دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

الفقير بدون دخالة اي قيد ، غير ان المخصّص حجّة لاثبات القيديّة بعدم ارتكاب الكبيرة ، فيعود حكم العام بعد تحكيم القرينة وجوبا مقيّدا بعدم ارتكاب الكبيرة ، ولا موجب لتقيّده بعدم التسمية باسم الفاسق ، او بعدم ارتكاب الصغيرة ، أمّا الاوّل فللقطع بعدم قيديّته ، وامّا الثاني فلعدم احراز دلالة المخصص على ذلك (١) ، وعليه فيثبت بالعام بعد التخصيص وجوب الاكرام لكل فقير منوطا (٢) بعدم ارتكاب الكبيرة ، وهذا الوجوب المنوط نثبته في مرتكب الصغيرة بلا محذور اصلا ، ويسمّى ذلك بالتمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصّص (*).

__________________

(١) أو قل انّ عدم تنجّز تكليف علينا بحكم عدم وجوده ، فلو لم تكن تدري بوجوب القنوت في الصلاة ـ مثلا ـ رغم الفحص فلك ان تجري قاعدة البراءة ، وهنا ايضا هكذا فان لم تكن تدري بشمول مفهوم الفاسق لمرتكبي الصغائر ايضا فلك ان تأخذ بالقدر المتيقّن ولا يكون الباقي منجزا عليك بل يكون بحكم العدم ، ولا موجب او قل لا دليل لدينا لتقيّد الفقراء بعدم ارتكابهم للصغائر ، فيتعيّن الرجوع فيهم الى العام.

(٢) حال ل «وجوب».

__________________

(*) (نظرة إلى بحث التمسك بالعام في الشبهتين المفهومية والمصداقية)

الحقّ انه لا يصحّ التمسك بالعام مطلقا ـ اي سواء كانت الشبهة مفهومية او مصداقية ، وسواء كان الخاص متصلا او منفصلا ـ وذلك إذا كان الدوران في المخصّص بين الاقلّ والاكثر ، وامّا فيما إذا كان دوران معنى اللفظ المجمل بين المتباينين فكلام آخر يأتي في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى.

٢٨١

__________________

بيان هذا البحث يظهر في التفصيلات التالية :

١. أمّا في الشبهة المفهومية وكون المخصّص منفصلا وكان المجمل دائرا بين الاقل والاكثر فتارة يكون المخصّص نافيا للتكليف الذي ورد في العام ، وتارة يكون معيّنا لتكليف معيّن ، هذا التكليف المعيّن تارة يكون الزاميا وتارة لا يكون كذلك ، فهنا ثلاث صور :

. امّا الصورة الاولى ، فمثالها لو قال المولى ((اكرم العلماء)) ثم قال بنحو الانفصال ((لا يجب اكرام فسّاق العلماء)) وشككنا في معنى الفسق فهل يعني ارتكاب الكبائر فقط ، ام يشمل ارتكاب الصغائر أيضا ، ففي هذه الحالة لا يصحّ التمسّك بالعام لاثبات وجوب اكرام مرتكبي الصغائر ، وذلك يظهر من وجهين :

الوجه الاوّل : من طريق عدم امكان احراز العلّة التامّة للحكم المشكوك ، وبيانه ان الملاك والعلّة التامّة للحكم قد يعرف كما إذا ورد ((اكرم العلماء)) وورد ((لا يجب اكرام فساق العلماء)) فانّ العالمية هنا هي المقتضي لوجوب الاكرام ، والفسق هو المانع من ان يعمل المقتضي عمله ، وعليه فشمول المقتضي للقدر الزائد المشكوك من معنى الفاسق [وهم مثلا مرتكبوا الصغائر] واضح لكونهم علماء بحسب الفرض ، ولكن اثبات عدم المانع [وهو عدم فسقهم مثلا] لا يمكن ، وذلك لأنّ الجهل انما يرفع منجّزية الاحكام ولا يرفع فعليّتها ١ بمعنى ان الجهل لا يرفع. لا وجدانا ولا تعبّدا. احتمال وجود المانع [وهو الفسق كما قلنا] في ملاك الحكم المشكوك ، واقصى تأثير للجهل هنا هو انّه يرفع احتمال وجوب اكرام الفاسق في مقام العمل والاثبات ، ولا يرفع المانعية من الملاك أصلا ، ومع احتمال وجود المانع لا يثبت وجود العلّة التامّة للحكم في القدر المشكوك.

__________________

(١) على ما بينّا ذلك في البراءتين العقلية والنقلية ، وبيانه بنحو الاشارة فقط هو ان العلم. عادة. يكون كاشفا وطريقا لاثبات متعلّقه ولا يكون له دخل في ملاكات الاحكام ، فإذا تمّت ملاكات الاحكام صارت هذه الاحكام فعلية تكوينا ولا دخل للجهل بذلك في رفع او اثبات الفعلية ، وانما العلم والجهل يؤثّر ان في اثبات منجزية الحكم ورفعها ليس إلّا (وراجع ايضا ان شئت مسألة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل).

٢٨٢

__________________

وتعبيرنا بالمانع هنا كان جريا على ما اعتاد العلماء من التعبير به ، وإن كنّا نرى انّ الاولى التعبير بالمقتضي المضادّ في مرحلة الملاك ، فانّ الفسق هنا مثلا يقتضي حكما آخر فقد يقتضي تحريم الاكرام او كراهيّته مثلا ولا يمكن ان يكون لا اقتضائيا وإلّا لما منع. و [من هنا] تعرف عدم وجود فرق بين ان يكون المخصّص واردا بلسان الترخيص او بلسان التشخيص ، بمعنى انّه حينئذ لا يفرّق بين ان يكون المخصّص بلسان ((لا يجب ..)) او بلسان ((يحرم)) او ((يكره)) ونحو ذلك.

[وعليه] فلا يمكن في هذه الحالات ان نثبت وحدة حكم القدر المشكوك مع حكم العام.

[وبما] انّ الكلام في المخصّص المتصل هو نفس الكلام في المنفصل بل هو اولى من المنفصل بهذا الكلام فلا نعيد.

