دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

مقدار ما يثبت الاستصحاب

لا شك في انّ المستصحب يثبت تعبّدا وعمليا بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :

القسم الاوّل : الآثار الشرعية ، كما إذا كان المستصحب موضوعا لحكم شرعي (١) او حكما شرعيا واقعا بدوره موضوعا لحكم شرعي آخر (٢) ، وقد يكون المستصحب موضوعا لحكم (٣) ، وحكمه بدوره موضوع لحكم آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجس فانها موضوع لطهارة الطعام وهي موضوع لحليّته (٤).

__________________

(١) مثاله ما إذا كان المستصحب طهارة الماء ليترتب على استصحابها جواز شربه ، وما إذا كان المستصحب الطهارة المعنوية ـ اي من الحدث ـ ليترتب على استصحابها جواز مسّ المصحف ، فالمستصحب في المثال الاوّل هو موضوع للحكم بجواز شرب الماء ، وكذا الامر في الثاني.

(٢) مثاله ما لو كان المستصحب حلّية طعام معيّن ويترتب على استصحاب حلّيّته جواز بيعه.

(٣) في النسخة الاصلية بدل «لحكم» يوجد «لحكمه» ، ولعله سهو ، والاولى ما اثبتناه.

(٤) بيان هذا المثال ان يكون المستصحب طهارة الماء ، هذا المستصحب

١٢١

القسم الثاني : الآثار واللوازم العقلية التي يكون ارتباطها بالمستصحب تكوينيا وليس بالجعل والتشريع ، كنبات اللحية اللازم تكوينا لبقاء زيد حيّا ، وموته اللازم تكوينا من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين انهدامه ، وكون ما في الحوض كرّا اللازم تكوينا من استصحاب وجود كر من الماء في الحوض ، فان مفاد كان الناقصة لازم عقلي لمفاد كان التامّة (١) ، وهكذا.

__________________

يكون موضوعا لطهارة الطعام الذي غسل بهذا الماء ، وطهارة الطعام تكون موضوعا لحلية اكله.

(١) بيان ذلك : انت حينما تستصحب وجود كرّ من الماء في الحوض ـ اي حينما تستصحب مفاد كان التامّة وهو الوجود ـ فانما يترتب على هذا الاستصحاب اتصاف ان ما في الحوض الآن هو مقدار كرّ ، وهذا الاتصاف يعبّر عنه بمفاد كان الناقصة ، لان مفاد «كان زيد قائما» اتصاف زيد بالقيام ، بينما مفاد «فإذا كان يوم القيامة» إذا جاء ووجد يوم القيامة ، ولذلك يقولون إذا استصحب الوجود. وهو مفاد كان التامّة. سيترتب الاتصاف. وهو مفاد كان الناقصة. ، ويعبّرون عن هذا المعنى بقولهم ان مفاد «كان الناقصة» لازم عقلي لمفاد «كان التامّة» ، وانما قال «عقلي» لان هذا اللازم الوصفي ـ وهو اتصاف ان ما في الحوض كرّا ـ ليس أثرا شرعيا كجواز شرب الماء مثلا وانما هو صفة تكوينية ككون ما امامنا هو كتاب او قلم ونحو ذلك ، فهو امر عقلي لا شرعي.

(قوله) «وهكذا» اي ان نبات اللحية ـ وهو مفاد كان الناقصة ـ لازم تكويني عقلي لبقائه حيّا ، بحيث لو استصحبنا حياته سيترتب على هذا الاستصحاب هذا اللازم العقلي وهو نبات اللحية ، وكذا الامر تماما بالنسبة إلى مثال بقاء زيد تحت الجدار إلى حين انهدامه عليه.

(تنبيه) يقال أحيانا انّ الامارة تدلّ على المداليل الالتزامية اضافة الى

١٢٢

اما القسم الاوّل فلا خلاف في ثبوته تعبّدا وعمليا بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا انّ مفاده الارشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبد ببقاء المتيقّن (١) ، او الارشاد الى عدم الانتقاض لعناية التعبد ببقاء نفس

__________________

المدلول المطابقي للكلام كدلالة اخبار الامارة بتقسيم زيد الى نصفين على موته ، وانّ المداليل الالتزامية للاصول غير حجّة ، فلو أفادتنا قاعدة الطهارة طهارة مدفوع حيوان ما فانه لا يثبت بذلك المدلول الالتزامي لهذا اللسان وهو حلّية أكله ، هذا بالنسبة الى توضيح المراد من المدلول الالتزامي أو قل المعنى الاستلزامي ، أمّا هنا فالكلام في اللوازم العقلية كاستلزام بقاء شخص حيا مدّة معينة لنبات لحيته ، فاذن الفرق بين المدلول الالتزامي واللازم أن الاوّل داخل في عالم المعاني وناتج من المعنى المطابقي للكلام وأمّا اللازم فهو أثر ولازم تكويني ولا ارتباط له باللفظ والمعنى كما يتضح لك ذلك في المتن

(١) وهي مقالة الامام الخميني (حشرنا الله معه) (*) ، راجع تهذيب الاصول ج ١ ص ١٥٢.

__________________

(*) وهو الصحيح ، بيان ذلك : ان قوله عليه‌السلام ((لا تنقض اليقين بالشك)) مفاده الارشاد الى عدم انتفاض الحالة السابقة وذلك لكون التعبد ناظرا الى ابقاء المتيقّن لا ابقاء اليقين بالحالة السابقة ، وذلك لما قلناه سابقا من ان هذا اليقين منظور اليه بنحو الطريقية فيكون النظر في الواقع الى المتيقّن.

