دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

الآنفة الذكر ، لان الشك في عدم الكرّية المنسوب إلى زمان الملاقاة انما هو في زمان الملاقاة بحسب تصوّر هذه الشبهة ـ اي بعد ساعة من الزوال ـ مع ان زمان اليقين بعدم الكريّة هو الزوال.

ولا نرى حاجة للتوسّع اكثر من هذا في استيعاب نكات الاستصحاب في الموضوعات المركّبة ، كما ان ما تقدّم من بحوث الاستصحاب احاط بالمهم من مسائله ، وهناك مسائل في الاستصحاب لم نتناولها بالبحث هنا ـ كالاستصحاب في الامور التدريجية والاصل السببي والمسبّبي ـ وذلك اكتفاء بما تقدّم من حديث عن ذلك في الحلقة السابقة ، وبذلك نختم الكلام عن الاصول العملية.

٢٢١
٢٢٢

الخاتمة

في

تعارض الأدلّة

٢٢٣
٢٢٤

البحث في تعارض الأدلّة

١. تمهيد

٢. قاعدة الجمع العرفي

٣. التعارض المستقر على ضوء دليل الحجيّة

٤. حكم التعارض على ضوء الاخبار الخاصّة

٢٢٥
٢٢٦

تمهيد

ما هو التعارض المصطلح؟

التعارض المصطلح هو التنافي بين مدلولي الدليلين (١) ، ولما كان مدلول الدليل هو الجعل فالتنافي المحقّق للتعارض هو التنافي بين الجعلين (٢) دون التنافي بين المجعولين او الامتثالين ، لخروج مرتبة

__________________

(١) اي المحرزين ، كما سيأتي.

وقال (قدس‌سره) «بين مدلولي الدليلين» ولم يقل بين دلالتيهما ، لانّ المدلول هو ما يكشف عنه الدليل ، وامّا الدلالة فهي الظهور الذي يكون في عالم الاثبات لا في عالم الجعل والثبوت ، والتعارض انما يكون في عالم الجعل والثبوت لانه هو المنشأ لعالم الالفاظ ، هذا وإن لم يكن هناك اثر عملي سواء قلنا بانّه التنافي بين دلالتيهما كما قال صاحب الكفاية او قلنا بانه هو التنافي بين المدلولين ، وذلك لانّ الدلالة هي التي تكشف بالكشف الإنّي عن المدلول ، فلا نطيل في هكذا ابحاث ، وإن شئت فراجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٧ ص ١٣ ـ ٢٣.

(٢) من قبيل «غسل الجمعة واجب» و «غسل الجمعة مستحب».

امّا التنافي بين المجعولين فمن قبيل اجتماع الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة والاستحباب الفعلي لها (أي على من وجب عليه او استحب له حضور الجمعة فعلا) ، على ما مرّ معنا في بحث الترتّب من الجزء

٢٢٧

المجعول ومرتبة الامتثال عن مفاد الدليل كما تقدّم في الحلقة السابقة.

ولا يقع التعارض المصطلح إلّا بين الادلّة المحرزة ، لانّ الدليل المحرز هو الذي له مدلول وجعل يكشف عنه (١) ، وامّا الادلة العملية

__________________

(١) اي ان الدليل المحرز (كقوله تعالى «اقيموا الصلاة») هو الذي له مدلول (اي الصلاة واجبة) وله جعل (اي في اللوح المحفوظ اي في

٢٢٨

المسماة بالاصول العملية فلا يقع فيها التعارض المذكور (١) ، إذ ليس للاصل العملي مدلول يكشفه وجعل يحكي عنه ، بل الاصل بنفسه حكم شرعي ظاهري ، وحينما نقول في كثير من الاحيان : إن الاصلين العمليين متعارضان لا نقصد التعارض المصطلح بمعنى التنافي بينهما في المدلول ، بل التعارض في النتيجة ، لان كل اصل له نتيجة معلولة له من حيث التنجيز والتعذير (٢) ، فاذا كانت النتيجتان متنافيتين كان الاصلان

__________________

علم الباري تعالى) يكشف هذا الدليل المحرز عنه.

