دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

احدهما بقاء للآخر ، فالشك إذن لم يحرز كونه شكا في البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري الاستصحاب في كل الحالات التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين زمان المشكوك وما قبله.

ويمكن دفع الاستشكال بانّ «الشك في البقاء» بعنوانه لم يؤخذ صريحا في لسان روايات الاستصحاب ، وانما اخذ «الشك» بعد «اليقين» وهو يلائم كل شك متعلّق بما هو متيقّن الحدوث سواء صدق عليه «الشك في البقاء» أو لا (١).

والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان (٢) يؤدّي إلى ان الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه (٣) لا من اجل

__________________

الاوّل لا يكون أحدهما بقاء للآخر

(١) كما على تقدير حصول النجاسة الآن ، فان الشك ليس شكا في البقاء ، وانما هو شك في حصول الطهارة وعدم حصولها ، لانّه على تقدير ان النجاسة قد حصلت قبل بساعة فقد حصلت الطهارة وعلى التقدير الثاني لم تحصل فنستصحب النجاسة الاجمالية.

(٢) وبالتالي اشترطنا اتصال الشك باليقين.

(٣) لعدم تمامية شرائطه ، أو قل لعدم وجود شرط الشك في البقاء ، إذ على تقدير تأخّر الطهارة فلا حدث يقينا ، وعلى تقدير تاخّر الحدث فهناك يقين ببقائه ، فعلى ايّ من التقديرين لا شك في بقاء الحالة السابقة ، فلا يجري الاستصحاب في نفسه.

وقد يقال بجريان استصحاب الحدث لعلمنا بحصوله وشكّنا في رفعه ، وكذلك بجريان استصحاب الطهارة بنفس البيان ، فيتعارض الاستصحابان ،

٨١

التعارض ، فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في المتقدّم منهما فهو يعلم اجمالا بالحدث إمّا الآن أو قبل ساعة ويشك في الحدث فعلا ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن وما قبله فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة (*). وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشك بزمان

__________________

هذا ولكن رأيت ان السيد المصنّف (قدس‌سره) قد منع من جريان الاستصحابين من الاصل بالبيان المتقدّم قبل ان نصل إلى مرحلة التعارض والتساقط بناء على عدم اندفاع الاستشكال المذكور بالبيان السابق ، وإلّا فالصحيح عنده رحمه‌الله اندفاع هذا الاستشكال بالبيان المذكور وقد ذكره في بحث الخارج ج ٦ من تقريرات السيد الهاشمي حفظه الله ، الفرع التاسع من التطبيقات ص ٣٢٥ ، قال «وهكذا يتّضح تماميّة اركان الاستصحاب في حالات توارد الحالتين في مجهول التاريخ ومعلومه ، فيجري الاستصحاب فيهما معا ، غاية الامر انهما يتعارضان ويتساقطان.»

__________________

(*) الصحيح عدم جريان الاستصحاب في موارد توارد الحالتين وذلك لدليلين ثبوتي وإثباتي :

امّا الاول : فنقول لا يوجد من الاصل مورد لجريان الاستصحاب في حالات توارد الحالتين ، وذلك لأنّ الحالة الاولى قد ارتفعت بالحالة الثانية فلا استصحاب بلحاظ الحالة الاولى ، والحالة الثانية معلومة البقاء فلا استصحاب بلحاظ الحالة الثانية ايضا ، اذن لا يوجد مورد للاستصحاب من الاصل هنا.

وامّا الثاني : فلعدم ذكر مورد الاستصحاب في ألسنة الادلّة كي نتمسّك باطلاقه ، فيتعيّن الاخذ بالقدر المتيقّن ، وهي حالات كون موارد الاستصحاب بسيطة [اي غير مبتلية بالعلم الاجمالي].

٨٢

اليقين (١).

__________________

(١) هناك معنيان لما يقال من عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين :

الاوّل : ان يقال انّه على فرض تقدّم الحدث مثلا وتأخّر الطهارة لا يمكن لنا استصحاب الحدث ، وذلك لعدم اتصال زمان الحدث المتيقّن بزمان الشك في بقائه ، لانّ العلم بالطهارة قد فصل بين الزمانين ، وكذا الكلام بالنسبة إلى استصحاب الطهارة تماما. وهذا المعنى غير مراد هنا ، وذلك لاننا على الفرض يلزم ان نستصحب الطهارة. ان شككنا في

__________________

وبكلمة اخرى ، كيف نتمسّك باطلاق ((لا تنقض اليقين بالشك)) ولقد اوضحنا في بحث حجيّة الظهور ان الدليل على حجيّة الظهور هو الارتكاز العقلائي الممضى من المشرّع الحكيم [وما سيرتهم على ذلك إلا معلولة وكاشفة عن هذا الارتكاز] ، والعقلاء ليس عندهم ارتكازات تعبديّة ولا يعملون بالامارات إلّا ما يورث عندهم منها اطمئنانا ، فهم لا يسندون كلاما إلى بعضهم البعض إلّا إذا اطمأنوا بانّ مراده هو هذا المعنى الفلاني ، فلقد كان بنفس هذه الطريقة العقلائية وكذلك عمل المتشرّعة في الشرعيات في زمان الائمة [عليهم‌السلام] كما في الاوامر والنواهي والاطلاقات ، مع انّها غير صريحة في المراد ولكنها ظاهره في المراد ، وكذا الحال في الشرائع الوضعية ، ممّا يعني ان الظهورات في الشرائع ـ سماوية كانت ام وضعية ـ كانت طريقا عقلائيا لفهم مرادات المشرّعين التي هي موضوع الحجيّة .. ولا ظهور في اللفظ يمكن ان نتمسّك به لاسراء قاعدة الاستصحاب الى حالة توارد الحالتين ، [بل] الظهور على الخلاف ، إذ ان حالة توارد الحالتين هي حالة نقض احدى الحالتين للحالة السابقة وبقاء الثانية فالحالة الاولى معلومة الارتفاع والحالة الثانية معلومة البقاء وليس مورد الاستصحاب هكذا ، ولذلك ترى العقلاء يرفضون بفطرتهم هكذا استصحاب إمّا في مرحلة المقتضي لعدم عقلائية هذا الاستصحاب وقد استدلّ الشارع عليه بمركوزيته عند العقلاء ، وإمّا في مرحلة المانع للغويّته. فلا يصحّ التمسك ح بأدلة الاستصحاب للقول بجريانه ثم التعارض والتساقط

٨٣

ثم انّ هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة اخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين بالشك (١).