وامّا بطلان الثالث فلعلمنا ـ ولو بقرائن ـ بعدم حرمة النقض العملي لليقين بالشك وجواز العمل بالاحتياط وتطهير الثوب الذي كانت حالته الاولى الطهارة ثم احتملنا تنجّسه مما يجعلنا نحمل الظهور في النهي على الارشاد بلا شك ، ولذلك ترى بعض روايات الاستصحاب قد عبّرت بتعابير تفيد مجرد ثبوت الحالة السابقة من دون الاستعانة بالفاظ النهي ، كقوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان ((فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن انه نجّسه)).

١٢٣

اليقين ، او النهي عن النقض العملي لليقين بالشك (١).

أمّا على الاول فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقة بل تنزيلا (٢) ومرجعه الى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من ادلّة التنزيل ، ومقتضى دليل التنزيل اسراء الحكم الشرعي للمنزّل عليه الى المنزّل إسراء واقعيا او ظاهريا تبعا لواقعية التنزيل أو ظاهريّته واناطته (٣) بالشك ، وعليه فاطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعية للمستصحب بالاستصحاب.

__________________

(١) لظهور قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين ابدا بالشك ، وانّما تنقضه بيقين آخر» و «ليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك» في النهي التكليفي عن النقض العملي لليقين بالشك ، وهذا مختار استاذنا السيد الهاشمي حفظه الله ، وقد يستدل لذلك بأنّ الاصل في النواهي الاستقلالية أن تدل على التحريم التكليفي ، والاصل في النهي عن بعض الامور في المركبات ان يدلّ على النهي الوضعي أي الارشادي أي الدّال على البطلان ، كالنهي عن الضحك في الصلاة ... (انظر حاشية التقريرات ج ٦ ص ٢٩٨).

(٢) بيان ذلك : ان قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» معناه اعتبر الحالة الفعلية للشيء نفس الحالة الاولى ، فلو كانت الحالة السابقة للثوب الطهارة اعتبر ان حالته الفعلية الطهارة أيضا تنزيلا واعتبارا.

ثم قال المصنف (قدس‌سره) : ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي (كالطهارة) للمنزّل عليه (وهو الثوب المعلوم الطهارة) الى المنزّل (وهو الثوب المشكوك النجاسة) اسراء واقعيا ـ كما في تنزيل الطواف منزلة الصلاة ـ او ظاهريا ـ كما في قاعدة الاستصحاب ـ.

(٣) معطوفة على ظاهريّته ، اي إناطة التنزيل الظاهري بالشك. أمّا التنزيل

١٢٤

فان قيل هذا يصحّ بالنسبة الى الاثر الشرعي المترتب على المستصحب مباشرة ، ولا يبرر ثبوت الاثر الشرعي المترتّب على ذلك الاثر المباشر (١) ، وذلك لأن الأثر المباشر لم يثبت حقيقة لكي يتبعه أثره ، لأن التنزيل ظاهري لا واقعي ، وانما ثبت الاثر المباشر تنزيلا وتعبدا فكيف يثبت اثره؟

كان الجواب انه يثبت بالتنزيل ايضا ، إذ ما دام اثبات الأثر المباشر كان اثباتا تنزيليا فمرجعه (٢) الى تنزيله منزلة الاثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الاثر الشرعي الثاني تنزيلا وهكذا.

وامّا على الثاني فقد يستشكل بأنه لا تنزيل في ناحية المستصحب على هذا التقدير ، وانما التنزيل والتعبد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه هو كون اليقين بالحالة السابقة باقيا تعبّدا بلحاظ كاشفيّته ، ومن

__________________

الواقعي فليس مناطا بالشك.

(١) مثال ذلك : لو استصحبنا كرّية الماء الذي وقعت فيه نجاسة لأفادنا الاستصحاب طهارة هذا الكرّ تعبّدا ، فلو وصلناه بماء قليل متنجّس ليعتصم ويطهر لاستفدنا طهارة الماء القليل ، ثم لو طهّرنا بهذا الماء القليل ثوبا لاستفدنا صحّة الصلاة بهذا الثوب وهكذا ... فالسؤال الآن ان تنزيل المستصحب منزلة الواقع أمر تعبّدي والقدر المتيقّن منه ـ بعد العلم بعدم وجود اطلاق في أدلّة الاستصحاب ـ افادة الاستصحاب للأثر الشرعي الاوّل دون ما بعده من الآثار ، اذ لا دليل عليها ، وهذه أمور تعبّدية فقد يكون مراد المولى تعالى ترتيب الأثر الاوّل دون غيره فما الجواب؟

(٢) عرفا ، كما رأيت في المثال السابق.

١٢٥

الواضح (١) ان اليقين بشيء انما يكون طريقا إلى متعلّقه لا إلى آثار متعلّقه (٢) ، وإنما يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ، واليقين المتولّد هو الذي له طريقية إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقية كل يقين تختص بمتعلّقه فكذلك منجزيته ومحرّكيّته. وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة انما يقتضي توفير المنجّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة (٣) لا بالنسبة إلى آثارها الشرعية.

فان قيل أليس من يكون على يقين من شيء يكون على يقين من

__________________

(١) هذه الكلمات مذكورة بعينها في تقريرات السيد الهاشمي حفظه الله تعالى وفيها اضافات فراجع ج ٦ ص ١٨٥.