مثال المتصل : ورد في صحيح ان بزيع عن الرضا عليه‌السلام ((ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا ان يتغيّر ريحه او طعمه فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لانّ له مادّة)) ، فان شككنا في المراد من التغير هل انّه التغير الحسّي فقط او ما يشمل التقديري ايضا ، ففي هذه الحالة لا يمكن لنا اثبات وحدة حكم الماء المتغيّر بالتغير التقديري مع حكم العام ، وانما يتعيّن علينا هنا ان نرجع إلى الاصول العملية وهو هنا قاعدة الطهارة.

الوجه الثاني : وهو من طريق تطابق الدلالات الثلاث ، بيان ذلك في المخصص المنفصل : انّ كلام المشرّع الحكيم رغم تماميّته لا ينعقد له بالنسبة إلى غير المخاطبين دلالة جدّية نهائية على ما عوّدنا الشارع المقدّس على ذلك (١) إلّا بعد الفحص بخلاف كلام بقية

__________________

(١) وقد يكون من أسباب ذلك عدم الحكمة في ذكر سائر القيود مع كل حكم ، فمن غير الحكمة أن كلّما يذكر الشارع المقدّس حكما ان يقول إلّا ان يكون فيه ضرر او حرج او كذا او كذا ، ولزوم نظر المكلّف إلى جميع الادلّة قبل ان يحكم والذي يقلّص عدد الواصلين إلى معرفة المراد الجدّي النهائي ممّا يعيّن للمسلمين أئمة ومراجع فتتوحّد امورهم وقضاياهم الدينية تحت راية واحدة أو رايات قليلة وهو بلا شكّ اولى من تشتت المسلمين وعدم اتحادهم .. إلى ما هنالك من وجوه تعرف للمتأمّل.

٢٨٣

__________________

العقلاء الذي تنعقد له الجديّة النهائيّة بمجرد تماميّة كلامهم ٢ ، بمعنى ان الذي ينعقد من الكلام المنفصل للشارع المقدّس ـ قبل الفحص ـ هو المدلول الجدّي الجزئي ، ولا تنعقد الدلالة الجدية النهائية إلّا بعد الفحص ، وعليه فإذا وجدنا بالفحص قرينة منفصلة فيها شبهة مفهومية كما في معنى الفسق مثلا ، فهل يجب اكرام القدر المشكوك ايضا أو لا؟

حتما لا ، وذلك لأنّ هذا القدر المشكوك [وهو في المثال مرتكبوا الصغائر] غير مشمول قبل الفحص للمدلول الجدّي النهائي للعام على ما ذكرنا ، وامّا بعد الفحص فقد عرفنا المراد الجدّي النهائي بوجوب اكرام القدر المتيقّن من العدول وعدم وجوب اكرام القدر المتيقّن من الفسّاق ، واما القدر المشكوك فلم نعرف المراد الجدّي النهائي للشارع المقدّس بالنسبة إليه ، فيرجع الى الاصول العملية فيه.

[فإن قلت] إنّ العام شامل لهذا القدر المشكوك بمداليله التصورية والتصديقية الاستعمالية والتصديقيّة الجدّية الجزئية ، وامّا شمول المخصّص لمرتكبي الصغائر فغير معلوم على مستوى الدلالة التصورية فضلا عن التصديقية ، اي انّ دخول مرتكبي الصغائر من العلماء في المدلول التصوّري للعام والمدلول الاستعمالي واضح ، والاصل العقلائي ثابت وواضح في لزوم التطابق بين الدلالات الثلاث لظهور حال المتكلم في انه يريد جدا معاني

__________________

(٢) اوضحنا هذا الامر في محلّه وهنا نشير إليه باختصار فنقول :

ان الشارع المقدّس عند ما يعطي الاحكام إلى السائلين فانما يبيّن لهم من حدودها ما تلائمه الحكمة من مقدار حاجة السائل ومقدار تحمّله من الجواب ونحو ذلك ولذلك فكلام الشارع المقدّس يكون حجّة بالنسبة إلى خصوص المخاطب ، وأمّا بالنسبة إلى غيره فغير معلوم ، لما عوّدنا عليه الشارع من القرائن المنفصلة ، ولذلك فالجديّة انما يصحّ ادّعاؤها بمقدار ما بيّنه الامام فقط من حدود لا مطلقا ، بمعنى أنّا لو احتملنا وجود قرائن منفصلة اخرى تبيّن بقية حدود الحكم فانّه يجب علينا الفحص ، وهذه الكلمات المعروفة عند العلماء هي في الواقع ناتجة عن ادراكهم لاحتمال عدم جديّة الامام في تبيين كل حدود الحكم ، اي عدم الجدية النهائية التي تترتب عليها الحجيّة ، ومن الواضح ان موضوع حجيّة الظهور هو هذا المدلول الجدّي النهائي او قل المراد التام للشارع المقدّس.

(ولما) ذكرناه ترى كلّ او جلّ علمائنا لا يفتون بمجرّد رؤية رواية واحدة صحيحة ، انما يفحصون لمعرفة المراد التام للشارع المقدّس.

٢٨٤

__________________

ما استعمله من الفاظ فنثبت بهذا الظهور العقلائي ارادة القدر المشكوك بنحو الجديّة التامّة ، وهو المطلوب.

[قلت] هذه الاصالة انما تكون حجة فيما إذا كانت واضحة عند العقلاء وذلك كما لو ورد فقط ((اكرم الفقراء)) ورغم الفحص لم نجد قرينة توضّح الحكم اكثر ، ففي هذه الحالة نقول انّ الشارع المقدّس يريد جميع العلماء جدّا ، إذ لو اراد بعضهم لأوضح ذلك ، وامّا هنا فقد ورد معارض وفيه لا تكرم فسّاق الفقراء ـ حسب فرض المثال ـ ولم يقل مثلا لا تكرم معلومي الفسق من الفقراء ، وهذا يعني ان هذا التخصيص ناظر إلى جميع الفسّاق لا خصوص القدر المتيقّن منهم ، فإذا عرفت هذا فاعلم ان التخصيصات المنفصلة هي متصلة في مرحلة الدلالة الجديّة التامّة [التي هي موضوع حجيّة الظهور] وذلك لانّها تحكي عن جعل واحد في الواقع ، مما يعني انه بعد ايجادنا للمخصّص نعلم ان الشارع المقدّس لم يكن في مرحلة بيان جميع حدود موضوع هذا الحكم وهي مرحلة الجديّة التامّة ، فمع الأخذ بعين الاعتبار هذا الامر هل ترى العقلاء يأخذون باصالة التطابق بين الدلالات الثلاث في هذه الحالة ايضا بعد ان كان الاخذ باصالة التطابق امرا فطريّا ارتكازيا؟!