وكان الاولى ان يعبّر هكذا «لانّ الدليل المحرز هو الذي يكشف عن الجعل».

(١) من بديهيات الأمور انه لا يمكن عقلا أن يقع تعارض بين أصلين عمليّين ، وذلك لأنك اذا واجهت أيّ حالة تجهل حكمها فانك لا شك سترجع الى أصلها العملي المقرّر شرعا اما الاستصحاب وامّا البراءة وامّا غيرهما ، ففي مثال التدخين لن تقول ارجع الى البراءة والى الاحتياط ، وهكذا ... وانما سيتنجّز عليك حكم واحد وهو احد الاصول العملية لا اكثر. (ومن هنا) تعرف ان مراد سيدنا الشهيد رحمه‌الله من تقريب وقوع التعارض بين الاصول العملية هنا هو التعارض بالنظرة البدوية فافهم.

(٢) فنتيجة استصحاب الحرمة مثلا الحرمة (وهو التنجيز) ونتيجة اصالة البراءة الترخيص (التعذير). فاذا قلنا تعارض استصحاب الحرمة مع البراءة عنها فانّا نريد من هذا التعارض التنافي من حيث النتيجة (اي بين الحرمة والترخيص) ـ لا التنافي بين نفس دليل الاستصحاب ودليل البراءة ، اذ لا تعارض بينهما لكون كل أصل له مجال ومورد معيّن ـ وفي هذه الحالة علينا ان ننظر الى منشأ وعلّة هذا التنافي وهو ـ كما قلنا

٢٢٩

متعارضين ، وكلّما كانا كذلك وقع التعارض المصطلح بين دليليهما المحرزين لوقوع التنافي بينهما في المدلول ، ومن هنا نعرف ان التعارض بين اصلين عمليين مردّه الى وقوع التعارض المصطلح بين دليليهما ، وكذلك الامر في التعارض بين اصل عملي ودليل محرز ، فانّ مردّه الى وقوع التعارض المصطلح بين دليل الاصل العملي ودليل حجية ذلك الدليل المحرز (١).

وهكذا نعرف ان التعارض المصطلح يقوم دائما بين الادلة المحرزة.

ثم ان الدليلين المحرزين اذا كانا قطعيين (٢) فلا يعقل التعارض بينهما ، لانه يؤدّي الى القطع بوقوع المتنافيين (٣) ، وكذلك لا يتحقق التعارض بين دليل قطعي ودليل ظني (٤) ، لان الدليل القطعي يوجب العلم

__________________

قبل قليل ـ الموجود في عالم الجعل والثبوت ، اي علينا ان ننظر الى منشأ التنافي بين هذين الاصلين وهما دليلاهما ، وهكذا فكلما واجهتنا مشكلة سواء في علم الاصول ام في غيره فان علينا لكي نحلّها ان ننظر الى علّة المشكلة ، وهذا امر عقلائي معروف.

(١) فلو وقع تعارض مثلا بين الاستصحاب وحجيّة خبر الواحد لكان التعارض في الحقيقة بين دليليهما أي بين قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» وبين امضاء الشارع المقدّس للسيرة على العمل بخبر الواحد.

(٢) سندا ودلالة وجهة (اي انهما صادران في حال الاختيار لا التقية).

(٣) في عالم الجعل ، وحاشا لله تعالى ان ينسب له التناقض فى اقواله.

(٤) كالامارة ، رغم ثبوت حجيتها ، وذلك لانّ دليل حجية الامارة منصرف عن مثل هذه الحالة ، وذلك لانه ناظر لسانا او لبّا الى حالة الجهل

٢٣٠

ببطلان مفاد الدليل الظني وزوال (١) كاشفيته فلا يكون دليلا وحجّة لاستحالة الدليلية والحجية لما يعلم ببطلانه. وانما يتحقق التعارض بين دليلين ظنيين ، وهذان الدليلان إمّا ان يكونا دليلين لفظيين او غير لفظيين او مختلفين من هذه الناحية.