(٢) اي : من الواضح ان اليقين بشيء ـ كاليقين بطهارة الماء ـ انما يكون طريقا إلى ثبوت متعلقه (وهو المتيقّن) في الواقع ـ ولو بنظر القاطع ـ لا إلى آثار متعلق اليقين (كطهارة الثوب الذي غسل بالماء المعلوم الطهارة تعبّدا) ، نعم اليقين بطهارة الماء انما يقع في طريق توليد يقين آخر بطهارة الثوب وذلك بعد انضمام مقدّمة ان الثوب قد غسل بهذا الماء المعلوم الطهارة ، واليقين المتولّد (وهو اليقين بطهارة الثوب) هو الذي له طريقية لاثبات طهارة الثوب ، وما دامت طريقية كل يقين تختص بمتعلّقه ، ومن المعلوم ان التنزيل لا يزيد بآثاره عن حدود آثار المنزّل عليه (وهو اليقين هنا) واحكامه ، فسيكون تنزيل احتمال طهارة هذا الماء ـ المعلوم الطهارة سابقا والمحتمل التنجس فعلا ـ منزلة اليقين السابق بطهارته ناظرا إلى خصوص ثبوت طهارة الماء لا إلى اثبات طهارة الثوب أيضا.

(٣) اي فالتعبد ببقاء اليقين بطهارة الماء انما ينظر إلى اثبات طهارة الماء لا إلى آثار طهارته وهي طهارة الثوب الذي غسل بهذا الماء.

١٢٦

آثاره أيضا؟

كان الجواب ان اليقين التكويني بشيء يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وامّا اليقين التعبّدي بشيء فلا يلزم منه اليقين التعبدي بآثاره ، لان امره تابع امتدادا وانكماشا لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدل على اكثر من التعبّد باليقين بالحالة السابقة.

والتحقيق (١) ان تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل وصغراه وهي الموضوع (٢) ، فاليقين التعبّدي بموضوع الاثر بنفسه (٣) منجّز لذلك الاثر والحكم وإن لم يسر الى الحكم.

ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث ، فانّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجّزا للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلا في دائرة اقتضائه العملي (٤) فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.

__________________

(١) ذكره في التقريرات ج ٦ ص ١٨٦ عند قوله «والتحقيق في الاجابة».

(٢) أو قل : وهي معلومية تحقق موضوع الكبرى.

مثال الكبرى : اذا غسل الثوب بماء معلوم الطهارة فانه يطهر.

ومثال الصغرى : هذا الثوب قد غسل بماء معلوم الطهارة تعبدا ، (والنتيجة) انه طهر.

(٣) اي فاليقين التعبدي بطهارة الماء منجّز للحكم بطهارة الثوب وان لم يسر اليقين التعبدي الى طهارة الثوب (أي لم نتيقّن بطهارة الثوب) ولم ينظر إليه.

(٤) أي فان اليقين السابق بطهارة الماء لما كان بنفسه منجّزا للحكم بطهارة الماء كان الجري على طبق هذا الحكم ـ بطهارة الماء ـ يعني اعتبار هذا الماء الطاهر مطهّرا ، فيلزم الجري عمليا على أساس طهارة الماء

١٢٧

فإن قيل اذا كان اليقين بالموضوع (١) كافيا لتنجّز الحكم المترتب عليه فما ذا يقال عن الحكم الشرعي المترتب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع انه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم الاوّل؟

كان الجواب ان الحكم الثاني (٢) الذي اخذ في موضوعه الحكم الاوّل لا يفهم من لسان دليله الّا ان الحكم الاوّل بكبراه وصغراه موضوع

__________________

ومطهّريّته بمقتضى النهي عن النقض العملي لليقين السابق اي بمقتضى «لا تنقض اليقين بالشك» وهو يعني طهارة الثوب الذي غسل بهذا الماء.

(١) أي اذا كان اليقين ببقاء الكرّية كافيا لتنجّز الحكم بطهارة الماء القليل (الذي حكمنا بطهارته لاتصاله بهذا الماء الكر) ليجوز شربه فما دخل هذا بالحكم بطهارة الثوب المغسول بهذا الماء القليل أي ما الدليل على طهارة الثوب مع انه لا تعبّد باليقين بطهارة الماء القليل ليترتّب عليه أثره وهو الحكم بطهارة الثوب. وقوله هنا «فان قيل .. كان الجواب» هو زيادة توضيح للأسطر الثلاثة السابقة.

(٢) أي : كان الجواب : ان الحكم الثاني وهو طهارة الثوب الذي اخذ في موضوعه الحكم الاوّل (الحكم الاول هو طهارة الماء القليل) لا يفهم من لسان دليله إلّا ان الحكم الاوّل بكبراه ـ وهي اذا غسلت ثوبا بماء طاهر فانه يطهر ـ وصغراه ـ وهي اننا قد غسلنا الثوب بماء طاهر تعبّدا ـ موضوع للحكم الثاني ، أي موضوع لطهارة الثوب.

أي فبالعلم بالكبرى والصغرى سنعلم بطهارة الثوب.

ويتضح الامر من خلال الرسم التالي :

عندنا يقين بكرّية الماء ـ طهر الماء القليل المتصل به تعبدا ـ طهر الثوب.

١٢٨

للحكم الثاني ، والمفروض انه محرز كبرى وصغرى ـ اي جعلا وموضوعا ـ وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني فيتنجّز الحكم الثاني كما يتنجّز الحكم الاوّل.

