأخطاء ، وخاصة وأن المؤلف يعتمد على قراءة الإمام نافع المدني رحمه‌الله ، ورواية ورش وهي القراءة المعتمدة في شمال أفريقيا عموما ، وكأني بمن صححوا الكتاب في طبعته الأولى لم يلاحظوا الفروق بين قراءة ورش وبين قراءة عاصم المعتمدة في معظم بلاد المسلمين ، في آسيا ومصر والحجاز والشام والعراق وسائر بلاد المشرق ، يضاف إلى ذلك أن مستوى الطباعة والإخراج قد تطور كثيرا خلال السنوات الماضية ، وقد عمدت بعض دور النشر إلى تصوير الطبعة الأولى بدون أي تصحيح أو تحقيق وتوزيعها في السوق ، فكنت أتمنى لو تقيض لهذا الكتاب الجليل دار كريمة تتولى تنقيحه وتصويب الأخطاء الشائعة ، خدمة لكتاب الله من جهة وتقديرا لهذا التفسير الجليل الذي أستطيع الجزم بأنه يفيد العالم والمثقف وطالب المعرفة ، فهو قد اطلع ولخص المؤلفات الضخمة في التفسير كالتفسير الإمام «جامع البيان» للإمام الطبري الذي هو أعظم التفاسير على الإطلاق ، وكل من كتب في هذا الموضوع فلا بدّ له من مطالعة الطبري ، واستفاد من الكشاف للزمخشري وهناك تفسير ابن عطية وغيره ثم إنه قدّم له بمقدمة ضافية عن علوم القرآن. كل ذلك باختصار غير مخل.

وشاء الله أن ألتقي بالأخ الحاج أحمد أكرم الطباع صاحب دار القلم العامرة وصارحته بأمنيتي الغالية ، فلبّى ووافق على القيام بكل ما يلزم لإخراج هذا السفر النفيس ، بأحسن صورة ممكنة ، وعهد إلى هذا الفقير بتخريج الأحاديث الواردة خلال التفسير ، وإصلاح ما بدا لي من أخطاء ، فقمت بهذه المهمة وأنا في غاية السرور لهذا التوفيق الذي جاء على قدر وقد أعانني الله فأنجزت هذه المهمة ووضعت تراجم مختصرة لأهم الأعلام الواردة أسماؤهم ضمن جدول ألفبائي في آخر الكتاب ، كما اقتبست من كتاب أستاذي الشيخ سعيد الأفغاني شيئا مما كتبه في مقدم كتاب حجة القراءات للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجله من رجال القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس ، وفيها بيان موجز لأئمة

٥

القراء : رواتهم وتواريخ حياتهم بما يفيد القارئ العادي المثقف الذي يحتاج إلى معرفة هؤلاء الأعلام.

وفي الختام لا أرى أني قد وفيت الكتاب حقه كما يجب ، ولكني بذلت جهدي حسب الوقت المتاح لي ، والكمال لله وحده ، رحم الله المؤلف وأجزل مثوبته وجعل مقامه في عليين. آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

بيروت في ١ / رجب / ١٤١٦ ه‍

الموافق ٢٤ / ١١ / ١٩٩٥ م.

خادم أهل العلم

عبد الله الخالدي

٦

شرح حال المؤلف ابن جزي

رحمه‌الله هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي الأندلسي.

وردت ترجمته في الإحاطة للسان الدين بن الخطيب. كما ذكره صاحب نفح الطيب في ج / ٣ / ٢٧٢ وقال عنه : فقد وهو يحرض الناس يوم معركة طريف ٧٤١ رحمه‌الله تعالى.

نزل أجداده وقائدهم أبو الخطار الكلبي وهو الحسام بن ضرار في «بوله» أحد حصون الأندلس في «شنت مرية» مددا لأقاربهم من اليمنية حوالي عام ١٢٥ / ه.

وكان أحد أجداده قاضيا في جيّان ويدعى يحيى.

وقد عكف الإمام محمد المذكور على طلب العلم واكتساب القوت الحلال ، وكان عالما حافظا لكتاب الله ، وله مشاركة قوية في علوم العربية والفقه ، والأصول والقراءات والحديث والأدب والشعر ، وقد كان واسع الإطلاع على التفاسير مستوعبا للأقوال جامعا للكتب ، وكان في تدريسه ممتع المحاضرة ، صحيح الإعتقاد ، وخطب منذ نشأته بالجامع الأعظم في بلده ، ثم استمر شأوه في ارتفاع ، ماضيا على سنن الأصالة والنبالة ، وأورث ذلك لابنه عبد الله كاتب رحلة ابن بطوطة.