فان كانا دليلين لفظيين ـ اي كلامين للشارع ـ فالتعارض بينهما على قسمين :

احدهما : التعارض غير المستقر ، وهو التعارض الذي يمكن علاجه بتعديل دلالة احد الدليلين وتاويلها بنحو ينسجم مع الدليل الآخر.

والآخر : التعارض المستقرّ (٢) ، وهو الذي لا يمكن فيه العلاج ، ففي هذه الحالات يسري التعارض الى دليل الحجيّة (٣) ، لان ثبوت الحجية لكل منهما ـ كما لو لم يكن معارضا ـ يؤدّي الى اثبات كل منهما ونفيه في وقت واحد نظرا الى ان كلّا منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر ، ويبرهن ذلك على استحالة ثبوت الحجتين على نحو ثبوتهما في

__________________

بالدليل القطعي.

(١) معطوفة على «بطلان».

(٢) كما ورد «ثمن العذرة من السحت» و «لا بأس ببيع العذرة».

(٣) اي كدليل حجية خبر الثقة مثلا ، فكأننا نسأل الشارع المقدّس : كيف اعتبرت خبر الثقة حجّة مع ان الاخبار قد تتعارض كما في المثال السابق؟ فيجيب ـ مثلا ـ «ان حجية خبر الثقة ليست مطلقة وانّما هي مقيدة بعدم التعارض ، فلو حصل تعارض يقدّم ما وافق الكتاب وخالف العامّة ...» فهنا رأيت كيف ان الكلام حول تعارض الخبرين بنحو مستقر انتقل الى الحديث عن التعارض في دليل حجية خبر الثقة.

٢٣١

غير حالات التعارض ، وهذا معنى سراية التعارض الى دليل الحجية لوقوع التنافي في مدلوله.

وأمّا في حالات التعارض غير المستقرّ فيعالج التعارض بالتعديل المناسب في دلالة احدهما او كليهما (*) ، ومعه لا يسري التعارض الى دليل الحجيّة ، إذ لا يبقى محذور في حجيتهما معا بعد التعديل المذكور.

ولكن هذا التعديل لا يجري جزافا ، وانما يقوم على أساس قواعد الجمع العرفي التي مردّها جميعا الى ان المولى يفسّر بعض كلامه البعض الآخر ، فاذا كان احد الكلامين صالحا لان يكون مفسّرا للكلام الآخر جمع بينهما بالنحو المناسب ، ومثل الكلام في ذلك ظهور الحال (١).

وإن كان الدليلان معا غير لفظيين او مختلفين كان التعارض مستقرّا لا محالة (٢) لأنّ التعديل انما يجوز في حالة التفسير ، وتفسير دليل بدليل

__________________

(١) اي لو تعارضت ظهورات الحال ووجدنا قرائن تفسّرها لنا بنحو يمكن الجمع بينهما عرفا جمع بينهما بالنحو المناسب.

(٢) توضيح ذلك : ان التعارض بينهما (تارة) يكون واضح العلّة كما اذا عرفنا سبب التعارض بينهما من القرائن الحالية التي كانت حافّة بأفعالهم عليه‌السلام كما في صلح الامام الحسن وثورة الامام الحسين فهنا لا تعارض ، و (تارة) لا تكون الافعال معروفة السبب ولا قرينة واضحة ترشدنا الى حلّ هذا التعارض وتفسره ، وفي هذه الحالة يستقرّ التعارض ، وهذا هو فرض السيد المصنّف (قدس‌سره).

__________________

(*) كان الاولى ان يقول ((... المناسب لكلتا الدلالتين)) ، اضافة الى عدم وجود داع للفصل بين هاتين الفقرتين هنا وفقرة ((احدهما :)) ، بل كان الاولى جعلهما مع الاولى.

٢٣٢

انما يكون في كلامين وما يشبههما ، واذا استقرّ التعارض سرى الى دليلي الحجيّة (١).

والبحث في تعارض الادلّة يشرح احكام التعارض غير المستقرّ (٢) والتعارض المستقرّ معا.