وأمّا القسم الثاني (١) فلا يثبت بدليل الاستصحاب ، لانه إن اريد اثبات اللوازم العقلية بما هي فقط فهو غير معقول إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي (٢) ، وان اريد اثبات ما لهذه اللوازم من آثار واحكام شرعية فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المتقدّمة ، امّا على الاوّل (٣) فلأن التنزيل في جانب المستصحب انما يكون بلحاظ الآثار الشرعية لا اللوازم العقلية (٤) ، كما تقدّم في الحلقة السابقة ، وأمّا على الاخيرين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّدا لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتّب على

__________________

(١) من آثار المستصحب وهي اللوازم العقلية للمستصحب.

(٢) أي إن أريد اثبات نبات اللحية فقط من دون اثبات وجوب العقيقة. كما في المثال المعروف. فهو لغو محض اذ لا أثر عملي محرّك لاثبات نبات اللحية ان لم يترتّب عليه حكم شرعي.

(٣) وهو مبنى ان مفاد الاستصحاب هو الارشاد الى عدم انتقاض الحالة السابقة تعبّدا.

(٤) فاذا نزّل الشارع المقدّس الحالة اللاحقة منزلة الحالة السابقة فاطلاق التنزيل انما ينظر الى خصوص الآثار التي هي من عالم الشارع المقدس ، والآثار الشرعية المترتّبة على الوسائط العقلية ليست من عالم التشريعات والتعبديات ، لأن اثبات وجود الوسائط العقليّة ليست من عالم الشرع ، فانّ الذي يدخل في عالم الشرع هي الاحكام التكليفيّة والوضعيّة ومتعلّقاتها.

١٢٩

اللازم العقلي ، لان موضوع هذا الحكم (١) هو اللازم العقلي واليقين التعبّدي بالمستصحب (٢) ليس يقينا تعبّديا باللازم العقلي (٣).

وعلى هذا الأساس يقال : انّ الاصل المثبت غير معتبر ، بمعنى ان الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقلية للمستصحب ولا الآثار الشرعية

__________________

(١) الحكم هو وجوب ذبح شاة وموضوعه هو نبات لحية ولده.

(٢) أي ان اليقين التعبّدي ببقاء ولده حيّا ليس يقينا تعبّديا بنبات لحيته.

(٣) تفصيل ذلك ببيان آخر :

قول الامام عليه‌السلام «وإلّا فانه على يقين من وضوئه» فيه احتمالان :

الاوّل : ان يفهم من هذا التعليل ان السبب في اعتبار الاستصحاب هي حالة اليقين السابقة ، وهو يعني ان الشارع المقدّس قد اعتبر الاستصحاب امارة لكاشفيّته فيؤخذ ح بآثار المستصحب الشرعية حتّى المترتّبة على الوسائط العقلية ، وذلك لان السبب في اعتبار الاستصحاب هو كاشفيّته عن الحالة السابقة ، وهذه الكاشفية حاصلة بلحاظ المستصحب ولوازمه العقلية بنفس القوّة ، مثله كمثل ما مرّ من كاشفية اخبار الثقة بوقوع الجدار على زيد عن اللازم العقلي لذلك وهو موته.

والثاني : ان يفهم من هذه الجملة ذكر علّة اصل الاستصحاب بنحو القضية المهملة ، لا ان هذا التعليل ناظر الى جميع حالات الاستصحاب حتّى ما كانت الآثار الشرعية فيها مترتبة على لوازم عقلية ، وبتعبير آخر قوله عليه‌السلام «فانه على يقين من وضوئه» ناظر الى التعبد بالبناء على بقاء اليقين السابق بالوضوء لا الى التعبد بنبات لحية من فقد في صغره ... كما في المثال المشهور.

هذا الاحتمال الثاني هو مراد السيد الشهيد (قدس‌سره) هنا في المتن.

١٣٠

لتلك اللوازم (*).

__________________

(*) كثر الكلام حول حجية الاصل المثبت وعدم حجيته والتفصيل ...

ومن يدقّق في الامر يلاحظ ان المشكلة هي ان علماءنا اعلى الله مقامهم الشريف لاحظوا ان بعض الموضوعات التي تترتّب على المستصحب كنبات اللحية المترتّب على حياة الولد الضائع ليست في الحقيقة موضوعات للآثار الشرعية المدّعاة. [فقد مثّلوا] لذلك بما لو نذر شخص ان يذبح شاة اذا نبتت لحية ولده او نبتت وشابت ثم صادف ان فقد ولده قبل ان تنبت لحيته ، فهل يمكن له ان يستصحب بقاء حياة ولده الى ان يصل الى مرحلة تنبت فيها لحيته وتشيب عادة فيجب ح على والده التصدق؟ الجواب بالنفي ، فانّه لا يصحّ هذا الاستصحاب لترتيب وجوب التصدّق وذلك لان قصد الوالد حينما نذر انما كان إذا نبتت لحية ولده وشابت بنحو معلوم وجدانا عنده لا تعبدا بخبر ثقة او استصحاب ، ولذلك لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب لاثبات وجوب التصدّق وذلك لعدم تحقّق موضوع وجوب التصدّق وهو العلم الوجداني. [ومثّلوا] أيضا باستصحاب بقاء الرطوبة في احد المتلاقيين المتنجس احدهما لاثبات نجاسة الطرف الطاهر؟ واجابوا ايضا بعدم صحة هذا الاستصحاب ، ويمكن توجيه ذلك بأن موضوع النجاسة هو ((انتقال النجاسة إلى الطرف الطاهر)) لا ((بقاء الرطوبة)) والاستصحاب انما يثبت ((بقاء الرطوبة)) ، ونجاسة اليد لا تترتب على ((بقاء الرطوبة)) وانما تترتب على ((انتقال النجاسة الى الطرف الآخر)).