مشايخه وتلاميذه.

قرأ ابن جزي على أبي جعفر بن الزبير وهو أجل أساتذته ، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. كما روى عن ابن عصفور ، وروى أيضا القرآن عن القارئ المكثر أبي عبد الله بن الكمّاد وغيرهم كثير.

تلاميذه :

وأخذ عنه أبناؤه محمد وأبو بكر أحمد وعبد الله ، ولسان الدين بن الخطيب وابراهيم الخزرجي ، وكان أشهر أولاده أبو عبد الله محمد الذي أخذ عن أبيه ، وصار فيما بعد كاتبا مجيدا ، وذا رأي فقيها ، عالما ، بصيرا بالحديث والأصول.

مؤلفاته :

ترك كثيرا من الآثار في مختلف فنون العلوم كالفقه والحديث والتصوف والقراءات ، وكان ينظم الشعر أيضا في التصوف.

٧

ومن أهم كتبه :

١ ـ وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم.

٢ ـ الأنوار السنية في الكلمات السنية.

٣ ـ كتاب الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار.

٤ ـ كتاب القوانين الفقهية المطبوع في بيروت ، وهو من الكتب المعتبرة في الفقه ، لأنه لخص آراء المذاهب الأربعة ؛ مع المقارنة فيما بينها. وقد حققه الأستاذ الجليل عبد العزيز سيد الأهل ومنه استفدنا هذه النبذة في ترجمة المؤلف.

٥ ـ وأخيرا كتاب التسهيل لعلوم التنزيل. وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا. وهو ربما كان أفضل آثاره. وقد ذكرت عنه في مقدمة التحقيق ما فيه الكفاية.

رحم الله المؤلف ، ما أروع بيانه وأوجز كلامه وأغزر فوائده.

٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلم العلامة ، فريد دهره ، ووحيد عصره ، أبو عبد الله محمد المدعو بالقاسم بن أحمد بن محمد بن جزيّ الكلبي ، رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه ، بحرمة النبي الأوّاه :

الحمد لله العزيز الوهاب ، مالك الملوك ورب الأرباب ، هو (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] ، (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [المؤمن : ٥٤] ، وأودعه من العلوم النافعة ، والبراهين القاطعة : غاية الحكمة وفصل الخطاب ؛ وخصصه من الخصائص العلية ، واللطائف الخفية ، والدلائل الجلية ، والأسرار الربانية ، العجب بكل عجب عجاب ؛ وجعله في الطبقة العليا من البيان ، حتى أعجز الإنسان والجان ، واعترف علماء أرباب اللسان بما تضمنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب ؛ ويسر حفظه في الصدور ، وضمن حفظه من التبديل والتغيير ، فلم يتغير ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب ؛ وجعله قولا فصلا ، وحكما عدلا ، وآية بادية ، ومعجزة باقية : يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب ؛ وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوّاب ، والحجة على الكافر المرتاب ؛ وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام ، وبيّن الحلال والحرام ، وعلّم من شعائر الإسلام ، وصرّف من النواهي والأوامر والمواعظ والزواجر ، والبشارة بالثواب ، والنذارة بالعقاب ، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصته ، واصطفاهم من عباده ، وأورثهم الجنة وحسن المآب. فسبحان مولانا الكريم الذي خصنا بكتابه ، وشرفنا بخطابه ، فيا له من نعمة سابغة ، وحجة بالغة ، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها ، وتوفية حقها ، ومعرفة قدرها ، (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) [هود : ٨٨] ، (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) [الرعد : ٣٠]. وصلاة الله وسلامه ، وتحياته وبركاته وإكرامه ، على من دلنا على الله ، وبلغنا رسالة الله ، وجاءنا بالقرآن العظيم ، وبالآيات والذكر الحكيم ، وجاهد في الله حق الجهاد ، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد ، وعلم ونصح وبيّن وأوضح حتى قامت الحجة ، ولاحت المحجة ، وتبين الرشد من الغيّ ، وظهر طريق الحق والصواب ، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب. ذلك : سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي ، القرشي الهاشمي ، المختار من لباب اللباب ، والمصطفى من أطهر الأنساب ، وأشرف الأحساب ، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة والجنود القاهرة ، والسيوف الباترة الغضاب ، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة ، وجعله قائدا للغرّ المحجلين والوجوه الناضرة ، فهو أوّل من يشفع يوم الحساب ، وأوّل من يدخل الجنة ويقرع الباب ، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين ، وأصحابه الأكرمين ، خير أهل

٩

وأصحاب ، صلاة زاكية نامية ، لا يحصر مقدارها العدّ والحساب ، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتاب.