الورود والتعارض :

وعلى ضوء ما تقدّم نعرف ان الورود ـ بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة السابقة ـ ليس من التعارض ، سواء كان الدليل الوارد محققا في مورده لفرد حقيقي من موضوع الدليل المورود او نافيا في مورده حقيقة لموضوع

__________________

(١) قال في النسخة الاصلية بعد هذه العبارة ما يلي : «فان كانا لفظيين لوحظ نوع التعارض بينهما وهل هو مستقرّ او لا ، وان لم يكونا كذلك فالتعارض مستقرّ على ايّ حال.» (انتهى) ، وهذا بدون شك من سهو قلمه الشريف ، إذ ان الحديث عن تعارض الدليلين اللفظيين قد انتهى قبل هذه الفقرة وقال فيها نفس هذا المعنى وذلك حينما قال : «فان كانا دليلين لفظيين فالتعارض بينهما على قسمين : احدهما غير المستقرّ ...

والآخر : التعارض المستقرّ .. في حالات التعارض المستقر يسري التعارض الى دليل الحجية ... وان كان الدليلان معا غير لفظيين او مختلفين كان التعارض مستقرّا ...» ، ولو كان يقصد التكرار لاقتضى الامر تغيير العبارة وجعلها مستقلة بان يجعلها في سطر مستقل ليعرف ان المراد تلخيص الحالتين.

(٢) قدّم غير المستقرّ لا ولوية تقديم الجمع العرفي بين الادلة على الحلول الاخرى ، ولذلك قالوا : الجمع مهما امكن اولى من الطرح.

٢٣٣

ذلك الدليل ، امّا في الاوّل فواضح (*) ،

__________________

(*) لا بأس بالتذكير بمعنى الورود ، فهو عبارة عن قيام دليل تعبّدي بتنقيح موضوع دليل آخر بايجاده او إعدامه بالوجدان ، امّا في الاوّل فكورود خبر ثقة حجة على دليل ((إن جاءك خبر حجّة فلا ترجع إلى الاصول العملية)) مثلا ، فانّ علمنا بمجيء خبر ثقة يوجد تكوينا موضوع الدليل الآخر فلا تعارض كما هو واضح ، وامّا في الثاني فكدليل حجيّة خبر الثقة وانّه طريق تعبّدا فانه بفعليته ١ [اي بوجود خبر ثقة حجّة ككون اخباره عن حس وككونه لا يعارض دليلا قطعيا] وتنجّزه [بالعلم بوجود هذا الخبر] يلغي موضوع ادلّة الاصول العقلية والنقلية ، وكورود دليل البراءة الشرعية على دليل اصالة الاحتياط العقلي. بناء على مبنى السيد المصنف بمسلك حقّ الطاعة. فانه ايضا بفعليته وتنجّزه يرفع موضوع حكم العقل بلزوم الاحتياط.

وتمييز الورود عن التخصّص يكون بعدم كون الدليل الآخر في التخصّص تعبّديا ، بمعنى ان الدليل المخصّص يخبرنا عن موضوع يغاير موضوع الدليل المخصّص تكوينا لا تعبدا ، ولذلك قالوا : ان استثناء ((ابليس)) في قوله تعالى (فسجد الملئكة كلّهم أجمعون (٣٠) إلّآ إبليس أبى أن يكون مع السّجدين) من باب التخصّص لعدم كونه من الملائكة تكوينا ، وانما هو من الجنّ.

__________________

(١) ملاحظة : قلنا «بفعليته وتنجّزه» لان دليل حجيّة خبر الثقة لوحده لا يرفع موضوع الاصول العملية ، بل حتى لو وردت امارة حجة في الواقع ، بل لا بدّ من علمنا بوجود كلا الدليلين ، الامارة الحجّة ودليل الاصل العملي ، فبما أن دليل الاصل العملي مفاده ان لم تأتك أمارة حجّة فاتبعني ، فاذا جاءنا امارة حجّة (أي حجيتها فعلية فهي تخبرنا خبرا حسيّا لا حدسيا ولا تعارض دليلا قطعيا ...) فانها ستلغي موضوع الاصل العملي ، وباصطلاح الاصوليين ان هذه الامارة رفعت بفعليّتها (لكونها حجّة) وتنجّزها (لعلمنا بورودها) موضوع الاصل العملي ، فهي اذن واردة عليه. وهكذا الأمر بالنسبة إلى جميع حالات الورود ، فانه ح لا بدّ من العلم بفعلية الدليل الوارد ، وذلك لان موضوع الدليل المورود هو عدم العلم بفعلية الدليل الوارد ... ، وهذا ما دعا السيد المصنف (رحمه‌الله) إلى ذكر الانحاء الآتية.