ويفرّع (٢) على ذلك بانّه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا

__________________

رفعها. لا الحدث ، فلا فصل في البين.

الثاني : ان يقال بانّ المراد هو عدم العلم باتصال زمان الشك بالنجاسة مثلا بزمان اليقين ، وذلك لاحتمال الفصل بينهما بالطهارة ، وهذا الاحتمال. لعلمنا بطروء الطهارة اجمالا اي إمّا قبل النجاسة او بعدها. منجّز علينا ، وكذا الكلام بالنسبة إلى استصحاب الطهارة ايضا ، وهذا المعنى هو المراد هنا.

(ولذلك) كان الاولى أن يقول هكذا «وهذا بعض معاني ما يقال من عدم العلم باتصال زمان الشك بزمان اليقين».

(وسيأتي) معان أخرى لهذه الكلمة في البحث الآتي بعنوان «شبهة انفصال زمان الشك عن زمان اليقين»

(١) إذا كانت الحالة السابقة للثوب الطهارة فرفعنا يدنا عنها واعتبرنا الثوب متنجسا بمجرّد شكّنا ، هنا يكون رفع يدنا عن الطهارة نقضا لليقين بالشك ، هنا يجري استصحاب الطهارة. وأمّا في موارد العلم الاجمالي فلا يجري الاستصحاب لاحتمال ان يكون المكلف قد نقض اليقين السابق بالطهارة بيقين لاحق كما سيأتي في التفريع التالي.

(٢) بيان هذا التفريع : بما انّ السبب في تنجيز العلم الاجمالي هو وجود فرد نجس واقعا بين الاطراف فان اجرينا استصحاب الطهارة فيه فنكون قد نقضنا اليقين السابق بالطهارة باليقين اللاحق بنجاسة احد الاطراف ، وفي هذه الحالة لا إشكال في عدم صحّة جريان استصحاب الطهارة

٨٤

لليقين باليقين فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب ، وقد مثّل لذلك بما إذا علم بطهارة عدّة اشياء تفصيلا ثم علم اجمالا بنجاسة بعضها ، فانّ المعلوم بالعلم الاجمالي لما كان مردّدا بين تلك الأشياء فكلّ واحد منها يحتمل ان يكون معلوم النجاسة (١) ، وبالتالي يحتمل ان يكون رفع اليد عن الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين (٢) ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.

ونلاحظ على ذلك :

اوّلا : انّ العلم الاجمالي ليس متعلّقا بالواقع (*) بل بالجامع (٣) ، فلا

__________________

ضرورة انتقاض اليقين بالطهارة باليقين اللاحق بنجاسة بعض الاطراف ، ثمّ بما اننا نحتمل في كل إناء ان يكون هو النجس واقعا فمعنى ذلك أننا نحتمل ان نكون قد نقضنا يقيننا السابق بالطهارة بيقيننا اللاحق بالنجاسة وهذا ليس مورد الاستصحاب فلا يصحّ جريان الاستصحاب في ايّ واحد من الاطراف.

(١) أو قل يحتمل أن يكون هو النجس الواقعي.

(٢) أي نقضا لليقين التفصيلي بالطهارة باليقين بنجاسة الفرد الواقعي الضائع.

(٣) مراده من هذه الملاحظة الاولى أن يقول : انا لا اعرف المتنجس

__________________

(*) قلنا في اوائل ابحاث العلم الاجمالي ان الصحيح هو ان المنجّز الحقيقي هو العلم بذلك الفرد الواقعي المجهول عندنا بشخصه المعلوم وجوده بين الاطراف ، وهذا هو المعنى المراد من قولنا بان العلم الاجمالي متعلّق بالواقع.

هذا ، ولكن هذا لا يعني صحّة ما ذكر في هذه الصياغة بمعناها المراد مع ما يتفرّع

٨٥

يحتمل ان يكون ايّ واحد من تلك الاشياء معلوم النجاسة.

ثانيا : (١) لو سلّمنا انّ العلم الاجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحو يلائم مع الشك فيه ايضا ، ودليل الاستصحاب مفاده انه لا ترفع اليد عن الحالة السابقة في كل مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا ، وهذا

__________________

الواقعي ، إنما اعرف أنّ «أحدهما» متنجس لا اكثر ، فيقول لهم فكيف تقولون : يحتمل ان نكون قد نقضنا يقيننا السابق بطهارة كل الآنية بيقيننا اللاحق بنجاسة بعضها؟!

(١) يقول في هذه الملاحظة الثانية انه أيّ مانع من أن يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي حتى ولو احتمل اصابة الفرد الواقعي ، أليس في موارد الانحلال الحكمي ـ كما لو كانت بعض أطراف العلم الإجمالي غير مقدورة ـ يجري الاستصحاب في الطرف الواقع تحت الابتلاء رغم احتمال كون هذا الطرف هو النجس واقعا؟! إذن في مثالكم تجري الاستصحابات إلّا انها تتعارض وتتساقط

__________________

عليها ، لا لفظا ولا معنى :

أمّا بلحاظ المعنى فيرد عليه :

اولا : انّ هذا الشرط [وهو ان لا يحتمل ان يكون الطرف المشكوك الذي نريد اجراء الاستصحاب فيه متنجسا في الواقع] لا وجود له في الادلة ، بل هو تبرعي.