أما بعد ؛ فإنّ علم القرآن العظيم : هو أرفع العلوم قدرا ، وأجلها خطرا ، وأعظمها أجرا ، وأشرفها. ذكرا وإن الله أنعم عليّ بأن شغلني بخدمة القرآن ، وتعلّمه وتعليمه ، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه ، فاطلعت على ما صنف العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف ، المتباينة الأصناف ، فمنهم من آثر الاختصار ، ومنهم من طوّل حتى كثّر الأسفار ، ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس ، ومنهم من عوّل على النظر والتحقيق والتدقيق ، وكل أحد سلك طريقا نحاه ، وذهب مذهبا ارتضاه ، (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥] ، فرغبت في سلوك طريقهم ، والانخراط في مساق فريقهم ، وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم ، وسائر ما يتعلق به من العلوم ، وسلكت مسلكا نافعا ، إذ جعلته وجيزا جامعا ، قصدت به أربع مقاصد : تتضمن أربع فوائد :

الفائدة الأولى : جمع كثير من العلم ، في كتاب صغير الحجم ؛ تسهيلا على الطالبين ، وتقريبا على الراغبين ؛ فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم ، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها ، وتنقيح فصولها ، وحذف حشوها وفضولها ؛ ولقد أودعته من كل فنّ من فنون علم القرآن : اللباب المرغوب فيه ، دون القشر المرغوب عنه ، من غير إفراط ولا تفريط. ثم إني عزمت على إيجاز العبارة ، وإفراط الاختصار ، وترك التطويل والتكرار.

الفائدة الثانية : ذكر نكت عجيبة ، وفوائد غريبة ، قلما توجد في كتاب ؛ لأنها من بنات صدري ، وينابيع ذكرى. ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم ، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر ، الواقعة في غرائب الدفاتر.

الفائدة الثالثة : إيضاح المشكلات ، إما بحل العقد المقفلات ، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات ، وبيان المجملات.

الفائدة الرابعة : تحقيق أقوال المفسرين ، السقيم منها والصحيح ، وتمييز الراجح من المرجوح. وذلك أن أقوال الناس على مراتب : فمنها الصحيح الذي يعوّل عليه ، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه ، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد. ثم إنّ هذا الاحتمال قد يكون متساويا أو متفاوتا ، والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا ، وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة ، تعرف بها كل مرتبة وكل قول ؛ فأدناها ما أصرح بأنه خطأ أو باطل ، ثم ما أقول فيه إنه ضعيف أو بعيد ، ثم ما أقول إنّ غيره أرجح أو أقوى أو أظهر أو أشهر ثم ما أقدّم غيره عليه إشعارا بترجيح المتقدّم أو بالقول فيه : قيل كذا ، قصدا للخروج من عهدته ، وأما إذا صرحت باسم قائل القول ؛ فإني أفعل ذلك لأحد أمرين : إما للخروج عن عهدته ، وإما

١٠

لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به ، على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلّا قليلا ، وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم ، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم ، وأما إذا ذكرت شيئا دون حكاية قوله عن أحد ؛ فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء نفسي ، أو مما أختاره من كلام غيري ، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان ؛ لم أذكره تنزيها للكتاب ، وربما ذكرته تحذيرا منه ، وهذا الذي من الترجيح والتصحيح مبنيّ على القواعد العلمية ، أو ما تقتضيه اللغة العربية ، وسنذكر بعد هذا بابا في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله. وسميته كتاب التسهيل : لعلوم التنزيل وقدّمت في أوّله مقدّمتين : إحداهما في أبواب نافعة ، وقواعد كلية جامعة ؛ والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة. وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم : أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملا مبرورا. وسعيا مشكورا ، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم ، وتنقذني من عذاب الجحيم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