٢٣٤

__________________

ولا بأس ـ ونحن في بداية بحث التعارض ـ ان نذكر الصحيح من معاني المصطلحات الستة المعروفة وهي : التخصّص والورود والحكومة والتخصيص والتقييد والتزاحم ، مع بيان الفروق بينها ، وذلك باختصار ، ليكون هذا الفهم ميزاننا لما سيأتي من ابحاث ، فنقول : ان الادلّة إمّا ان تتعارض في مرحلة الجعل [وهذا مجال المعاني الخمسة الاولى] وامّا ان لا تتعارض فيها وانما يحصل تزاحم في مرحلة الامتثال [وهو مجال التزاحم] ،

وعلى الاوّل (إمّا) ان يكون لسان الدليل الثاني لسان الاخبار عن أمر تكويني وهذا يكون على نحوين : فامّا ان يكون بنحو يبيّن ان الموضوع المذكور فيه داخل تكوينا في موضوع الدليل الاول ، كما لو كان الدليل الاوّل ((الخمر حرام)) والدليل الثاني ((الفقّاع خمر استصغره الناس)) ، فان الدليل الثاني يبيّن دخول الفقّاع في موضوع الدليل الاوّل دخولا تكوينيا لا تعبديا ، وامّا ان يكون بنحو يبيّن ان الموضوع المذكور في احد الدليلين خارج تكوينا من تحت موضوع الدليل الأوّل ، كما في قوله تعالى (وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلّآ إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه) ، وهذا الخروج يسمّونه بالتخصص.

(وإمّا) ان يكون لسان الدليل لسان تعبّد ، وهذا أيضا على نحوين ، (النحو الاوّل) هو انه إمّا ان يكون التعبّد بحكم ملغيا لموضوع دليل آخر ، كما في التعبد بالبراءة الشرعية فانها ملغية لموضوع الاصول العقلية [الذي هو عدم البيان الشرعي] ، وامّا ان يكون موجدا له ، كورود الامارة الحجّة على دليل ((ان جاءك امارة حجّة فلا ترجع الى الاصول العمليّة)) ، وهذان النحوان هما قسما الورود ، و (النحو الثاني) ان يكون التعبّد ناظرا إلى الدليل المغلوب متصرّفا بموضوعه بالتوسعة او التضييق وهذا هو الدليل الحاكم ، فهنا حالتان :

(الاولى) ان يكون النظر إلى موضوع الدليل المحكوم بالتوسعة ، كقوله ((الطواف في البيت صلاة)) الحاكم على أدلّة وجوب الصلاة وشرائط صحتها من الطهارة وغيرها ، وهي الحكومة الواقعية ، ومثل حاكمية دليل حجيّة خبر الثقة الذي مفاده مثلا ((خبر الثقة علم)) ـ على مسلك الطريقية ـ على دليل حرمة الافتاء بغير علم ، فان الحاكم هنا وان لم يكن

٢٣٥

__________________

إلى ادلّة الاحكام الواقعية التي اخذ في موضوعها العلم نفيا او إثباتا إلّا أنه يتصرّف في مفهوم العلم فيوسّعه ، وهذا التصرّف كاف في حصول الحكومة في نظر المحقق النائيني بلا حاجة إلى وجود نظر من الحاكم إلى المحكوم ... وهذه حكومة ظاهرية من الدرجة الاولى ، ومثلها ادلّة قاعدة الطهارة فانها حاكمة على ادلّة اشتراط الطهارة ، كما في موثقة عمار ((كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك)) ، فانها توسّع مفهوم الطهارة لكن بالتوسعة الظاهرية ، لأنّ مقامها مقام الجهل بالطهارة والنجاسة الواقعيتين او المحرزتين بالامارة ، ولذلك فهذه حكومة ظاهرية ايضا لكن من الدرجة الثانية ، ووجه تمييز الاخيرتين بالدرجة الاولى والدرجة الثانية واضح ، وهو ان في الاولى يوجد نحو من انحاء الكاشفية دون الثانية.

