دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

احدهما : ما ذكره صاحب الكفاية من انه لا معارضة بين الاستصحابين (١) ، إذ كما ان الحرمة كانت معلّقة فتستصحب بما هي معلّقة كذلك الحلية كانت في العنب مغيّاة بالغليان فتستصحب بما هي مغياة [بالغليان] ، ولا تنافي بين حلّية مغيّاة وحرمة معلّقة على الغاية.

ونلاحظ على ذلك (٢) : ان الحلية التي نريد استصحابها هي الحلية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنها مغياة [بالغليان] لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف فنستصحب ذات هذه الحلّية.

__________________

(١) يريد صاحب الكفاية رحمه‌الله هنا أن يدفع وجود معارض لاستصحاب حرمة العصير العنبي المعلّقة على الغليان لانه يقول :

العنب إذا غلى فانه يحرم ـ الزبيب إذا غلى فانه يحرم

العنب ما لم يغل فانه حلال ـ الزبيب ما لم يغل فانه حلال

فهو يقول بعدم المعارضة بين الاستصحابين السابقين لاختلاف مورديهما ، إذ ان الحرمة في الاستصحاب الاوّل ناظرة إلى تقدير الغليان ، والحلّية في الاستصحاب الثاني ناظرة إلى حالة ما قبل الغليان

(٢) يريد السيد (قدس‌سره) هنا ان يقول بان استصحاب الحلّيّة لا ينبغي ان يكون ـ كما ذكر ـ من حالة العنبية قبل الغليان إلى حالة الزبيبية بعد الغليان ، وانما الذي نريد ان نستصحبه هو حلية الزبيب إلى ما بعد الغليان ، أي ان الاستصحاب المعارض هو :

الزبيب ما لم يغل فانه حلال ـ الزبيب بعد ان يغلي فانه حلال فحلّيّة الزبيب بعد الغليان تعارض حرمة الزبيب بعد الغليان.

١٦١

فإن قيل (١) : ان الحلّيّة الثابتة قبل الجفاف نعلم بانها مغيّاة ، ونشك في تبدّلها [بعد الجفاف] إلى الحلّية غير المغيّاة بالغليان (٢) ، فنستصحب تلك الحلية المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.

كان الجواب (٣) : ان استصحابها لا يعيّن حال الحلّية المعلومة بعد

__________________

(١) اي : فان قيل : انّ حلية عصير العنب نعلم انها مغياة بالغليان فنستصحب هذه الحالة إلى حالة الزبيب ، والنتيجة ان هذا الاستصحاب سيثبت حلية الزبيب ما لم يحصل غليان ، واستصحاب حرمة العصير العنبي المعلّقة على الغليان يكون ناظرا إلى تقدير الغليان وافتراض وجوده فلا يتعارض الاستصحابان لتغاير مورديهما

(٢) في النسخة الاصلية قال «بالجفاف» بدل «بالغليان» وهو سهو.

(٣) اي : كان الجواب : ان استصحاب حليّة العصير العنبي المغيّاة بالغليان من حالة العنبيّة إلى حالة تحوّله إلى الزبيب لا يعيّن حال حلية الزبيب وهل انها مغياة بالغليان ام انّها باقية الى ما بعد الغليان ولا يثبت أنها مغيّاة الّا بعلمنا بعدم صحة استصحاب الحلية المنجّزة ـ لانه أصل مسببي بالنسبة الى استصحاب الحليّة المغيّاة ، ولا يمكن اجتماع حلّيتين على الزبيب احداهما مغيّاة والاخرى غير مغيّاة لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ـ فيكون استصحاب الحلّية المغيّاة ح اصلا مثبتا فان لم يصحّ جريان استصحاب الحلّية المغيّاة فحينئذ يجري استصحاب الحلّية المنجّزة بلا معارض(*).

__________________

(*) لم افهم معنى معقولا لقول السيد الماتن [قدس‌سره] ((ولا يثبت انها مغياة إلّا بالملازمة للعلم بعدم امكان وجود حليتين)) حلية الزبيب المغياة بالغليان من جهة كونه عنبا ، وحلية الزبيب ـ بعنوانه الاوّلي ـ المغياة كقدر متيقّن بالغليان ، فان الحلية الاولى ظاهرية والحلية الثانية واقعية ولا منافاة بينهما حتّى عند السيد الشهيد رحمه‌الله.

١٦٢

الجفاف ولا يثبت انها مغيّاة إلّا بالملازمة للعلم بعدم امكان وجود حلّيتين ، وما دامت «الحلية المعلومة بعد الجفاف» لا مثبت لكونها مغيّاة فبالامكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

والجواب الآخر (١) : ما ذكره الشيخ الانصاري والمحقق النائيني من ان الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي ، ويمكن ان يقال في توجيه ذلك (٢) : ان استصحاب القضية الشرطية للحكم إمّا ان

__________________

(١) ذكر في تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ص ٢٩١.