[رحم الله المؤلف ما أوجز عبارته وأكثر فائدته وقد وفى بكل ما وعد به جزاه الله خيرا عن الدين وأهله]

١١

المقدمة الأولى

وفيها إثنا عشر بابا

الباب الأوّل : في نزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوّل ما بعثه الله بمكة ، وهو ابن أربعين سنة ، إلى أن هاجر إلى المدينة ، ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفاه الله ، فكانت مدّة نزوله عليه عشرون سنة ، وقيل كانت ثلاثا وعشرين سنة على حسب الاختلاف في سنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم توفي ، هل كان ابن ستين سنة ، أو ثلاث وستين سنة؟ وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة ، وربما تنزل عليه آيات مفترقات ، فيضم عليه‌السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة.

وأوّل ما نزل عليه من القرآن : صدر سورة العلق ، ثم المدّثّر والمزمل ، وقيل : أوّل ما نزل المدّثّر وقيل : فاتحة الكتاب ، والأوّل هو الصحيح ؛ لما ورد في الحديث الصحيح ، عن عائشة في حديثها الطويل في ابتداء الوحي قالت فيه : جاءه الملك وهو بغار حراء ، قال اقرأ ، قال ما أنا بقارئ ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال اقرأ ، قلت ما أنا بقارئ ، قال فأخذني فغطني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال اقرأ ، قلت ما أنا بقارئ ، قال فأخذني وغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، ثم قال : اقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده ، فقال زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع» (١) ، وفي رواية من طريق جابر بن عبد الله : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمّلوني فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وآخر ما نزل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وقيل آية الزنى التي في البقرة ، وقيل الآية قبلها.

وكان القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال ، فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قعد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته ، فجمعه على ترتيب نزوله ، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ، ولكنه لم يوجد. فلما قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب ؛ أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن ؛ مخافة أن يذهب بموت القراء. فجمعه في صحف غير مرتّب السور وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ، ثم عند عمر بعده ، ثم عند بنته حفصة أم

__________________

(١). أخرجه مسلم ج أول ص ١٣٩ كتاب الإيمان باب رقم ٧٣.

١٢

المؤمنين ، وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة ، وكان بينها اختلاف ، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم ، فانتدب لذلك عثمان ، وأمر زيد بن ثابت فجمعه ، وجعل معه ثلاثة من قريش : عبد الله بن الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وسعيد بن العاصي بن أمية ، وقال لهم إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش ، وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماما في هذا الجمع الأخير ، وكان عثمان رضي الله عنه يتعهدهم ويشاركهم في ذلك ، فلما كمل المصحف نسخ عثمان رضي الله عنه منه نسخا ووجهها إلى الأمصار وأمر بما سواها أن تخرق أو تحرق «يروى بالحاء والخاء المنقوطة» فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف ، وقد قيل إنه من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك ضعيف تردّه الآثار الواردة في ذلك.

وأما نقط القرآن وشكله فأوّل من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان وزاد الحجاج تحزيبه وقيل : أوّل من نقطه يحيى بن يعمر وقيل أبو الأسود الدؤلي ، وأما وضع الأعشار فيه فقيل : إنّ الحجاج فعل ذلك وقيل بل أمر به المأمون العباسي.

وأما أسماؤه فهي أربعة : القرآن ، والفرقان ، والكتاب ، والذكر. وسائر ما يسمى صفات لا أسماء : كوصفه بالعظيم ، والكريم ، والمتين ، والعزيز ، والمجيد ، وغير ذلك. فأما القرآن : فأصله مصدر قرأ ، ثم أطلق على المقروء ، وأما الفرقان : فمصدر أيضا ؛ معناه التفرقة بين الحق والباطل ، وأما الكتاب : فمصدر ثم أطلق على المكتوب ، وأما الذكر : فسمي القرآن به لما فيه من ذكر الله أو من التذكير والمواعظ ، ويجوز في السورة من القرآن الهمز ، وترك الهمز لغة قريش ، وأما الآية فأصلها العلامة ثم سميت الجملة من القرآن بها لأنها علامة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الباب الثاني : في السور المكية والمدنية. اعلم أنّ السور المكية هي التي نزلت بمكة ويعد منها كل ما نزل قبل الهجرة ، وإن نزل بغير مكة ، كما أنّ المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويعدّ منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة ، وتنقسم السور ثلاثة أقسام : قسم مدنية باتفاق ، وهي اثنتان وعشرون سورة ، وهي : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والنور ، والأحزاب ، والقتال ، والفتح ، والحجرات ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والصف ، والجمعة ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والتحريم ، وإذا جاء نصر الله. وقسم فيها خلاف ، هل هي مكية أو مدنية؟ وهي ثلاثة عشر سورة : أم القرآن والرعد ، والنحل ، والحج ، والإنسان ، والمطففون ، والقدر ولم يكن ، وإذا زلزلت ، وأ رأيت ، والإخلاص والمعوّذتين. وقسم مكية باتفاق ، وهي سائر