[مع] انّه يكفينا مجرد تردّدهم كي لا يصحّ الاخذ بهذه الاصالة في مورد التردّد ، فانّ العقلاء كما هو معلوم ليس عندهم تعبّديات اصلا.

. فإذا بان ما نقول تعرف عدم الفرق بين ان يكون التخصيص منفصلا او متّصلا ١ وبين ان يكون الحكم الوارد في العام او الخاص إلزاميا او غير الزامي. ففي مثال ماء البئر السابق إذا شككنا في المراد الجدي من التغير هل انّه التغير الظاهر او التغير التقديري فهنا لم تنعقد الدلالة التصورية للعام فضلا عن التصديقية حتّى يقال يصحّ التمسك بالعام في هذه الشبهة المفهومية ، وعدم صحّة التمسك به هنا أولى من حال انفصال القرينة ، لعدم وجود وجه هنا لانعقاد دلالة جديّة للعام في العموم كما هو واضح ، وقد بينّا هذا الامر

__________________

(١) ويكون الفرق فقط في مرحلة التخصيص ، ففي حالة الانفصال يكون التخصيص في مرحلة الجديّة التامّة والتي نصل إليها ونستكشف الجدية فيها بعد الفحص ، وفي حالة الاتصال يكون في مرحلة الدلالة التصوّرية.

٢٨٥

__________________

سابقا في بحث التقييد ، وانما يرجع في قضيّة التغير التقديري إلى قاعدة الطهارة.

(مثال فقهي يناسب المقام) : بعد ما عرفت من عدم صحّة التمسك بالعام في الشبهات المفهومية يتّضح عندك الردّ على من تمسّك في بعض الفروع الفقهية ـ كالخمس مثلا ـ بالعام في القدر المشكوك المجمل من معنى المئونة مثلا ، فقالوا نتمسّك بقوله تعالى (واعلموا أنّما غنمتم مّن شىء فأنّ لله خمسه) وبموثّقة سماعة قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الخمس ، فقال عليه‌السلام : «في كلّ ما أفاد الناس من قليل او كثير» ، فاوجبوا على الشخص دفع خمس ما يشك في كونه مئونة رجوعا إلى هذين العامّين! [فانّه] يكفينا في ردّ التمسّك بهذين العامّين ان الآية الكريمة انما هي في مقام بيان اصل وجوب الخمس في الغنيمة ، والموثقة في مقام بيان مورد الخمس وانّه في كل ما افاد الناس اي سواء حصل من كسب او جائزة او غير ذلك ، وليستا في مقام بيان تمام حدود الحكم حتّى نتمسك بهما في سائر مواضع الشك في صدق المئونة ، ولذلك يتعيّن ان نرجع إلى البراءة في حالات الشك في صدق المئونة.

[مثال آخر] : عندنا عام يقول ((الربا حرام)) وخاص ـ او قل حاكم ـ يقول ((لا ربا بين الوالد وولده)) ، ونفرض اننا شككنا في شمول الولد للبنت ، فهل يجوز الربا بين الوالد وابنته أم لا؟ والجواب انه بناء على ما اوضحناه يلزم القول بجواز الربا بينهما رجوعا الى قاعدة البراءة.

٢ ـ وامّا في الشبهة المفهومية وكون معنى المجمل الوارد في المخصّص مردّدا بين المتباينين فانّها تجري قواعد العلم الاجمالي. ففي مثال ((اكرم كل فقير)) و ((لا يجب اكرام زيد الفقير)) وتردّدنا في المراد من زيد الفقير بين اكثر من واحد ، فانّه في هذه الحالة يجب اكرام الافراد المحتملين على التفصيل الذي ذكرناه في ابحاث العلم الاجمالي من انّه إذا كان بعض الزيود خارجين عن محلّ الابتلاء اما لتعسّر الوصول إليهم واما لموتهم فانه في هذه الحالة لا يجب اكرام البقية ، وذلك لما ذكرناه من ان العلّة في تنجيز العلم الاجمالي هو الفرد الواقعي الموجود ضمن الافراد ، فمع عدم العلم بوجوده ضمن الافراد الواقعة تحت

٢٨٦

__________________

ابتلائنا لا يبقى دليل ـ لا عقلي ولا شرعي ولا عقلائي ـ على وجوب اكرام الباقي وتجري اصالة البراءة بلا مانع ... إلى ما هنالك من تفصيلات ذكرناها في محلها.

[هذا] إذا كان الحكم في المخصّص واردا بلسان الترخيص ، وامّا إذا كان واردا بلسان الالزام ، كما إذا كان بلسان ((يحرم اكرام زيد الفقير)) فهنا سوف تحصل حالة دوران بين المحذورين ، وذكرناها بالتفصيل في اواخر بحث العلم الاجمالي من الجزء الثالث اسفل ص ٢٨٣ ، وقلنا هناك انّ ما ينبغي تقديمه ومراعاته هو الجانب الاهم أو محتمل الاهمية ، فان لم يتعيّن ذلك قدّمنا جانب الحرمة لانّه في هذه الحالة فقط يحكم العقل بانّ دفع المفسدة اولى من جلب المصلحة.

(والنتيجة) لحدّ الآن عدم صحّة التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية فيما لو دار أمر المجمل الوارد في المخصّص بين الاقل والاكثر ، وأمّا فيما لو دار بين المتباينين فيلزم مراعات قوانين العلم الاجمالي.