ثانيا : بانّه يلزم على هذا الوجه عدم صحّة اجراء الاستصحاب في كل حالات الانحلال الحكمي ، مع ان الالتزام بهذا اللازم خلاف الحقّ وخلاف ما هو معروف بين العلماء.

واما بلحاظ اللفظ فلأنّ التعبير عن الفرد الواقعي الضائع بين الافراد بالمعلوم النجاسة خلاف الاولى وذلك لعدم وضوح المعنى المراد ح ، تعرف ذلك عند قراءة نصّ التفريع.

٨٦

يشمل محلّ الكلام حتى لو انطبق العلم الاجمالي بالنجاسة على نفس المورد ايضا.

فان قيل : بل لا يشمل ، لاننا حينئذ لا ننقض اليقين بالشك بل باليقين.

كان الجواب : إنّ الباء هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشك وإلّا للزم امكان النقض بالقرعة او الاستخارة ، بل يراد بذلك انّه لا نقض في حالة الشك وهي محفوظة في المقام (١).

__________________

(١) المراد من السببيّة هو ما يكون لها معنى «بسبب» كما في قوله تعالى (إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل) ، وقوله جلّ وعلا (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون (٣٢)).

ومراده (قدس‌سره) من هذا الجواب انّه لو كان المراد من الباء هنا معنى السببيّة المذكورة يصير المعنى هكذا : لا تنقض اليقين بسبب الشك ولك ان تنقضه بسبب غير الشك كالقرعة والاستخارة ونحوهما ، وذلك لانهما اسباب غير سبب الشك ، مع أن هذا الاحتمال واضح الفساد ، وذلك لانهما بحكم الشك في غير ما ثبتت فيه حجيتهما بالاتفاق ، بل يراد من الباء في روايات الاستصحاب معنى الظرفية كما يقال «وضعت الكتاب بالمكتبة» اي في المكتبة ، فيكون المعنى انّه ليس لك ان تنقض اليقين في حالة الشك ، ففي موارد العلم الاجمالي عندنا شك في جميع الاطراف بحسب الفرض فيجري فيها الاستصحاب ثم تتعارض هذه الاستصحابات بسبب وجود اليقين بوجود طرف منجّز بين الاطراف(*)

__________________

(*) هنا كلمتان :

الاولى : ذكرنا قبل قليل عدم صحّة جريان الاستصحاب في موارد العلم الاجمالي ،

٨٧

__________________

ويستثنى من ذلك حالات منها ما اذا زادت الاطراف المرخّص بها بالبيان المتقدّم اكثر من مرّة في الجزءين الاوّل والثالث ، ومنها حالات الانحلال المتقدّمة في محلّه.

والثانية : قوله [قدس‌سره] بانّ المراد من الباء هنا معنى الظرفيّة هو خلاف الظاهر ، وكذلك معنى السببيّة في هذه الروايات خلاف الظاهر ، والظاهر بل لا تبعد دعوى الصراحة في انّ معنى الباء هنا هو الاستعانة ، مثال ذلك ((كتبت بالقلم)) و ((عقدت الحبل بيدي)) وعليه يكون المعنى هكذا : لا تنقض اليقين بواسطة الشك مهما كان منشأ الشك ، القرعة ، الاستخارة ، او غير ذلك ، هذا في الشبهات البدوية ، امّا في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فقد اسلفنا القول بعدم صحّة التمسك بادلّة الاستصحاب فيها.

وخلاصة الرأي الصحيح في تحديد الركن الثاني هو ان الركن الثاني هو الشك في طروء الرافع ، وهذا الشرط عقلي لا روائي ، إذ شرط الاستصحاب وغيره من الاصول العملية هو الشك ، فلو حصل بعد الطهارة علم بالنجاسة مثلا فلا يجري الاستصحاب ولا غيره من الاصول العملية والامارات.

فاذا وصلنا الى هذا المقام يلزم علينا بيان أمر قد يغفل عنه الكثيرون فيتخيلون انّ المستصحب هو نفس ثبوت الحالة السابقة ، ويعتبرون ان الشك انما هو في بقائها ، وهذا الامر وان كان مرتكزا إلّا انّه غير صحيح ، والصحيح انّ المستصحب هو ((عدم طروء الرافع)) وان الشك اللاحق انما هو في طروئه وعدم طروئه ، لنا على ذلك دليلان عقلائي وروائي :

أمّا العقلائي فهو انّ المنهج العقلائي هو انّ العقلاء إذا وقعوا في شك فانما ينظرون الى منشئه ، كاحتمال طروء الحدث او الخبث ، وليس شكّنا ببقاء الحالة السابقة إلّا ناشئا من احتمال طروء رافع لها ، ولذلك يتعين ان يجري الاستصحاب في هذه المرحلة التي هي مورد الشك حقيقة وعلة الشك في بقاء الحالة السابقة ، فاذا جرى هذا الاستصحاب فحينئذ يصير استصحاب الطهارة لغويّا لانّه سيكون حينئذ تحصيلا لحاصل.

ومن هذا تستكشف ارادة استصحاب عدم طروء الرافع من ادلّة الاستصحاب ، ويؤيد

٨٨

__________________

هذا ما ذكرناه في تعليقتنا على مبحث ((الاستصحاب اصل او امارة)) من عقلائية هذه القاعدة لا انها تعبدية محضة.