(٢) هنا يريد الشيخ الانصاري والمحقق النائيني رحمه‌الله ان يثبتا عدم وجود معارضة بين استصحاب الحرمة المغيّاة للعصير العنبي واستصحاب الحلية المنجّزة للزبيب قبل الغليان ، وذلك بدليل حاكمية الاوّل على الثاني ، فان الاستصحاب الاوّل ناظر إلى حالة الغليان الذي هو اصل المشكلة والسبب الذي نحتمل لاجله حرمة الزبيب المغلي فيريد ان يثبت حرمة الزبيب بعد الغليان في مرحلة الجعل الذي هو سبب المجعول ، وأمّا الاستصحاب الثاني فيريد أن يثبت بقاء حلّية الزبيب بعد الغلي في مرحلة المجعول والمسبّب عن مرحلة الجعل ويتجاوز عن احتمال تأثير الغليان ، فالاستصحاب الاوّل يريد ان يثبت في مرحلة الجعل ان الغليان يحرّم والثاني لا يريد ان يثبت ان الغليان لا يحرّم وانما يريد ان يقول انا لا أدري هل يحرّم في مرحلة الجعل ام لا ولذلك استصحب الحلية من قبل الغليان في مرحلة الفعلية لا أكثر. (فاذا) ثبتت الحكومة فلا يبقى تعارض في البين لعدم جريان الاستصحاب المحكوم من الاصل. (وامّا) ان قلنا بان الاستصحاب التعليقي لا يجري من الاصل لعدم ترتب اثر عملي فعلي عليه فكذلك لا تقع معارضة بين الاستصحابين.

١٦٣

يثبت فعلية الحكم عند تحقق الشرط وإمّا ان لا يثبت ذلك ، فان لم يثبت لم يجر في نفسه ، إذ أيّ اثر لاثبات حكم مشروط لا ينتهي الى الفعلية ، وإن اثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه وفقا للقاعدة المتقدّمة في الحلقة السابقة القائلة : انه كلّما كان احد الاصلين يعالج مورد الاصل الثاني دون العكس قدّم الاصل الاوّل على الثاني ، فان مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب المعلق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ، والمفروض ان استصحاب المعلّق يثبت حرمة فعلية وهو معنى نفي الحلية الفعلية ، وامّا استصحاب الحلية الفعلية فلا ينفي الحرمة المعلّقة ولا يتعرّض إلى الثبوت التقديري.

ونلاحظ على ذلك : ان هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعلية باستصحاب القضية المشروطة ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال (١) ، فان استصحاب الحكم المعلق على هذا

__________________

(١) هذا رأي السيد الماتن (قدس‌سره) كما مرّ قبل بضع صفحات عند قوله «ونلاحظ على ذلك : اوّلا ...» فراجع ، وتبنّاه في التقريرات وسيذكره كذلك في وسط بحث «استصحاب عدم النسخ» الآتي.

ومراده ان يقول بعدم صحّة استصحاب الحكم المعلق وذلك بتقريب : انكما ـ ايها الشيخان الانصاري والنائيني ـ تقولان بأن استصحاب الحكم المعلّق يثبت حرمة فعلية ، وهذا الكلام لا يتمّ ولا يصح عند من لا يؤمن بوجود أثر شرعي على الاستصحاب التعليقي ، وعليه وخروجا عن هذه المشكلة قال سيدنا الصدر رحمه‌الله بعدم وجود ضرورة لترتب اثر شرعي على المستصحب والاكتفاء بترتب اثر عقلي

١٦٤

الاساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكما عليه (*).

__________________

على الاستصحاب وهو عند تحقق صغرى الغليان يترتب على هذه الصغرى وكبرى «الزبيب اذا غلى حرم» الثابتة باستصحاب الحكم المعلّق حكم العقل بحرمة هذا الزبيب المغلي. فعلى اساس كفاية وصول الكبرى والصغرى لا يكون الاستصحاب الذي اثبت الكبرى حاكما على الاستصحاب التنجيزي لكونه صار كبرى في القياس السابق ، فهو بمعونة الصغرى اثبت حرمة الزبيب المغلي ولم يثبتها لوحده ، ولم يعالج مورد الاستصحاب التنجيزي ، والاستصحاب الذي يعالج مورد الاستصحاب الآخر هو كاستصحاب طهارة الماء الذي نغسل به الثوب ، فاننا اذا استصحبنا طهارة هذا الماء فان الأثر المترتب هو طهارة الثوب المغسول به ، وامّا الاستصحاب التعليقي هنا فانه ليس كذلك لانه يحقّق كبرى لصغرى القياس المذكور ، وعليه فتتعارض نتيجة القياس مع الاستصحاب التنجيزي فافهم.

__________________

(*) [أقول] أمّا نحن ففي راحة من كل هذه التعقيدات ، وذلك لانه : أولا هذا البحث مصداق للاستصحاب في الشبهات الحكمية وذلك بتقريب ان الشارع المقدس هل جعل ـ اقصد في مرحلة الجعل ـ الحرمة على عصير العنب إذا غلى فقط ام عليه وعلى الزبيب إذا غلى في الماء ايضا ، وثانيا : قد عرفت عدم صحّة الاستصحاب في الشبهات الحكمية لانه سيكون من باب الشك في جعل الحرمة على خصوص ماء العنب اذا غلى أو عليه وعلى الزبيب اذا غلى ، فتجري قاعدة الحليّة في الزائد. [ولا يمكن] تحويل هذا الشك الى الشك في الشبهات الموضوعية كي يصحّ استصحابه وانما محلّه في مرحلة الجعل لا غير لأن المشكلة نشأت في عالم الجعل الذي هو علّة عالم المجعول ، ولو حاولنا تحويل هذا الاستصحاب إلى مرحلة المجعول لصار الحال هكذا : ((هذا العصير العنبي إذا غلى حرم ، وإذا جفّ وغلى هل يحرم ايضا فنستصحب بقاء الحرمة)) ، وهذا الكلام