(ملاحظة)

ينبغي ان يعلم أنّ مرادنا من دوران معنى المجمل بين الأقل والاكثر والمتباينين هو بحسب المصداق لا بحسب المفهوم ، وهو واضح بادنى تأمّل.

مثال ذلك : قد يكون الدوران بين المتباينين مفهوما ولكن بينهما نسبة العموم من وجه مصداقا وبلحاظ الخارج ، كما لو ورد ((تصدّق على المؤمنين)) و ((لا يجب ان تتصدّق على موالي زيد من المؤمنين)) ، وتردّدنا في معنى الموالي بين الاقارب والعبيد ، ولكنهما خارجا يلتقيان مثلا في اقاربه من العبيد ، ففي هذه الحالة يجب اكرام الاقارب والعبيد من موالي زيد للعلم الاجمالي بوجوب اكرام احد الصنفين ، وليس هذا من باب التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية.

مثال آخر : قد يكون الدوران بين المتباينين مفهوما ايضا ولكن النسبة بينهما في الخارج العموم المطلق ، كما لو ورد ((اكرم العلماء)) وورد مخصّص فيه مجمل مردّد بين الكفّار وغير المختونين يرفع عنّا وجوب اكرامهم ، فامّا غير المختونين فانه لا يجب اكرامهم

٢٨٧

__________________

حتما لانهم القدر المتيقّن ، وامّا المختونون من الكفّار فيحصل فيهم شك ١ ، ولا يرجع فيهم إلى العام فيجري في وجوب اكرامهم اصالة البراءة. والنتيجة أنّ العبرة في دوران المجمل هو بلحاظ الخارج لا بلحاظ المفهوم.

٢ ـ وأمّا في الشبهة المصداقيّة فالبحث فيها يقع في التفصيلات التالية : حالة ما إذا كان المخصّص لفظيا وكان المجمل الوارد فيه مردّدا بين الاقل والاكثر ، مثل ما لو ورد ((اكرم العلماء)) وورد ـ بنحو الاتصال او الانفصال ـ ((لا تكرم فسّاق العلماء)) ، وفرضنا انّه لا شبهة لدينا في معنى الفاسق ، وانّما الشبهة في بعض العلماء الذين نشك في فسقهم بعد خروج معلومي الفسق [وهم الاقل] من تحت حكم وجوب الاكرام ، ففي هذه الحالة جهلنا بفسقهم لا يرفع احتمال فسقهم وانما يرفع منجزية الحكم لا اكثر ، ولا يكفي وجود المقتضي وهي العالمية في اثبات الحكم ، لكون العلّة التامّة مركبة هنا من مقتضي وعدم مانع ، [هذا] بلحاظ طريق الملاك ، و [أمّا] بلحاظ طريق الدلالات الثلاث فانّ الصحيح انّ العام بعد التخصيص يتعنون بنقيض عنوان المخصّص ـ كما يقول المحقق النائيني [قدس‌سره] وتبعه على ذلك السيد الشهيد ـ إلّا انّه في حال انفصال القرينة يتعنون العام بنقيض عنوان المخصّص في مرحلة الدلالة الجديّة التامّة ، وامّا في حالة اتصالها فيتعنون بنقيضه في مرحلة الدلالة التصورية ، وقد اوضحنا هذا الامر في ابحاث التعارض [راجع مثلا النظرية العامة للجمع العرفي وبحث التقييد] ، فلا إشكال في مرحلة الجعل هذا أولا ، وثانيا ان المشكلة هي في مرحلة الفعلية والمجعول لفرض شكّنا في تمامية شرائط فعلية الحكم ، بخلاف الشبهة المفهومية فان الشك فيها كان في مرحلة الجعل ، ومن الواضح أننا ـ بعد هاتين المقدّمتين ـ نشك في فعلية وجوب الاكرام والاصل يرفع منجّزيّته.

اذن سواء كان المخصّص متصلا او منفصلا لا يصحّ التمسّك بعموم العام في الشبهة المصداقية وذلك لعدم علمنا بتمامية شرائط فعليّة الحكم ، وامّا في الشبهة المفهومية فقد عرفت ان المشكلة هي في اصل شمول العام في مرحلة الجعل للقدر المشكوك.

__________________

(١) بناء على فرض عدم وجود مسلمين غير مختونين مثلا ..

٢٨٨

__________________

وامّا إذا كان المخصّص لبّيا وعلمنا من الخارج به كعلمنا من خلال آيات عديدة ذامّة للفاسقين ان الله تعالى لا يحبّ اكرامهم فانه في هذه الحالة يستكشف العبد ان المولى لم يكن بصدد بيان تمام حدود موضوع الحكم من خلال هذا اللفظ ، او قل ان العبد يستكشف ان المولى لم يرد ـ بالارادة الجدّية التامّة ـ ما افاده بهذا اللفظ ، وانما يريد ما يعرفه العبد من مجموع اللفظ مع القرائن الخارجية ، ولذلك فعلى العبد في هذه الحالة إذا قال المولى مثلا ((اكرم جيراني)) و ((العن بني فلان من جيراني)) ان يخصّص الاكرام بمن يحرز عدم عدواته مع مولاه ، وان يلعن خصوص من يحرز كونه منهم ، ويتّضح هذا الكلام إذا امر المولى عبده باعطاء جيرانه هدايا خطيرة كسكك ذهبية.

وامّا إن لم نعلم بالتخصيص من الخارج فانّه في هذه الحالة يجب اتباع عموم العام ، لاستكشاف المراد الجدّي التام حينئذ من كلام المولى ، وهذا خارج عن محلّ كلامنا لانه رغم الفحص لم نجد تخصيصا.

