دروس في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

وهكذا نعرف ان المستخلص ممّا تقدّم ثبوت المرجّحين المذكورين في الرواية الاولى من روايات الترجيح ، وفي حالة عدم توفّرهما (١) نرجع الى مقتضى القاعدة.

بقي علينا ان نشير في ختام روايات العلاج الى عدّة نقاط :

الاولى : ان العاملين (٢) بالمجموعة الاولى المستدلّ بها على التخيير اختلفوا فيما بينهم في ان التخيير هل هو تخيير في المسألة الاصولية اي في الحجية (٣) او في المسألة الفقهية اي في الجري عملا على وفق احدهما (٤)؟

ومعنى الاوّل ان الانسان لا بدّ له ان يلتزم بمضمون احد الخبرين

__________________

(١) اي وفي حالة عدم توفّر مطابقة احدهما للكتاب او السّنّة ومخالفة الآخر ـ ولو من باب عدم ورود ذلك في الكتاب والسّنّة او عدم ثبوته لنا دلالة او سندا ـ نرجع الى مقتضى القاعدة التي ذكرها آخر بحث «التعارض المستقرّ على ضوء دليل الحجية» ص ٣١٦ عند قوله «وعلى ضوء ما تقدّم يتّضح : ...».

(اقول) لكننا نراه بعد ذلك يقول ـ في اوائل بحث حكم التعارض على ضوء الاخبار الخاصّة ص ٣٢٩ ـ في اكثر من موضع ان مقتضى القاعدة هو التساقط.

(٢) كالآخوند (قدس‌سره).

(٣) بمعنى انّ المولى تعالى قد اعطى الحجية لاحد الخبرين حسب ما يختاره المجتهد.

(٤) كما هو التخيير بين الخصال الثلاثة في كفّارة الافطار العمدي.

٣٦١

فيكون حجّة عليه ويسند مؤدّاه الى الشارع (١) ، ومعنى الثاني ان الانسان لا بدّ له ان يطبّق عمله على مؤدى احد الخبرين ، ومن نتائج الفرق ان الفقيه على الاوّل يفتي بمضمون ما التزم به واختاره (٢) ، وعلى الثاني يفتي بالتخيير ابتداء ، وهذا الخلاف لا موضوع له بعد انكار اصل التخيير.

الثانية : ان هؤلاء (٣) اختلفوا أيضا في ان التخيير ابتدائي او استمراري ، بمعنى ان المكلّف بعد اختيار احد الخبرين التزاما أو عملا هل يجوز له ان يعدل الى اختيار الآخر أو لا؟ وقد ذهب البعض الى كونه استمراريا (٤) وتمسّك بالاستصحاب ، الّا ان هذا الاستصحاب يبدو انه من استصحاب الحكم المعلّق (٥) اذا كان التخيير في الحجّية ، لانّ مرجعه الى انّ هذا كان حجّة لو اخذنا به سابقا وهو الآن كما كان استصحابا ، وعلى ايّ حال فلا موضوع لهذا الخلاف بعد انكار التخيير.

الثالثة : إذا تمّت روايات التخيير وروايات الترجيح المتقدمة

__________________

(١) لانّ المولى تعالى اعتبر احدهما حجّة ، ويصحّ اسناد مفاد الخبر الحجّة الى المولى بمعنى انه يصحّ له ان يقول هذا حكم شرعي.

(٢) اي يفتي باحد مفادي الخبرين ، ولا يفتي بالتخيير ، خلافا للمسلك الثاني فانّ عليه ان يفتي بالتخيير بين المفادين.

(٣) الذين اختلفوا في كون التخيير في الحجية او عملا.

(٤) بمعنى ان له ان يعدل الى الخيار الآخر.

(٥) وجه كون الاستصحاب تعليقيا ان مفاد الاستصحاب هو : انّ هذا كان حجّة لو كنّا قد التزمنا او عملنا به فتستصحب هذه الحجيّة المعلّقة.

ووجه عدم كونه تعليقيا أن يقال : إنّ هذا كان حجّة قبل الالتزام بالآخر فيستصحب بقاؤه على الحجيّة.