وأمّا الدليل الروائي : فبيانه يظهر من الصحيحتين التاليتين :

ـ الاولى : صحيحة عبد الله بن سنان قال سأل ابي أبا عبد الله عليه‌السلام وانا حاضر : انّي أعير الذمّي ثوبي وانا اعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ فاغسله قبل ان اصلّي فيه. فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : ((صلّ فيه ولا تغسله من اجل ذلك ، فانك اعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجّسه فلا بأس ان تصلي فيه حتّى تستيقن انّه نجّسه)) ، ببيان انّ الامام عليه‌السلام نظر إلى منشأ الشك وهو احتمال عروض نجاسة على الثوب فأتى بلفظتي ((تستيقن)) في هذه المرحلة ، فقال ((ولم تستيقن انّه نجّسه)) ثم قال : ((حتّى تستيقن انّه نجّسه)) ممّا هو صريح في إرادة معنى انك طالما لم تستيقن بطروء العارض فاستصحب عدمه حتّى تستيقن بعروضه ، وهو صريح في المطلوب.

ـ والثانية : صحيحة زرارة الاولى : ((... قلت : فان حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتّى يستيقن انه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين ابدا بالشك وانّما تنقضه بيقين آخر)) ، بتقريب انّ اوّل ما نظر الامام عليه‌السلام كان إلى مرحلة منشأ الشك فقال : ((حتّى يستيقن انّه قد نام)) ثمّ اكّد ذلك بقوله : ((حتّى يجيء من ذلك امر بيّن)) ، ثم قال عليه‌السلام وإلّا ، اي فان لم يستيقن من طروء الرافع ، فانّه على يقين من ثبوت الحالة السابقة ومن الطبيعي حينئذ ان يبني على بقائها حتّى يستيقن بطروء الرافع.

[هذا] ولكن قد تستشكل علينا في قوله عليه‌السلام ((ولا تنقض اليقين ابدا بالشك)) ، بانّ لفظة اليقين هنا ظاهرة في رجوعها الى ((اليقين)) الواردة في الجملة السابقة ، ممّا يعني انّ المستصحب هو اليقين بالوضوء.

فنقول في الجواب : إنّ معنى هذه الجملة هو : لا تنقض اليقين بالطهارة بالشك في طروء الرّافع ، وكأنّ الامام عليه‌السلام يريد ان يقول هنا ابق على يقينك السابق ولا تنقضه بمجرّد احتمال عروض رافع للحالة السابقة وذلك بالبناء على عدم عروض هذا الرّافع ، وبتعبير

٨٩

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني :

قد يقال : انّ الركن الثاني يستدعي عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية (١) ، كما إذا شك في بقاء نجاسة الماء او حرمة المقاربة

__________________

(١) الفرق بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية في هذا المجال هو : ـ ان الشبهة الموضوعية هو ما اذا كان الشك ناشئا من الشك في اصل حدوث الرافع ، كما اذا شكّت المرأة المذكورة في أصل حدوث سبب النقاء (وهو انسداد العروق) وكما إذا شك الشخص في طروء نجاسة على ثوبه ، فهنا لا شك في جريان الاستصحاب.

ـ والشبهة الحكمية هو ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي الكلّي ناشئا من علمنا بحصول خصوصيّة جديدة قد تكون مغيّرة للموضوع ذاتا وماهيّة ، مثال ذلك ما إذا شكّ المجتهد في جواز وطء الزوجة بمجرّد نقائها من الدم وقبل الغسل والغسل ، وفي حكم صائم اضطرّ لشدّة عطشه إلى شربة ماء وفي حكم البقاء على تقليد المجتهد إذا فقد وعيه باغماء ونحوه او مات ، فهل تستصحب الحالة السابقة ام لا يجري الاستصحاب هنا؟

__________________

آخر : باجراء استصحاب عدم عروضه. وعلى أي حال فهذه الجملة ان لم تكن مؤيّدة لمدّعانا فليست مبعّدة عنه ، فانه لم يحدّد في هذه الجملة المستصحب ، وانما امر الامام عليه‌السلام بالابقاء على الحالة السابقة ، وهذا أمر طبيعي لانّه معلول للبناء على عدم طروء العارض الرافع.

ومن هنا تعرف انّ البناء على بقاء الحالة السابقة يحتاج ـ من جملة ما يحتاج ـ إلى العلم بثبوت الحالة السابقة [وهو الركن الاوّل] ، والشك في طروء عارض رافع لها [وهو الركن الثاني] ، وانّ الاستصحاب يجري ـ عقلائيا وروائيا ـ في مورد الشك فقط بان يبنى على عدم طروء الرّافع ، لأنّ عدمه كان متيقّنا سابقا ثم شككنا في عروضه فنستصحب ، وح سينتج المعلول المعروف وهو البناء على بقاء الحالة السابقة

٩٠

بعد زوال التغير او النقاء من الدم ، وذلك لأنّ النجاسة والحرمة وكلّ حكم شرعي ليس له وجود وثبوت إلّا بالجعل ، والجعل آنيّ دفعي ، فكلّ المجعول يثبت في عالم الجعل في آن واحد من دون ان يكون البعض منه بقاء للبعض الآخر ومترتبا عليه زمانا ، فنجاسة الماء المتغير بتمام حصصها وحرمة مقاربة المرأة بتمام حصصها متقارنة زمانا في عالم الجعل ، وعليه فلا شك في البقاء ، بل ولا يقين بحدوث المشكوك أصلا ، بل المتيقّن حصة من الجعل والمشكوك حصّة اخرى منه ، فلا يجري استصحاب النجاسة او الحرمة (*) وهذا الكلام مبني على ملاحظة عالم

__________________

(*) [أقول] هذا الوجه هو الصحيح ، وهو العمدة في القول بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وبيانه باختصار :