[فان قلت] يكفينا اثبات ((بقاء الرطوبة)) التعبدي مع التماسّ بين الطرفين الوجداني فيتمّ موضوع النجاسة ، [قلت] ليس موضوع النجاسة هو ما ذكر وانما هو ((انتقال النجاسة إلى الطرف الطاهر)) وبينهما فرق. [وكذلك مثّلوا] بما لو شك المكلف في وجود حاجب على بدنه واراد ان يغتسل فهل يمكن له ان يستصحب عدم وجوده؟ واجابوا ايضا بالنفي ، ويمكن بيان ذلك بان المستصحب الباقي تعبّدا [وهو عدم وجود الحاجب] يغاير شرط صحّة الغسل وهو ((وصول الماء الى البشرة)) وبينهما فرق ، [ومثّلوا] خامسا بانه لو

١٣١

__________________

قدّ رجل مشكوك الحياة نصفين ، فهل يمكن استصحاب حياته فيثبت قتله وبالتالي تترتب عليه احكام القاتل من القود او الدية والعتق والصيام والاطعام؟ والجواب ايضا بالنفي لنفس السبب الذي ذكرناه مرّات الآن وهو وجود تغاير بين المستصحب الباقي تعبدا. وهو هنا حياته. وبين موضوع القود او الدّية وهو تحقق ((القتل)) وازهاق الحياة ، وبينهما فرق. [ومن هنا] تعرف ان المشكلة في الاصل المثبت هي في الحقيقة وجود تغاير بين المستصحب الباقي تعبّدا وبين موضوع الاثر الشرعي ، فمن الطبيعي مع عدم تحقق موضوع الاثر الشرعي عدم الحكم بترتب هذا الاثر الشرعي ، هذه الاسطر الثلاثة هي كل سرّ عدم جريان الاصل المثبت فافهمها تعرف السرّ في عدم جريان هكذا استصحاب حتى مع خفاء الواسطة ، لان هذه المسألة ليس ممّا يرجع فيها إلى العرف وانما علينا في الدرجة الاولى اثبات تحقق موضوع هذه الآثار الشرعية المطلوبة ، فلو تخيّل العرف تحقق موضوعها هل يتحقق هذا الموضوع فعلا؟!

[وأمّا] قول بعضهم بعدم الاخذ بالاصل المثبت ، لانه خارج عن مجال الشارع المقدس وعالم التشريعات ، وبتعبير السيد الشهيد [قدس‌سره] في الحلقة الثانية انه ((إن اريد اثبات نبات اللحية اوّلا باستصحاب الحياة وبالتالي اثبات وجوب التصدق فهو خلاف ظاهر الاستصحاب ، لان مفاده كما عرفنا تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، والتنزيل دائما ينصرف عرفا الى توسعة دائرة الآثار المجعولة من قبل المنزّل لا غيرها ، ونبات اللحية اثر تكويني للحياة وليس بجعل من الشارع بما هو شارع)) [ففيه تأمّل] إذا كان نظر الشارع الى التعبد بالآثار الشرعية ، ولا سيما على مقالتنا بانّ مثل الطهارة والنجاسة والكرّية والاعتصام والزوجية والملكية ونحوها ممّا ذكرناه في بحث الاحكام الوضعية ليست آثارا شرعية انما هي موضوعات شرعية لها ، فلا فرق اذن بين ترتّب الآثار الشرعية بواسطة موضوعات شرعية او عقلية طالما انها ليست آثارا شرعية ، [وبتعبير آخر] ما المانع من أن يتعبّدنا الشارع بنبات لحية الولد كي يتوصّل بذلك الى ايجاب التصدّق عليه؟! فكما يتعبّدنا ببقاء الزوجيّة ليرتّب عليها وجوب النفقة فكذلك هنا. [نعم] لو اقتصر التعبّد على اثبات نبات اللحية لورد الاشكال ولكن الامر ليس كذلك.

١٣٢

__________________

خلاصة القول انه لا يصحّ التمسك بالاصل المثبت لما عرفته قبل قليل من التغاير بين المستصحب وموضوع الآثار الشرعية ، ولو لا هذا الدليل لصحّ التمسك بالاصل المثبت وذلك لشمول صغرى ((فانه على يقين من وضوئه)) وكبرى ((ولا ينقض اليقين بالشك)) لما نحن فيه ولا سيّما على منهج مشهور الاصوليين ـ وهو الصحيح ـ من ان الاصل عند الشك في الاطلاق هو كون الكلام مطلقا ، [على] انه استصحاب عقلائي فلا يخدش فيه بعدم عقلائيته بعد كون اصل الاستصحاب عقلائيا.

[فاذا] تمّ هذا الكلام ـ وهو صحّة التمسك بالاصل المثبت في نفسه ـ تعرف عدم حصول تعارض بينه وبين عدم تحقّق اللازم ـ كنبات لحية الولد ـ وذلك لورود الاوّل على الثاني ، لكون الاوّل يعالج سبب نبات اللحية وهي الحياة ويثبتها فاذا اثبتها تعبدا لا يبقى محل للشك في نبات اللحية ، وهذا ما يعبّرون عنه بتقدّم الاصل السببي على الاصل المسبّبي.