١٣

السور ، وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية ، كما وقعت آيات مكية في سور مدنية ، وذلك قليل ، مختلف في أكثره.

[خصائص السور المكية والمدنية]

واعلم أنّ السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد والردّ على المشركين ، وفي قصص الأنبياء. وأنّ السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية ، وفي الردّ على اليهود والنصارى ، وذكر المنافقين ، والفتوى في مسائل ، وذكر غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحيث ما ورد : يا أيها الذين آمنوا ؛ فهو مدني ، وأما : يا أيها الناس ، فقد وقع في المكيّ والمدنيّ.

الباب الثالث : في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن. ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل. أما الجملة ، فاعلم أنّ المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه ، ثم إنّ هذا المقصد يقتضي أمرين ، لا بد منها ، وإليهما ترجع معاني القرآن كله : أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها ، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وتردّدهم إليها ، فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين ، وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال.

وأما البواعث عليها فأمران وهما : الترغيب والترهيب ، وأما على التفصيل فاعلم أنّ معاني القرآن سبعة : هي علم الربوبية ، والنبوة ، والمعاد ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد والقصص. فأما علم الربوبية : فمنه إثبات وجود الباري جل جلاله ، والاستدلال عليه بمخلوقاته ، فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات ، والاعتبار في خلقة الأرض والسموات ، والحيوان والنبات. والريح والأمطار ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، وغير ذلك من الموجودات ، فهو دليل على خالقه ، ومنه إثبات الوحدانية ، والردّ على المشركين ، والتعريف بصفات الله : من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر ، وغير ذلك من أسمائه وصفاته ، والتنزيه عما لا يليق به.

وأما النبوّة : فإثبات نبوّة الأنبياء عليهم‌السلام على العموم ، ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخصوص ، وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم ، ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم ، والردّ على من كفر بشيء من ذلك ، وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن من تأنيس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامته والثناء عليه ، وسائر الأنبياء صلّى الله عليه وعليهم أجمعين.

وأما المعاد فإثبات الحشر ، وإقامة البراهين ، والردّ على من خالف فيه ، وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار ، والحساب والميزان ، وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال ، ونحو ذلك.

وأما الأحكام : فهي الأوامر والنواهي وتنقسم خمسة أنواع : واجب ، ومندوب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح. ومنها ما يتعلق بالأبدان : كالصلاة والصيام ، وما يتعلق بالأموال

١٤

كالزكاة ، وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك.

وأما الوعد : فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك ، ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها.

وأما الوعيد : فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا ، ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة وهو الأكثر : كأوصاف جهنم وعذابها. وأوصاف القيامة وأهوالها ، وتأمّل القرآن تجد الوعد مقرونا بالوعيد ، قد ذكر أحدهما على إثر ذكر الآخر ، ليجمع بين الترغيب والترهيب ، وليتبين أحدهما بالآخر ، كما قيل :

فبضدّها تتبين الأشياء

وأما القصص : فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدّمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف ، وذي القرنين. فإن قيل : ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة أوجه ؛ الأوّل : أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى ، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى : الثاني : أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريق الإطناب. وفي مواضع على طريق الإيجاز ، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين. الثالث : أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدّد ذكرها بتعدّد تلك المقاصد ، فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدّمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات ، وذكر إهلاك من كذّبهم بأنواع من المهالك. ومنها إثبات النبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ومنها إثبات الوحدانية. ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [هود : ١٠١] ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدّة عقابه لمن كفر. ومنها تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدّم من الأنبياء : كقوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [الأنعام : ٣٤] ومنها تسليته عليه‌السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله. ومنها تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم ، إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء. وردّهم على الكفار وغير ذلك. فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة : ذكرت في مواضع كثيرة. ولكل مقام مقال.