١٦٥

__________________

غير صحيح لان كلا هذين الحكمين جعليين لا مجعولين ، لان الحكم المجعول هو الذي يكون موضوعه فعليا من جميع الجهات لا معلقا ، وان اردت ان يكون فعليا لما بقي حكما معلقا ولصار هكذا : ((هذا العصير العنبي لانه غلى حرم)) وهذا لا يتصور فيه استصحاب تلك الحرمة الفعلية إلى عصير عنبي مغلي آخر لانه موضوع آخر فضلا عن استصحاب تلك الحرمة الفعلية إلى الزبيب المغلي بالماء ، [على] ان الزبيب المغلي بالماء لم تكن حالته السابقة ـ قبل الغليان ـ الحرمة ، فافهم.

[بل] لا يصح استصحاب الحرمة حتى لو جفّ قليلا بحيث شككنا في بقائه ح على العنبية أو تحوّله الى زبيب لان استصحاب العنبية ح ـ ليترتّب على العنبية الحرمة ـ استصحاب مثبت.

[قصة لطيفة] يحكى ان هذه المسألة قد شاعت بين العوام في اوائل القرن العشرين ، فكان صاحب الكفاية رحمه‌الله يقول بحرمة الزبيب المغلي ، والسيد اليزدي صاحب العروة الوثقى يقول بحلّيته ، فقام أحد الناس بدعوة مجموعة من مقلّدي صاحب الكفاية ومجموعة من مقلّدي السيد اليزدي وقدّم لهم طعاما عمدته أرز قد غلي فيه الزبيب ، فسأل مقلدوا صاحب الكفاية من صاحب البيت إذا كان قد غلى الزبيب مع الماء او وضع الزبيب بعد طبخ الارز ، فاجابهم انه غلى الزبيب بالماء مع الارز ، عندئذ ضحك مقلدوا السيد اليزدي على مقلدي صاحب الكفاية كثيرا إلى حدّ تحول فيه المجلس الى مشاجرة كبيرة.

١٦٦

٢ ـ استصحاب عدم النسخ

تقدّم في الحلقة السابقة ان النسخ بمعناه الحقيقي (١) مستحيل [على الباري تعالى] بالنسبة الى مبادئ الحكم ، ومعقول بالنسبة الى الحكم في عالم الجعل (٢) ، وعليه فالشك في النسخ بالنسبة الى عالم الجعل يتصوّر على نحوين :

الاوّل : ان يشك في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال الغاء المولى له (٣).

__________________

(١) ذكر هذا البحث في التقريرات ج ٦ ص ٢٩٤ ، (وعلى اي حال) فالمراد من النسخ بالمعنى الحقيقي هو تغيير الرأي بعد تبيّن بطلان مبادئه من المصالح والمفاسد كأن يتوهم المقنّن الفاسد صالحا ثم حينما يعرف الحقيقة يتراجع عن قانونه. وهذا مستحيل على الباري عزوجل لانه نسبة الجهل اليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(٢) كما في الحكم بتغيير القبلة من بيت المقدس ـ والمعروف خصوص الصخرة المشهورة في مدينة القدس كما في تفسير الميزان وغيره ـ الى الكعبة المكرّمة فانه معقول بتقريب ان المولى جلّ وعلا قد اظهر لنا ولو بالاطلاق الزمني ديمومة التوجّه الى بيت المقدس لمصلحة ما ، ثم في الوقت المناسب اظهر لنا الحكم الابدي.

(٣) قال في التقريرات في بيان هذا النحو ما يلي : «ان يشك في بقاء نفس

١٦٧

الثاني : ان يشك في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمنية ، بمعنى احتمال ان الجعل تعلق بالحكم المقيد بزمان قد انتهى امده.

فاذا كان الشك من النحو الاوّل فلا شك في امكان اجراء الاستصحاب لتمامية اركانه ، غير ان هنا شبهة (١) قد تمنع عن جريانه على اساس ان ترتب المجعول على الجعل ليس شرعيا بل عقلي (٢) فاثباته

__________________

الجعل وعدمه بمعنى احتمال الغاء المولى له ، وهذا يكون قسما مستقلا من الشبهة غير الشبهة الحكمية ، لان الشك هنا في نفس بقاء الجعل حقيقة لا في سعة المجعول وحدوده» (*).