٣٦٢

فكيف يمكن التوفيق بينهما؟ فقد يقال بحمل روايات الترجيح على الاستحباب ، ونلاحظ على ذلك ان الامر في روايات الترجيح ارشاد الى الحجية ، فلا معنى لحمله على الاستحباب ، بل المتعيّن الالتزام بتقييد روايات التخيير بحالة عدم وجود المرجّح.

الرابعة : ان اخبار العلاج هل تشمل موارد الجمع العرفي؟

قد يقال (١) باطلاق لسان الروايات المذكورة لتلك الموارد فتكون رادعة ـ بالاطلاق ـ عما تقتضيه القاعدة العقلائية.

وقد يجاب بان الظاهر من أسئلة الرواة لاخبار العلاج كونهم واقعين في الحيرة بسبب التنافي الذي يجدونه بين الحديثين ، ومن البعيد أن يقع الراوي بما هو انسان عرفي في التحيّر مع وجود جمع عرفي بين المتعارضين ، فهذه قرينة معنوية تصرف ظواهر هذه الاخبار الى موارد التعارض المستقرّ خاصّة (٢).

والصحيح ان يقال : ان روايات العلاج بنفسها تتضمّن قرينة تدلّ على عدم شمولها لحالات الجمع العرفي ، فانّ الرواية الاولى (٣) من

__________________

(١) نسب ذلك الى الشيخ الطوسي (قدس‌سره) في الاستبصار والعدّة ، وجه كلامه ان كلمات «حديثين متعارضين» ونحو ذلك تشمل بالاطلاق انحاء التعارض غير المستقر ، هذا الاطلاق يردعنا عما تقتضيه القاعدة العقلائية من الجمع العرفي.

(٢) وهما موارد التباين والعموم من وجه.

(٣) وهي صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله التي تقول : «اذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله

٣٦٣

روايات الترجيح قد افترضت فيها حجية الخبر المخالف للكتاب في نفسه وبقطع النظر عن معارضته بحديث آخر ، ولذلك صار الامام بصدد علاج التعارض بين خبرين متعارضين : احدهما مخالف مع الكتاب والآخر موافق معه ، فتدلّ على ان الخبر المخالف للكتاب الكريم لو لم يكن له معارض لكان حجّة في نفسه ، وهذا يعني ان المعارضة الملحوظة بين الخبرين غير المخالفة المفترضة بين الخبر والآية ، وليس ذلك الّا لأن تلك المعارضة من التعارض المستقرّ ، وتلك المخالفة من التعارض غير المستقر.

الخامسة : ان اخبار العلاج هل تشمل موارد التعارض المستقرّ غير

__________________

فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامّة ...».

(بيان) هذا القول : انه يستفاد من قوله عليه‌السلام «اذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ...» انه اذا ورد عليكم حديث واحد فلا يلزم عرضه على كتاب الله حتّى وإن خالفه ، يستكشف من هذا ان المراد من هذه المخالفة موارد الجمع العرفي دون موارد التعارض المستقر ، (وذلك لعلمنا من أدلّة اخرى أنّ ما خالف كتاب الله فهو زخرف والذي جاء به اولى به ودعوه ... ، ومقتضى الجمع بين هذه الصحيحة وروايات العرض على الكتاب ان يكون المراد من هذه الصحيحة عدم مخالفة الحديث للكتاب بنحو التعارض المستقرّ ، وان يكون المراد من المخالفة في روايات العرض التعارض المستقرّ) ، وامّا لزوم الرجوع في الخبرين المتعارضين الى كتاب الله والاخذ بما وافقه وترك ما خالفه فانه يستكشف منه حالة تعارض الخبرين بنحو التعارض المستقرّ.