(والثانية) ان يكون النظر إلى موضوع الدليل المحكوم بالتضييق ، مثل ((لا ربا بين الوالد وولده)) الحاكم على دليل ((الربا حرام)) ودليل ((لا شك لكثير الشك)) و ((لا سهو للامام إذا حفظ عليه من خلفه)) الحاكمين على ادلة الشكوك ، وهذه ايضا حكومة واقعية لان الدليل الحاكم فيها في رتبة الدليل المحكوم.

(وأمّا) ما ذكره بعضهم من وجود حكومة بلحاظ المحمول ومثّلوا لها بادلّة ((لا ضرر)) و ((لا حرج)) ١ فنقول : امّا بالنسبة لهذين المثالين فستعرف في بحث الحكومة. بعد عدّة صفحات. أنّها مقيّدة لموضوعات ادلة الاحكام الشرعية وليست حاكمة ، بل لا وجود لحكومة بلحاظ المحمول في الخارج ، وذلك لان محمول الادلة التكليفية ٢ هي فقط الاحكام المنجّزة والمعذّرة ، ولا معنى للتصرف فيها بالتوسعة او التضييق لانه سيكون حينئذ إلغاء لها من الاصل.

(فان) مثّلت لهذا بما لو ورد ((صلاة الليل مطلوبة)) و ((صلاة الليل مستحبة)) وقلت

__________________

(١) راجع اجود التقريرات ج ٢ ص ١٦٢ و ٤٥٣.

(٢) التي ذكرنا في بحث الأحكام التكليفية والوضعية في الجزء الاوّل انها هي التكاليف الحقيقة ، وامّا الوضعية فهي مبادئ تصورية.

٢٣٦

__________________

بأنّ الثاني حاكم على الاوّل لانه يوضّح محموله ويضيّقه.

(كان الجواب) بانّ الدليل الثاني مبيّن للمراد من محمول الدليل الاوّل المجمل وليس حاكما عليه ، لان دور الحاكم هو التصرّف بالدليل المحكوم ، وهنا لا يتصرّف فيه ، ولذلك يلزم ان يمثّل بهذا المثال في بحث ((المجمل والمبيّن)).

(والجواب الاصلي) على هذه الشبهة أن يقال :

إن وجود المحمول وجود تبعي من قبيل وجود المعلولات ، فكما ان الحرارة ملازمة للنار لكون النار علّة تامّة لها ، فكذلك محمولات الاحكام ، وبتعبير ادقّ ان المحمول هو مظهر لوجود موضوعه ، فليس هو إلّا تعبيرا عن علّته لا شيئا آخر ، فقولنا ((قتل المؤمن حرام)) مرجعه في الواقع إلى قولنا هذا القتل قبيح قبح القتل لا قبح السرقة او الكذب او غيرهما ، فالمحمول يتلوّن بلون الموضوع ، ولهذا نقول ان المحمول هو ((مظهر)) لوجود موضوعه كما يعبّر العرفاء او قل المحمول هنا هو عين الربط والافتقار الى موضوعه على تعبير الحكماء في بحث التوحيد ، ولذلك يكون المناط والقيمة للموضوع الذي هو علّة الحكم وملاكه ، فلا دخل للمحمول في الواقع ، ولذلك لا يصحّ ان يكون التصرّف بالمحمول فقط ، إلّا ان يكون ذلك تابعا للتصرّف في الموضوع في الواقع.

ومن هنا تعرف السبب في نظرنا الدائم إلى الموضوع في هذه التقسيمات.