(١) عند ما يقول الشارع المقدّس مثلا «إذا زالت الشمس فصلّ» فاذا تحقق المكلّف من زوال الشمس فان العقل ـ لا الشارع ـ يحكم بالوجوب الفعلي للصلاة ، وبكلمة اخرى هذا الأثر عقلي لا شرعي فلا يثبته الاستصحاب ، لان من شروط جريان الاستصحاب وجود أثر عملي شرعي يترتب على المستصحب ، فاذا كان ترتب المجعول على الجعل ـ بعد العلم بتحقّق شرائط فعلية الحكم ـ عقليا لا شرعيا فهو يعني عدم ترتّب اثر شرعي على المستصحب فلا يجري الاستصحاب

(٢) مرّ معنا بيان ذلك ونعيده الآن فنقول : اذا قال المولى «اذا زالت

__________________

(*) ان كان مراد السيد الشهيد [قدس‌سره] من المولى هنا المولى العرفي فكلامه صحيح ووجه صحته واضح ، وامّا ان كان مراده المولى الحقيقي جلّ وعلا فيرد عليه برجوعه الى النحو الثاني ، وذلك لرجوع هذا الشك الى الشك في ان الله تبارك وتعالى هل جعل هذا الحكم لوقت قصير ـ وهو القدر المتيقّن ـ ام الى قيام الساعة. [ولا شك] في ان كلامنا انما هو في المولى الحقيقي لا المولى العرفي ، ولهذا يلغى النحو الاوّل من الاساس.

[واستاذنا] السيد الهاشمي حفظه الله ارجع النحو الثاني الى الاوّل ، ذكر ذلك في تعليقته ص ٢٩٨ من التقريرات.

١٦٨

باستصحاب الجعل غير ممكن (*).

__________________

الشمس فصلّ» فهذا الحكم الانشائي اسمه جعل ، ولا يصير مجعولا أي فعليا حتى تزول الشمس ، فاذا زالت حكم العقل ـ لا الشرع ـ بفعلية وجوب الصلاة ، حتى اننا لو فرضنا ان المولى كان عرفيا ولم يعلم بزوال الشمس يحكم العقل بفعلية وجوب الصلاة حتى ولو لم يلتفت المولى العرفي الى الزوال ولم يحكم بفعلية وجوب الصلاة

__________________

(*) هنا كلمتان :

الاولى : صحيح ان ترتب المجعول [اي الحكم الفعلي] على الجعل عقلي بلا شبهة ولكن هذا لا يعني ان هذا المجعول لم يعد حكما شرعيا ، فان الاحكام العقلية هي احكام شرعية ارتكازية في علم المولى سبحانه وتعالى ، بحيث لو سالت المولى عن حكم من زالت عليه الشمس وكان عاقلا وبالغا لقال لك تجب عليه الصلاة بالوجوب الفعلي ، وهذا مراد علمائنا القائلين بان الاحكام العقليّة ـ التي لا ترجع الى حكم العقل بلزوم اطاعة المولى الحقيقي ـ هي احكام شرعية وان الله تعالى من العقلاء بل رئيس العقلاء. ولذلك لا مانع من جريان الاستصحاب الحكم بوجوب قتال المشركين من جهة وجود اثر شرعي.

الثانية : ان المانع من جريان استصحاب الحكم هو وجود دليل محرز في المقام وهو الاطلاق في هيئة ((قاتلوا)) من قوله تعالى (وقتلوا المشركين) من حيث الزمان والمكان فيثبت بذلك بقاء هذا الحكم الى قيام الساعة ، فان الامر بقاتلوا لم يقيّد في الآية بزمان معيّن مما يجعلنا نستفيد الشمول لكل زمان.

وعليه فلا يرد ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله من ((ان الشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور ، وكذا الكلام في احكام الشرائع السابقة المحتمل نسخها ، فان الشك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة الى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته ، فلا مجال ح لجريان الاستصحاب ...)) مصباح الاصول المجلّد الثالث ص ـ ١٤٨ ، فانه على

١٦٩

والجواب أنّا لسنا بحاجة الى اثبات شيء وراء الجعل في مقام التنجيز لما تقدّم من كفاية وصول الكبرى والصغرى (١). وعليه فالاستصحاب يجري خلافا للاصل اللفظي ـ بمعنى اطلاق الدليل ـ فانه لا يمكن التمسك به لنفي النسخ بهذا المعنى (٢).

__________________

(١) ذكر هذا الجواب في التقريرات ج ٦ اعلى ص ٢٩٨ ، ومفاده انّا لسنا بحاجة الى اثبات وجود اثر شرعي للمستصحب والاكتفاء بحكم العقل بالتنجيز عند تحقق الصغرى والكبرى ، ومراده من الصغرى والكبرى ما يلي :

الكبرى : هي العلم بالجعل كوجوب قتال المشركين مثلا ،

والصغرى : هي العلم بتحقق موضوع الجعل ، كالعلم بكون الطرف الآخر مشركين ، (ويمكن) العلم بالكبرى تعبّدا باستصحاب بقاء الجعل ـ كقانون شرعي ـ من زمن الحضور المبارك الى زمان أيامنا اليتيمة فينتج تنجّز الحكم في حقّ هذا العالم بالصغرى والكبرى بلا حاجة الى الوقوع في اشكال عدم ترتب اثر شرعي على هذا الاستصحاب.

(٢) ذكر هذا الجواب في التقريرات ج ٦ ص ٢٩٧ عند قوله «واما استصحاب عدم النسخ ...».