٣٦٤

المستوعب كحالات التعارض بين العامّين من وجه أو لا (١)؟

__________________

(١) بيان هذه النقطة الخامسة :

سؤال : عرفنا ان اخبار العلاج والترجيح بالاوثق والافقه وشهرة الروايات. على فرض اعترافنا بذلك. وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة تفيد في مورد التباين فهل تشمل ايضا مورد العموم من وجه او لا (من قبيل «ذرق الطائر طاهر» و «خرء السباع نجس»)؟

الجواب : انه قد نقل السيد الخوئي (قدس‌سره) عن استاذه المحقق النائيني رحمه‌الله (في مباني الاستنباط ج ١ ص ٤٩٨. ٥٠١) التفصيل في ذلك بين المرجّحات السندية (كالاوثقية) والمرجحات المضمونية (بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة) فقال ١ ـ بعدم صحّة ترجيح احد الخبرين بالجهات السندية و ٢ ـ صحّة الترجيح بالمرجحات المضمونية ، سبب النقطة الاولى : هو اننا إن رجّحنا احد الخبرين لكون رواته مثلا اماميين وشهرة رواياته فما الذي يسقط عن الحجية من مضمون الخبر الآخر الموثّق السند. اي ليسوا اماميين. هل يسقط كل مضمونه اي مادّة الاجتماع وما ينفرد بها. او خصوص مادّة الاجتماع لانها هي مورد التعارض؟ الصحيح أن كليهما لا يسقطان ، امّا الاوّل. وهو تمام مضمون الرواية الموثقة. فلعدم وجود موجب لاسقاط مادّة الانفراد عن الحجية لانّه لا معارض لها ، واما الثاني وهو مادّة الاجتماع فقط. فلعدم امكان اسقاط بعض الرواية دون البعض الآخر بحجّة ضعفها السندي امام الرواية الصحيحة ، فان السند واحد فان كان ضعيفا سقطت كل الرواية لا بعضها. (والنتيجة) ان الترجيح السندي لا يمكن ان يسقط الرواية الموثقة عن الحجية لا في كل مضمونها ولا في بعض مضمونها.

وسبب النقطة الثانية : اننا نقول بتبعيض الحجية في الخبر فما وافق من الخبرين الكتاب في مادة الافتراق اخذ دون مادّة الاجتماع التي تخالف

٣٦٥

وقد نقل عن المحقق النائيني (قدس الله روحه) الجواب على ذلك بالتفصيل بين المرجحات التي ترجع إلى الترجيح بلحاظ السند ـ وتسمى بالمرجحات السندية ـ كالترجيح بالاوثقية ، والمرجحات المضمونية التي ترجع الى الترجيح بلحاظ المضمون كالترجيح بموافقة الكتاب ، فاختار رحمه‌الله ان المرجّحات السندية لا تشمل الفرض المذكور ، لان تطبيقها إن كان على نحو يؤدّي إلى اسقاط احد العامّين من وجه راسا فهو بلا موجب لانه لا مسوّغ لاسقاطه في مادّة الافتراق مع عدم التعارض ، وإن كان على نحو يحافظ فيه على مادّتي الافتراق للعامّين فهو مستحيل ، لانه يستلزم التبعيض في السند الواحد بقبول العام في مادّة الافتراق ورفضه في مادّة الاجتماع مع ان سنده واحد ، وامّا المرجّحات المضمونيّة فبالامكان إعمالها في مادّة الاجتماع فقط ولا يلزم محذور.

__________________

الكتاب الكريم بحسب الفرض.

(تمّت) كتابة هذه الحاشية في مكتبة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العامة ـ يزدان شهر ـ قم المقدسة بتاريخ ٢١ محرم الحرام من عام ١٤١٩ ه‍ ق. وتمّت مراجعته ليلة الخميس في ٢٤ شوّال من عام ١٤١٩ في المكتبة العامة لدفتر التبليغات في قم المقدسة بيد العبد الفقير إلى ربّه الغني ناجي ابن الحاج عبد المنعم طالب آل الفقيه العاملي عاملهما الله بلطفه ، والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا لا يحصى قدره إلا هو ، وصلّى الله على سيد الخلق اجمعين محمّد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليما كثيرا.