. وامّا إذا كان المجمل الوارد في المخصّص مردّدا بين متباينين فالمتّبع ايضا قواعد العلم الاجمالي ، كما كان الامر كذلك في الشبهة المفهومية ، فلو ورد مثلا ((اكرم العلماء)) و ((لا يجب ان تكرم زيدا الفلاني منهم)) بنحو الاتصال او الانفصال ، وتردّدنا في عالم معيّن ـ لبعده عنّا مثلا ـ في انّه هذا هو زيد الفلاني المستثنى الذي نعرفه او هو زيد آخر ، فهنا يجب علينا اكرامه واكرام الآخر للعلم الاجمالي بوجوب اكرام احدهما ، وامّا لو كان المخصّص بلسان ((يحرم ان تكرم زيدا الفلاني منهم)) فهنا يحصل دوران بين المحذورين فيقدّم الاهم من الحكمين او محتمل الاهمية وإلّا فمع عدم ترجيح احدهما يراعى جانب الحرمة لأنّ العقل يحكم في هذه الحالة ـ كما قلنا في الحالة السابقة ـ بانّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فلا نكرمهما.

(والنتيجة النهائية) أنّه لا يصحّ التمسّك بالعام في الشبهتين المفهومية والمصداقيّة مطلقا ، والله هو العالم.

٢٨٩

٥ ـ تطبيقات للجمع العرفي :

هناك حالات ادّعي فيها تطبيق نظرية الجمع العرفي ووقع البحث في صحّة ذلك وعدمه نذكر فيما يلي جملة منها :

١. إذا وردت جملتان شرطيّتان لكل منهما شرط خاص ولهما جزاء واحد من قبيل «إذا خفي الاذان فقصّر» و «إذا خفيت الجدران فقصّر» وقع التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الاخرى (١) ، وهنا قد يقال بانّ منطوق كلّ منهما يقدّم على مفهوم الاخرى وينتج ان للتقصير علّتين مستقلّتين ، إمّا لان دلالة المنطوق دائما اظهر من دلالة المفهوم ، وإمّا بدعوى ان المنطوق في المقام اخصّ (٢) فيقدّم تخصيصا ، لأنّ المفهوم في كل جملة يدل على انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها ، وهذا مطلق لحالتي وجود شرط الجملة الاخرى وعدم وجوده ، والمنطوق في الجملة الاخرى يدلّ على ثبوت الجزاء في حالة وجود شرطها فيكون مخصّصا.

ونلاحظ على ذلك منع الاظهرية ومنع الاخصيّة :

أمّا الاوّل : فلأن الدلالة على المفهوم مردّها إلى دلالة المنطوق على الخصوصية التي تستتبع الانتفاء عند الانتفاء ، فالتعارض دائما بين منطوقين (٣).

__________________

(١) يعني يقع تعارض بين «إذا خفي الاذان فقصّر» و «إن لم تخف الجدران فلا تقصّر سواء خفي الاذان ام لم يخف».

(٢) تظهر اخصيّة «خفاء الاذان» في مثال «إذا خفي الاذان فقصّر» على «سواء خفي الاذان او لم يخف» في المثال السابق (حاشية ١) بوضوح.

(٣) بمعنى انه اذا فهم العرف من الجملة الشرطية انتفاء الجزاء (الحكم)

٢٩٠

وامّا الثاني : فلأننا لا بدّ ان نلتزم إما بافتراض الشرطين علتين مستقلّتين للجزاء ، وهذا يعني تقييد المفهوم (١) ، وإمّا بافتراض ان مجموع الشرطين علّة واحدة مستقلّة ، وهذا يعني الحفاظ على اطلاق المفهوم وتقييد المنطوق في كل من الشرطيتين بانضمام شرط الاخرى الى شرطها ، فالتعارض اذن بين اطلاق المنطوق واطلاق المفهوم ، والنسبة بينهما العموم من وجه (٢) فالصحيح انهما يتعارضان ويتساقطان ولا جمع عرفي.

__________________

عند انتفاء الشرط (الموضوع) فسوف يكون المفهوم ظلّا ووجها آخر للمنطوق بل هو هو ، ولذلك قال «فالتعارض دائما بين منطوقين» ، وبتعبير آخر ان التعارض بين منطوق جملة ومفهوم اخرى يكشف عن وجود تعارض بين المنطوقين ، وذلك لان المفهوم ناشئ من المنطوق.

(١) بمنطوق الجملة الاخرى ، كأن يقال : اذا لم يخف الأذان فلا تقصّر الّا اذا خفيت الجدران.

(٢) وذلك لأنه بناء على اطلاق المنطوقين يكون المعنى «اذا خفي الأذان او خفيت الجدران فقصّر» ، وبناء على اطلاق المفهومين يكون المعنى «اذا خفي الأذان والجدران فقصّر» ومفهوما «اذا لم يخف الأذان والجدران معا فلا تقصّر».

ولك أن تقول : لو فرضنا أنه في الكيلومتر الاوّل لا يخفى الأذان ولا الجدران ، وفي الكيلومتر الثاني يخفى الأذان فقط ، وفي الكيلومتر الثالث يخفيان معا ، فبناء على اطلاق المنطوقين ـ أي فهم الجملتين بنحو «اذا خفي الأذان أو خفيت الجدران فقصّر» ـ علينا أن نقصّر في الكيلومتر الثاني ، وبناء على الجمع بينهما بالواو علينا أن نتمّ الصلاة ، فما ذا نفعل هنا؟

٢٩١

٢. اذا وردت جملتان شرطيّتان متحدتان جزاء ومختلفتان شرطا وثبت بالدليل ان كلّا من الشرطين علّة تامّة ووجد الشرطان معا فهل يتعدّد الحكم او لا؟ وعلى تقدير التعدّد فهل يتطلّب كل منهما امتثالا خاصّا به او لا؟ ومثاله : «اذا افطرت فاعتق» و «اذا ظاهرت فاعتق» ، والمشهور ان مقتضى ظهور الشرطية في علّية الشرط للجزاء ان يكون لكل شرط حكم مسبّب عنه ، فهناك اذن وجوبان للعتق ، وهذا ما يسمى باصالة عدم التداخل فى الاسباب ، بمعنى ان كل سبب يبقى سببا تامّا ولا يندمج السببان ويصيران سببا واحدا ، وحيث ان كل واحد من هذين الوجوبين يمثّل بعثا وتحريكا مغايرا للآخر فلا بدّ من انبعاثين وتحريكين ، وهذا ما يسمّى باصالة عدم التداخل في المسبّبات ، بمعنى ان الوجوبين المسبّبين لا يكتفى بامتثال واحد لهما.