[فإذا عرفت الحكومة] تعرف انه ينبغي ان تدخل في اقسام التعارض ، لان الدليل الحاكم وإن كان يوضّح المراد من موضوع الدليل المحكوم إلّا ان اطلاق اصطلاح ((التعارض)) عليها لا محيص عنه إن كان الدليل الحاكم منفصلا ، وذلك لما سنذكره في بحث الحكومة من سقوط المدلول الجدّي للدليل المحكوم على قولنا او سقوط الحجيّة على قول السيد المصنّف ، وعلى ايّ واحد من الوجهين يكون هذا السقوط امارة التعارض ، فلا عبرة بما لعلّه المشهور. كالمحقق النائيني والسيد الخوئي والشيخ المظفر. من القول بعدم كون الحكومة من اقسام التعارض ....

(وإمّا) ان يكون التعبّد ناظرا إلى موضوع الدليل المغلوب لكن لا بالتصرف فيه بل

٢٣٧

وأمّا في الثاني فلأن التنافي (١) انما هو بين المجعولين والفعليتين

__________________

(١) اي الموجود بين الوارد والمورود ... ودليل ذلك انه في عالم الجعل تكون الاحكام الواقعية هكذا مثلا : «خبر الثقة حجّة» ، «من فحص ولم

__________________

بابراز صفة مقوّمة للموضوع بوجودها يخرج الحكم عن الحكم العام ، وهذا يحصل بسبب وقوع تعارض في مرحلة الملاكات بين حكم العام وحكم الخاص بسبب التنافي بين الموضوعين العام والخاص كالعلم والفسق مثلا في مثال ((اكرم العلماء))((ولا تكرم الفسّاق)) ، فكان العلم مقتضيا لوجوب الاكرام والفسق مقتضيا لمبغوضية اكرامه مثلا.

وهنا ايضا حالتان :.

فإمّا ان يكون موضوع الدليل المغلوب عامّا [اي افيد عمومه باللفظ] مثل ((اكرم العلماء)) ثم يأتي خاص فيقول مثلا ((لا تكرم فساق العلماء)) ، وهو التخصيص.

. وإما ان يكون موضوع الدليل المغلوب مطلقا [اي يفاد الشمول والاستغراق بالاطلاق وقرينة الحكمة] مثل ((اكرم العالم)) ثم يأتي مثلا ((لا تكرم العالم الفاسق)) ، وهذا هو التقييد.

(ومن هنا) تعرف وجه الشبه بين الحكومة والتخصيص والتقييد ، وهو ان الادلة الحاكمة والمخصّصة والمقيّدة تبيّن موضوع الدليل المحكوم او المخصّص او المقيّد على حقيقته محدّدا بحدوده الواقعيّة ، ووجه الافتراق بين الحكومة وقسيميها هذين هو ان لسان الحاكم يكون لسان تنزيل واعتبار ، فالمعاملة مع الزيادة بين الوالد وولده ليست ربويّة تنزيلا واعتبارا ، ولعلّ النكتة في ذلك ان الولد وما له لابيه ، وإنّ شكّ كثير الشكّ ليس بشك ، لانّ كثير الشكّ قد سيطر عليه وهمه وخياله فلم يعد شكّه ذا منشأ عقلائي وهكذا ....

وامّا في التخصيص والتقييد فهناك اعتراف بدخول الفرد الخارج في موضوع الدليل العام ، ولذلك تكون الحكومة اقرب إلى التخصص من هذه الناحية.

وللبحث تتمّة تأتيك في الابحاث التالية.

٢٣٨

__________________

يعلم بالحكم الواقعي فهو بريء الذمّة» ، «من لم يبحث في الادلة الشرعية فهو مكلّف بالاحتياط» ... الخ ، ولا تعارض بينها. كما ترى. في هذا العالم لاختلاف مواردها ، ثم عند ما يأتينا خبر ثقة حجّة ـ وهنا نزلنا إلى مرحلة الفعلية ـ نقول : خبر الثقة هذا بما انه حجّة قد ألغى موضوع ادلة الاصول العملية (الذي هو عدم وجود امارة حجّة) ، وعند ما نبحث في الادلّة المحرزة ولا نعرف الحكم الشرعي (وهذه ايضا مرحلة الفعلية) فحينئذ تجري البراءة لفعلية موضوعها ، فدليل البراءة في هذه المرحلة ألغى بوصوله موضوع دليل الاحتياط العقلي (الذي هو عدم البيان الشرعي) ، لان دليل البراءة بيان شرعي. ومن هنا تعرف ان الفعلية في مثال التنافي الاوّل هي لدليل حجيّة خبر الثقة لفعلية موضوعها ، ولا فعلية لادلة الاصول العملية لعدم فعلية موضوعها ، وكذا الحال في مثال التنافي الثاني.