(بيان ذلك) انه على هذا النحو الاوّل من نحوي الشك لا يجري الاطلاق ، لان مورد الاطلاق انما هو فيما اذا شك في تقييد كلام ما بقيد ما ـ بعد العلم ببقاء هذا الجعل ـ كما في «اعتق رقبة» فاننا لو شككنا في ارادة عتق خصوص الرقبة المؤمنة يمكن نفي ذلك بالاطلاق ، وامّا فيما

__________________

كلامه يلزم القول بالبراءة في الفترة الزائدة المشكوكة ، اقول لا يرد كلام السيد الخوئي رحمه‌الله للزوم التمسّك في هكذا موارد باطلاق ادلة الاحكام من التقيد بزمان او مكان معيّن ، فانه في موارد وجود ادلّة محرزة لا مورد للاصول العمليّة.

١٧٠

واذا كان الشك من النحو الثاني فلا شكّ في امكان التمسك باطلاق الدليل لنفيه (١) ، ولكن جريان الاستصحاب موضع بحث ، وذلك لامكان دعوى ان المتيقّن ثبوت الحكم على المكلفين في الزمان الاوّل (٢) ، والمشكوك ثبوته على افراد آخرين وهم المكلّفون الذين يعيشون في الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدد الّا بالنسبة الى شخص عاش كلا الزمانين بشخصه. وعلاج ذلك (٣) ان الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولا على نحو القضية الخارجية التي تنصب على الافراد المحققة خارجا مباشرة ، بل على نحو القضية الحقيقية التي ينصبّ فيها الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه المرحلة لا فارق بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة موضوعا (٤) الّا من ناحية الزمان وتأخّر

__________________

نحن فيه فالمورد هو الشك في بقاء اصل جعل «اعتق رقبة» وهذا ليس مورد جريان الاطلاق وانما هو مورد جريان الاستصحاب(*).

(ولا بأس) بأن يقارن بين ما ذكره هنا وما ذكره في التقريرات.

(١) اي لنفي النسخ ، وذلك بالتقريب الذي ذكرناه في التعليقة. الكلمة الثانية.

(٢) نقل هذه الدعوى السيد الخوئي (قدس‌سره) عن المحدّث الاسترابادي رحمه‌الله ، راجع المصباح ج ٣ ص ١٤٦.

(٣) ذكره الشيخ الانصاري رضي الله عنه ، راجع المصباح ص ١٤٧ ، الجواب الثاني.

(٤) لكون الموضوع ـ بناء على هذا العلاج ـ هو طبيعي المكلف لا المكلفون الخارجيون الموجودون قبل احتمال النسخ.

__________________

(*) بناء على ما ذكرناه من رجوع النحو الاول الى الثاني يتعيّن الاخذ باطلاق هيئة ((قاتلوا)) في قوله تعالى ((قاتلوا المشركين كافّة)) من التقيّد بزمان دون زمان ، فيثبت الحكم الى قيام الساعة.

١٧١

الموضوع للقضية المشكوكة زمانا عن الموضوع للقضية المتيقّنة ، وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشك المفروض شكّا في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة لطبيعي المكلّف.

وبالامكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار الى الفرد المكلّف المتأخّر زمانا ويقال : ان هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم (١).

ولكن توجد مشكلة اخرى يواجهها الاستصحاب في المقام سواء اجري بصيغته التنجيزية او التعليقية وهي : انه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلّفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه (٢) ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموما

__________________

(١) وهم المكلفون الموجودون قبل احتمال النسخ والمكلّفون الموجودون بعد احتمال النسخ.

(٢) وقد آمن السيد الماتن رحمه‌الله بهذا الاعتراض في بحث «استصحاب الحكم المعلّق» السابق ، راجع اواخر البحث السابق.

(بيان) هذه المعارضة : اننا إذا استصحبنا بقاء وجوب قتال المشركين إلى زماننا هذا فانه معارض بعدم وجوبه بالنسبة إلى الافراد الذين يعيشون في زمن يحتمل النسخ فيه كزماننا هذا مثلا ، بيان وجه الاستصحاب الثاني هو انه يوجد شك في ان المولى تعالى هل شرّع هذا الحكم لخصوص زمان حضور الامام عليه‌السلام مثلا او إلى قيام الساعة ،

١٧٢

بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.

__________________

والقدر المتيقّن هو انه شرّع لخصوص زمان الامام (ع) والباقي مشكوك الجعل من الاصل فيجري فيه استصحاب عدم الجعل بلحاظ زمان الغيبة.

(ويستوحى) الناظر من كلمات السيد الشهيد المتفرّقة هنا وهناك بانه يؤمن بعدم صحّة جريان الاستصحاب في مرحلة الجعل ولكنه يرى كفاية وصول الكبرى ـ ولو تعبّدا ـ باستصحاب بقاء قانون «وجوب صلاة الجمعة» مثلا الى زماننا هذا ـ والصغرى ـ وهي كون هذا اليوم الفلاني هو يوم الجمعة وقد زالت الشمس ـ فيحكم العقل بتنجّز الحكم بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، ونتيجة هذا هو القول باصالة عدم النسخ لكن بهذا التقريب (انظر التقريرات ج ٦ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨) (*).

__________________

(*) والذي رأيناه صحيحا ـ كما عرفت من تعليقاتنا السابقة ـ هو ابديّة الاحكام الشرعية تمسّكا باطلاقاتها الازمانية ، وعدم صحّة جريان استصحاب عدم النسخ في مرحلة الفعلية وذلك لرجوع الشك إلى مرحلة الجعل ، وقد بيّنا لك سابقا بانه إذا حصل شك فعليك ان تنظر إلى منشئه ، وهنا منشأ الشك في مرحلة الفعلية هو الشك في مرحلة الجعل ...