اننا إذا شككنا في طول أمد الحكم وقصره سواء كان الزمان مفرّدا لموضوعه [كوطء الزوجة التي نقت من الحيض فانّ الحرمة ممتدّة على طول الزّمان وفي كلّ آن منه] او لا [كما في طهارة الماء ونجاسته والملكية والزوجية ونحوها] ، فانّ هذا الشك هو في الحقيقة شكّ في اصل الجعل الزائد المشكوك ، وفي مثله لا شكّ في جريان البراءة عن الزائد ، ولك ان تقول : لا شكّ في تمامية الشريعة المقدّسة ، كما انّه لا شك في عدم وصولها بكلّ حدودها لنا بطرق صحيحة ، وكون القسم الذي لم يصل إلينا بطرق صحيحة موردا لجريان البراءة ، فلو شككنا في مدى شمول هذا الحكم وحدوده. جعلا. فاننا بالتالي نشكّ في الزائد وهل انّ المولى جعله بحكم القدر الاقلّ او انه تعالى جعله بحكم آخر ، وبما انّ حكم هذا المقدار الزائد مشكوك ولم يصل إلينا فهو مجرى للبراءة لا للاستصحاب ، وذلك لانّ الحصّة الثانية المشكوكة الجعل لا يعلم انها امتداد للحصّة الاولى المتيقّنة الجعل ، وهي لهذا السبب تغاير حالة الشك في بقاء طهارة الماء في الشبهات الموضوعية ، فانّ الحصّة اللاحقة في مثال الطهارة هي امتداد للحصّة السابقة ، وامّا في

٩١

الجعل فقط ، فانّ حصص المجعول فيه متعاصرة ، بينما ينبغي ملاحظة عالم المجعول ، فانّ النجاسة بما هي صفة للماء المتغيّر الخارجي لها حدوث وبقاء ، وكذلك حرمة المقاربة بما هي صفة للمرأة الحائض الخارجية ، فيتمّ بملاحظة هذا العالم اليقين بالحدوث والشك في البقاء ويجري الاستصحاب (*).

__________________

عالم الجعل فلا يعلم انّها امتداد للحصة السابقة ، فنحن في الحقيقة نشك هل ان الباري عزوجل قد جعل الحرمة على وطء المرأة في حال حيضها فقط ام جعلها في هذه الحالة وحالة ما بعد النقاء إلى ما قبل غسل موضع الدم ام جعلها في الحالتين السابقتين مع حالة غسله ايضا ما لم تغتسل ، فهي بالتالي من قبيل ما لو شككنا في ان مدّة نذرنا ان نصلّي صلاة الليل شهرا او شهرين او ثلاثة مما لا يصحّ فيه بوجه التمسك بالاستصحاب لاثبات وجوب الثلاثة اشهر [وليس] في عالم الجعل حالة سابقة متيقّنة ، وانما الشارع المقدس من الاول إمّا يحكم بالحرمة إلى حين النقاء وامّا إلى حين غسل الموضع واما إلى حين الاغتسال ، وليس هنا حالة سابقة متيقّنة ثمّ شك لاحق فلا يتحقق مورد الاستصحاب فافهم.

وممّن قال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الفاضل النراقي في المستند والسيد الخوئي ، راجع المصباح ج ٣ ص ٣٦ فما بعد. وللكلام تتمّة تأتيك في هذه المسألة والمسألة التالية وهي ((وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ، ثانيا : تطبيقة في الشبهات الحكمية)) والمسألة الآتية تحت عنوان ((عموم جريان الاستصحاب ، القول الثاني))

(*) اقول : بل لا يصحّ اجراء الاستصحاب في مرحلة الفعلية والمجعول ، لأنّ الاحكام الشرعيّة الموجودة في هذه المرحلة هي معلولة للاحكام الشرعية في مرحلة الجعل ، ممّا يعني ان الشك الحقيقي انما هو في عالم الجعل ، وان الشك في مرحلة المجعول ما هو إلّا مظهر للشك في مرحلة الجعل ، ولذلك ترى انّه لو تمشّينا مع سيدنا الشهيد [قدس‌سره] وقلنا بامكانية اجراء الاستصحاب في مرحلة المجعول فانّ هذا لا يرفع اصل الشك وعلّته ، وهذا العمل شبيه بمن اراد ان يلغي الاربعة فلم يستطع فابقاها على الاربعية.

٩٢

__________________

وغضّ النظر عنها واراد ان يرفع عنها الزوجية! فهل ترى من العقلائية ان يغضّ النظر عن منشأ الشك وننتقل إلى معالجة الشك الناتج عنه؟!

[وقد] اشار إلى هذا الامر علماؤنا ، انظر مثلا التقريرات ج ٦ ص. ٢٨٢

[وبعد] تماميّة هذه المسألة يحسن ان نذكر بعض المؤيّدات من الروايات على عدم صحّة جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة واعتبار الائمّة عليهم الصلاة والسلام ذلك من القياس مطلقا ولم يستثنوا حالة امكان الاستصحاب ، مما يعني أنهم يعتبرون مطلق التغاير في الموضوع مقتضيا للسؤال ولا يصحّ الاستصحاب في مرحلة الجعل ، رغم ان بعض هذه الروايات ناظرة الى مطلق التغاير بين الموضوعات إن لم نقل ان المصاديق الجليّة منها هي الموضوعات المتغايرة بالعرض ، اذكر بعضها من جامع احاديث الشيعة ج ١ ص ٢٧٣ فما بعد ، باب عدم حجيّة القياس :

. موثّقة سماعة عن العبد الصالح قال سألته فقلت ان اناسا من اصحابنا قد لقوا اباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث ، فربّما كان الشيء يبتلي به بعض اصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه وعندهم ما يشبهه ، يسعهم ان يأخذوا بالقياس فقال : ((لا ، انما هلك من كان قبلكم بالقياس)) فقلت له : لم لا يقبل ذلك؟ فقال : ((لانّه ليس من شيء إلّا وجاء في الكتاب والسنّة)) [ح ١٥].