فإن قيل : إنّ هذين الوجوبين ان كان متعلّقهما واحدا ـ وهو طبيعي العتق في المثال ـ لزم امكان الاكتفاء بعتق واحد ، وإن كان متعلّق كلّ

__________________

ورسمها باختصار :

(وكما) ترى النسبة بين الموردين نسبة العموم من وجه.

(ولك) أن تفترض النسبة بين موردي خفاء الأذان وخفاء الجدران العموم من وجه ، والتعارض في هذه الحالة اوضح.

٢٩٢

منهما حصّة من العتق غير الحصّة الاخرى (١) لزم تقييد اطلاق مادّة الامر في «أعتق» (٢) وهو خلاف الظاهر.

كان الجواب احد وجهين :

الاوّل : ان يؤخذ بالتقدير الاوّل ـ بناء على امكان اجتماع بعثين على عنوان كلّي واحد ـ ويقال ان تعدّد البعث والتحريك بنفسه يقتضي تعدّد الانبعاث والحركة وإن كان العنوان الذي انصبّ عليه البعثان واحدا.

الثاني : أن يؤخذ بالتقدير الثاني ـ بناء على عدم إمكان اجتماع بعثين على عنوان واحد ـ ويلتزم بتقييد إطلاق المادّة (٣) ، والقرينة على التقييد نفس ظهور الجملتين في تعدّد الوجوب (٤) مع عدم امكان اجتماعهما على عنوان واحد بحسب الفرض ، وهذا نحو من الجمع العرفي (٥).

__________________

(١) أو قل «وان كان متعلّقهما متعددا لزم ...».

(٢) كأن يقول المولى مثلا ان افطرت فاعتق ، وإن ظاهرت فاعتق عتقا يغاير العتق الاوّل ، «وهو خلاف الظاهر» لان الظاهر من متعلقات الاحكام ارادة الطبيعي ، فقول المولى مثلا «صل» «صم» .. الظاهر منها إرادة طبيعي الصلاة والصيام ، ولذلك قالوا بان الاحكام تتعلّق بالطبائع او قل بالعناوين بنحو الكلّي الطبيعي ، وتعلقها بالحصص خلاف الظاهر عرفا جدّا.

(٣) كما قلنا في الحاشية السابقة.

(٤) والنتيجة تعدد متعلّقي الوجوب.

(٥) بين «ان افطرت فاعتق» و «إن ظاهرت فاعتق» ، فان الجمع العرفي بناء على هذا الفهم يقتضي ان نفسّر «فاعتق» هنا بوجوب عتق يغاير العتق

٢٩٣

٣. إذا تعارض دليل إلزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه (١) قدّم الدليل الالزامي. (وقد يقرّب) ذلك بأن الدليل الترخيصي ليس مفاده عرفا إلّا ان العنوان المأخوذ فيه لا يقتضي الالزام ، فإذا فرض عنوان آخر اعمّ منه من وجه دلّ الدليل الالزامي على اقتضائه للالزام أخذ به ، لعدم التعارض بين الدليلين ، وهذا في الحقيقة ليس من الجمع العرفي ، لأن الجمع العرفي يفترض وجود التعارض بين الدليلين قبل التعديل ، والبيان المذكور يوضّح عدم التعارض رأسا (٢).

٤. إذا تعارض اطلاق شمولي وآخر بدلي بالعموم من وجه (فإن) كان احد الدليلين دالا على الاطلاق بالوضع والاداة والآخر بقرينة الحكمة قدّم ما كان بالوضع سواء اتّصل بالاطلاق الآخر او انفصل عنه ، امّا في حالة الاتصال (٣) فلأنّه بيان للقيد (٤) فلا يسمح لقرينة الحكمة بالجريان

__________________

الآخر. (وعلى ايّ حال) فلا شك في صحّة الجواب الاول.

(١) كأن يرد مثلا «اكرم العلماء» و «لا يجب اكرام الفقراء».

(٢) بيان ذلك : انه حينما نعلم بإباحة اكرام الفقير مثلا لا يعني ذلك انه لا يمكن ان يرد على اكرام الفقير احكام الزامية ، فانه قد يرد حكم مثلا بوجوب اكرام العلماء (الذي بين عنوانهم وعنوان الفقراء عموم من وجه) وهذان الحكمان كما ترى غير متعارضين مطلقا ، فايّ تعارض في ان يكون حكم اكرام الفقراء مباحا وحكم اكرام العلماء واجبا؟! ومن الواضح انه في هذه الحالة يحكم العقلاء بوجوب اكرام العالم الفقير لعالميّته ، ولا يعارضه الحكم الاوّلي بالاباحة ، وذلك كما في سائر المباحات التي تجب بالعناوين الثانوية كالنذر.

(٣) كما لو ورد «لا تكرم ايّ مترف واكرم عالما» بنحو الاتصال.

(٤) في مرحلة الدلالة التصوّرية بمعنى انّ القرينة المتصلة تتصرّف بالعام

٢٩٤

وتكوين الاطلاق ، وامّا في حالة الانفصال (١) فللأظهريّة والقرينيّة ، (وإذا) كان كلاهما بالوضع او بقرينة الحكمة (٢) فهناك قولان : احدهما انهما متكافئان فيتساقطان معا ، والآخر تقديم الشمولي على البدلي ، ويمكن ان يفسّر ذلك بعدّة أوجه :

الاوّل : ان يقال بأقوائية الظهور الشمولي من الظهور البدلي في اطلاقين متماثلين من حيث كونهما وضعيّين او حكميّين (٣) ، وذلك لانّ

__________________

على مستوى الدلالة التصوّرية ، فمن الاصل لا ينعقد دلالة تصوّرية في وجوب الاكرام إلّا لعالم واحد على ان لا يكون مترفا.

(١) كما لو ورد «لا تكرم ايّ مترف» وورد في مقام آخر «اكرم عالما» ، ففي هذه الحالة يجمع بينهما بنحو «اكرم عالما غير مترف ، وأمّا المترف فانه يحرم اكرامه حتى ولو كان عالما». وهكذا ترى انه في مورد الالتقاء يجمع العرف بينهما بتحريم اكرام المترف العالم.