[اذن] المهم في الامر اثبات تحقق موضوع الاثر الشرعي ، فان علم تحقّقه ترتّب الاثر ، وإن لم يعلم فلا يترتب ، وذلك واضح ، فانه مع الشك في تحقق الموضوع كيف نحكم بأثره؟!

وعلى هذا لو شككنا في كون اليوم الثلاثين من شهر رمضان انه من شهر رمضان حتّى يجب صومه او انه اول يوم من شهر شوّال حتى يحرم صومه ـ لكونه عيدا ـ ففي هذه الحالة يصحّ استصحاب ((عدم طلوع هلال شوّال)) فنبني عمليا على بقاء شهر رمضان فيجب صومه ، نعم هذا الاستصحاب لا يثبت ان اليوم التالي هو ((يوم عيد)) ولا استصحاب ((عدم دخول اليوم الثاني من شوّال)) يثبت ان هذا اليوم عيد ، وذلك لاحتمال ان يكون اليوم الذي اعتبرناه اليوم الثلاثين من شهر رمضان هو ((يوم العيد)) ، فاذا لم يكن يمكن اثبات يوم العيد بالاستصحاب فلا تثبت آثاره وهو مثلا حرمة صيامه واقامة صلاة العيد.

[نعم] تثبت هذه الآثار الشرعية بادلّة فقهية خاصّة كالروايات المستفيضة الواردة في لزوم عدّ ثلاثين يوما إذا غمّ الهلال ، فيكون الذي بعدها عيدا تعبّدا. [راجع مثلا جامع أحاديث الشيعة ج ٩ كتاب الصوم باب ٣ من أبواب فضل صوم شهر رمضان].

١٣٣

نعم اذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي كحكم العقل بالمنجّزية مثلا (١) ، فلا شك في ترتّبه ، لان الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتّب عليه كل لوازمه الشرعية والعقلية على السواء.

هذا كلّه على تقدير عدم ثبوت أمارية الاستصحاب كما هو الصحيح على ما عرفت ، وأمّا لو قيل بأماريته واستظهرنا من دليل الاستصحاب ان اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفية (٢) كان حجّة في اثبات اللوازم

__________________

(١) بيان ذلك : إذا كان كلا الاناءين متنجسا ثم طهّرنا احدهما لكننا نسينا الاناء الذي طهّرناه فان الاستصحاب في هذه الحالة يحكم علينا. رغم وجود علم إجمالي بطهارة أحدهما. باستصحاب نجاسة كل منهما عمليا لكون الحالة السابقة لكل اناء هي النجاسة ، بمعنى انه رغم وجود علم إجمالي بطهارة احد الاناءين يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن كلا الاناءين بسبب استصحاب نجاستهما ، فالاستصحاب هنا هو السبب في حكم العقل بالمنجزية و «حكم العقل بالمنجزية» رغم كونه لازما عقليا للاستصحاب يترتب على هذا الاستصحاب ، والسبب في ذلك ان نفس دليل الاستصحاب هو امارة كخبر الثقة بانهدام الجدار على زيد فكما ان اللوازم العقلية لخبر الثقة. وهي موت زيد. تترتب بلا شك فكذلك اللوازم العقلية لدليل الاستصحاب تترتب ، فانه ان لم تترتّب المنجزيّة. كنجاسة الماء المتنجّس سابقا. على الاستصحاب فمعناه عدم حجيّة الاستصحاب ، ولذلك نقول إن حجيّة الاستصحاب هي علّة لحكم العقل بمنجّزيته ، وان حكم العقل بالمنجّزية هو معلول ولازم لحجيّة الاستصحاب ، وبهذا بان لك الفرق بين اللوازم العقلية للاستصحاب واللوازم العقلية للمستصحب ـ كحياة زيد في مثال نبات اللحية السابق ـ

(٢) اي بسبب الكاشفية ، كما في خبر الثقة فان الشارع المقدّس قد اعتبره

١٣٤

العقلية للمستصحب واحكامها ايضا وفقا للقانون العام في الامارات على ما تقدّم سابقا.

__________________

حجّة لكاشفيّته ولذلك اخذ العرف بلوازم خبر الثقة ، وهنا الامر تماما كذلك ، وقد يستدل على هذا المبنى بالاستدلال العقلائي للامام عليه‌السلام حينما قال زرارة قلت : فان حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن انه قد نام ، حتى يجيء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه» فانه عليه‌السلام استدل بكاشفية الحالة السابقة على البقاء فقال «فانه على يقين من وضوئه» أي فانه كان على يقين من وضوئه ، هذه الكاشفية بما انها هي السبب في البناء على بقاء الحالة السابقة فلتكن ايضا السبب في اثبات الآثار الشرعية حتى المترتّبة على اللوازم العقلية وذلك لوحدة المناط(*) والتساوي في كاشفيّة بقاء الحالة السابقة على بقاء الآثار الشرعية سواء كانت بواسطة آثار شرعية أو عقليّة أو بلا واسطة.