وقد وردت هذه الرواية بمتون متعدّدة متقاربة اذكر احداها :

. موثقة سماعة بن مهران عن ابي الحسن موسى عليه‌السلام قال قلت أصلحك الله ، إنّا نجتمع فنتذاكر ما عندنا ، فلا يرد علينا شيء إلّا وعندنا فيه شيء مسطر ، وذلك ممّا أنعم الله به علينا بكم ، ثم يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء فينظر بعضنا إلى بعض وعندنا ما يشبهه فنقيس على احسنه ، فقال : ((وما لكم وللقياس ، انما هلك من هلك من قبلكم بالقياس)) ثم قال ((إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإن جاءكم ما لا تعلمون فها)) واهوى بيده إلى فيه ، [الى آخر الحديث ، ح ١٩].

. مصحّحة محمّد بن حكيم قال قلت لابي الحسن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك فقّهنا في الدين واغنانا الله بكم عن الناس ، حتّى انّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل

٩٣

__________________

الرجل صاحبه إلّا وتحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم ، فربّما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك عنه شيء فنظرنا إلى احسن ما يحضرنا واوفق الاشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به؟ فقال ((هيهات هيهات ، في ذلك والله هلك من هلك يا بن حكيم)) ، قال ثم قال ((لعن الله أبا حنيفة كان يقول قال عليّ وقلت)) ، قال محمّد بن حكيم لهشام بن الحكم : والله ما اردت إلّا ان يرخّص لي في القياس.

وكلمة محمّد بن حكيم الاخيرة لهشام بن الحكم تأكيد في انّ محمدا ذكر حالات مطلق التغاير مما يكون المصداق الجلي له التغاير العرضي لانّه حاول التخفيف من التغاير ، واصرح من ذلك كلمة سماعة السابقة عند ما قال ((ثم يرد علينا الشيء الصغير)). [وعلى أيّ حال] لا شكّ في انّ موارد هذه الروايات تشمل موارد الشبهات الحكمية وهي حالات طروء عوارض على الموضوع المستصحب نشك في انها تقييدية اي مقوّمة ومغيّرة لموضوع الحكم ام تعليلية وغير مغيّرة لموضوع الحكم وبالتالي للحكم ، ورغم ذلك ترى الائمة الكرام عليهم الصلاة والسلام يعتبرون ذلك من القياس ، او قل انّ النّاس يومئذ والائمة : كانوا يطلقون على مطلق التغير الطارئ على الماهيّات لفظة القياس ولم يفرّقوا في ذلك بين التغير في حالاتها او في ذاتياتها.

[فان قلت] فعلى ما ذكرت من الادلّة السابقة إن فرضنا تغيّر الموضوع بأدنى تغيّر كأن فقد مرجع التقليد حاسّة البصر مثلا فانه لا يمكن الاستصحاب ، وهذا شيء عجاب. [قلت] صحيح ما ذكرت من عدم جريان الاستصحاب في هذه الحالة ، والميزان حينئذ بقاء نفس عنوان الموضوع في نظر العرف وهو كاف للحكم ببقاء الحكم لتبعية الاحكام للعناوين ، وهو امر يغاير الاستصحاب.

فان سألت : وما رأيك في جريان استصحاب عدم الجعل كأن نستصحب مثلا عدم جعل حرمة وطء الزوجة منذ الازل او قبل ان يخلق الله تعالى آدم عليه‌السلام او قبل انزال الشريعة الاسلامية إلى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فنجيب بوجود الاحكام الشرعية منذ الازل في علم الباري عزوجل ، فمواضيع الاحكام متلازمة مع محمولاتها تلازم العلّة ومعلولها ، فانّ المحمول معلول لموضوعه ،

٩٤

__________________

ووجوده وجود تعلّقي به ، بمعنى انه عين الربط والافتقار ، بل هو مظهر لموضوعه ، فانّ قولنا مثلا ((قتل المؤمن ظلما حرام)) على وزان قولنا ((هذا القبيح الفلاني قبيح قبح القتل)) لا قبح السرقة. مثلا. ونحوها ، وليس المحمول إلّا كاشفا عن درجة قبح العمل او درجة مطلوبيّته ، فالظلم قبيح منذ الازل ، ولا يوجد زمان كان فيه الظلم غير قبيح كي نقول الاصل عدم كون الظلم قبيحا او حراما ، وكذا الامر في سائر موضوعات الاحكام ، ومن هنا قال اصحابنا بتبعيّة الاحكام للمصالح والمفاسد حتّى في الاوامر الامتحانية والاوامر الواردة في مقام التقيّة ، فانّ المصلحة وان لم تكن في ملاكهما ولكنها على اي حال موجودة منذ الازل في علم الباري تعالى في السلوك على طبق هذه الاوامر ، فانّ التوضّي بوضوء اهل الخلاف تجنّبا من الوقوع في الضرر ذو مصلحة اقوى من مصلحة التوضّي الصحيح مع التضرّر منهم ، وعليه فلا يصحّ استصحاب عدم الجعل لاختلال الركن الاوّل.

ومن هنا تعرف عدم وقوع التعارض بين استصحاب عدم الجعل واستصحاب بقاء المجعول ، وذلك من باب السالبة لانتفاء الموضوع ، فكلا هذين الاستصحابين لا يجريان من الاصل.

[وليعلم] أنّه وإن كانت البراءة العقلية صحيحة في ذاتها بالبيان المتقدّم في بحث ((مسلك حقّ الطاعة)) إلّا ان الجاري في مقام احتمال تنجّز التكاليف بعد الفحص هو استصحاب عدم إيصال الحكم المشكوك وصوله ، فهناك احكام شرعية لم تصلنا لعدم اهميّتها في نظر المشرّع الحكيم وهي ما يسمّونه بمنطقة الفراغ والتي يجري فيها الفقهاء الاصول العملية ، وبالتالي يثبت الترخيص ، فإذا عرفت هذا فلنعبّر عن هذا الاستصحاب باستصحاب براءة الذمّة.