(٢) مثل «اكرم أي عالم» و «لا تكرم أيّ فقير» ، او «اكرم عالما» و «لا تكرم الفقير» بناء على دلالتها على الشمول بقرينة الحكمة.

(٣) بيان ذلك : انه لو ورد مثلا «لا تكرم الفاسق» ـ بناء على انه يدلّ على الشمول بقرينة الحكمة ـ و «اكرم فقيرا» فانّ «لا تكرم الفاسق» يدل على حرمة اكرام كل فاسق فاسق ، فهذا النهي ناظر إلى تحريم اكرام كل فاسق ، فهو اذن ناظر إلى تبيين حكم اكرام كل فاسق ، وأمّا «اكرم فقيرا» فانه ناظر إلى وجوب اكرام اي فقير من الفقراء (في دائرة وسيعة تشمل جميع فقراء العالم حتى لو كانوا فسّاقا) ، وبالتأمّل تلاحظ ان بيان اصل الحكم بتحريم اكرام الفسّاق رجلا رجلا اهم من بيان وجوب اكرام فقير في دائرة وسيعة ولو ضمن الفسّاق ، ولذلك يفهم. بعد التأمّل فيما ذكرنا. ان «اكرم فقيرا» مخصّص بغير الفسّاق ، و «لا تكرم الفاسق» لا يتخصّص ب «اكرم فقيرا». (وهكذا) الامر تماما إذا تماثل الدليلان بالعموم فلا نعيد.

٢٩٥

الشمولي يتكفّل احكاما عديدة بنحو الانحلال (١) بخلاف المطلق البدلي الذي لا يتكفّل إلّا حكما واحدا وسيع الدائرة ، والاهتمام النوعي (٢) ببيان اصل حكم برأسه أشدّ من الاهتمام ببيان حدوده ودائرته سعة وضيقا ، فيكون التعهد العرفي بعدم تخلّف بيان اصل حكم عن ارادته اقوى من التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان سعة حكم عن ارادتها ، ولما كان تقديم البدلي يستدعي التخلّف الاوّل (٣) ، وتقديم الشمولي يستدعي التخلف الثاني الاخفّ محذورا تعيّن ذلك.

__________________

(١) هذا وجه تقديم الشمولي.

(٢) أي والاهتمام ببيان حكم برأسه كالحكم بحرمة اكرام الفاسق أشد من الاهتمام ببيان حدود الفقير الذي يجب اكرامه بمقتضى قول المولى «اكرم فقيرا» ، ولذلك لو وردنا «لا تكرم الفاسق» و «اكرم فقيرا» لرأيت العرف يجمعون بينهما بنحو «اكرم فقيرا على أن لا يكون فاسقا ، أمّا الفاسق فانه يحرم اكرامه حتى ولو كان فقيرا» ، وانما يجمعون بهذه الطريقة لانّ الظهور الشمولي يعطي حكما بتحريم اكرام كل فاسق فاسق ، وأمّا الظهور البدلي فانه يعطي حكما واحدا وهو وجوب اكرام فقير واحد ، فاذا تردّدنا في حكم اكرام الفقير الفاسق يجيبنا العرف انّ حمل «اكرم فقيرا» على بيان أصل وجوب فقير واحد واهمال بيان حدود دائرة الفقير أمر عادي متعارف وهو اقلّ محذورا من حمل «لا تكرم الفاسق» على التخصيص بالفقير ، لانّ التخصيص معناه الغاء حرمة اكرام الفاسق واستبدالها بالوجوب ، وهذا امر مستهجن عرفا.

(٣) التخلّف الاوّل هو التخلّف عن التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان اصل حكم عن ارادته ، والتخلّف الثاني هو التخلّف عن التعهّد العرفي بعدم تخلّف بيان سعة حكم عن ارادتها.

٢٩٦

الثاني : انّ الامر في «اكرم فقيرا» يختص بالحصّة المقدورة عقلا وشرعا بناء على ان التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ليس معقولا (١) ، وشمول «لا تكرم الفاسق» للفقير الفاسق يجعل اكرامه غير مقدور شرعا ، فيرتفع بذلك موضوع الاطلاق البدلي ويكون الشمولي واردا عليه.

ولكن تقدّم في محلّه ان تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره معقول.

الثالث : ان خطاب «لا تكرم الفاسق» لا يعارض في الحقيقة وجوب اكرام فقير ما الذي هو مدلول خطاب «اكرم فقيرا» بل يعارض الترخيص في تطبيق الاكرام الواجب على اكرام الفقير الفاسق ، وهذا يعني ان التعارض يقوم في الواقع بين دليل الالزام في الخطاب الشمولي ودليل الترخيص في الخطاب البدلي ، وقد تقدّم انه متى ما تعارض دليل الترخيص مع دليل الالزام قدّم الثاني على الاوّل.

ونلاحظ (٢) على ذلك ان حرمة اكرام الفقير الفاسق تنافي الوجوب

__________________

(١) وهي مقالة المحقق النائيني (قدس‌سره) تقدّم بيانها في الجزء الثاني ـ من هذه الاجزاء الاربعة ـ بحث «الجامع بين المقدور وغير المقدور».

(٢) بيان ذلك : ان «اكرم فقيرا» مطلق للفقير العادل والفاسق ، هذا الاطلاق يعارض اطلاق «لا تكرم الفاسق» في «الفقير الفاسق» ، (اللهم) إلّا ان يقال كما قيل في التطبيق الثالث عند قوله «٣ ـ إذا تعارض دليل الزامي ودليل ترخيصي بالعموم من وجه قدّم الدليل الالزامي ..» بالشرح الواضح في المتن وبيّناه هناك ايضا من انه لا تعارض عرفا بين كون

٢٩٧

بنفسه مع فرض تعلّقه بصرف وجود الفقير بلا قيد العدالة بقطع النظر عمّا يترتب على ذلك من ترخيصات في التطبيق ، فالتنافي اذن بين اطلاقي حكمين إلزاميّين ، اللهم إلّا ان يقال ان الاطلاق البدلي للامر بالاكرام حاله عرفا كحال اطلاق أدلة الترخيص في انه لا يفهم منه اكثر من عدم وجود مقتض من ناحية الامر للتقيّد بحصّة دون حصّة فلا يكون منافيا لوجود مقتض لذلك من ناحية التحريم المجعول في الدليل الآخر.