ولا يجري الاستصحاب في مرحلة الجعل لانه دفعي لا استمراري على ما ذكرنا ذلك مرارا. بناء على هذا لا يصحّ القول بان الاصل العملي يفيدنا عدم النسخ ، بل علينا ان نقول ان الاطلاق ـ الذي هو دليل محرز ـ يفيدنا ابدية الاحكام.

[والنتيجة] عندنا أيضا هي صحّة القول بعدم النسخ لكن تمسّكا بالاطلاقات الازمانية للادلّة الشرعية.

١٧٣

٣ ـ استصحاب الكلّي

استصحاب الكلّي هو التعبد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم (١) أو الجامع بين شيئين خارجيين إذا كان له اثر شرعي (٢).

والكلام فيه يقع في جهتين :

* الجهة الاولى : في اصل اجراء استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الاحكام تارة وفي باب الموضوعات اخرى.

أمّا في باب الاحكام (٣) فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ

__________________

(١) كالجواز فانه جامع بين الاحكام التكليفية الاربعة ـ الوجوب ، الاستحباب ، الكراهة والاباحة ـ وكالمطلوبية الجامعة بين الوجوب والاستحباب وهكذا ..

(٢) كالحدث فانه جامع بين الاصغر والاكبر ، واثره مثلا حرمة مسّ المصحف.

(٣) بيان ذلك : إذا شككنا في بقاء الجواز أو المطلوبية ـ بعد علمنا مثلا بارتفاع الوجوب كما في حالة وجود حرج او ضرر من الغسل ـ فهل يجري استصحاب بقاء جواز الغسل او مطلوبيّته؟ فكما ان «الانسان» موجود في زيد كذلك المطلوبية موجودة في الوجوب غير ان الوجوب يزيد على المطلوبية بالالزام ، فإذا ارتفع الالزام للحرج مثلا فهل يمكن ان نبرهن على بقاء المطلوبية بالاستصحاب؟ (وهذا) المثال مبني على الايمان بتركب الوجوب من المطلوبية والالزام

١٧٤

المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذ : إن المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب او بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب وهو باطل ، لانّ الجامع بحدّه لا يعقل جعله إذ يستحيل وجود الجامع إلّا في ضمن فرده ، والجامع في ضمن احد فرديه بالخصوص ليس محطّا للاستصحاب ليكون مصبّا للتعبّد الاستصحابي.

(وهذا) الاعتراض يتوقّف على قبول المبنى المشار اليه. امّا اذا انكرناه وفرضنا ان مفاد دليل الاستصحاب ابقاء اليقين بمعنى من المعاني (١) فيمكن افتراض ابقائه بقدر الجامع فيكون بمثابة العلم

__________________

وقد يعترض على جريان هذا الاستصحاب بناء على مسلك جعل الحكم المماثل الذي عرفت بيانه ـ وهو ان المولى تعالى يجعل حكما ظاهريا مماثلا لما يقتضيه الاستصحاب فيجعل حكما ظاهريا بطهارة الثوب عند استصحاب طهارته فانه بناء على هذا المبنى لو آمنّا بجريان الاستصحاب في جواز الغسل فانه سينتج حكم المولى بجواز الغسل في حالة الحرج او الضرر ، وهذا الحكم مستحيل في حقّ الباري تعالى إذ كيف يحكم المولى بالجامع مع انه لا اهمال في احكامه بل كلها محدّدة! وبتعبير آخر : هل تتصوّر ان يقول لك المولى حكم الغسل ـ بعد استصحاب جوازه او مطلوبيّته ـ انه مثلا مطلوب (المطلوبية الاعم من الوجوب والاستحباب)؟! وهذا هو مراده من قوله «إذ يستحيل وجود الجامع ـ كالمطلوبيّة ـ إلّا في ضمن فرده ـ كالوجوب ـ».

(١) كما لو فهمنا من اليقين الوارد في قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» اليقين الطريقي الى متيقّنه او ان المراد باليقين مطلق الحجّة ـ بما يشمل خبر الثقة مثلا ـ ونحو ذلك من المعاني.

١٧٥

الاجمالي المتعلّق بالجامع (١).

__________________

(١) بمعنى انه بناء على سائر الوجوه الاخرى لفهم قاعدة الاستصحاب يمكن استصحاب جواز الغسل ـ بعد رفع وجوبه للحرج او الضرر ـ او مطلوبيّته فيكون بمثابة العلم الاجمالي بنجاسة الجامع بين الاناءين في ترتب حرمة الشرب من احدهما ، فكما ننجز هناك ـ في العلم الاجمالي ـ نجاسة او حرمة احدهما نستصحب هنا كلّي الجواز.(*)