(إذن) ما هو المرجع في الشبهات الحكمية؟

فنقول : المرجع في الشبهات الحكمية هو استصحاب براءة الذمّة ، ففي مثال المرأة التي نقت وقبل ان تغتسل يرجع في جواز مسّها إلى هذا الاستصحاب ، وكذا في مثال من فقد الطهورين في وقت الصلاة وشككنا في بقاء وجوب الصلاة فانّه لا يجب عليه الصلاة

٩٥

ج ـ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة :

وهذا هو الركن الثالث ، والوجه في ركنيته انّه مع تغاير القضيتين (١)

__________________

(١) مثاله قولنا «الثوب الفلاني طاهر» قضيّه متيقّنة ، ثم في حالة الشك تصير نفس القضيّة السابقة مشكوكة ، وهذا مورد الاستصحاب ، امّا لو تغيّرت القضية الثانية عن القضية الاولى في الموضوع (كما لو شككنا في طهارة الاناء) او في المحمول (كما لو شككنا في ملكيّة نفس ذلك الثوب) فلا محلّ ح للاستصحاب(*)

__________________

ح ، ومثلهما مورد من كان صائما وشرب بمقدار الاضطرار ، فانه لا يجب عليه المتابعة [وكلامنا دائما مع غضّ النظر عن الادلّة الخاصّة في الفقه].

(وهكذا) نصل إلى النتائج التالية :

١. إنّ محاولة السيد الشهيد [قدس‌سره] لاثبات صحّة الاستصحاب في الشبهات الحكمية باجرائها في مرحلة المجعول غير صحيحة.

٢. إنّ استصحاب عدم الجعل ايضا غير صحيح لعدم وجود مورد له.

٣. إنّ الشبهات الحكمية هي مورد لاستصحاب براءة الذمّة ، امّا الشبهات الموضوعية فهي مورد الاستصحاب دون البراءة

(*)الصحيح انّه يلزم ان يكون الركن الثالث هو لزوم وحدة الموضوع ـ في الحالتين ـ من حيث اتصافه بالمحمول بأن نستصحب بقاء نفس موضوع الحكم ، وبالتالي سيتبعه المحمول لأنّه تابع له تبعيّة المعلول لعلّته ، وما القيمة والثقل في الاحكام الشرعية إلّا لموضوعاتها ، فمثلا إذا كان المكلّف على طهارة ثم شك في بقائها فان بيان قضيّته سيكون كالتالي : إذا شك المكلّف في طروّ عارض يرفع حالته فانّه يبني على عدم طروّه ، وبالتالي سينتج المعلول المعروف وهو الحكم ببقاء الطهارة ، فاوّلا يجب علينا في هكذا مسائل ان نرجع إلى منشأ الشك في بقاء الحكم بالطهارة وهو هنا ((احتمال طروّ عارض يرفع حالته السابقة)) وقاعدة الاستصحاب تفيدنا البناء على عدم طروّه وذلك لقوله عليه‌السلام

٩٦

لا يكون الشك شكّا في البقاء بل في حدوث قضيّة جديدة ، ومن هنا يعلم بأنّ هذا ليس ركنا جديدا مضافا إلى الركن السابق بل هو مستنبط منه وتعبير آخر عنه ، وقد طبق هذا الركن على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية وعلى الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية وواجه في كل من المجالين بعض المشاكل والصعوبات كما نرى فيما يلي :

أوّلا :. تطبيقه في الشبهات الموضوعيّة

جاء في افادات الشيخ الانصاري (قدس‌سره) التعبير عن هذا الركن بالصياغة التالية : إنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز بقاء الموضوع (١) ، إذ مع تبدّل الموضوع لا يكون الشك شكا في البقاء ، فلا

__________________

(١) ولو في الذهن ، ذكر ذلك في الرسائل الجديدة ص ٣٢٢ ، ثم أوضح مراده ص ٤٠٦ ، قال إنّه يشترط في جريان الاستصحاب وجود الموضوع ولو في الذهن ، ولذلك يجري الاستصحاب فيما إذا شككنا في بقاء حياة زيد ، اذ انّ زيدا موجود في الذهن ، «فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد [الذهني] القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت اخرى ، وهذا المعنى لا شك في تحقّقه عند الشك في بقاء حياته. ثم الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب.

__________________

((لا ، حتّى يستيقن انه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك امر بيّن)) ممّا يعني أنّ الموضوع المستصحب هو عدم ((طروّ العارض الرّافع للحالة السابقة)) كالحدث والخبث ونحو ذلك ، فانّ ((عدم طروّه)) كان معلوما في السابق واحتمل طروّه في اللاحق ، فعند ما نستصحبه سيكون المعلول والحكم المترتّب هو الحكم ببقاء الطهارة ، لا أنّ الموضوع