٥. إذا تعارض اصل مع أمارة كالرواية الصادرة من ثقة (١)

__________________

صلاة الليل. مثلا. مستحبّة ومتعلّق النذر واجبا فإذا التقيا وجبت صلاة الليل ، وكذلك الامر هنا فانّ تطبيق وجوب اكرام الفقير على ايّ فقير وإن كان فاسقا جائز بالعنوان الاوّلي إلّا ان حرمة اكرام الفاسق تجعل تطبيق هذا الوجوب على الفاسق محرّما لان التحريم مقتض فهو محرّك وذاك جائز فهو كالهواء الساكن الذي يقبل التحريك.

(١) من بديهيات الامور تقدّم الامارة الحجّة على الاصل ، انما الكلام في تقريب ذلك ، فقد يقال بالورود وقد يقال بالحكومة وقد يقال بالتخصيص.

(وجه الورود) ان مفاد دليل الاصل هو «رفع عن امتي ما لا يعلمون» وغيره من أدلّة الاصول ، أي «إذا لم تعلم بالحكم الشرعي. بمعنى إذا لم يوجد لديك دليل محرز على الحكم الشرعي. فاجر الاصل العملي» ومفاد دليل حجيّة الخبر هو «خبر الثقة حجة ودليل محرز» فدليل حجية الخبر يرفع بالخبر موضوع دليل الاصل. (فاجاب) السيد الشهيد (قدس‌سره) على هذه المقالة بما معناه : ولكن تفسير العلم في موضوع دليل الاصل بمعنى الدليل لا بمعنى العلم الكاشف يحتاج إلى قرينة لانّ الظاهر من العلم في الدليل الكاشف التام لا الدليل.

٢٩٨

فالتعارض كما أشرنا سابقا انما هو بين دليل حجية الاصل ودليل حجية تلك الرواية ، وفي مثل ذلك قد يقال بالورود ، بتقريب ان موضوع دليل الاصل هو عدم العلم بما هو دليل ، ودليل حجية الخبر يجعل الخبر دليلا فيرفع موضوع دليل الاصل حقيقة وهو معنى الورود ، (ولكن) اخذ العلم في دليل الاصل بما هو دليل لا بما هو كاشف تام يحتاج إلى قرينة ، لانّ ظاهر الدليل في نفسه اخذ العلم فيه بوصفه الخاص.

وقد يقال بالحكومة ـ بعد الاعتراف بانّ ظاهر دليل الاصل اخذ عدم العلم في موضوعه بما هو كاشف تام ـ وذلك لانّ دليل حجيّة الامارة مفاده التعبّد بكونها علما وكاشفا تامّا (١) ، وبذلك يوجب قيامها (٢) مقام القطع الموضوعي الماخوذ ـ اثباتا او نفيا ـ موضوعا لحكم من الاحكام. ومن امثلة ذلك قيامها مقام القطع المأخوذ عدمه في موضوع دليل الاصل وبهذا يكون دليل الحجية رافعا لموضوع دليل الاصل تعبّدا ، وهو معنى الحكومة.

فان قيل : هذا لا ينطبق على حالة التعارض بين الامارة والاستصحاب ، لانّ دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين ايضا ،

__________________

(١) كما هو مسلك الطريقية للنائيني (قدس‌سره).

(٢) اي قيام الامارة.

(بيان وجه الحكومة) ان مفاد دليل الاصل هو «إن لم تعلم بالحكم الشرعي فاجر الاصل العملي» ، وبما ان دليل حجية الخبر قد اعتبر خبر الثقة علما تعبّدا فسوف يكون دليل الحجيّة حاكما على دليل الاصل لانّه يرفع موضوع دليل الاصل تعبّدا.

٢٩٩

فيكون بدوره رافعا لموضوع دليل حجيّة الامارة وهو الشك وعدم العلم (١).

كان الجواب : ان الشك لم يؤخذ في موضوع دليل حجيّة الامارة لسانا بل اطلاق الدليل يشمل حتى حالة العلم الوجداني بالخلاف ، غير انّ العقل يحكم باستحالة جعل الحجيّة للامارة مع العلم بخلافها وجدانا ، وهذا الحكم العقلي انما يخرج عن اطلاق الدليل حالة العلم الوجداني خاصّة ، فلا يكون الاستصحاب رافعا لموضوع دليل حجيّة الامارة خلافا للعكس.

فانّ الشك وعدم العلم مأخوذ في دليل الاستصحاب لسانا ، فبجعل الامارة علما يرتفع موضوعه بالحكومة.

ونلاحظ (٢) على ذلك كلّه ان الدليل الحاكم لا تتمّ حكومته إلّا

__________________

(١) وبالتالي يتقدّم الاستصحاب على الامارة ، مع أن هذا خلاف المتسالم عليه وواضح البطلان.

(كان الجواب) ان دليل حجيّة الامارة يفيد «حجية الامارة» مطلقا. اي حتى في حالة العلم بالخلاف. إلّا اننا نعلم وجدانا بعدم صحّة هذا الاطلاق في حالة العلم بالخلاف فيصير مفاد دليل حجيّة الامارة «الامارة حجّة إلّا إذا علمنا بكذبها» هذا الدليل مطلق وشامل لمورد الاستصحاب لان الاستصحاب ليس علما ، وما الاستصحاب إلّا اصلا عمليا ، فبجعل الامارة علما يرتفع موضوع الاستصحاب بالحكومة.

(٢) يريد ان يقول في هذه الملاحظة انه لا يوجد حكومة في هذه الحالة ، وذلك لانه يشترط في الحكومة نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ولا نرى ذلك في دليل حجيّة الخبر الذي مفاده «خبر الثقة حجّة» فانه لم

٣٠٠