__________________

* وتمّت مراجعته للطبعة الثانية في ١٧ رمضان المبارك من عام ١٤٢٥ ه‍. ق. الواقع في ١ / ١١ / ٢٠٠٤ م. في بيروت أبعد الله عنها كل مكروه ، والحمد لله رب العالمين

٣٦٦

هذا ما اردنا استعراضه من بحوث التعارض في الادلة ، وبذلك نختم الجزء الثاني من الحلقة الثالثة التي ينتهي الطالب بدراستها من السطوح ويصبح جديرا بحضور بحوث الخارج ، وقد وقع الابتداء بكتابة هذا الجزء من الحلقة الثالثة بعد الفراغ من الجزء الاول منها ، ووقع الفراغ منه بحول الله تعالى وعونه في اليوم الثالث عشر من شهر ذي القعدة من سنة ١٣٩٧ ه‍ ، فنسأله سبحانه الذي يسّر ذلك ان يتقبل هذا بلطفه وينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا ينون ويعمّر قلوبنا بذكره وحبه ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهداة من خلقه خاتم الانبياء واهل بيته الطاهرين.

٣٦٧
٣٦٨

الفهرس

الأصول العملية ـ ـ

الاستصحاب

أدلة الاستصحاب .............................................................. ٩

الرواية الأولى :............................................................. ٩

الرواية الثانية : ........................................................... ١٢

الرواية الثالثة : ........................................................... ٢٨

الرواية الرابعة : ........................................................... ٤٤

الاستصحابه أصل أو أمارة؟ .................................................. ٤٦

كيفية الاستدلال بالاستصحاب: ............................................. ٥٣

أركان الاستصحاب ......................................................... ٥٧

أ. اليقين بالحدوث : ...................................................... ٥٨

ب. الشك في البقاء :..................................................... ٧٦

الشبهات الحكمية في ضوء الركن الثاني .................................... ٩٠

ج. وحدة القضية المتينة والمشكوكة: ......................................... ٩٦

أولا :. تطبيقه في الشبهات الموضوعية .................................... ٩٧

ثانيا :. تطبيقه في الشبهات الحكمية .................................... ١٠٠

٣٦٩

د. الأثر العملي ........................................................ ١٠٩

مقدار ما يثبت الاستصحاب................................................ ١٢١

عموم جریان الاستصحاب .................................................. ١٣٦

تطبيقات ................................................................. ١٤٨

. أستصحاب الحكم المعلق ............................................. ١٤٨

. أستصحابة علم النسخ ............................................... ١٦٧

٣. استصحاب الكلي ................................................... ١٧٤

٤. الاستصحاب في الموضوعات المركبة .................................... ١٩٢

شبهة انفصال زمان الشك من زمان اليقين .................................... ٢١٣

الخاتمة في تعارض الأدلة

تمهيد....................................................................... ٢٢٧

ما هو التعارض المصطلح؟................................................... ٢٢٧

الورود والتعارض ........................................................... ٢٣٣

١ ـ قاعدة الجمع العرفي ..................................................... ٢٤٧

١. النظرية العامة للجمع العرفي ........................................... ٢٤٨

. أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر ............................... ٢٥٤

الحكومة ............................................................ ٢٥٤

التقييد .............................................................. ٢٦٢

التخصيص .......................................................... ٢٦٨

٣. أحكام عامة نلجمع العرفي ............................................ ٢٧٤

٣٧٠

٤. نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب ........................... ٢٧٨

٥. تطبيقات للجمع العرفي ............................................... ٢٩٠

ـ التعارض المستقر على ضوء دليل الحجية ................................... ٣٠٧

تنبيهات النظرية العامة للتعارض المستقر : .................................. ٣١٧

٣ ـ حكم التعارض على ضوء الاخبار الخاصة .................................. ٣٢٩

١ ـ روايات العزف على الكتاب ........................................... ٣٣٠

ـ روايات العلاج ...................................................... ٣٤٣

روايات التخيير ....................................................... ٣٤٣

روايات الترجيع ....................................................... ٣٥٢

الفهرست .................................................................. ٣٦٩

٣٧١