__________________

(*) يمكن القبول بمسلك جعل الحكم المماثل ولا يرد عليه هذا الاعتراض ، وذلك بتقريب انه حينما يجعل المولى جلّ وعلا الاستصحاب حجّة فمعنى ذلك ضمنا وارتكازا ان المولى تعالى يعتبر الثوب الذي كان متنجسا وقد شك المكلّف في طهارته يعتبره المولى نجسا ظاهرا بالنسبة للشاك ، وقولنا ((ضمنا)) اعني به اننا لو فرض اننا سألنا المولى تعالى عن رأيه وموقفه من هذا الثوب بالنسبة لنا وفرض اننا اطّلعنا على الجواب لكان الجواب انه نجس ظاهرا بالنسبة للشاكّ. هذا من ناحية ، وأمّا من ناحية بيان جريان استصحاب الكلّي في مجال الأحكام على مبنى جعل الحكم المماثل فيمكن القول باننا لو شككنا في بقاء مطلوبية غسل الجمعة ـ بعد رفع وجوبه بالحرج او الضرر ـ فانه يمكن استصحاب بقاء المطلوبية لانه كان مطلوبا ظاهرا والآن نشك في رفع هذه المطلوبية فنستصحب بقاءها.

وأمّا الاعتراض بعدم جعل المطلوبية بالاستصحاب لان هذه المطلوبية مهملة ولا اهمال في الجعل ، فجوابه انه لا اهمال في الجعل بالنسبة إلى الاحكام الواقعية بمعنى ان الاحكام الواقعية كلها محدّدة ضمن الاحكام التكليفية الخمسة ، فغسل الجمعة في حال الحرج او الضرر إمّا حرام وامّا مكروه واما مباح وإمّا مستحبّ ، وهذا امر واضح ، ولكن في جعل الحكم الظاهري لا مانع من ان يعتبر الشارع المقدس غسل الجمعة مثلا في حال الحرج او الضرر بالنسبة للشاك مطلوبا بعد رفع وجوبه بأدلة رفع الحرج والضرر ، ولو من باب ان رفع الحرج امتناني وهو يقتضي رفع الالزام فقط لا رفع مطلق المطلوبية ...

١٧٦

وأمّا في باب الموضوعات فالاعتراض (١) ينشأ من أن الاثر الشرعي مترتب على أفراد الجامع لا على الجامع بعنوانه فلا يترتّب على استصحابه أثر.

والجواب (٢) انه إن اريد ان الحكم الشرعي في لسان دليله مترتّب على [أحد] العنوانين التفصيليين للفردين (٣) ، فيرد عليه : انّا نفرض الحكم فيما إذا رتّب في لسان الدليل على عنوان الجامع بين الفردين كحرمة المسّ المرتّبة على جامع الحدث ، وإن سلّم ترتب الحكم في دليله على الجامع وادّعي ان الجامع انما يؤخذ موضوعا بما هو معبّر عن الخارج ـ لا بما هو مفهوم ذهني ـ فلا بد من اجراء الاستصحاب فيما اخذ الجامع معبّرا عنه ومرآة له وهو الخارج وليس في الخارج إلّا الفرد (٤) ،

__________________

(١) اي فالاعتراض ينشأ من ان الاثر الشرعي كحرمة مسّ المصحف مترتب على الحدث الاكبر كالجنابة مثلا او على الحدث الاصغر لا على الجامع بين الحدثين الاكبر والاصغر ، فان لم تترتب الحرمة على استصحاب كلّي الحدث فلا يجري اذن استصحاب كلّي الحدث.

(٢) يريد ان يقول بانه قد تترتب الآثار على خصوص الجامع كجامع الحدث الذي تترتب عليه حرمة مسّ المصحف ، فنستصحب هذا الجامع ، ولا فرق من هذه الناحية بين هذا الاستصحاب وبين استصحاب خصوص الحدث الاصغر مثلا.

(٣) كما تترتب حرمة المكث في المسجد على الحدث الأكبر ، دون الحدث الاصغر.

(٤) فان ما يسبّب حرمة مسّ المصحف ليس كلّي الحدث ـ كمفهوم ذهني جامع بين الحدثين ـ وانما هو السبب الخارجي وهو امّا الحدث الاصغر واما الحدث الاكبر فما ينبغي ان يستصحب هو هذا السبب الخارجي

١٧٧

فيرد عليه : (١) ان موضوع الحكم وان كان هو الجامع والمفهوم بما هو مرآة للخارج لا باعتباره امرا ذهنيا إلّا ان الاستصحاب يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج ايضا ، ولا معنى لجريانه في الخارج ابتداء بلا توسط عنوان من العناوين ، لان الاستصحاب حكم شرعي ولا بدّ ان ينصبّ التعبّد فيه على عنوان ، وكما ان العنوان التفصيلي يجري فيه الاستصحاب بما هو مرآة للخارج (٢) كذلك العنوان الاجمالي الكلّي (٣).

__________________

والحقيقي لحرمة مسّ المصحف وهو مثلا الحدث الاصغر لا الجامع الذهني بين الحدثين.

(١) أي فيرد عليه ان قوله ـ بأنه قد يترتّب الحكم على العنوان بما هو معبّر عما في الخارج فيكون المستصحب هو الفرد الخارجي لا الجامع ـ غير صحيح لانّ جميع موضوعات الاحكام ـ ولو كان الموضوع هو الحدث الاصغر دون جامع الحدث ـ هي كليّة منظورا اليها بالحمل الشائع الصناعي أي منظورا اليها بما هي مرآة تحكي عن معنوناتها الخارجيّة ، ولا يمكن أن تصير جزئيّة ، فالشرط في قول الشارع «اذا احدثت بالحدث الاصغر او اذا نمت فتوضّأ» كلّي لانه مفهوم ذهني ، وكل مفهوم ذهني ـ حتى وان لم يكن له الّا فرد واحد في الخارج ـ هو كلّي ، والموضوع في قولنا «زيد طويل» هو كلّي حتى وان لم يكن يوجد له في الخارج الّا مصداق واحد ، ولا يوجد شرط أو موضوع في قضيّة الّا وهو كلّي والسبب في ذلك ان النسبة في القضايا هي ذهنيّة فيلزم أن يكون طرفاها أيضا ذهنيّين.