الباب الرابع : في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن.

اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنا من العلوم ، وهي : التفسير ، والقراءات ، والأحكام ، والنسخ ، والحديث ، والقصص ، والتصوّف ، وأصول الدين ، وأصول الفقه ، واللغة ، والنحو ، والبيان.

فأما التفسير فهو المقصود بنفسه وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه ، ومعنى التفسير : شرح القرآن وبيان معناه ، والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه.

١٥

واعلم أنّ التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه ، ثم إنّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع :

الأوّل : اختلاف في العبارة ، مع اتفاق في المعنى : فهذا عدّه كثير من المؤلفين خلافا ، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه ، وجعلناه نحن قولا واحدا ، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين ، أو بما يقرب منها ، أو بما يجمع معانيها.

الثاني : اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد ، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد ، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه ، فهذا عدّه أيضا كثير من المؤلفين خلافا ، وليس في الحقيقة بخلاف ؛ لأنّ كل قول منها مثال ، وليس بكل المراد ، ولم نعدّه نحن خلافا : بل عبّرنا عنه بعبارة عامّة تدخل تلك تحتها ، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل ، مع التنبيه على العموم المقصود.

الثالث : اختلاف المعنى ؛ فهذا هو الذي عددناه خلافا ، ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب.

فإن قيل : ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال : الأوّل أنهما بمعنى واحد. الثاني : أن التفسير للفظ ، والتأويل للمعنى. الثالث : وهو الصواب : أن التفسير : هو الشرح ، والتأويل : هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر ، بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره وأما القراءات : فإنها بمنزلة الرواية في الحديث ، فلا بد من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته.

ثم إنّ القراءات على قسمين : مشهورة. وشاذة. فالمشهورة : هي القراءات السبع وما جرى مجراها : كقراءة يعقوب ، وابن محيصن. والشاذة ما سوى ذلك. وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع (١) لوجهين : أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب. والأخرى اقتداء بالمدينة شرفها الله لأنها قراءة أهل المدينة. وقال مالك بن أنس : قراءة نافع سنة. وذكرنا من سائر القراءة ما فيها فائدة في المعنى والإعراب وغير ذلك. دون ما لا فائدة فيه زائدة. واستغنينا عن استيفاء القراءات لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها. وقد ألفنا فيها كتبا نفع الله بها. وأيضا فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة وقد ذكرنا في هذه المقدّمات بابا في قواعد أصول القراءات.

وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي. والمسائل الفقهية. وقال بعض العلماء إنّ آيات الأحكام خمسمائة آية. وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا استقصى تتبعها في مواضعها. وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة. ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها : تأليف إسماعيل [بن إسحاق المالكي] القاضي وابن الحسن كباه (٢)

__________________

(١). وهي المعروفة اليوم في شمال افريقيا بقراءة ورش وهو ممن أخذ عن نافع المدني وانظر ترجمتهما في آخر الكتاب.

(٢). كذا في النسخة المطبوعة.

١٦

ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي والقاضي الحافظ بن محمد بن عبد المنعم بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس. وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار ولا بدّ من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم وهو ما لم ينسخ ، وقد صنف الناس في ناسخ القرآن ومنسوخه تصانيف كثيرة وأحسنها تأليف القاضي أبي بكر بن العربي. وقد ذكرنا في هذه المقدمات بابا في قواعد النسخ ، وذكر ما تقرّر في القرآن من المنسوخ ، وذكرنا سائره في مواضعه.

وأما الحديث فيحتاج المفسر إلى روايته وحفظه لوجهين : الأوّل : أنّ كثيرا من الآيات في القرآن نزلت في قوم مخصوصين ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزوات والنوازل والسؤالات ، ولا بدّ من معرفة ذلك ليعلم فيمن نزلت الآية وفيما نزلت ومتى نزلت فإنّ الناسخ يبنى على معرفة تاريخ النزول لأنّ المتأخر ناسخ للمتقدم. الثاني :

أنه ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير من تفسير القرآن فيجب معرفته لأنّ قوله عليه‌السلام مقدم على أقوال الناس.