__________________

(*) يرد على هذا المبنى انه لم يتّضح كون جعل الاستصحاب لكاشفية الحالة السابقة ، ولا يمكن لنا اثبات ذلك من خلال الروايات المذكورة ولم يتضح لنا التعبّد بالآثار الشرعية المترتّبة على اللوازم العقليّة للمستصحب ، بل تبعد ارادة معنى الكاشفية بلحاظ لوازم المستصحب ايضا تشبيها لها بما لو اخبر ثقة بوقوع الجدار على زيد فان الثقة حينما يخبر فانما يدّعي الكاشفيّة ، والشارع حينما اعتبره حجّة انما اعتبره حجّة بالنحو الذي يفهمه العقلاء وهو حجّيته بلحاظ المدلولين المطابقي والالتزامي ، ومن الواضح أنّ الشارع المقدّس حينما اعتبر خبر الثقة حجّة انما اعتبره كذلك لكاشفيّته وبتعبير سيّدنا الشهيد لقوّة احتمال اصابته للواقع ، ولذلك اذا اخبر الثقة بوقوع الجدار على زيد فكانما اخبر بلازم ذلك وهو موته ، امّا هنا فلم يعلم ان الشارع المقدّس قد اعتبر هذه الكاشفية سببا بلحاظ اللازم ايضا فافهم.

١٣٥

عموم جريان الاستصحاب

بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحققين في اطلاقها لبعض الحالات ، ومن هنا نشأ التفصيل في القول به ، ولعلّ اهمّ التفصيلات المعروفة قولان :

أحدهما : ما ذهب إليه الشيخ الانصاري (١) من التفصيل بين موارد الشك في المقتضي (٢) والشك في الرافع ، والالتزام بجريان الاستصحاب

__________________

(١) وتبعه عليه المحقق النائيني (قدس‌سره) ، قال الشيخ الانصاري رحمه‌الله ان اوّل من تنبّه لهذا التفصيل هو المحقق الخونساري (قدس‌سره) ، قال السيد الشهيد في التقريرات ج ٦ ص ١٥٤ بعد هذا الكلام «.. وببالي ان المحقق في المعارج له كلام يشعر بهذا التفصيل ...».

(٢) شرح السيد الخوئي رحمه‌الله في مصباحه ج ٣ ص ٢٠ الاحتمالات المتصوّرة للمراد من كلمة «المقتضي» الواردة في تفصيل الشيخ ، فقد قال الشيخ الانصاري (قدس‌سره): «الثالث : من حيث ان الشك في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي والمراد به الشك من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء كالشك في بقاء الليل والنهار ، وكالشك في بقاء خيار الغبن بعد الزمان الاوّل ، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء ... وكيفما كان فقد يفصّل بين كون الشك من جهة المقتضي وبين كونه من جهة الرافع فينكر الاستصحاب في الاوّل وقد يفصّل في الرافع ...» انتهى محل الشاهد. (ومراده) من «... خيار الغبن بعد الزمان الاوّل» اي له خيار الغبن بعد اطلاعه على الغبن مباشرة ـ اي في اللحظات الاولى ـ وامّا ان كان عالما بالحكم

١٣٦

في الثاني دون الاوّل ، ومدرك المنع من جريانه في الاوّل احد وجهين :

الاوّل : ان يدّعى بان دليل الاستصحاب ليس فيه اطلاق لفظي ، وانما الغيت خصوصية المورد (١) في قوله «ولا ينقض اليقين ابدا بالشك» بقرينة الارتكاز العرفي وكون الكبرى مسوقة مساق التعليل الظاهر في الاشارة الى قاعدة عرفية مركوزة وليست هي إلّا كبرى الاستصحاب ، ولما كان المرتكز عرفا من الاستصحاب لا يشمل (٢) موارد الشك في

__________________

والموضوع وكان بانيا على الفسخ إلّا انه اخّر انشاء الفسخ لغرض من الاغراض فقد اختلفوا في بقاء حقّ الفسخ للاستصحاب في المقتضي وارتفاعه.

(واقتصر) السيد الشهيد (قدس‌سره) في التقريرات على ما نقّحه المحقق النائيني من المراد من كلمة «المقتضي» في تفصيل الشيخ ، راجع التقريرات ج ٦ ص ١٥٤.

(١) اي وانما الغيت خصوصية ورود روايات الاستصحاب في الوضوء والطهارة وغيرها ممّا في لسان الروايات وفهمنا منها كبرى قاعدة الاستصحاب بقرينة فهم العرف ان «لا تنقض اليقين بالشك» غير مخصوصة بخصوص الطهارة والنجاسة والشك في ركعات الصلاة ... فصحيح ان الشيخ الانصاري (قدس‌سره) لم يؤمن بوجود اطلاق لفظي ل «لا تنقض اليقين بالشك» إلّا انه رغم ذلك فهم الشمول من القرائن والارتكازات العرفية ، فهنا إذن اطلاق لبّي.

(إلّا) انه لا يمكن التمسك بالاطلاق اللبّي للحالات المشكوكة في نظر العرف كحالة الشك في المقتضي بل المتعين ان يؤخذ بالقدر المتيقن في نظر العقلاء وهي حالة الشك في الرافع إذ ان الاستصحاب فيه عقلائي جدّا

(٢) بفتح الميم وضمّها.

١٣٧

المقتضي فالتعميم الحاصل في الدليل بضمّ هذا الارتكاز لا يقتضي اطلاقا اوسع من موارد الشك في الرافع.

وهذا البيان يتوقّف ـ كما ترى ـ على عدم استظهار الاطلاق اللفظي في نفسه ، و [على عدم] ظهور اللام في كلمتي «اليقين» و «الشك» في الجنس.