(٢) كعنوان الحدث الاصغر المنظور إليه في الشريعة كمرآة معبّرة عن الحدث الاصغر الخارجي.

(٣) وهو عنوان الحدث المنظور إليه كمرآة تعبّر عن بعض مصاديق

١٧٨

وبما ذكرناه (١) ظهر الفارق الحقيقي بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي ، مع ان التوجّه في كل منهما إلى اثبات واقع خارجي واحد حيث إن الكلّي (٢) موجود بعين وجود الفرد ، وهذا الفارق هو ان الاستصحاب باعتباره حكما منجزا وموصلا للواقع فهو انما يتعلّق به (٣) بتوسط عنوان من عناوينه وصورة من صوره ، فان كان مصبّ التعبد هو الواقع المرئي بعنوان تفصيلي مشير إليه فهذا استصحاب الفرد ، وان كان مصبّه الواقع المرئي بعنوان جامع مشير إليه (٤) فهذا هو استصحاب الكلّي

__________________

الحدث ، فانه يمكن استصحاب عنوان «الحدث» المنظور إليه بنحو المرآتية.

(ومن هنا) يتّضح الفرق بين عنوان الجامع كمفهوم ذهني ومثاله إذا احدثت ـ اي مطلق الحدث الاعم من الاكبر والاصغر ـ فلا تمسّ المصحف ، وعنوان الحدث المنظور اليه كمرآة تعبّر عن بعض مصاديقها كما لو قلت «انا محدث» ومنظورك انك مثلا نمت فاحدثت بالحدث الاصغر ، فموضوع الحكم في الاوّل هو عنوان «الحدث» وفي الثاني هو خصوص احد فرديه.

(١) اي وبما ذكرناه من ان الاستصحاب كما يجري في العنوان التفصيلي ـ كما في استصحاب الحدث الاصغر ـ كذلك يجري في العنوان الاجمالي الكلي المأخوذ بنحو المرآة الى افراده الخارجية ـ كما في استصحاب الحدث المنظور اليه كمرآة إلى افراده الخارجية ـ.

(٢) كالانسانية فانها كلّي طبيعي موجود في جميع افراد الانسان.

(٣) أي بمتعلقه كالطهارة في استصحاب الطهارة ، لانّ الاستصحاب امر ذهني فيجب ان يكون المستصحب امرا ذهنيا أيضا.

(٤) اي إلى الواقع المرئي اي الى الافراد الخارجية.

١٧٩

على الرغم من وحدة الواقع المشار إليه بكلا العنوانين ، والذي يحدد اجراء الاستصحاب بهذا النحو او بذاك هو كيفية اخذ الاثر الشرعي في لسان دليله (١).

وعلى هذا الضوء يتّضح (٢) ان التفرقة بين استصحاب الفرد

__________________

(١) فقد يؤخذ الواقع الخارجي في موضوع الاستصحاب كما في «إذا شككت في طروء نجاسة على ثوبك هذا فاستصحب طهارته» وقد يؤخذ عنوان كلّي كما في «إذا شككت في طروء رافع للحالة السابقة فاستصحب الحالة السابقة».

(٢) بيان المطلب : انه قد يقال ان هذه التفرقة بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلي الطبيعي تتوقّف على دعوى الرجل الهمداني الذي التقى به الشيخ الرئيس في همدان ونقل ـ اي الشيخ الرئيس ـ عنه بانه كان يظن ان الكلّي الطبيعي موجود في الخارج في عالم كعالم المثال مثلا فهو هناك مطابق لافراده هنا ومتعدّد بعددهم وليس موجودا في افراده لأن موطنه مثلا في عالم المثال ، فعلى مبنى الرجل الهمداني يمكن استصحاب الكلّي الطبيعي لان الكلي عنده موجود خارجي لا موجود ذهني ، (فاجاب) السيد الماتن (قدس‌سره) بانّه حتّى على مبنى ان الكلي الطبيعي موجود في الذهن ـ لا انه موجود خارجي في عالم المثال ـ يمكن تصوّر الكلي الطبيعي بنحو المرآة الى افراده واستصحابه وذلك لاتحاده مع افراده حقيقة وبالحمل الشائع الصناعي(*).

__________________

(*) نظرة الى مسلك الرجل الهمداني : قال الرجل الهمداني ((إنّ الكلّي الطبيعي موجود واحد في الخارج في عالم كعالم المثال مثلا فهو هناك مطابق لافراده هنا ومتعدّد بعددهم وليس موجودا في أفراده لانّ موطن الكلّي الطبيعي هو في عالم كعالم المثال ، والطبيعي ـ كطبيعة الانسان مثلا ـ هو واحد

١٨٠