وأما القصص فهي من جملة العلوم التي تضمنها القرآن فلا بد من تفسيره إلّا أنّ الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه. وما سوى ذلك زائد مستغنى عنه وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح. حتى أنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب الأنبياء عليهم‌السلام أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه. وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص على ما يتوقف التفسير عليه وعلى ما ورد منه في الحديث الصحيح.

وأما التصوّف فله تعلق بالقرآن. لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس. وتنوير القلوب. وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة. واجتناب الأخلاق الذميمة. وقد تكلمت المتصوّفة في تفسير القرآن. فمنهم من أحسن وأجاد. ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني. ووقف على حقيقة المراد. ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية.

وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتاب سماه «الحقائق» وقال بعض العلماء : بل هي البواطل. وإذا انصفنا قلنا : فيه حقائق وبواطل. وقد ذكرنا هذا في كتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية. دون ما يعترض أو يقدح فيه.

وتكلمنا أيضا على اثني عشر مقاما من [مقامات] التصوف في مواضعها من القرآن : فتكلمنا على الشكر في أم القرآن. لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى. وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وعلى الذكر في قوله فيها (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٣] وعلى الصبر في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] وعلى

١٧

التوحيد في قوله فيها : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] وعلى محبة الله في قوله فيها : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥] وعلى التوكل في قوله في آل عمران : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] وعلى المراقبة في قوله في النساء : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١] وعلى الخوف والرجاء في قوله في الأعراف : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الأعراف : ٥٦] وعلى التوبة في قوله في النور : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) [النور : ٣١] وعلى الإخلاص في قوله في لم يكن : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٤].

وأما أصول الدين فيتعلق بالقرآن من طرفين : أحدهما : ما ورد في القرآن من إثبات العقائد وإقامة البراهين عليها. والردّ على أصناف الكفار. والآخر : أنّ الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن وكل طائفة منهم تحتجّ لمذهبها بالقرآن وترد على من خالفها. وتزعم أنه خالف القرآن. ولا شك أنّ منهم المحق والمبطل. فمعرفة تفسير القرآن أن توصل في ذلك إلى التحقيق مع التشديد والتأييد من الله والتوفيق.

وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن. على أنّ كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها. وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال. وما أحوج المفسر إلى معرفة النص. والظاهر. والمجمل. والمبين. والعام. والخاص. والمطلق. والمقيد. وفحوى الخطاب. ولحن الخطاب. ودليل الخطاب. وشروط النسخ. ووجوه التعارض. وأسباب الخلاف. وغير ذلك من علم الأصول.

وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها. وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير. وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة. وقد ذكرنا بعد هذه المقدّمة : مقدّمة في اللغات الكثيرة الدوران في القرآن. لئلا نحتاج أن نذكرها حيث وقعت فيطول الكتاب بكثرة تكرارها.

وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته. فإنّ القرآن نزل بلسان العرب فيحتاج إلى معرفة اللسان. والنحو ينقسم إلى قسمين : أحدهما : عوامل الإعراب. وهي أحكام الكلام المركب. والآخر : التصريف وهي أحكام الكلمات من قبل تركيبها. وقد ذكرنا في هذا الكتاب من إعراب القرآن ما يحتاج إليه من المشكل والمختلف. أو ما يفيد فهم المعنى. أو ما يختلف المعنى باختلافه ولم نتعرض لما سوى ذلك من الإعراب السهل الذي لا يحتاج إليه إلّا المبتدئ فإنّ ذلك يطول بغير فائدة كبيرة.

وأما علم البيان : فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن. وقد ذكرنا منه في هذا الكتاب فوائد فائقة. ونكات مستحسنة رائقة. وجعلنا في المقدّمات بابا في أدوات البيان ليفهم به ما يرد منها مفرّقا في مواضعه من القرآن.

الباب الخامس : في أسباب الخلاف بين المفسرين. والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم. فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر : الأول : اختلاف القرآن. الثاني : اختلاف وجوه

١٨

الإعراب وإن اتفقت القراءات. الثالث : اختلاف اللغويين في معنى الكلمة. الرابع : اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر. الخامس : احتمال العموم والخصوص. السادس : احتمال الإطلاق أو التقييد. السابع : احتمال الحقيقة أو المجاز. الثامن : احتمال الإضمار أو الاستقلال. التاسع : احتمال الكلمة زائدة. العاشر : احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير. الحادي عشر : احتمال أن يكون الحكم منسوخا أو محكما. الثاني عشر : اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن السلف رضي الله عنهم.