الثاني : ان يسلّم بالاطلاق اللفظي في نفسه ولكن يدّعى وجود قرينة متصلة على تقييده وهي كلمة «النقض» حيث انها لا تصدق في موارد الشك في المقتضي (١) ،

__________________

(١) ذكره السيد الشهيد في التقريرات ج ٦ ص ١٥٧ قال : «الدليل الثالث : وهو الذي اعتمد عليه الشيخ الاعظم (قدس‌سره) ناسبا له إلى المحقق الخونساري رحمه‌الله وهو استفادة اختصاص قاعدة الاستصحاب في موارد الشك في الرافع من كلمة «النقض» الوارد في الحديث ، ويمكن تحليل هذا الاستدلال إلى مقدّمتين :

الاولى : ان النقض مسند واقعا ولبّا إلى المتيقّن لا اليقين وان كان بحسب اللفظ قد اضيف إلى اليقين.

الثانية : ان اسناد النقض الى المتيقّن لا يصحّ إلّا إذا فرض احراز المقتضي له بقاء ، والنقض مقابل الابرام وهو لا يصدق إلّا إذا كان هناك هيئة اتصالية يراد قطعها ، وهي هنا وجود المقتضي لبقاء المتيقن ، وحيث ان هذه الهيئة لا تكون محفوظة في موارد الشك في المقتضي فلا يكون الدليل شاملا لاكثر من موارد الشك في الرافع». انتهى بتصرّف يسير.

(ثمّ) ردّ هذا المبنى بما خلاصته «ان النقض يصدق في حال رفع اليد عن المتيقّن لاحتمال انتهاء أمد المتيقّن ، فعبّر بالنقض الذي يعطي معنى

١٣٨

وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة السابقة واتّضح ان كلمة «النقض» لا تصلح للتقييد.

__________________

شدّة فظاعة الرفع ، وذلك لاظهار شناعة هذا الرفع ، ولعلّه لهذه المناسبة عبّر باليقين لا بالعلم ، فان لفظ اليقين أبلغ في الدلالة على الاستحكام والثبات والابرام بخلاف لفظ العلم» انتهى(*).

__________________

(*) اضافة إلى عدم وجود فرق عرفا بين طول عمر المتيقّن كعمر الانسان الذي يجري الجميع الاستصحاب فيه بما فيهم الشيخ الانصاري مع علمنا بانه سيموت لا محالة وبين طول الليل والنهار الذي لا يزيد عن ساعات معدودة او عمر الشمعة الذي قد لا يزيد عن عدّة دقائق أحيانا.

[وامّا] تمثيله بطول أمد خيار الغبن فليس الاشكال فيه من هذه الناحية انما الاشكال فيه في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

[نعم] لو قصد بالمقتضي الامر المتجدّد كمشي الانسان واكله لكان لكلامه وجه للتأمّل والنظر ، وذلك لان امثال هذه الامور متجدّدة فالخطوة الثانية غير الاولى ، واللقمة الثانية غير الاولى وليست امتدادا لها ولذلك تحتاج إلى ارادة مستقلّة تغاير ارادة الخطوة الاولى ، ولذلك لا يجري في هذه الامور الاستصحاب وان كان يبدو للوهلة الاولى صحّة جريانه فيها.

[وقد] يتوهّم ان جريان الماء من الارض والدماء من البدن من قبيل هذه الامور المتجدّدة لان القطرات اللاحقة تغاير القطرات السابقة فلم يتّحد المتيقن والمشكوك فلا يجري الاستصحاب ، [ولكن] يرد على هذا التوهّم ان المستصحب ليس هو الماء والدماء الموجودان في الجوف ، بل المستصحب الحقيقي ـ كما قلنا في السابق ـ هو عدم طروء عارض يرفع المتيقّن اي عدم انسداد المجاري فيبنى على بقاء خروج الماء اعتمادا على الفهم العرفي لقوله [ع] ((لا تنقض اليقين بالشك)) فتأمّل ، وانما نعبّر احيانا عن المتيقّن انه المستصحب تسامحا ولانه بالنتيجة سيستصحب.

١٣٩

والقول الآخر : ما ذهب إليه السيد الاستاذ من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية واختصاصه بالشبهات الموضوعية (١) ، وذلك ـ بعد الاعتراف باطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين من الشبهات ـ بدعوى ان عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل ، توضيح ذلك : ان الحكم الشرعي ـ كما تقدّم في محلّه ـ ينحلّ إلى جعل ومجعول ، والشك فيه تارة يكون مصبّه الجعل واخرى يكون مصبّه المجعول ، فالنحو الاوّل من الشك يعني ان الجعل قد تعلّق بحكم محدّد وواضح بكل ما له دخل فيه من الخصوصيات ، غير ان المكلف يشك في بقاء نفس الجعل ويحتمل ان المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل ، والنحو الثاني من الشك [في الجعل] يعني ان الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه غير ان الشك في مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم مثلا هل ان المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر حتى ولو (٢) زال تغيّره من قبل نفسه (٣) او جعل النجاسة منوطة بفترة التغير الفعلي [فقط](٤) ، فالمجعول مردّد بين فترة طويلة وفترة قصيرة ، وكلما

__________________

(١) ذكر هذا البحث في هذا الجزء اكثر من مرّة ، راجع بحث «الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني» ص ٨٦ وبحث «تطبيقه في الشبهات الحكمية» ص ٩٧ ، وذكره في التقريرات ج ٦ ص ١٢٧ ، وذكره السيد الخوئي في مصباحه ج ٣ ص ٣٧.

(٢) في النسخة الاصلية قال بدل «ولو» إذا ، والاولى ما اثبتناه.

(٣) وهو الفرد الطويل.

(٤) قوله هنا «او جعل النجاسة ...» هو الفرد القصير.

١٤٠