٩٧

__________________

واضح لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لاحقا فإذا اريد بقاء المستصحب العارض له المتقوّم به فامّا ان يبقى في غير محلّ وموضوع وهو محال ، وإمّا ان يبقى في موضوع غير الموضوع السابق ، ومن المعلوم انّ هذا ليس ابقاء لنفس ذلك العارض وانما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ، فيخرج عن الاستصحاب ، ومما ذكرنا يعلم انّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع [ولو في الذهن] ، ولا يكفي احتمال البقاء ، إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب ابقاء والحكم بعدمه نقضا.» انتهى كلامه رفع مقامه. ومراده (قدس‌سره) نفي صحّة استصحاب حكم موضوع تغيّر أو يحتمل أنه قد تغير ، فمثلا لو تحوّل كلب في مملحة الى ملح فانّ الحكم بالنجاسة لا يستصحب ، وكذلك لو وصل الى حالة يتردّد فيها العرف بالحكم عليه ببقاء صورته النوعيّة الماديّة السابقة (وهو صورة جسد الكلب) أو تحوّلها الى صورة الملحيّة كما لو وصلت عظامه في البلاء الى درجة بحيث لو مسّت لتفتّتت فاحتملنا ح تحوّلها الى ملح ، اذ ان النهي عن «نقض اليقين بالشك» لا يتنجّز علينا إلا بعد العلم ببقاء الموضوع السابق ، وبتعبير آخر : لا شك أنك تعلم أن الاحكام الشرعيّة لا تتنجّز علينا حتى نعلم بفعلية موضوعها ، وهنا

__________________

المستصحب هو الطهارة ، وان كان يبدو في النظرة البدويّة انّ الموضوع المستصحب هو الطهارة ، فقد ذكرنا فيما سبق انّه في حالات الشك الصحيح ان تعالج المسألة في عالم منشأ هذا الشك ، وما الحكم المترتّب ـ كالطهارة ـ إلّا معلولا لاستصحاب عدم طروّ الرّافع.

[فان قلت] ان الحكم ببقاء الطهارة معلول لامرين : اوّلهما اليقين بحصول الطهارة وثانيهما عدم طروّ الرّافع ، فلما ذا تستصحب الثاني دون الاوّل؟

[قلت] منشأ الشك عند المكلّف هو احتمال طروّ العارض ، فمن الطبيعي ان يكون المستصحب عدمه.

٩٨

يمكنك مثلا ان تستصحب نجاسة الخشب بعد استحالته وصيرورته رمادا ، لأنّ موضوع النجاسة المتيقّنة لم يبق.

وهذه الصياغة سبّبت الاستشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المشكوك اصل وجود الشيء بقاء ، لأنّ موضوع الوجود الماهيّة (١) ولا بقاء للماهيّة إلّا بالوجود ، فمع الشك في وجودها بقاء لا يمكن احراز بقاء الموضوع ، فكيف يجري الاستصحاب؟. وكذلك سبّبت الاستشكال احيانا فيما إذا كان المشكوك من الصفات الثانوية المتاخّرة عن الوجود كالعدالة ، وذلك لأنّ زيدا العادل تارة يشك في بقاء عدالته مع العلم ببقائه حيّا ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب العدالة بلا إشكال ، لانّ موضوعها وهو حياة زيد معلوم البقاء ...

__________________

الامر كذلك تماما ، فان النهي منصبّ على «نقض الحالة السابقة» ، فما لم نعلم بانّ ما نبني عليه هو «نقض للحالة السابقة» لاحتمال تغيّر الموضوع الخارجي لا يكون هذا النهي منجّزا علينا ، وهذا يعني عدم جواز استصحاب بقاء نفس الموضوع الخارجي(*)

(١) فنقول : الماهية الفلانية موجودة.

__________________

(*) [أقول] بعد ما قرأت كلمات نفس الشيخ الانصاري وفهمت مراده تعرف عدم ورود الاشكال المذكور عليه ، إذ انّ الشيخ الاعظم [قدس‌سره] لا ينفي صحّة استصحاب حياة زيد او حياته وعدالته ، وانما ينفي صحّة الاستصحاب الذي ذكرناه وهو استصحاب الموضوع الخارجي عند الشك في تغيّره ، لانّه مع عدم العلم ببقاء نفس الموضوع المستصحب لا يتنجّز علينا ((النهي عن نقض الحالة السابقة)) ، لانّ النقض لا يعلم إلّا عند العلم بوحدة الموضوع المستصحب. فنحن منهيون عن النقض ولم يثبت النهي عن امر مردّد بين كونه نقضا وغير نقض.

٩٩

واخرى يشك في بقاء زيد حيّا ويشك ايضا في بقاء عدالته على تقدير حياته ، وفي مثل ذلك كيف يجري استصحاب بقاء العدالة مع انّ موضوعها غير محرز؟

وهذه الاستشكالات نشأت من الصياغة المذكورة وهي لا مبرّر لها. ومن هنا عدل صاحب الكفاية عنها إلى القول بانّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وهي محفوظة في موارد الاستشكال الآنفة الذكر ، وامّا افتراض المستصحب عرضا وافتراض موضوع له واشتراط احراز بقائه فلا موجب لذلك.

ثانيا : ـ تطبيقه في الشبهات الحكميّة

وعند تطبيق هذا الركن على الاستصحاب في الشبهات الحكميّة نشأت بعض المشاكل أيضا ، إذ لوحظ انّا حين نأخذ بالصياغة الثانية له التي اختارها صاحب الكفاية نجد : انّ وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة لا يمكن افتراضها في الشبهة الحكمية إلّا في حالات الشك في النسخ (١) بمعنى الغاء الجعل ـ اي النسخ بمعناه الحقيقي ـ ، وامّا حيث لا يحتمل النسخ فلا يمكن ان ينشأ شك في نفس القضيّة المتيقّنة ، وانما يشك في بقاء حكمها حينئذ إذا تغيّرت بعض القيود والخصوصيّات المأخوذة فيها ، وذلك بأحد وجهين : إمّا بأن تكون خصوصيّة ما دخيلة يقينا في حدوث

__________________

(١) إذ لا يمكن ان نفترض وحدة القضيّة في حالتي اليقين والشك كما في قضيّة «التوجّه إلى بيت المقدس في الصلاة واجب» إلّا ان نشك في بقاء جعل نفس الحكم السابق ، وهو يعني الشك في النسخ ، والشك في النسخ كما تعلم خارج عن محلّ الكلام هنا.

١٠٠