وأما وجوه الترجيح فهي اثنا عشر الأول : تفسير بعض القرآن ببعض ، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه ، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. الثاني : حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإذا ورد عنه عليه‌السلام تفسير شيء من القرآن عوّلنا عليه. لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح. الثالث : أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين : فإنّ كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه. الرابع : أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن عباس : لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١). الخامس : أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. السادس : أن يشهد بصحة القول سياق الكلام ويدل عليه ما قبله أو ما بعده. السابع : أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإنّ ذلك دليل على ظهوره ورجحانه. الثامن : تقديم الحقيقة على المجاز. فإنّ الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين. وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالا من الحقيقة ويسمى مجازا راجحا والحقيقة مرجوحة. وقد اختلف العلماء أيهما يقدم : فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة ؛ لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه. وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح. التاسع : تقديم العمومي على الخصوصي ؛ فإنّ العمومي أولى لأنه الأصل إلّا أن يدل دليل على التخصيص. العاشر : تقديم الإطلاق على التقييد ، إلّا أن يدل دليل على التقييد. الحادي عشر : تقديم الاستقلال على الإضمار إلّا أن يدل دليل على الإضمار. الثاني عشر : حمل الكلام على ترتيبه إلّا أن يدل دليل على التقديم والتأخير.

الباب السادس : في ذكر المفسرين.

اعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين :

فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه. وهم الأكثرون. ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطا لما ورد من التشديد في ذلك. فقد قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر من القرآن الآيات إلّا بعد علمه إياهن من جبريل. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» (٢). وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنها بأنه

__________________

(١). رواه أحمد في المسند عن ابن عباس ج ١ ص : ٣٩١.

(٢). ذكره في التيسير ص ٤٣٤ / ٢ ج عن سمرة بن جندب وحسّنه وعزاه للشيخين والنسائي.

١٩

في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلّا بتوقيف من الله تعالى. وتأول الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات ؛ لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدّمين ؛ فإنّ هذا لم يقل في القرآن برأيه.

واعلم أن المفسرين على طبقات ؛ فالطبقة الأولى : الصحابة رضي الله عنهم. وأكثرهم كلاما في التفسير ابن عباس. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس. ويقول : كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقال ابن عباس ما عندي من تفسير القرآن فهو عن عليّ بن أبي طالب. ويتلوهما عبد الله بن مسعود. وأبيّ بن كعب. وزيد بن ثابت. وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وكلما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن.

والطبقة الثانية : التابعون. وأحسنهم كلاما في التفسير الحسن بن أبي الحسن البصري. وسعيد بن جبير ومجاهد مولى ابن عباس. وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود. ويتلوهم : عكرمة. وقتادة. والسّدي. والضحاك بن مزاحم. وأبو صالح. وأبو العالية.

ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف ، وألف الناس فيه : كالمفضل. وعبد الرزاق. وعبد بن حميد. والبخاري. وعلي بن أبي طلحة. وغيرهم. ثم إن محمدا بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين وأحسن النظر فيها. وممن صنف في التفسير أشياء : أبو بكر النقّاش. والثعلبي (١). والماوردي. إلّا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح. وقد استدرك الناس على بعضهم. وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين : كأبي إسحاق الزجاج ، وأبي علي الفارسي ، وأبي جعفر النحاس. وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتابا في غريب القرآن وتفسيره. ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب الهداية في تفسير القرآن. وكتابا في غريب القرآن. وكتابا في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكتابا في إعراب القرآن. إلى غير ذلك من تآليفه. فإنها نحو ثمانين تأليفا : أكثرها في علوم القرآن والقراءات والتفسير وغير ذلك. وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين. إلّا أن أكثرها في القرآن. ولم يؤلف في التفسير إلّا قليلا. وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف. حسن الترتيب. جامع لفنون علوم القرآن : ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي وأبو محمد عبد الحق بن عطية. فأبدع كل واحد وأجمل. واحتفل وأكمل. فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن : فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلّا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه. وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها. فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها. وهو مع ذلك حسن العبارة. مسدّد النظر ، محافظ على السنة. ثم ختم علم القرآن

__________________

(١). هو أحمد بن محمد بن إبراهيم المفسر. انظر وفيات الأعيان ج أول ص ٧٩.

٢٠