(ومن هنا) تعرف ايضا السرّ في قوله (قدس‌سره): «وعلى هذا صحّ القول ..» فان ادلّة الاصول العملية. في مثال التنافي الاوّل. قد اخذ في موضوعها عدم العلم بوجود دليل محرز يدلّ على الحكم الشرعي ، ومع عدم العلم بمجيء امارة حجّة يصير حكم اتباع هذه الامارة فعليا ولا يتحقق موضوع الأصل العملي فلا يصير الحكم باتباع الاصل العملي فعليا ، ففعلية الحكم الاول بما أنها ترفع موضوع الثاني يسمّى واردا. وبالتالي لا تعارض بينهما ، وبعبارة اخرى نقول ـ ولو بنحو الاختصار ـ : هذا التنافي انما يحصل في مرحلة المجعول ، لانّه ـ في مرحلة المجعول ـ إمّا ان يكون الدليل المحرز الوارد فعليا فلا يكون الاصل فعليا ، وإمّا ان لا يكون الدليل الوارد فعليا فيكون الاصل فعليا.

وعلى هذا الأساس تعرف حالات الورود في كل حالات الطوليّة بين الادلّة ، فكما ان دليل الاصل الشرعي كان واردا بوصوله ـ أي بالعلم به ـ على دليل اصالة الاحتياط العقلي ـ على القول بها ـ فكذلك امارية اليد

٢٣٩

لا بين الجعلين ، فالدليلان (الوارد والمورود) كلاهما حجّة في إثبات مفادهما وتكون الفعلية دائما لمفاد الدليل الوارد لانه ناف لموضوع المجعول في الدليل الآخر.

وعلى هذا صحّ القول بانّ الدليلين اذا كان أحدهما قد اخذ في موضوعه عدم فعلية مفاد الدليل الآخر فلا تعارض بينهما ، إذ لا تنافي بين الجعلين ويكون احدهما واردا على الآخر في مرحلة المجعول والفعلية.

ثمّ إن ورود احد الدليلين على الآخر يتمّ ـ كما عرفت ـ برفعه لموضوعه ، وهذا الرفع على انحاء (١) :

__________________

فانها واردة على دليل الاصل الشرعي كالاستصحاب ، وكذلك البيّنة الحجّة فانها واردة على امارة اليد ، وهكذا الامر بالنسبة إلى ورود الاقرار على البيّنة ، وهكذا ... لا كما قال بعض علمائنا ـ كالمحقق النائيني والسيد الخوئي ـ من التفصيل في ذلك ، فاعتبروا تقدّم بعض الامارات او بعض الاصول على البعض الآخر ، كتقدّم الامارات على الاصول الشرعية من باب الحكومة ... (فراجع اجود التقريرات ج ٢ ص ١٦٣ ، والمصباح ج ٣ ص ٣٤٩).

نعم تستثنى من قولنا الادلة الناظرة إلى موضوعات ادلّة اخرى بالشرح والتفسير ، بالتوسعة او التضييق ، كدليل طريقية الامارات ـ على مبنى النائيني ـ فانها تكون حاكمة على الادلّة الواقعية الماخوذ في موضوعها العلم ، وكدليل قاعدة الطهارة الحاكم ـ على مبنى صاحب الكفاية ـ على الادلّة الواقعية المأخوذ في موضوعها شرطية الطهارة ، وقد مرّ بيان ذلك في محلّه ، منها قبل قليل ص ٢٣٦ السطر الرابع ، ومنها في الجزء الاوّل ، بحث «التصويب بالنسبة الى بعض الاحكام الظاهرية».

(١) لم اجد هذه التقسيمات للورود عند غير السيد المصنّف (قدس‌سره) ،

٢٤٠